وقع كل ذلك في أمسية من الأماسي الوديعة، كان سيفيرتسن واقفاً على قارعة الطريق عندما أزّت أولى القذائف خلل الهواء، فسلبته كل حركة، وما هي إلاّ هنيهات يسيرة حتى أُضيئتْ الشوارع بالقنابل الحارقة وارتجّت الأجواء بدوي سقوطها.. ثمّ عمّ السكون أرجاء المدينة كما لو كانت تحبس أنفاسها تأهبّاً لما سيقع. وانطلق بعدئذ صراخ وزعيق ووقع أقدام الناس وهم يجرون مسرعين على غير هدى، يرتطم بعضهم ببعض: فمنهم مَنْ يفر إلى خارج البيوت، ومنهم منْ يفزع إلى داخلها، فيما ظلّ البعض الآخر منتصباً في الشوارع يُحدّق نحو الفضاء، عاجزاً عناقتلاع جسده أمام مشهد القنابل التي ما انفكّت تهمي من السماء مخلفةً وراءها بقايا ضياء و أنوار.
أخذت النيران تشتعل هناك-
يبدو أنها بالقرب من كنيسة أورليدي-
كلا إنها بالقرب من كنيسة القديس پيتري-
إنها في كلا المكانين-
بلإنها في أماكنَ عدّة-
ثمّة المزيد من النيران: خمسة حرائق، عشرة، بل يبدو أنها غطت عموم الجهات، كما أخذت نيران المدفعية تنطلق في كل اتجاه تاركةً حرائقَ وانفجارات في كل مكان. وهنا انفجرت قذيفة أمام سيفيرتسن تماماً، ولكن ياللغرابة، لم يتزحزح سيفيرتسن عن مكانه قيد شعرة رغم أن القذيفةاقتلعت جداراً مواجهاً له من أحد البيوت التي لا تكاد تبعد عنه أكثر من مائة ياردة، فأخذت الأحجار والأتربة والشظايا الخشبية تتناثر في الشوارع. ورغم أن القذائف و القنابل الحارقة كانت تمزق الهواء مخلفةً في أعقابها أعمدةً من النيران، فقد ظل سيفيرتسن منتصباً في مكانه، لا لأن الخوف أخذ منه كل مأخذ، وليس لأنه أُصيبَ بالتهيّب والهلع، ولكن شعوراً غريباً من العبث البارد سلب منه كل إحساس، ولم يكن مُتسمّراً كليةً، إذ كان يرى كل ما يجري: الفئران التي تتدفق على طول القنوات في كُتلٍ داكنة.. رجل جريح اليد يصرخ راكضاً من أمامه. امرأة تزيل دماءً وأوساخاً من على ساقي فتاة صغيرة، وثمة لغط وضوضاء يحيطانه من كل حدب و صوب ، بيد أن مخيلته كانت صافيةً على نحو كبير جداً، جعلته يرصد فجأةً أشياءَ صغيرة لم يسبق له أن لاحظها في أيما وقتِ مضى، كحزمةٍ من أعشاب شبه هامدة بين الأحجار المرصوفة، وشعر امرأة جاثية على ركبتيها، وحتى الفئران المحدودبة التي تجري بحيوية وثــّـابة، .
وعلى حين غرة استحوذ عليه شعور طاغٍ من السرور، شعور أنه مازال حيّاً. مدّ يديه إلى عنقه ومسكه بقوة ليشعر مافيه من حياة، كان عنقه حاراً، حتىإنه شعر بالدماء تنبض تحت رؤوس أصابعه وكأنها تعزف إيقاع الحياة التي تمور في داخله، فتملكه شعور قوي بالبهجة،وانبعثت من مكان ما في أعماقه خواطر مفاجئة تحدثه عن حبيبته كارولاين، حتى لكأنه يشعر الآن بحرارة جسمها.
إن وعيه الآني والعميق للحياة بعث في خواطره هذه دفئاً وعظمة فأحالها إلى رغبة أو أمنية فيالتقاء جسد كارولاين الدافئ حاثاً إياه إلى توكيد وجوده. غير أنانفجاراً آخر لقنبلة جديدة جعله يطلق ساقيه للريح، وفي أثناء جريهانعطف إلى ركنٍ في شارع " ليذة "، وفجأةاكتشف أن ثمة كلباً يجري بمحاذاته وقداستولى عليه الخوف ففقد القدرة حتى على النباح، وربما كان الخوف وحده هو الذي دفعه لملازمة سيفيرتسن وكأنه وجد بعض الحماية والاطمئنان وهو يجري برفقته، ولكن سيفيرتسن مضى في جريه يُصاحبه إحساس بخفة وصفاء ذهن غريبين و بعزم أيضاً. كان ذهنه متيقظاً ومستعداً لمواجهة أي تحدٍّ مهما كان، فليس ثمة ما سيمنعه من مواصلة الحياة بعد الآن .
*ملاحظة قصة قصيرة للكاتب الدانماركي MogensKlitgaard مترجمة عن الإنجليزية وعنوانها الأصلي " القصف الإنجليزيلكوبنهاجن عام1807.