إهداءة
- إلى صديقيّ البعيديْن:
عصام زايد
علي الحساني
خطوتان في مشواري، وعينان رفقتا بي.
بَدْءُ الْقَوْل
أهل الهوى قسمان: قسم منهمُ
كتموا، وقسمٌ بالمحبة باحوا
فالبائحون بسرهم شربوا الهوى
صرفاً فهزهمُ الغرام فباحوا
والكاتمون لسرهم شربوا الهوى
ممزوجةً فحَمتْهمو الأقداحُ.
السهروردي القتيل
1يمشي على الماء
كان الجو باردا جدا، وكنت أفرك يديّ استجلابا للدفء في شارع الجرجاوية العريض في سوهاج، هذا الشارع الذي تتفرع منه شوارع جانبية صغيرة متعددة، ما أن أبتديء في المرور من أمامها حتى يلفحني تيار هواء ساقع يُحَمِّرُ أذنيّ ويلهب أرنبة أنفي، وما أن أنتهي من المرور أمامها حتى يفاجئني شارعٌ جانبي آخر يُسَرِّبُ البرد من فتحات ملابسي إلى سائر أرجاء جسدي الغض النحيل، فأشعر بقشعريرة تنتفض لها كل حجرات القلب، أزرر جاكتتي وأفرد ياقتها وألفها حول رقبتي.
كان الشارع طويلا ولا يريـد أن ينتهي، وكنت أفكر:
لماذا يقع بيتنا في أطراف المدينة؟، وما كان ضر أبي لو انه كان اختار لنا سكنا في هذا الشارع الطويل ذي البنايات العديدة والبلكونات البارزة المربعة، والذي لا يريد أن ينتهي.؟
فيهذهالأثناءلمحتهلأولمرة،كانشيخا كبيرا متغضن الوجه محني الظهر شديد النحولة، يتعكز على عصًا لم تكن غير فرع شجرة معوج، كانت خطواته بطيئة جدا، حتى ليُخَيَّل لك أنه واقف، بل إن ثمة اهتزازا يعتري جسده كلما هم بتحريك إحدى رجليه، يجعله أحيانا كثيرة يرجع إلى الوراء بدلا من التقدم للأمام، فإذا ما خطا خطوتين للأمام يعود خطوة للوراء، مع ميل واضح في جسمه يشعرك أنه واقع لا محالة، أما حذاؤه الذي ينتعله فلم يكن غير "بُلغة" متهرئة تبين منها أصابع قدميه، وكان جلبابه الأزرق الباهت خفيفا جدا، وممتلئا بالفتحات، وفي كثير من قماشته ثقوب ورقع غير تامة التخييط، وأزرار جلبابه واقعة من أماكنها، حتى أن صدره كله مكشوف للتيار الثلجي، ومع هذا لم يكن يبدو عليه الابتراد.
هالني منظره، وحينما رآني أطيل النظر إليه، ابتسم لي، فاقتربت منه، وما أن حاذيته حتى تجاهلني تماما، ونظر للجانب الآخر، لم أكن أعرف لماذا اقتربت منه، ولا ماذا يمكنني أن أقدمه له، فقط، افترضت أنه ربما يطلب مني مساعدة ما.
عندما ابتعدت عنه، هانت عليّ حالتي الابترادية جدا بالقياس لحالته، وأشفقت كثيرا عليه، وفكرت: ترى كيف يحتمـل هذا الشيخ الكبير الضعيف شدة برودة شهر طوبة القاسية؟، وهو بهذه الهلاهيل البالية؟ وتساءلـت تـرى متى يصل إلى بيتـه والساعة تجاوزت العاشرة مساء؟.
فيما بعد، وعلى فترات متباعدة،وفي أكثرمن مكان، كنت أصادف هذا الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، هذا الرجل الذي قُدر لي أن أكون فصلا في سيرته العريضة، وأن يكون هو علامة فارقة في حياتي كلها، والذي كان بالنسبة لي حجر الزاوية لكثير من بناياتي السردية والشعرية والحياتية، أحاول بين الحين والحين استرجاع هذه الساعات التي درت فيها في فلكه، فتصيب جسمي قشعريرة، وتصيب قلبي رجفة تعود بي لهذه الخُطا الخفيفة التي كنت أخطوها في اتجاه الحضرة.
الغريب أنني لم أعرف له اسما على الإطلاق رغم محاولاتي المستميتة في معرفته، ولا أحد ممن كان معنا كان يعرف اسمه الحقيقي، كنا نسميه "عم الشيخ" وفقط، وكانت هذه الصفة تعنيه وحده رغم كثرة الأعمام والشيوخ، فإن قالها واحد منا فهو يعنيه هو، وإلا فهو مطالب بإكمال الكــلام كأن يقول "عـم الشيخفلان" فنفهم قصده.
كنت أصادفه في السوق، وأحيانا في نفق الأوبرا، وأحيانا في أطراف المدينة، وأحيانا على سطح قطار، وأحيانا على سور الكوبري، فإذا ما رآني ألتفت إليه، تبسم ابتسامته الخفيفة، وكنت أتساءل:
كيف يمشي على السور دون أن تنزلق قدمه المهتزة بطبيعتها؟ بل كيف يصعد ويهبط من السور أصلا؟، أما صعوده لسطـح القــطار فكان يمثل لي لغــزا كبيرا.
أما أصدقائي فإنهم كانوا يصدقون هذه الروايات عنه بسهولة، بل إن كثيرا منهم كانوا يشاركون في روايتها بيقين كبير، مؤكدين أنه ذو ملكات خاصة وقدرات ليست ممنوحة لنا نحن البشر العاديين، كانوا يؤكدون رؤيته وهو يطير في الجو، أو وهو يحول جلبابه إلى خيمة تظلل كثيرا من الخضرة والزروع، فتهرع إليه القطاط والجواميس والأبقار وكلاب الطرقات الشريدة، أحد أصدقائي أكد لي أن والده رآه في موسم الحج يطوف معهم حول الكعبة المشرفة، كانوا كلهم بثياب الحج البيضاء إلا هو فقد كان مرتديا جلبابه الأزرق نفسه، العام قبل الماضي، في نفس الوقت الذي كان فيه في حضرة السيد البدوي بطنطا، أحدهم أتى بشهود عدول ليأكد لنا أنه رآه يمشي على الماء.
أما زميلي "علاء الجنايني" فقد أقسم لنا أن عمه عندما فتح المقبرة ليدفن جده، وجده داخل المقبرة يتحمم بليفة وصابونة، وبمجرد أن دخلوا عليه، انقطع اندفاق الماء الذي لم يعرفوا مصدره أبدا، فارتدى جلبابه الأزرق الباهت، وفرد يديه على اتساع المقبرة كلها، وسألهم:
لماذا تأخرتم؟
لم يكونوا يعرفونه مطلقا، ظنوه عفرينا،لكنه أكمل كلامه لهم بشكل عفوي:
أنا في شغل ومواعيدي مرصودة، وعلامات صاحبكم أضاءت المقبرة ثلاث مرات متتاليات، حتى خلت أن الأمانة خُطِفَتْ وأن السراقين ترصدوكم في الطرقات، فلماذا تأخرتم كل هذا الوقت؟.
واستلم منهم جثة جده، وأنامه على جانبه الأيمن، ومرر يده اليمنى على قماشة الكفن، وخرج معهم ليتقبل العزاء، وكأنه واحد من أقاربه.
لم يكن الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت ذا عمر تستطيع تكهنه، فهو يبدو ضاربا في الشيخوخة وذا جسد ضعيف مترهل كما رأيته أول مرة، وفي أحيان أخرى يبدو فتيا قوي البنيانشديد البأس، ولا أثر للتجاعيد في وجهه نهائيا، وثمة روايات لا آخر لها ترصد قوته الجبروتية التي يستطيع بها أن يمسك شباك قطار الصحافة فلا يستطيع سائق القطار أن يحركه، كما ترصد هذه الروايات بطشه بستة من البلطجية المسلحين حاولوا اغتصاب سيدة، فعجنهم في بعضهم بيده اليسرى فقط، واستخرج من بينهم السيدة سالمة من غير أذى بيده اليمنى، ليس هذا فحسب، بل إنه – حسب هذه الروايات – قادر على إيقاف السيارة السائرة بنظرة العين.
أحيـانا كثيرة كنــت أرى الشارع فارغا تماما ليس به أحد على الإطلاق، ثم تنشق الأرض عنه، أمامي مباشرة، بلا أي سبب منطقي، وأراه يمشي مشيته المرتبكة المعهودة، ويبتسم لي، فأبادله الابتسام وأواصل خطوي، وأعود لألتفلت إليه مرة أخرى، فلا أراه في البقعة التي كان يمشي فيها، وأرى الشارع فارغا تماما كما كان، وكأن الأرض لم تنشق عنه، أو كأنها انشقت مرة أخرى وابتلعته.
لكنني في أغلب الأحيان، كنت كلما رأيته في شارع ما، أتوقف لأراقبه وأتأمل حركاته البطيئة واهتزازاته، فلا أراه إلا رجلا هرما نحيلا ذا هلاهيل بالية، لا تقوى قدماه على حمله، وكثير من العابرين كانوا يمدون له أيديهم ليعبروا به الطريق، أو ليتعكز عليهم، وفي كل مرة كان ينظر لي ويبتسم، وكان كما رأيته أول مرة، يتقدم للأمام خطوتين ويعود للخلف خطوة، حتى ليُهَيَّأ لرائيه أنه يستغرق اليوم كله من شروق الشمس لمغربها في الوصول لبيته الذي لم يفلح أحدٌ أبدا في معرفته، أو ان أحدا لم يهتم بالأمر، لكنه كان في كـــل مـــــرة يرانـــــي فيهـــــا يبتســـــم لي، وكنـــــت أرد عليه ابتسامته بابتسامة صامتة.
كان يأتيني كثيرا، حتى في أحلامي، حتى أيقنت أن خطواتي مرصودة، ونظراتي مقصورة، وأفقي يحتويه.
مرة أعطاني ليمونة ذابلة، كنت ذاهبا للمدرسة في الصباح الباكر، وقابلته، مرت بجواره عربة حنطور مبطئة، كانت العربة بحصانين، وأبطأت كثيرا عندما اقتربت منه، ولما تجاوزته، اقتربت منه، خفت أن يكون قد أصابه أذى ما، فابتسم لي لما رأى هلعي عليه، وأخرج من جيبه ليمونة، أعطانيها، وربت على كتفي بحنو بالغ،وقال لي:
ازرعها في حوش المدرسة، ستكبر، وستحمل اسمك، وتصبح شجرة ليمون خضراء وصفراء، وستمنحك الخير الوفير، وسترعى أيامك، وستفرح بظلالها الوارفة.
أنا من ناحيتي، لم أكذب خبرا، حفرت حفرة صغيرة بملعقة وقلم رصاص على قد ليمونته وغطيتها بالتراب المبلل، وكنت كل فترة أحرص على رشها بالماء، دون أن يراني أحد، وكأنها سري الخاص، وتخيلتها وهي شجرة ليمون كبيرة تثمر وتظلل الحوش كله، حاملة اسمي، وتخيلت كيف أن ناظر المدرسة سيقول في طابور الصباح للطلاب الذين يأتون دائما من قراهم البعيدة متأخرين، وهو يؤنبهم ويزجرهم في الميكروفون، مشيرا إلى شجرتي:
قفوا عند شجرة السمّاح عبد الله، حتى أنظر في أمركم.
لكنها لم تنبت على الإطلاق، بل إن المكان الذي زرعتها فيه بنوا عليه حجرة خشبية صغيرة، يبيعون لنا فيها ساندويتشات الفول والطعمية والبطاطا.
لكنأغرب مارويلي عنههوحكايته مع"زنوبة البيضا" .
كانت "زنوبة البيضا" ابنة أحد تجار الفاكهة في القاهرة، تزوجت من برتقالي سوهاجي واسع الرزق، لديه عربتا نقل كبيرتان، يشتري بساتين البرتقال من قرى "كفر الشيخ" و"القليوبية"، ويبيع بضاعته لتجار التجزئة في "طما" و"المراغة" و"طهطا"، ويقبض ثمن المحصول فلوسا يبني بها بيوتا ومنادر، وانتقلتْ للحياة معه بعد الزواج في سوهاج، وعاشا حياتهما بشكل طبيعي، وأنجبا ابنا وبنتين، حتى قابلت الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، وهيتقلبفي طماطمالسوقلتشتري بقرشين وتطبخ لزوجها طبلية الغداء.
اقترب منها في هدوء، ترك كل النسوة الكثيرات اللواتي يقلبن في الطماطم وينوين أن يطبخن لأزواجهن الكثيرين، أخذ منها حبة طماطم صغيرة، وانتزع منها عروتها الخضراء، وقطم منها قطيمة صغيرة، وأشار إليها فقربت أذنيها منه، ورفعت عينيها في عينيه، فأمسك بطرف ثوبها، وهمس لها بصوت قديم، بعيد، حنون، صافٍ، كأنه مُحَوَّشٌ من أيام طفولتها البعيدة:
ما أحلىطماطمك يا صبية.
ومضى.
قالت لها النسوة المقلبات في الطماطم عندما
سألتهن عنه، بأنه لم يمر من هنا أصلا، فتركت السوق كلها والطماطم التي دفعت ثمنها، كان الصوت القديم مازال حنونا في أذنيها، وعادت للبيت.
كثير من الرواة يقررون أنها لم تنتبه جيدا لحالتها، ولم تأخذ الحذر الكامل لتفويت خطفة القلب واستلاب الحشا، فهي غريبة على المطرح، وجديدة على المقام، ولم ينبهها أحد إلى كيفية تلقي مثل هذا النوع من الإشارات، لأنها عندما رفعت عينيها في عينيه، شرّبها سره الغامض، مجرد لحظة خاطفة، يظنها غير العارف عادية ومكرورة لا تختلف كثيرا عن اللحظات الأخرى، لكنها كافية لتذويب الروح وتجويع البدن طول العمر.
قال لها زوجها، وأين الطماطم يا ولية؟ فقلبت الطبلية في وجهه، وكسرت الأطباق الصيني على الأرض، وغادرت البيت، ومضت وراء من حوّش كلماته لها من أيام طفولتها البعيدة، لا أحد في الدنيا كلها يعرف لماذا تركت الطماطم والبيت والزوج والعيال ومضت وراءه، ربما هي نفسها لا تعرف.
كانت تجده في شارع ما يسرع الخطا فتجري خلفه، ويبطئها فتلحق به، كان يختفي فجأة، فتدور برأسها باحثة عنه، ويظهر في الجانب الآخر من الشارع، فتعبر نهر الشارع مهرولة إليه، نسيت بياعين الطماطم، ونسيت عنوان بيتها، ونسيت اسم زوجها، ونسيت ضحكات أطفالها، ولم تعد تتذكر غير تتبعها له، من سوق الخضار لحواري نجع "أبو شجرة"، ومن حضرةٍ دوارة في مندرة نائية لصلاة جماعة في جامع كبير، ومن حديقة مثمرة لمقبرة موحشة، ومن دار مهجورة لقصر عامر على أطراف المدينة.
يقولون كانت تريد أن تكمل حكايتها منقوصة الفصول معه، ويقولون كان يريد أن يُكَمّل نقصان خطواته غير تامة المقصد باكتمال جريها خلف خطاه.
أما هو فلم يكن يعيرها أي اهتمام في باديء الأمر، فقط كان يبتسم لها كما يبتسم لكل من يقابله، لكنها، لأنها غريبة على المطرح، اقتربت منه مرة، واستطاعت أن تمسك بجلبابه، فأمسكها جلبابه، وسارا معا كأنهما عاشقان متمرسان، يختلسان اللمسات الحانية والأنفاس العطرة، أناس كثيرون رأوهما وهما يمشيان معا مبتسمين، غير متكلمين، وأناس كثيرون رأوهما وهما يتكلمان، لكنهم جميعا كانوا يؤكدون أنه كان شابا وبلا تجاعيد، وهي كانت غارقة في السعادة، وذائبة في النعيم، العارفون ببواطن الأمور أشفقوا عليها كثيرا، فلم يحدث من قبل لأحد كائنا من كان، أن اقترب منه هكذا، الاحتراق الكامل حتمي في هذه الحالة، أو التجمد البارق، أن تصير ذهبا مصهورا، تعاني وحدك الغليان المكتمل، تماما كالمهل الذي يشوي الوجوه ويحرق الحشا، أو تمثالا ثلجيا، تظل طول الوقت بلا قدرة على الحراك، وأنت راغب في الطيران، الاقتراب عذاب، والعذاب في الأصل كان غراما، إنه المعنى الحرفي للغرام كما يعرفه أهله، لا حال ثالثة بين الحالين، ويتساءلون مندهشين، لماذا لم تسلم بحشاها سالما، فالهوى ليس سهلا على الإطلاق، ولماذا لم تعش خالية؟، ألا تعرف أن الحب عناءمتصل، أولهسقم مقيم، وآخره قتل أكيد، ويختمون كلامهم قائلين:
قولوا لها أيها الناس، إن سلطان العاشقين يقول إن الغرام له أهل.
لكن أحدا منهم لم يشفق عليه هو، ظنوه جبلا كجبل سوهاج الذي يحيط بالقرى غير عابيء بالناس والشجر والجواميس، وظنوه مكتفيا – كعادة الجبال – بتثبيت حال القرى كي لا تميد وتهوي، لكن من يثبته هو إن ماد أو تهاوى؟.
أكبر الظن أنه كان في أشد الحاجة لمن يشفق عليه، إنهم يتعاملون معه على اعتبار أنه تقي وورع وطاهر، وكأنما لا يعرف الحب ولا يذوب في الغرام غير الرجال الفاجرين، هو بشر مثلكم يا أيها الناس، والذي فطره، فطره على ما يفطر عليه الناس كافة، فاجرا كان أم طاهرا.
أما "زنوبة البيضا" فقد تطور الأمر معها بسرعة مذهلة، فأصبحت تسير ناظرة لأعلى، وكانت تتكلم بصوت عال كلاما غير مفهوم عن الطيور وأسلاك الكهرباء وشرفات البيوت العالية، وتشير لأناس غير مرئيين وتخاطبهم، كانت تستوقف الماشين وتقول لهم تكملة كلامها مع الأناس غير المرئيين، فيمنحونها قرشا أو تعريفة أو ساندويتش طعمية بالطحينة، فتضع النقود في جيبها المثقوب ولا تهتم باستردادها إن وقعت، وتقطم لقيمات من ساندويتش الطعمية، وأحيانا كانتتغنيوهيتسير،وتصفقبيدبهاوكانت تترقص في مشيتها.
كان جيرانها يشاهدونها هنا أو هنا فيحاولون إثناءها عما هي فيه، فتشتمهم، وتقبض قبضة من التراب وترشه على وجوههم، كانوا يردون إليها فردة شبشبها الذي انخلع من قدمها ولم تهتم بارتدائه، فتخلع الفردة الأخرى وتطوحها بأقصى ما تستطيع، وتلهث حافية، باحثة عمن أخذ منها حبة طماطم ذات نهار مشمس، ونزع عروتها الخضراء وأكلها، كانوا يذكرونها بزوجها البرتقالي الجوال، وبأبنائها الصغار الذين يبكون كثيرا لفراقها، ويرجونها أن تعود للدار، فتصرخ فيهم، وتسبهم بدين آبائهم وبفروج أمهاتهم، وتتهمهم بسرقة جواربها وملابسها الداخلية ومواعين مطبخها، وتتركهم وتمضي لحال سبيلها، وتتوقف أمام أي مسجد، لتنتعل بلغة متهرئة أو حذاء رجاليا من أمام عتبته، وتمشي به متعاجبة، وسرعان ما تضيعه وتمشي حافية لا تلوي على شيء.
يقولون إنها كانت تمشي حافية على أسفلت أغسطس الحارق، ويقولون كانت لا تهتم كثيرا بستر جسمها، ويقولون كانت تمشي محلولة الشعر، ناظرة دوما للسماء وشبابيك البيوت وطيور الله الجوابة في آفاق السماوات الواسعة، ضاحكة بلا أسباب، وصارخة بلا أسباب، وساكتة بلا أسباب، وكان الأولاد الصغار والبنات الصغيرات يمشون خلفها، يعابثونها ويشدون ثيابها ويزفونها بكلام قبيح وألفاظ نابية، وأحيانا يضربونها بالطوب، أو يرشون عليها الماء من بالوناتهم المثقوبة، فيأتي من العابرين من يزجرهم ويعنفهم ويبعدهم عنها، فتشتم المعنفين والزاجرين والأطفال معا، وكانوا يسمعونها تغني بلهجتها القاهرية:
هات القلة وخد توبي
واطلع من خرم الإبرة
وارسم في الحيطة رسماية
والقطر يجر الشجرة
فوق السطح عريس وحيد
والعصفور تحت المطرة
أوعوا تقولولي توبي
وادوني ديل البقرة
هات القلة وخد توبي
واطلع من خرم الإبرة
كانت هذه الأغنية هي أغنيتهاالمفضلة، وفي كل مرة كانت تضيف إليها كوبليها أو مقطعا، أو تقتطع منها كوبليها أو مقطعا، وأحيانا كثيرة ما كانت تشبكها في أغانٍ شهيرة لـ "فايزة أحمد" أو "عفاف راضي" أو "شادية" أو "فهد بلان"، فبعد أن تحدثنا عن العريس الوحيد الذي لا يعرف أحد لماذا هو جالس دائما فوق السطوح بلا عروس تؤنس وحدته، وعن العصفور المبلول تحت المطرة، إذ بها فجأة، وبلا أي تمهيدات يقرها مؤرخو الموسيقا، ورغم تغير الإيقاع النغمي والمقام الموسيقي، تنقلب فجأة لتغني لوابور الساعة الثانية عشرة الذي يُقَيِّلُ متجها ناحية الصعيد، وبينما يكون قلب حبيبها ذائبا من الشوق، يكون قلب هذا القطار حديدا، وتعود من جديد وكأنها لم تخرج على السلم الموسيقي على الإطلاق، فتعاود غناءها لذيل البقرة والقلة الفخار، ثم تعرج تارة أخرى، ملخبطة جميع المقامات الموسيقية المعروفة والقرارات المعهودة، على أسمر يا اسمراني، لتوجه كلامها لحبيبها الأسمر، وتخاطبه متسائلة باندهاش، من هذا الذي قساك عليّ؟، موضحة له بأنها لا تشكو ولا تبكي، ولكنها فقط تطلب منه أن يجيب على تساؤلاتها.
وبالرغممنأنغناءهاكان لا معنى لكلماته نهائيا، أو كان متداخل المعاني بشكل غير عقلاني، مما يجعل عملية التلقي شديدة الصعوبة، إلا أن جمال صوتها وهي تغني، وتمديد الحروف بشكل أنثوي ساحر، وطريقتها في نطق كلمات الأغاني بشكل قاهري يجعل من "القلة" "أُلّة" ومن "البقرة" بأرة"، بينما تصبح "الشجرة" غير معطشة على الإطلاق، فيما نحن لا نعرفها إلا معطشة تعطيشا ثقيلا على الأذن واللسان، كل ذلك جعل لغنائها وقعا نديا في نفوس أهالي سوهاج، خاصة الأطفال الصغار، فانتشرت أغانيها على أفواههم وهم يلعبونالكرةالشراب في الأزقة والحواري، وكأنها أناشيدمن محفوظات المقررات المدرسية.
ويقال إن الرجلذاالجلبابالأزرقالباهت ظل يتلفت يمينا ويسارا في الشوارع التي كانت تتبعه فيها بعد أن اختفت من شوارع وحارات سوهاج كلها، فلا يجدها، في البداية كان الأمر لا يعدو مجرد الالتفات والبحث الصامت والمرور أمام باعة الطماطم وبوابات المساجد، ثم تطور الأمر فبدأ يذكر اسمها صراحة، وهو الذي يكتفي فقط بالإشارات والتنبيهات وعليك استنتاج مقصده، ثم يحدد أوصافها ويذكر ملابسها مبالغا كثيرا في جمالها وفي عذوبة صوتها، كان يبدو كشيخ ضارب في القدم، زائغ العينين، مهتز الكلمات، وكانت لهفته متجسدة حتى لكأنك تستطيع أن تلمسها بأصابعك أو تبصرها بعينيك، إلى أن انتهى به الأمر بأن يستوقف الماشين ويوقف القاعدين على المقاهي، ويطرح عليهم سؤاله المؤرق:
ألم تجدوا"زنوبة البيضا"حتى الآنيا خلق الله؟
لكن خلق الله لمتكنلديهمإجابة شافية على سؤاله الصريح، كانوايمصمصونشفاههم ويضربون أكفهم بأكفهم، فيقلب في أعينهم وجهه المندهش، ويكرر عليهم سؤاله الممرور بصيغة مختلفة:
كانت تتبع العربات السيارة وسرب الطيور، وكانت تكلم أحبابي الجوابين في الملكوت، وتتلقى منهم الهدايا والتفاريح والتلويحات، وكانت تريد أن تشرب من القلة الفخار، وتغني لذيل البقرة، أتركتموها عطشانة في كل هذا الحروشربتم الماء كله.
لكن الشربانين لم يكونوا يهتمون بأمر العطشانين كثيرا.
حتى أصبح كلما مر على صبية لاهين في الأزقة والشوارع، يتركون لهوهم ويتبعون خطواته المهتزة، ويصفقون بأيديهم، ويقلدون "زنوبةالبيضا" في حركاتها وغنائها ووضع يديها في جيبيها، ويقولونفي صوتجماعي نشازلا يصلحأبدا لإيقاع الأغنية، ممددين الحروف كلها كما كانت تمددها:
هات القلة وخد توبي
واطلع من خرم الإبرة
أوعوا تقولولي توبي
وادوني ديل البقرة.
فينتفض الرجل انتفاضة تخاله سيشرق فيها، ويموت.
أما عن سبب اختفاء "زنوبة البيضا" من سوهاج كلها، فلا أحد يعرف الحقيقة، كل ما في الأمر أن الناس صحت من نومها ذات يوم ولم تجدها في الشوارع، لكن الأقاويل تعددت في هذا الأمر والتأويلات تباينت والشائعات خلقت منها أسطورة يتندر بها المتندرون.
لكن أكثرها إثارة ماكان يؤكدهعم"سمعانأبو قورة"،مزلجانجي محطة سوهاج، الذي قرر أن أحد أقربائها أتى خصيصا من أجل اصطحابها معه إلى القاهرة، بعد أن وصلت فضائحها إليهم، فاكتشف أنها لا تعرفه ولا تعرف أباها ولا أمها، واكتشف أنها تستعصي على التفاهم تماما، وكان كل همه أن يبعدها عن سوهاج تجنبا لعتاب زوجها وأهله لهم، فأخذها من يده بعد أن أوهمها أن الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت يريدها، وقد نادي عليها بالاسم بين رجال حضرة الخميس الماضي، وطالبهم بضرورة إحضارها له لأنه سيسلمها شيئا يخصها وحدها، ولا يريد لأحد آخر أن يتسلمه نيابة عنها، أو يعرف عنه شيئاعلى الإطلاق، فابتسمت "زنوبة البيضا"، وأضاء وجهها، وسارت معه هادئة، بلا انفعال ولا غناء ولا تصفيق ولا رقص، حتى وصلا لمحطة القطار، عندهاوضعيدهعلىكتفها، وقاللهابصوت عال:
هو في آخر هذا القطار، ينتظرك ويبحث عنك، فاركبي.
نطتفرحانة، وقعدتعلىسلم القطاربلا حركة، فزجرها الهابطون والراكبون فدخلت في جوف العربة، ورآها الناس كلهم ورآها عم "سمعان أبو قورة"مزلجانجي محطة سوهاج، وهي تبحلق في وجوه الراكبين راكبا راكبا، وفي جميع عربات القطار عربة عربة، وفوق أرفف القفف الكثيرة قفة قفة، باحثة عن رجل اقترب منها دون كل النسوة الطباخات، فاستحسن في البداية طماطمها، وسيسلمها في النهاية شيئا يخصها وحدها، ولا يريد لأحد غيرها أن يعرف عنه شيئا، وسار بها القطار الذي كان متجها للشمال.
وبذلكانتهت حكاية امرأة غريبة الأطوار، أتى
بها ذات مغربية، برتقاليٌّ جوال يملك عربتي نقل،
وجلس معها على ظهر إحدى هاتين العربتين بين أقفاص البرتقال من قرى "كفر الشيخ" و"القليوبية"، حتى وصل إلى "طما" و"المراغة" و"طهطا"، ووزع برتقاله على تجار الجملة، بعد أن ذاق برتقالها البهيج في ظلال أشجار القرى الكثيرة التي مرت عربته تحت أغصانها، حتى انتهى بها المطاف في جوف قطار، كانت تغني لركابه ولا شك، وتطلب منهم ألا يقولوا لها توبي.
2الرجل الحديدي
قال لي "علي الحساني" زميلي في المدرسة ونحن في الفسحة:
هل تريد أن ترى عجبا؟
أجبته:
يا ليت.
قال:
قابلني إذن يـوم الجمعة القادمــــة لنصلي العصر معا وبعد الصلاة نذهب إلى البيت وسترى ما يدهشك.
قادني إلى بلكونة حجرته الضيقة المطلة على الشارع الرئيسي، جلسنا على كرسيين متقابلين، وأثناء شرب الشاي سألني:
هل تعرف الضابط الذي يمر كل صباح بمدرستنا؟
أجبته:
وهل في في مدرستنا كلها من لا يعرفه؟
مد رأسه إلى خارج البلكونة متجها ببصره إلى بيت أمامه شجرة كبيرة يقف تحتها جنديان متسمران بملابسهما العسكرية وقال:
هذا هو بيته.
لم أندهش لأنني كنت أعرف، بل إن كثيرا من زملائي في المدرسة يعرفون أن هذا البيـــت بيته، فقلت له:
وما الجديد في هذا الأمر يا صديقي؟، نعم أعرف، فهل هذا هو العجب الذي تريدني أن أراه؟.
لكنه أجاب بثقة:
العجب هو ما سيحدث أمامك الآن.
كان ضابط شارع المدرسة من الشخصيات المعروفة في منطقة المدرسة وأكثرها شهرة، كان صارما وحازما وذا تكشيرة لصيقة بوجهه، وكان إذا ما مر في شارع المدرسة فإن الشارع كله يقف على رجله، وعابروه يبدون وكأن على رءوسهم الطير، وكان راكبو الحميريهبطون من على ظهور حميرهم ويتسمرون بجوارها ملصقين ظهورهم لبطونها حتى يمر، وكان الصبية الذين يلعبون يخبئون الكرة خلف ظهورهم ويصطفون بجوار الحائط، وكان مجرد ذكر اسمه كفيلا ببث الرعب في القلوب.
طوّف بنا الحديث تطوافا خفيفا حول المدرسين والطلاب والناظر ووكيل المدرسة، ذكرنا مساوئهم ولم نتوقف كثيرا أمـــــام حسناتهـــــم التي كانت بطبيعتها قليلة أو كنا نراها كذلك، حتى التفـــــت مضيفي إلى منتفضا وهو يصرخ هازا كتفي قائلا:
انظر.
نظرت حيث أشار، فلقيت رجلا يرتدي جلبابا صعيديا ذا أكمام واسعة، ويتلفح بشال يميل إلى البني يغطي به صدره ورأسه ورقبته وذقنه وجزءا من أنفه ويغطي عينيه بنظارة سوداء، وسرعان ما مر بنا تحت البلكونة، ولما حدقت فيه تأكدت أنه الضابط.
قلت لزميلي:
لعله في مهمةسرية منتلكالمهامالخطرة التي توكل عادة للضباط كما يحدث في أفلام السينما.
لكن زميلي أكـد لي أنها ليست مهمة سرية ولا يحزنون، ثم قرب وجهه من وجهي وكأنما يريد أن يفضي لي بسر خطير:
هو ذاهب للحضرة.
برقت عيناي، وقلت بصوت زاعق:
الحضرة!.
قال زميلي وهو يبتسم.
ابسط ياعم، لقد عرفت زميلا جديدا، فاهنأ به.
أنا ابن الحضرة،وربيبتطوحاتها،أتحجج بالمذاكرة مع زملائي، لكي أنتظم في جلسات الذكر التي لو يعرف الحكام مقدار الفرح الذي يتسلل لقلوبنا فيها لحاربونا عليها، أنا ابن الحضرة، أكون ماشيا لا بي ولا عليّ، فأسمع مزامير المنشد فيأخذ عليّ كياني، ويسلبني مني، فتأخذني رجلاي غصبا إلى الحصيرة، حيث النشوة كلها، وبلوغ مراد الفؤاد الصادي لشربة التحنان الندية التي تبله فيكاد يطير، أنا ابن الحضرة، لما أصطف إلى جوار هؤلاء الغرباء الذين يأتون من فجاج الأرض كلها، أعرف أني بين خلاني وناسي وصحابتي الأصفياء.
هذا الرجل الحديدي إذن، واحد منخلاني وناسي وصحابتي الأصفياء.
في مدينة سوهاج، كما في كثير من مدن وقرى الصعيد والوجه البحري تقام حلقات الذكر تقريبا على مدار العام كله، ولها مريدوها الذين يأتون إليها من القرى البعيدة، بل إن هناك من هو متفرغ لها تماما،يترك بيته وامرأته وعياله وحاله ومحتالهويتشعلق في أي ركوبة ماشية، حمارا كان أو قطارا أو عربة كارو، ليلحق بمشواره المعقود، وكان أصحاب الحمير أو محصلو تذاكر القطارات أو سائقو عربات الكارو يتركونهم يركبون دون أن يطلبوا منهم أجرة، بل إنهم أحيانا كانوا يقدمون لهم الأكل والشرب، فهم يرون أنهم رجال مبروكون، ودائما ما يرددون "المركب اللي ما فيهاش لله .. تغرق"، لذلك فهم يقدمون كل المساعدات الممكنة لهم لكي يصلوا إلى هدفهم المقصود، في حين أن هدفهم المقصود هذا لا نهاية حقيقية له، فالواحد منهم ينتهي من مولد سيدي "عبد الرحيم القنائي" في قنا، بعدها يبدأ في رحلته، ماشيا، إلى مولد سيدي "السيد البدوي" في طنطا، وفي الطريق من هذا المولد الجنوبي إلى ذاك المولد الشمالي يكون قد مر على عشرات الموالد المقامة من تلقاء نفسها على طول الوادي، هذه الموالد التي يعرف موعد انعقادها حضرة حضرة كما يعرف الفلاح المصري مواعيد الزرع والقلع اعتمادا على التواريخ المصرية القديمة.
وهو في تطوافه لا يشغل باله كثيرا بالمأكل والمشرب وفلوس المواصلات، فكل شيء متاح في الحضرة وكل حاجة قرب أصابعه، أما هدفه الأكبر وفرحته التي لا تضاهيها فرحة أخرى، فهي الوجود في الحضرة والاندياح التام في هزة الرأس يمينا وشمالا، حالة ربما لا يعرفها غير الصوفيين الذين تنعدم كل الموجودات من أمامهم لحظة وصولهم لنشوة الرؤية وفرحة الرؤيا وتمام الحلول، يكونون قد خفوا وشفوا وصاروا كالطيف، ويكونون قد خطفوا وأخذوا وصاروا محض قلب مشوق، ويكونون قد غابوا وذابوا كأنهم قالب سكر قلبوه في ماء مغلي، فينتفضون ويهتفون زاعقين بزوغان عين وغياب عقل ووجيب قلب:
حي.
قررت أن أراقب الرجل الحديدي.
أطربتني فكرة مراقبة ضابط، وابتسمت بيني وبين نفسي وأنا أقف بعد صلاة العصر في الجمعة التالية على ناصية بيت زميلي منتظرا مروره، قلت لنفسي، ماذا يحدث لو تبادلنا الأدوار بعض الشيء؟ لن تقوم القيامة على أي حال، استبعدت فكرة أن أمسك في يدي جريدة مثقوبة كما هو متبع في مثل هذه الأحوال، فالجريدة فضاحة خاصة بالنسبة لضابط متمرس، الجريدة لا شك ستكشف أمري، فهو مدرب على كل هذه الحركات، قلت فلأقف هكذا كأنني أتملى شكل البيانات في الشارع، وليحدث ما يحدث.
مر عليّ بهيئته التنكرية، وأنا بهيئتي العادية خطوت وراءه.
مشى في شوارع كثيرة، وعبر إلى طوار بعد طوار، وانعطف لمنعطفات صغيرة، حتى وجدته يدخل أحد البيوت الواسعة، مع داخلين عديدين، تمليتهم من الشباك الخارجي، فعرفت كل شيء، في الباحة الكبيرة هواء طري يدوّخ القلب، أعرفه جيدا، وكثيرا ما جربت فعله في الحشا.
إنها الحضرة.
في الحضرة، حتى لو كانت في بيت غريب عليك، فأنت صاحب مكان ورفيق أهل، لا يسألك أحد عن شيء، يوسعون لك على قدر قعدتك، ويفرحون بحضورك، ويقدمون لك الماء والتمر بمجرد أن تجلس، ستشرب إن كنت عطشان أو غير عطشان، وستأكل التمر إن كنت جوعان أو غير جوعان، فالتمر والماء هو عيش وملح المخطوفين، ودلالة رفقتهم، يقتسمونه كما يقتسمون الفرحة، ويغمسونه في الوجد فيضرب القلب بأجنحته في الصدر، بعدها ستنداح تلقائيا فيما هم منداحون فيه.
اصطففت بجوارهم وعيني عليه.
وما أن بدأنا حتى غاب عني أو غبت عنه، فكل في شغله مشغول، وكل في ورده مخطوف، وأنت ربيب وجدك الأخاذ، ولستَ مقصورا عليك، فستصبح نقطة شديدة الضآلة في بحر لا نهاية لمياهه الجارفة، حتى أن أشكال الناس بعد القراءات الأولى تصبح متشابهة، وأحوالهم واحدة، وعيونهم مفتوحة ولا ترى إلا كل ما هو غير منظور، فكيف لي أن أميزه وقد أصبح شبهي؟!.
3الخبزة لا تنضج بغير الحب
في الصيف الذي انتقلت فيه من الصف الثالث الإعدادي إلى الصف الأول الثانوي، ذهبت إلى مدينة البلينا جنوب سوهاج لقضاء يومين مع صديقي الزجال "حمدان عبد اللطيف"، أكبر عاشق للنساء في صعيد مصر كله، يتعقب خطوهن في الأسواق وعتبات البيوت، ويتبع روائحهن في محطات السفر، هذا الذي ظل طوال حياته يحلم بإصدار ديوانه الزجلي "من كل بستان زهرة" الذي يضم قصائد بأسماء النسوة اللواتي عرفهن، ولم يفلح، كان يريد أن يحصل به على عضوية رابطة الزجالين، وعضوية نادي الأدب بقصر ثقافة سوهاج، وكان يريد أن يرسل الديوان مطبوعا للمطرب "محمد رشدي"، الذي كان ولا بد ستعجبه قصيدة "رتيبة بنت الشجر والعيد" فيغنيها في حفلته بأحد الأخمسة، وإن غناها دون الرجوع إليه وأخذ موافقته المكتوبة، فسوف تكون له ساعتئذ مواقف قانونية تزلزل جدران المحاكم ومانشيتات الصحف، أما سؤاله المتكرر الذي يوجهه دائما لجميع من يتوسم فيهم المعرفة هو، ما هو عنوان الفنان "محمد رشدي" بالضبط؟.
ذهبنا لزيارة أحد أقاربه في إحدى القرى المتاخمة لمدينة البلينا، امتطينا حمارين عارفين سكتهما جيدا، وطوال الطريق كان يحدثني عن مجده الطربي المنتظر، وعن أجمل المناطق في أجساد النسوة، شرح لي بكثير من التفصيل أن المرأة الجميلة جدا غير ممتعة في الفراش، فهي باردة ومكتفية بجمالها الخارجي، أما المرأة العادية فهي بلطية في السرير وشديدة السخونة، وأنني لا يجب علي أن أحكم على المرأة من خلال شكلها الخارجي، وبرهن لي على ما يقوله بحالة "أبيزينب" زميله في العمل الذي كان قد عرفني عليه وعلى زوجته الشهر الماضي، وقضينا عندهما نهارا كاملا، حيث استوقفني كثيرا قبح زوجته وفشكلة جسدها المترهل، في مقابل الوسامة الواضحة للزوج، ثم ضرب بكفة يده على رقبة حماره وهمس لي:
"أم زينب" وقت الاختبار أجمل من كل نساء الدنيا، الأمر الذي يجعل "أبا زينب" مشدودا لها ودائرا في فلكها تماما كهذا الحمار.
عندما وصلنا لمندرة قريب صديقي احتفوا بنا احتفــاء كبيرا، وقدمـوا لنا الطعام نحن والحمارين.
في المغربية رأيت تعاليق الكهرباء في أحد المساجد، ولما سألته عرفت منه أنها خاصة بمولد سيدي العارف بالله، فهذا موعده السنوي، وتلك أنواره الضوّاءة في الأنحاء كلها، ظل صوت المزمار البلدي يأتي إلينا طوال الليل متسربا من خلل الشبابيك، كان الصوت حنونا ودافئا وحزينا، كنت أشربه مع رشفات الشاي، وكنت أنسجه بخيوط الكلام الذي أحكيه لـ "حمدان عبد اللطيف"، فأنا طوال عمري أسير لأنين المزمار، يأخذني من خلاني، ويخطفني من حالي ويصحّيني من أحلى نومة، ويسحبني وراءه أينما كان، اقترحت عليه أن نذهب ونتفرج على رقص البلينيين بالعصا على الحصان، لكنه اقترح عليّ أن ننام فذلك أفضل لي وله، لأن الغد ينتظرنا بمشاوير كثيرة ولقاءات متعددة في نادي أدب بيت الثقافة.
لما عسعس الليل تركت "حمدان عبداللطيف" نائما تداعبه أحلام المجد الطربي الموعود، وتملأ عينيه مناطق بعينها في أجساد النسوة الفاتنات، وانتعلت شبشبا جلديا، وخرجت بجلباب صعيدي أعطانيه مضيفنا لأنام فيه إلى خارج البيت، لأتسمع أكثر لأنين المزمار الخاطف، وكنت كلما مشيت باتجاهه يزداد حزنه أكثر فيضرب قلبي، حتى وجدتني وجها لوجه أمام الحضرة.
كان ثمة صفان طويلان متوازيان ومتواجهان، وكان المنشد متعاجبا بشاله القطني وجلبابه الناصع البياض وصوته الذي كان آسرا بالفعل، كان يقف في صدارة المشهد بين الصفين، يزيح الشال على كتفه ويتمايل وهو يغني فاردا يديه وقابضهما حسب مقتضى الكلام، وكان بين الحين والحين ينظر للنسوة المتعلقات في شبابيك البيوت المحيطة، ويبتسم لهن عندما يكون كلام غنائه حاملا لمعنى يوحي بشيء ما، وغناء المنشدين في الحضرة حمّال أوجه بطبيعته، حيث يمكن للمنشد أن يقول معاني شديدة الحسية والجرأة، ويمد يديه وعينيه إلى ما شاءت له يداه وعيناه، وبراءة الأطفال في عينيه، ويبدو من ابتساماتهن وإشاراتهن أنهن كن يفهمن تماما مرامي مقصده الفني.
كان الصفان يتمايلان في حركة إيقاعية واحدة متوافقة مع إيقاع المنشد المعجباني، وسَّعْتُ لي في منتصف أحد هذين الصفين المتفابلين مطرحا، واصطففت معهم وتمايلت على إيقاع المزمار وترانيم المنشد:
و الله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا و حبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالا منك في الكاسِ
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعيا على الوجه أو مشيا على الراسِ
ويا فتى الحي إن غنيت لي طربا
فغنني أسفا من قلبك القاسي
ما لي وللناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي و دين الناس للناسِ
و الله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا و حبك مقرون بأنفاسي
بعد فترة لفت بي الدنيا كلها، ولم أعد أرى غير جلابيب دوارة بلا رءوس، شعرت بدوار شديد، وبرغبة في القيء، فتسللت وأنا أتسند على أيدي وأكتاف من يقابلني، حتى أصبحت خارج الحلقة، تنسمت بعض الهواء الطازج، واستندت على جدار ما، لقيتني أمام سيدة عجوز بدينة دائمة الابتسام، وعن يمينها رجلان شديدا الضخامة، كانت تصب لهما الشاي، ظننتها تبيعه، فجلست بجوارها على قفص جريدي، وطلبت منها كوبا فصبت لي وشربته، مددت لها يدي بقرش ونصف، فضمت على النقود أصابعي، وقالت بابتسامة حانية:
بالهنا يا ولدي، نحن هنا كلنا في خدمة مولانا، ونأكل ونشرب من خيره الوافرـ
ونظرت في اتجاه المسجدالذي بداخلهمقـام سيدي العارف بالله.
كان الشاي قد فعل فعله في دماغي وأوصالي فتيقظت، وتفتحت عيناي، واستعدت عافيتي بعض الشيء، شكرت السيدة التي أعطتني الشاي بامتنان كبير، ووجدتني أتجه صوب المقام.
حول المقام كان أناس كثيرون يقفون ويمسكون بالحديد الذي يسوِّر المقام بتشبث واضح، يقولون له أشياء كثيرة، بعضهم كان يبكي، وبعضهم كان يلح على قضاء حوائجه بصوت مرتفع، حتى أنك تستطيع أن تستمع بوضوح تام لموضوع شكواه، وتستطيع أن تتبين أنه غير صاحب حق على الإطلاق في كثير من الأحيان، وبعضهم كان يعاتبه بشدة، بل ويؤنبه لأنه – رغم وفائه بالنذور كلها – لم يصلح له الحال.
اصطففت معهم، وأمسكت بالحديد، وقلت له أشيائي.
كانت أشيائي كثيرة ومتلخبطة فحاولت ترتيبها، ابتدأت بالأمور الخاصة جدا، حيث كانت الفتاة الرقيقة الخجول "أشجان" شقيقة زميلي "عبد الباسط" تملأ عليّ وجداني وعقلي وكياني، وتُسهّرني مع طيفها الليالي الطوال، ومع ذلك لا تكاد تراني على الإطلاق، رغم زياراتي المتعددة لأخيها في أوقات متباينة، تكتفي فقط بمد يدها للسلام، وتبادل كلمات التحية والترحيب، مع أن هناك أشياء أخرى أكثر أهمية يمكن لنا أن نتبادلها.
وأنا أخاطب سيدي العارف بالله، وقعت عيناي عليه، حدقت فيه جيدا في دهشة كبيرة، كان يبين بالكاد من بين الرءوس الكثيرة حول المقام، جالسا في صحن المسجد على ما يشبه المصطبةالصغيرة، مربعا رجليه، وأمامه رجال كثيرون.
الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت، يا إلهي، أهو يتبعني أم أنا أتبعه؟!، أم ان خطانا مرصودة على مسلك واحد ومشرب وحيد؟!، يا إلهي،كيف ترى أتى إلى هنا؟! وماذا يصنع في هذا الليل وفي هذا المكان؟!، يا إلهي كيف صغر فجأة وأصبح بكل هذا النضرة؟!
تركت على سور المقام الحديدي أشيائي منقوصة في فمي قبل أن يكتمل قولها، وقبل أن تبتسم لي "أشجان"، وتتبادل معي أشياء أكثر أهمية من التحية والترحيب، واتجهت إلى جلسة الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت.
كانت الجلسة علىهيئة دائرةتضم أكثرمن ثلاثين رجلا، وكان كل منهم يتمتم في سره بكلام ما، أما هو فكان يتابعهم بعينيه، ولما رآني قادما، فرد ساقيه، ومد يديه على اتساعهما ورفعهما وخفضهما مرتين متتاليتين، لم يقلشيئا،وإنماابتسمابتسامتهالمعهودة، فابتسمت له، وأشار لي بالجلوس، فوسع لي اثنان مكانا بينهما فتربعت وجلست.
لاحظتأنهمجميعاينظرونلي باستغراب، وربما بفرح، فتنحنح ذو الجلباب الأزرق الباهت فعاد كل رجل إلى صمته، هو نفسه عاد إلى صمته مرة أخرى بعد ترحيبه بي، كان الصمت مبالغا فيه، وطال أكثر مما كنت قد قدرت له، ومع مرور الوقت تأكدت أنها جلسة صمت، فلا كلام ولا نظرات، وإنما تمتمات صغيرة يحركون بها الشفاه، وكلمات غير تامة يتفوهون بها بصوت هامس، وبين الحين والحين يهتــف رجل بصوت خافت:
حي.
ويعودون لصمتهم.
كنت، في أوقات سابقة وفي لحظاتمشابهة، قد عرفت بعض قوانين الحال، فالصمت كلام، والخلوة صحبة، والنوم ترحال، والأشياء حوالينا ليست جمادا كما يظنها غير العارفين، إن لها أرواحا ساكتة، تنتظر لمسة من العارفين فتصحو وتحوم حولنا.
فجأة رفعالرجل ذوالجلباب الأزرقالباهت وجهه الغارق في الصمت، وقال :
لا تقترب من الغلال ثانية في ظلام الليل، الغلال منذورةلأصحابها، والسارقوجهه أسود وعيناه كالحتانويداه تدلانعليه، وقد سترالله عليك فانتبه.
كان صوته متقطعا كخطواتـه في شارع الجرجاوية، لكنه كان واضحا ومفهوما، وكان حنونا، فإذا بأحد الرجال ينخرط في بكاء شديد، وإذا برجل يهم بالقيام إليه، فينهره بشدة ذو الجلباب الأزرق الباهت، فيعود لمكانه ثانية، ويصمت الباكي.
عادالصمت مرة أخرى، وكأنه لم يقل شيئا،
وكأن أحدا لم يبكِ، وبعد فترة طويلة رفع رأسه مرة أخرى، وقال:
طلقهاودعهالحالسبيلها، فلاولايةلك عليها من الآن، وارع ولدك واصرف عليه.
الذي بجوار الذي بجواري نظر في الأرض وهو يقول بصوت خفيض:
ولكنها قليلة الأدب يا مولانا، وطماعة، ودائمة النظر لما في يد غيرها، و....
قاطعه ذو الجلباب الأزرق الباهت بإشارة من يده قائلا بحسم:
طلقها ودعها لحال سبيلها، فلا ولاية لك عليها من الآن، وارع ولدك واصرف عليه.
وعاد الصمت إلينا، لكنه هذه المرة طال أكثر مما يجب، لكنني كنت مرتاحا في جلستي، وكان ثمة هدوء غريب يخيمعليّ حتى تمنيت ألايطلع صباح هذا اليوم،لكنه التفت إلى الذي بجواري وقال له:
هل أنهيت وردك؟
قال له:
نعم يا مولانا.
قال:
فأعطه لمن بجاورك.
ألقى مسبحته في حجري.
لم أكن منذ وسعلي مطرحا قدنظرتإليه، فلما ألقى مسبحته في حجري، رفعت عينيّ إلى وجهه لأشكره، عيناه هما نفس العينين الصارمتين اللتين يعرفهمـا كل طلاب المدرسة وعابرو شارعها، إنه ضابط شارع المدرسة،ولكنفيالهيئةالتنكرية التيرأيتهعليهامن بلكونة زميلي.
وضعت المسبحة في كفة يدي اليمنى، وظللت أرفعها وأهبطها وأنا أنظرإليه وإليها، ثم رفعت عينيّ إليه وقلت له:
ما هذا؟
همس بصوت خافت:
لتقرأ الورد.
حدقت في عينيهتماما، وكأنني آخذبثأركل زملائي في المدرسة وأنا أقول له بصوت حاسم وحازم:
وهلتظننيلمأقرأه؟ لا بدوأنكلمتفهم كلام مولانا جيدا، إنه لا يقصدني أنا، وألقيت المسبحة في حجره فانزلقت إلى الأرض، ورحت أواصل تمتماتي الخافتة وكلماتي غير التامة كما يفعلون.
كان ذوالجلباب الأزرق الباهت يتابعني أثناء حواري مع الضابط، كنت أقدر أنه لم يسمع الحوار، لكنني كنت متيقنا من أن جميع من بالحضرة متأكدون أنه سمعه، ليس هذا فحسب، بل إنه قادر على سماع ما يدور بخلدك دون أن تنبس به، وإلا ما كان يرد على ما تفكر فيه دون أن تقوله، ظلت عيناه مركزتين عليّ فيما يشبه الابتسام، وكان يهز رأسه فيما يشبه الموافقة، فألتقط الضابط المسبحة من الأرض، وألقاها في حجر الذي على يسـاره، فالتقطها فرحا وربّــع رجليه وراح يتمتم.
سرى الوقت بطيئا صامتا لا يقطعه بين الحين والحين غير صوت ذي الجلباب الأزرق الباهت قائلا:
"لا تذهب لحقل البصل غدا".
أو
"أعد جرة المش لموضعها"
أو
"سَمّ على فرن البيت عندما تنزل لصلاة الفجر وتمر عليه، وألق عليه السلام، ولا تقلق الدجاجات الغاطةفي نومها، فالخبزة لا تنضج بغير الحب، وروحالفرنمشتاقةلكلامنا معها، والحطب ابن أجسام أجدادنا".
ويبدو أن من يعنيه هذا الكلام مـن الجالسين يعرف أنه المقصود، وبعضنا كان يعرفه من ردة فعله، وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أن الرجال يتناقصون، وبدأت ألاحظ أن بعض الرجال ممددون أجسامهم على الحصيرة، وكان بعضهم يغطون في نوم عميق، ففردت رجليّ وأسندت رأسي إلى يديّ، كان الذي بجوار الذي بجواري قد مضى، فأفسح لي الذي بجواري لكي يتسنى لي فرد جسمي كله، عندها أخذت راحتي ووضعت رأسي على حجر ضابط شارع المدرسة، ونمت بالفعل.
حينما فتحت عينيّ لم أجد في صحن المسجد أحدا غيرنا، أنا وضابط شارع المدرسة.
افتعلت عدم اهتمامي، ونفضت جلبابي، وقلت له:
هل صليت؟.
قال:
لم أشأ إزعاجك فقد كنت نائما نوما عميقا، ومازال أمامنا الوقت متسعا.
قلت له:
هيا بنا نتوضأ.
عدنا من الميضأة متوضئين، وبكل جرأة تقدمت للإمامة، رفعت يديّ بجوار أذني، وكبرت، لصق أصابع رجله اليمنى في كعب رجلي اليسرى، وصلى ورائي.
حينما وصلنا لباب المسجد، استدرت إليه وأنا أضعفردةالشبشبفي رجلي اليمني، حدقت فيعينيه وقلت له:
هلتعرفلماذاخرجواكلهممنالمسجد وتركونا وحدنا؟.
أجاب مندهشا:
لا.
قلت وأنا أضع رجلي اليسرى في فردة الشبشب الشمالى:
لعلني أريد إبلاغك بأمر ما.
قال :
ما هو؟.
قلت له وأنا أهم بمغادرة المكان، وكأن الأمر لا يعنيني:
عندمــا تمر بسيارتك في شارع المدرسـة كل صباح لا تجعل سائقك المزعج يضرب الكلاكس كثيرا كما يفعل كل يوم على امتداد الشارع كله، فالشارع ملك لخلائق الله الجوابين، وأصحاب الحاجات.
قلت كلامي ومشيت.
لحقني بخطوات سريعة وأمسك بكوعي، وقال مندهشا:
أي شارع وأي مدرسة؟.
ابتسمـــــت ابتسامة العارف ببواطن الأمور وأنا أشير بأصبعي إلى صدري:
أنا أعرف.
ثم وجهت إصبعي تجاه صدره بحركة مسرحية، وأكملت:
وأنت تعرف.
وكأنه فوجيء، لكنه عقب:
هلمولاناهوالذي قاللكذلك، وطلب
منك إبلاغي به؟.
فهمت أنه يقصد الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، وأدركتأنه ربطبيننا برباط ما،فقلت له بسرعة:
دع مولانا في أحواله يا أخي، فهو جوال وطـــــواف وذو نداءات شدّادة، وله شأنه الموكول به، أما نحن فلنا شأننا وعلينا أن ندركه جيدا، واتركني لمواقيتي وأحوالي فأنا أدرى بها، وافعل ما قلته لك.
ثم نظرت لجلبابه وابتسمت ابتسامة العارف ببواطن الأمور وأكملت كلامي:
المهم هو الأصل، الشراب يتنوع والكوب واحد، الحوادث كثيرة والقلب واحد، الثياب متعددة والقالب لا يتعدد، يا صاحب البدلة العسكرية اللامعة، ثم عقبت سريعا:
المهم أن تفعل ما قلته لك، وتخبر سائقك غير العارف.
نظر لجلبابه البلدي وزرر أزرار فتحته، وأجاب مبتسما:
طبعا سوف أفعل.
وعقب:
هل تريد شيئا؟.
قلت له وأنا أتركه:
منك أنت لا، أنا أريدمنه هو، وهو يعرف ما أريد، وأنا ذاهب لمبتغاه.
وتركته ومشيت لبيت قريب صديقي الزجال الطيب "حمدان عبد اللطيف"، أكبر عاشق للنساء في صعيد مصر كله، والذي مات ميتة عبثية في إحدى زياراته للقاهرة، بأحد فنادقها الرخيصة، مات وهو فاتح عينيه باتساعهما على عيون وأجساد جميلات الأسواق وقطارات المحطة وبائعات الجبنة القريش، قبل أن يحقق حلمه بإصدار ديوانه الزجلي، وغناء "محمد رشدي" لقصيدته "رتيبة بنت الشجر والعيد"، تلك القصيدة التي من شأنها أن تقلب موازين الغناء الشعبي، وتُكَسِّر الدنيا كلها ".
4 نحن نخطو إلى المشرب وهو يعرف
منطقيا، أنا لا أستطيع أن أصدق كثيرا مما يقولونه عن الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت، وفي نفس الوقت لا أستطيع أن أجهر بتكذيبي لهذا الكلام، بل إني أعترف الآن أنني حتى بيني وبين نفسي لا أستطيع أن أكذب أي شيء يقال لي عنه.
مرة كان يجلسمعنافيالحضرةرجل يفكـر أن يشتري سمكا وهو عائد لبيته، في سوهاج – ذلك الوقت –أنت لا تستطيع أن تأكل السمك الذي تحبه، فقط تذهب لعم "حمدي" الصياد في نجع أبو شجرة، وتأخذ منه "شروة" سمك، يكون فيها البلطي مع قشر البياض مع سمك الثعبان مع ما يشاء حظك أو حظ شبكة عم "حمدي" الصياد من اصطياده من نهر النيل.
في الحقيقة هو كان محتارا، هل يأخذ "شروة السمك" ويذهب بها إلى زوجته لتطبخها له، أم يمر على بيت أبيه، يقعد مع والديه ويشرب معهما الشاي، ثم يأكل عندما يعود لزوجته الموجودَ في البيت أيا كان، كان يقلب الأمر على أوجهه العديدة ولم يكن – فيما يبدو – قد استقر على رأي واحد، في الوقت الذي كانت فيه الناس كلها في الحضرة مأخوذة بين يدي الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت الذي كان يكلمنا عن أن دودة القطن التي تؤذي القطن، والتي يستأجر أصحاب الأراضي الزراعية الصبية الصغار والفلاحات الحافيات لاقتلاعها، مقابل خمسة وعشرين قرشا لكل منهم، إنما هم في الحقيقة لا يعرفون قدرها عند الله سبحانه وتعالى.
ثم وجّه عينيه للرجل الذي كان محتارا – بينه وبين نفسه – بين شراء السمك وبين الذهاب لبيت أبيه، وقطع كلامه الذي كان يقوله لنا وقال، وكأنه يكمل حديثه عن أسرار دودة القطن، هذا الكائن الهلامي شديد الصغر والذي قد لا نستطيع أن نراه بأعيننا المجردة:
"السمك ليس مهما اليوم على الإطلاق، لنؤجله لمواقيت ثانية، فأيام الله لا نهاية لها، والأطعمة كثيرة جدا، الطعام هو الذي يختارنا، ونحن لسنا غيرمنفذين لرغبة ما نأكل، كما أنه لا أحد في الدنيا كلها يعرف ماذا يمكن أن يحدث لنا إن أكلنا سمكا اليوم"
ثم أعاد عينيه بيننا وأكد لنا أن دودة القطن هذه، تملك في أحشائها الدقيقة ما يمتلكه الفهد والنمر والحمار الحصاوي، وأشار بيديه إشارات تفصيلية كأنه طبيب يقوم بعملية تشريحية لكائن مكتمل.
كنا معتادين منه على الخروج على النص بشكل دائم، وكنا نجتهد في تأويل ما يقوله، فإن استعصى علينا، اتهمنا أنفسنا بالتقصير، وبأن عقلنا أصغر من أن يستوعب مغزى كلماته التي ترمى بالتأكيد لمعنى عميق، ودلالات لا نستطيع نحن بفكرنا البسيط أن ندركها، وفي أحايين كثيرة، كنا مقتنعين بأنه يعني أحدنا بهذا الكلام المقتطع من السياق.
الرجل المحتار قام إليه وقبل ثوبه، ثم استدار ومضى.
أنت لا تستطيع أن تكذب رواية الرجل المحتار، خاصة أنه عندما قابله في اليوم التالي وقبل يده، شكره على توجيهه البليغ، وإشارته التي أنارت طريقه، فإذا بالرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت يبتسـم في وجهه، ويضع يده على كتفه ويقول له:
وهل أنا أعرف بواطن الأمور يا ولدي؟! من أين لي أن أعرف ما تفكر فيه؟ فقط أنا كنت أكلم الـ"ولية" (الولية هي شقيقته الصغرى التي تتولى أمره)، فقد كانت تقول لي إنها تريد أن تقلي لنا سمكا هذا اليوم، ولم أكن أريد أن أتعبها في شرائه وتنظيفه وطبخه.
من فضلك عزيزي القاريء لا تكن فضوليا أكثر من اللازم وتسأل – متفلسفا – كطبيعة المثقفين:
وكيف يمكن لهذه الـ "ولية" أن يصل إليها كلامه من قلب الحضرة في أطراف جزيرة شندويل شمال سوهاج، إلى آخر حدود الجنوب الغربي لمدينة سوهاج حيث تقيم؟، فهذا التساؤل ليس فقط لا مكان له من الإعراب، وإنما يدل دلالة قاطعة على أنك لا تملك بين جنبيك قلبا مستضيئامبصرا،عارفا بالأحوال والمقامات وفاهما لسر سريان الأرواح الهوامة في الأزمنة المتباينة والأمكنةالمختلفة، ومثل هذا التساؤل سيضعك دائما في دائرة فاسدي القلوب.
وسوف يقف شعر رأسك ويقشعر بدنك عندما تعرف أن عم "حمدي" الصياد أشهر بائعي السمك في سوهاج، قد تم القبض عليه لأنه باع سمكا – في هذا اليوم – مسموما، نتج عنه وفاة امرأة شابة حامل في شهرها الرابع هي وجنينها، وإنقاذ سائق مدير مديرية التربية والتعليم بأعجوبة بعد أن تم عمل غسيل معدة له، ومازال شقيق المهندس الزراعي القادم من المنصورة بعد غياب تسعة عشر عاما لم ير فيها سوهاج، بين الحياة والموت.
وأحداث كثيرة مشابهة حدثت مع رجال آخرين مشابهين، كلها تدل دلالة قاطعة على أن هذا الرجل لصيق بنا في وحدتنا وفي جلساتنا الخاصة وفي أدق تفاصيل حياتنا، وكل واحد له معه حكاية ما.
بالنسبة لي حدث موقف مشابه.
كنت مدعوا لقضاء ليلة في بيت صديقي الباحث الأدبي، بمناسبة الاحتفال بعرس شقيقه الباحث الاجتماعي، كانت العروس قادمة من الإسكندرية، وجاءت، وجاء معها أهلها ومعارفها وصديقاتها، بعد العشاء استطعنا أن نجمع أنفسنا ونهرب من حلقات الغناء والطبل والدوشة التي ملأت الأمكنة كلها وسدت الآذان وشتتت الأفكار، جلسنا في حجرة صديقي الباحث الأدبي ، مجموعة من الشباب والفتيات، نتعارف ونحكي ونلعب ونتسامر، فتعارفنا وتسامرنا ولعبنا، وقلنا أسماءنا وهواياتنا وعناوين سكننا، وترتيبنا بين إخواتنا.
أثناء التعارف، استوقفتني حالة إحدى صديقات العروس، فقد طلق أبوها أمها، وتزوج كل منهما بآخر، وكان نصيبها أن تعيش مع أبيها وزوجته التي أحبت ابنته جدا، وبعد فترة طلق أبوها زوجته الجديدة وتزوج ثالثة، وحدثت مشاكل كثيرة بين الزوجة الثالثة والفتاة، التي تعرف أن مشاكل مشابهة ستحدث مع زوج أمها لو ذهبت لتعيش معها، وحلت المشكلة زوجة الأب الثانية، (الزوجة الوسطى)، والتي كانت قد تزوجت بدورها بعد طلاقها من أبي الفتاة رجلا آخر، وعاشت بينهما حياتها كلها، فأصبح لها أبوان رسميان وأبوان افتراضيان، وقد أكدت لنا أن أبويها الافتراضيين الذين تعيش معهما، بالنسبة لها أبوان حانيان ويحبانها جدا ربما أكثر من أولادهما الذين أنجبوهما فيما بعد، ومع مرور الوقت نسيت أبويها الحقيقيين، وإن قابلتهما صدفة فليس أكثر من السلام البارد والتحية العابرة، أما عن إخوتها، الأشقاء وغير الأشقاء، فهي تقرر لنا أنهم يتعدون العشرين أخا وأختا، لا تعرف منهم غير اثنين أو ثلاثة على الأكثر.
طرأ لي خاطر، ماذا يحدث لو أحبت هذه الفتاة أحد أخوتها، وأرادت أن تتزوجه وهي لا تعرف أنه أخوها، وهو أيضا لا يعرف أنها أخته؟ أعرف أنه خاطر افتراضي، ربما يكون مبعثه كثرة مشاهدتي للأفلام الهندية في سينما الحرية بسوهاج، لكنه على أي حال وارد الحدوث في مدينة صغيرة كالإسكندرية، شربت رشفة من كوب الشربات، واعتدلت لكي أعرض لهم هذا الخاطر، وقبل أن أفتح فمي لأقوله لهم، إذا بصديق صديقي الباحث الأدبي يطرح علينا سؤالا غاية في الغرابة، إذ ضيق ما بين حاجبيه وقال بصوت جهوري:
ألم تسألوا أنفسكم لماذا قامت الحكومة المصرية بإعدام "شكري مصطفى" ورفاقه الأربعة، في الثلاثين من مارس 1978 وهو نفس اليوم الذي زار فيه " أنور السادات" القدس ليصالح اليهود؟
تكهرب الجو جدا، ونظرت العيون للعيون في اندهاش حقيقي، أنا عن نفسي لم أكن أعرف أصلا أنهم أعدموهم في هذا اليوم بالتحديد، فكرت بيني وبين نفسي بأنه ليس مهما على الإطلاق وقوع مثل هذه المصادفات، فيكفي أن السيد "شكري مصطفى" ورفاقه قد قتلوا الشيخ "الذهبي" بعد اختطافه، بطريقة وحشية، وهذا – وحده – كاف تماما للإعدام، سواء في يوم زيارة الرئيس للكيان الصهيوني، أو في زيارته للقرية النموذجية "ميت أبوالكوم"، هممت أن أقول رأيي هذا، لكن صديق صديقي الباحث الأدبي واصل كلامه في حدة غير مبررة على الإطلاق:
ألم تسألوا أنفسكم لماذا قدموهم للمحاكمة العسكرية بديلا عن المحاكمة العادية، التي من الطبيعي أن يحاكموا أمامها لأنهم أصلا مدنيون وغير عسكريين؟.
كنت أريد أن أستفسر منه عن هذه النقطة تحديدا، إذ لم أكن قد عرفت بعد، مثل هذه الفروق الطفيفة بين المحاكمتين، وهل المحاكمة العسكرية أفضل أم المحاكمة غير العسكرية؟ ومن الذي يحق له تحديد نوع المحاكة، هل الرئيس أم مجلس الشعب أم المتهم، فقد كانت هذه المصطلحات جديدة عليّ، وبدا هذا الكلام كبيرا بعض الشيء على أذنيّ اللتين لم تعتادا الاستماع إليه من قبل، على كثرة ما استمعنا إلى الكلام، وكنت من قبل قد بذلت مجهودا جبارا لمعرفة مصطلح آخر كان يتردد بكثرة تلك الأيام، هو "الانفتاح الاقتصادي"، يبدو أن الشأن السياسي يحتاج آليات خاصة للتثقيف، بعكس الشأن الثقافي الذي كان في متناول أصابعي، وكنت قادرابثقة كبيرة على الحديث – في جمع من الزملاء ولفيف من الرفقاء – عن الواقعية الاشتراكية كما تتمثل في روايات "نجيب محفوظ"، أو عن "الفن للحياة" كما تتمثل في أشعار "عبد الوهاب البياتي" و"محمد الفيتوري" و"كمال عبد الحليم"، في مقابل "الفن للفن"، ووقتها كنت منحازا تماما لـ "الفن للحياة"، حيث على المبدع أن يكون ذا رسالة أنّى منها رسالات الأنبياء والمصلحين الاجتماعيين، فالمبدع، والشاعر خاصة، عليه دور كبير في إنارة المجتمع، والمساهمة في تقديم رغيف الخبز للفقراء الوادعين الذين سيرثون الأرض وما عليها، ونظرة سريعة على قصائدي التي كتبتها في هذه الفترة تؤكد بما لا يدع مجالا لشاكٍ أو مستريب، أنني كنت مصلحا اجتماعيا، وكنت نصف نبي، وكنت أكبر حامل لللواء الفقراء والجوعى والمتعبين.
انبريت لأقول كلامي هذا، كما يليق تماما بأنصاف الأنبياء، لكن إحدى السكندريات قالت بابتسامة خفيفة:
لا داعي للكلام في السياسة اليوم يا جماعة، فنحن في عرس.
وافقناها جميعا، أنا نفسي اقتنعت جدا بوجهة نظرها، وحاولت إعلان موافقتي هذه على الملأ، لكنهم دخلوا علينا بصينية شاي، فتخطفنا الأكواب من عليها قبل استقرارها على المنضدة، ثم عدنا لأحاديثنا.
في البدايةتحدثنا عن الأمور العامة، وتكلمنا عن أحلامنا المستقبلية، ورؤيتنا لغد ضبابي ليس فيه بصيص أمل يمكن أن يضيء لنا الرؤية، في ظل هذا المناخ الفاسد الذي يتسم به الأداء السياسي للدولة المصرية، وذلك التخبط الذي يبدو واضحا في البعد السياسي للرئيس "السادات"، وفي ظل هذا الارتفاع الجنوني المتزايد للأسعار، حتى أن كيلو اللحمة وصل لتسعين قرشا مرة واحدة.
هالتني هذه المبالغة في الكلام، صحيح أنني، قلبا وقالبا، مع كل معارضة ضد النظام الساداتي الفاسد، لكننا – كمعارضين – علينا أن نكون شرفاء ونحن نتحدث في الشأن العام، وعلينا أن نذكر الحقائق مجردة، فكيلو اللحمة لم يصل بعد لخمسة وسبعين قرشا، وعم "علي المندوه" يبيعه بسبعين قرشا، ويمكنك بكل بساطة أن تقف أمام الذبيحة المعلقة، وتشير له على قطعة ما، وتطلب منه اقتطاع كيلو ونصف منها، أو حتى كيلوين، صحيح أنه يمارس هوايته الدائمة في دس بعض القطع المنزوية هنا أو هنا دون أن تراه وهو يفعل ذلك، لكنه وفي كل الأحوال لم يبع كيلو اللحمة أبدا بأكثر من سبعين قرشا، فلماذا هذا التجني البين وتلك المبالغة الواضحة في نقد الواقع السياسي.
رتبت أفكاري، وما أن هممت بفتح فمي لأطرح هذه الرؤية عليهم بقدر غير قليل من الشجاعة، حتى اقترحت الفتاة ذات الأبوين والأمين والأخوة الذين لا تعرفهم، أن نبتعد عن الكلام في السياسة، فمن غير المعقول أن نضيع الوقت في مثل هذه الليلة الفرحة في الكلام عن سياسة الانفتاح الاقتصادي.
ثم وقفت بعفوية وتساءلت:
من منكم يقدر أن يغلبني في الولد يقش؟
قبل أن أنبري لها أنا، وأرفع يدي معلنا مقدرتي الفائقة على ذلك، زعق فينا صديق صديقي الباحث الأدبي، هذا الذي طرح سؤاله الغامض بشأن إعدام "شكري مصطفى" ورفاقه الأربعة،قائلا فيما يشبه التأنيب:
أي ولد هذا الذي يمكن له أن يقش؟! ألا ترون كيف ضحك "السادات" علينا جميعا بانفتاحه الاقتصادي هذا؟ أين الفيلا والسيارة التي وعد أنه سيهديها لكل مواطن في حالة تنفيذنا لخطة هذا الانفتاح؟
كان سؤاله هذه المرة شديد المنطقية، فوقفت لأشاركه انتقاده "للسادات" الذي ضحك علينا جميعا بوعوده اليوتوبية لنا، وقبل أن أقترب منه، مشيرا بأصبعي في مواجهة عينيه تماما، لأوضح له، ومن ثم للرفقاء جميعا، أن "السادات" ما هو إلا منفذ لتعليمات أمريكا، وهي تريد منه نمطا بعينه لحياة المصريين، يهد النمط الذي بناه خالد الذكر "جمال عبد الناصر"، هذا النمط الذي ظل منحازا للفقراء، ومعليا من شأن أحلامهم البسيطة، لكن صديقي الباحث الأدبي، كان أسرع إليه مني، إذ اقترب منه، وأجلسه موضحا له أن اليوم يوم عرس، ولا داعي لهذه النقاشات الملتهبة التي لن تقدم ولن تؤخر على كل حال، ثم نظر إلى الضيوف السكندريين وابتسم لهم موجها خطابه لصديقه الثائر ضد الانفتاح والرئيس، وقال:
ثم ما ذنب أصدقائنا الضيوف لنعكنن عليهم فرحهتم بالعروس بهذا الكلام الذي يبعث على التشاؤم.
أعجبني كلامه جدا، ووافقته عليه، وجلست على طرف الكرسي لأعلن موافقتي التامة على إنهاء هذا الحوار، وقبل أن أفتح فمي، قام صديق صديقي الثائر الغضوب من كرسيه الذي أجلسه عليه صديقي الباحث الأدبي، وهو يخبط على مسنده الخشبي، وفرد إصبعه فيوجوهنا جميعا، قائلا:
هكذا نحن –الشعب المصري – دائما نأتي في الفارغة ونتصدر، اهنأوا بالولد الذي يقش، حتى يأتي اليوم الذي يقشكم فيه "السادات" كلكم.
قال كلامه هذا، وخرج.
أغلق صديقي الباحث الأدبي الباب خلف صديقه، ودعانا لاستكمال السهرة بشكل عادي وكأن "أنور السادات" لم يقم بإعدام أحد يوم زيارته التاريخية للقدس، وكأنه قدمهم – قبل إعدامهم – للمحكمة العادية. وكأنما بإغلاق صديقي الباحث الأدبي للباب، قد فتح بابا آخر للفرح والبهجة والسعادة الغامرة.
لعبنا "الكوتشينة" و "السلم والثعبان" و "الطاولة" و "الشطرنج" ولعبة "الأرقام المخبأة"، تلك الألعاب التي لم أحقق فيها أي انتصار يذكر، مما جعل موقفي خائبا جدا، خاصة أمام هذا الفوج السياحي الجميل الزائر لسوهاج من فتيات الإسكندرية الشقيقة، حتى جاء الدور على لعبة تخبئة العيون، وهي لعبة جديدة علينا نحن أبناء سوهاج المسالمين الوادعين المهذبين، ويبدو أنها لعبة شديدة السكندرية من اقتراح إحدى صديقات العروس، كانت اللعبة عبارة عن أننا نخبيء أعيننا بقماشة سوداء، ويكون الفائز فينا هو هذا الذي يستطيع تجميع أكبرعددممكن منالكتبورصهافوق بعضها، وهو مغمى العينين.
الغريب في الأمر أنني كنت دائما أفوز في هذه اللعبة السهلة، كنت بمجرد أن نشد القماشة على أعيننا، أبتديء في البحث عن الكتب التي كنت أعاين مكانها جيدا قبل ربط العيون، وأحفظها عن ظهر قلب، وسرعان ما أتوجه إليها وأتحسس بيدي اليمنى كعوب الكتب، وبيدي اليسرى أساويها طابورا طويلا يظل يرتفع حتى يكاد يصل لكتفي، ولم يكن أحد منهم أو منهن يقوم أو تقوم بتجميــع أكثر من كتابين أو ثلاثة كتبعلى الأكثر.
كانوا يهنئونني عقب كل جولة بحرارة شديدة، مبتسمين في خبث، ويعللون فوزي عليهم بأنني شاعر وقاريء متمرس، ومن الطبيعي أن يديّ تعرفان مكان الكتب بحكم التعود على القراءة، كانت الجولات كثيرة، وفي كل مرة يزداد ارتفاع الطابور الذي أرصه بعناية وترتيب وأنا مغمض العينين، وتنقص أو تتلاشى طوابير الرفاق والرفيقات، وفي كل جولة يعلنون انتصاري مبتسمين، وأنا كنت فرحا بانتصاراتي المتوالية عليهم، خاصة بعد هزائمي الكثيرة في "الكوتشينة" و "السلم والثعبان" و "الطاولة" و "الشطرنج" ولعبة "الأرقام المخبأة"، وكنت ممتلئا بالزهو خاصة أمام فتيات الإسكندرية المرحات اللواتي كن متزوقات كما تزوقت العروس، ولابسات فساتين براقة ملونة.
أما الفتاة المرحة التي عبقت الجو كله بالضحكات والبهجة طوال السهرة، والتي كانت حرّيفة جدا في لعبة "الأرقام المخبأة"، فقد نظرت لي من فوق لتحت، ويبدو أنها استصغرت عمري الذي كان بالقياس إليهم صغيرا بالفعل، ثم نظرت إلى رفاقها ورفيقاتها وأشارت إليّ وهي فاردة يديها على اتساعهما بحركة مسرحية وقالت:
لابد أن يفوز علينا يا جماعة.
فانفجروا كلهم في الضحك.
5
سكندرية على سطوح البيت
لم أنتبـه إلى حقيقة الأمر إلا بعد انقضـاء السهرة، فاغتظت جدا – بيني وبين نفسي – لأنني فوّتُّ على نفسي هذه الفرصة العظيمة، التي ربما لن تتكرر مرة أخرى، فسوف يسافرون جميعا إلى الإسكندرية الشقيقة في الغد، لكنني مع ذلك بيتُّ أمرا، كي لا أخرجمن السهرةخالي الوفاض.
انتظرت حتى تسلل الرفاق كل إلى سبيله، ونظرت من بسطة السلم، فرأيت الفتاة المرحة التي عبقت الجو كله بالضحكات والبهجة طوال السهرة أثناء لعبة "تخبئة العيون"، كانت تتكلم مع العروس بحميمية ومحبة واضحتين، وتمتدح جمالها الفاتن وثيابها التي على الموضة وذكاءها الحاد، وتتمنى لها حياة جميلة هانئة في سوهاج، مع زوجها الطيب، مؤكدة لها أنها لا تعرف كيف ستقضي حياتها بدونها في الإسكندرية، قبلتها وصعدت لتدخل الشقة التي في الطابق الثاني، وعندما رفعت رأسها، وجدتنيواقفافي الطابق الثالث، فابتسمتْوابتسمتُ، وأشارتليبتحية خفيفة.
رددت عليها إشارتها بإشارة أحسن منها، وسألتها:
هل رأيت قمر الرابع عشر من قبل؟
يبدو أنها لم تكن تريد أن تعلّي صوتها، فأشارت بأصبعها أن لا.
قلت لها وأنا أنظر لأعلى:
إنه في هذه الرقعة من الكون شديد الجمال، تعالي لتريه.
واصلتْ صعودها للطابق الثالث، وأنا سبقتها للسطوح.
في الحقيقة نحن لم نكن في الرابع عشر، ولا في يوم قريب منه قبله أو بعده على الإطلاق، بل لم يكن هناك قمر في السماء نهائيا، حتى أن المكان كان مظلما بعض الشيء، ولم يكن يضيئه غير تسربات من تعاليق الكهرباء التي تتسرب إلى السطوح من زوايا الدرج الحلزوني، والتي كانت بالكاد توضح لي مواضع أقدامي فوق سطوح مليء بمخلفات البيت، لكنني مددت لها يدي لما اقتربت مني لكي أساعدها على اجتياز العتبة الأخيرةالمكسورةالتيتؤديإلى السطوح، وقلت لها في جدية تامة:
لو اننا في الرابع عشر لكنترأيت قمرالم تريه في حياتك كلها.
وواصلت بنفس الجدية:
القمر يكون كبيرا جدا، وشديد الإضاءة، ودائما ما ترتسم على سطحه العريض رسوم غرائبية.
أكدت لي أن جدتها أم أمها رحمها الله، كانت تقول لها إن اسم سيدنـا "محمد" عليه الصلاة والسلام كــان مكتوبا بوضوح تام على سطح القمرفي قريتهم.
وضعت يدي على كتفها العاري بطريقة عفوية تماما وأنا أرد عليها:
رحم الله جدتك أم أمك ورحم جداتنا أمهات أمهاتنا كلهن، لكن الحقيقة أنه ليس اسم سيدنا "محمد"عليهالصلاة والسلام فقط هو الذي يكتب على سطح القمر، وإنما أسماء أصدقائنا وأحبابنا، بل وفي بعض الأحيان يمكننا أن نرى ملامح وجوههم مرسومة بدقة متناهية على سطحه.
واصلت كلامي بتأكيد كبير:
هل تعرفين أن القمر أحيانا يرسل لنا إشارات من قبل أحبابنا؟
وضعت يدها على فمها وهي تشهق متفاجئة وعيناها تلمعان متسائلة:
فعلا؟
بيدي الأخرىأمسكتأصابع يدهاالتيعلى فمها، وأبعدتها عن شفتيها المتفاجئتين، وإن كنت قد ظللت ممسكا بها بشكل طبيعي جدا، وأنا أواصل شرح نظريتي لها:
فعلا، ولكن علينا أن نفهم هذه الإشارات، وساعتها يمكننا أن نرد لأحبابنا إشاراتهم بإشارات تحمل إجابات تطمئنهم علينا، خاصة أحبابنا الذين تركوا الدنيا وانتقلوا إلى الرفيق الأعلى، والقمر في كل الحالات، يحفظ أسرارنا جيدا، ويقومبإيصالإشاراتناللموتىوالأحياءبسرية تامة.
قالت بفرح:
كلامك غريبجدا، أول مرةفي حياتي أعرف هذا.
قلت لها بفرح أكبر:
جربي، ولن تخسري شيئا، فقط هيئي نفسك للقمر جيدا.
رددتْ ما قلتُه بنفس مخارج حروفي وكأنها تقلدني، متسائلة:
وكيف أهيء نفسي للقمر؟
كانت أصابعها المتعرقة مازالت في أصابعي المتعرقة، فضممت عليها بعض الشيء وأنا أهيئها لتهيء تماما للقمر، واستمررت في الكلام وأنا أقرب وجهي من وجهها أكثر فأكثر:
عليك أنتكونيمتحممة ومتعطرة، وحافية القدمين وعيونك بلا ذكريات، وناهداك بلا مشدات، انظري للقمر طويلا، سيرسل لك إشارة صغيرة في البداية، عليك التقاطها بذكاء، بعدها يعرفك ويتعود عليك، ويصبح رسولك الأمين لجميع أحبابك.
نظرتْ إلى ناهديها، ثم نظرت إلى عيني اللتين كانتا تنظران إليهما بتحديق كبير، وقالت بصوت خافت:
هل القمر شهواني إلى هذه الدرجة؟
رددت:
لا، ليس شهوانيا على الإطلاق، القمر رومانسي جدا، ويحب الرومانسيين جدا، لكنه أيضا يحب الجمال الرباني غير المزيف، فلا تحاولي أن تتزوقي كثيرا في حضرته، وتعاملي معه بطبيعية، ولا تخافي منه.
سألتني:
هل أنت قريب العريس؟
أجبتها بالنفي، مؤكدا أنني صديق شقيقه الباحث الأدبي.
قالت:
يبدو أنه إنسان محترم.
خطوت خطوتين في اتجاه السور وأنا أحوط كتفها العاري كله بيدي اليمنى، وبيدي اليسرى ممسك بأصابعها المحلاة بالمونيكير، فتحركت معي، وأنا أقول:
ليس محترما ولا يحزنون، إنه أعور، وأخوه أبله، وأمهما تعرف ذلك.
كتمت ضحكة قصيرة وقالت:
ما جمّع إلا ما وفّق، "سوسن" أيضا عبيطة وهبلةوغبية ولاتعرفالفارقبينالألفوكوز الذرة.
كنا قد وصلنا إلى سور السطوح، وكنا قد توقفنا عنده، وكانت أصابع كفي تترك كتفها العاري لتنزلق إلى أسفل ظهرها، ثم تصعد تارة أخرى لتستكشف هذه الانسيابية المبهرة في جسدها المثير، وهي منهمكة تماما في الحديث عن "سوسن" هذه التي كانت تغششها الإجابات في دبلوم التجارة، وتخاطر بمغافلة المراقبين، ولولا ذلك ما نجحت.
قلت لها وأنا شديد التركيز في كلماتها، بينما أصابع كفي لا تتوقف في موضع بعينه في أنحاء ظهرها:
من "سوسن" هذه؟
علّت صوتها باستغراب حقيقي، وبدهشة ضاحكة مجيبة:
العروس.
هززت رأسي، وقربتنفسيمنهاجدا،وأنا أتساءل مندهشا:
هل أنت التيكنت تغششينها الإجابات في الامتحانات وتغافلين المراقبين لكي لا يروك؟ هل هذا معقول؟
أكدت بأنه معقول ونصف.
كانت أصابع كفي الأخرى قد تركت أصابع كفها اليمنى بمونيكيرها البهيج، واتخذت مكانهـا في موضع أمامي في الصدر مشابه لموضع أصابـع كفي الأولى في الظهر، وواصلتْ هي في تأكيد عجيب:
لا تصدق ما تقوله من أنها ضحت بالتعليم الجامعي من أجل الزواج، فقد نجحت في الدبلوم بخمسين في المائة فقط، ولولا أنني كنت أغششها الإجابات، ولولا رأفة المصححين لكانت قد سقطت وأعادت السنة مرة أخرى، ولا تنس أنها أصلا كانت تنجح في السنة الأولى والسنة الثانية بملاحق في المحاسبة والإنجليزي، كما أنها أنانية جدا ولا تحب غير نفسها، وجميع صديقاتها في "المندرة" و "المنتزه" و "أبي قير" قطعن علاقاتهن بها بسبب هذه الأنانية، كما أنها بخيلة جدا، وسوف تُطَلِّع روح عريسها الغافل الذي لا يعرفها على حقيقتها، ولولا أنها حضرت حفل زفاف ابنة عمي، هي وأمها الأرملة وأختها المطلقة، ما كنت أتيت معها من آخر الدنيا، فهي لا تستحق، ولكنه الواجب، هذا بالإضافة إلى أنها غيّارةجدا وشكاكة تشك حتى فيأصابعيديها، وحقودة للغاية.
في هذه اللحظة فقط أدركت المعنى الحقيقي للجمل الإنشائية المعهودة التي كنت أطالعها في الكتب المدرسية أو المجلات الأدبية، وأتهكم عليها، مثل "نسيم الرياح الذي يهفهف على جبين المحبوبة"، فقد كان هواء الشمال الذي يبدو أنه صاحبها في مشوارها الطويل من الإسكندرية إلى سوهاج، يداعب وجهها البحري الصبوح، وكان ينثر شعرها الطويل في عينيّ وعينيها، فتزيحه بيدها الرقيقة، ثم تساويه إلى خلف أذنها، فيعود الهواءيهفهفمرةأخرىفيلقيههذهالمرة على أصابع كفي.
كانت تؤكد لي بحرارةمبالغ فيها أن "سوسن" هذه قد بلغت من الندالة أنها كانت في الدبلوم ترفض تماما أن تعيرني ملخص كتاب "الرياضة المالية" في حين أنها عندما طلبت مني أمام صديقتهما المشتركة "نجوى العجلاتي"، والتي تسكن في الشقة المواجهة لشقتهم، ملخص كتاب "المحاسبة"، أعطيته لها قبل حتى أن أذاكر فيه أنا، وفضلتها على نفسي.
أمسكت شعرها المهفهف بأصابعي ولففته على أذنها، وفيما كانت أصابعيتجوسفي منابت شعرها الخلفي، سألتها:
ولماذا لا تستشهدين بـ "نجوى العجلاتي" هذه لتواجهها بما فعلت، فهي شاهدة على هذه الواقعة المهمة، ولا بد أنها عندما تقف في موقف شهادة الحق ستقول الحقيقة، بصرف النظر عن كونها جارتها.
كدت أنا وهي أن نصبح جسدا واحدا، وكان نسيم الرياح الذي يهفهف على جبينها يلف شعرها الطويل على وجهينا معا، وكنا أنا وهي نزيحه – كما اعتدنا – إلى الخلف ونلفه على أذنها، بينما كانت أصابعي كلها وعيوني كلها وشفاهي كلها وحواسي كلها، تجوس كل المواضع المتباينة وغير المتباينة في جسدها الذي تركته لي تماما وكأنه منفصل عنها أو عن حكاياتها عن "سوسن" العروس، وفي أحايين كثيرة كانت هي تساعدني في هذا الاجتياس، وتهيء لأصابعي متكأ، ولشفاهي موطئا، وتزيل العقبات التي تحول دون هذا المتكأ وذلك الموطيء، فيما أؤكد لها أنا أثناء عملية الاجتياس هذه، أن ما تقوله عن "سوسن" شيء يفوق التصور، كنت منحازا تماما لموقفها من "سوسن" هذه البلهاء المدعية التي تقول عن نفسها ما ليس فيها، بل وتجزم بأنها تركت تعليمها الجامعي وهي المتفوقة، بينما الحقيقة أنها ناجحة على الحركرك، وكنت أنتقم من كل انتصاراتي المتوالية في تجميع الكتب ورصها في طوابير طويلة.
في الحضرة جلست أمامه، كان يرد على رجل مغبر وطاقيته مقطوعة، يشتكي من أن أخاه يظلمه في حقه، ولا يقتسم معه المحصول بالعدل، ويجور عليه وعلى عياله، وأنه يفكر في بيع نصيبه له في البيت والغيط، ويتركهما له ويأخذ امرأته وعياله ويترك البلدة كلها له ليهنأ بها.
كان الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت مربعا رجليه، على يمينه الرجل المغبر ذو الطاقية المقطوعة، وعلىيساره قلة فخار، وأمامه قفة كبيرة فيها حاجات لا تنتهي، قال له:
الميراث حق معلوم سيسألك الله عنه يوم القيامة، وهو ليس خاصا بك وحدك، بل لغيرك فيه نصيب.
ومد يده للقفة وأزاح عنها غطاءها القماشي، وأخرج منها برتقالة، وألقاها في حجري، وواصل كلامه للرجل ذي الطاقية المقطوعة، وهو ينظر في عيني تماما:
ثم أنها ضيفة عليك، فكيف تضحك عليها فوق السطوح بكلام عن القمر المخنوق يا صاحب القلب الأبيض؟، ألا تعرف أن قلبك أبيض وأنك قطعة من الطهارةمسكونة في جسد إنسان؟.
المفترض أنني عندما أتلقف البرتقالة أنظرفي حركة يديه وعينيه، فإن اكتفى بها، كانت البرتقالة من نصيبي، وإن هم بإلقاء غيرها لي، ألقيتها للذي بجواري وتلقفت غيرها، فإن كرر فعلته ألقى الذي بجواري للذي بجواره البرتقالة ليستقبل مني غيرها، وهكذا.
كانت القفة عامرة بأشياء متنوعة وشديدة الغرائبية، مرة برتقالة، ومرة بطاطاية، ومرة كوز ذرة مشوي، ومرة كعبا قصب غير مقشرين، فقد كان كثير من ناذري الوعود ومن محبي غلابة صاحب المقام وفاعلي الخير، يأتون بصرر قماشية متنوعية، وكلها تُفَرّغُ في هذه القفة، ولا أحد يستطيع أن يخمن ماذا فيها، فالغني قد يأتي بشيء قليل على غير المتوقع، والفقير قد يأتي بكل ما في بيته على غير المظنون، لا قانون لشيء على الإطلاق، فإن مددت يدك لشيء ووجدته صغيرا فهو لك وهو نصيبك المقسوم من موزع الأرزاق، وإن كان كبيرا، فهو حظك المبتسم لك ونصيبك الوافر.
كنت أسارع بإلقاء ما يلقيه للذي بجواري، وكان الذي بجواري يفعل فعلي، حتى جاءوا للرجل ذي الجلباب الأزرق الباهات بكوز الشاي فمد يديه الاثنتين يمسكه بهما، ويعدل من جلسته التربيعية إلى جلسة فرد الساقين على امتدادهما، كنت قد تلقفت منه ورك دجاجة في نصف رغيف، ونظرت إليه منتظرا، فقرب كوز الشاي من شفتيه وهو يبتسم لمن قدمه له ويقول:
الشاي خمر الصالحين.
انتهزت هذه الفرصة، واستندت على كتف من ألقيت إليه صرة البلح الناشف، ونهضت مسرعا وأنا ممسك بورك الدجاجة في نصف الرغيف، كنت أتسرب على ركبتيّ مطأطئا رأسي بين الرءوس والأجساد، ووسعت لي طريقا بين الجالسين وتركت المكان كله، وخرجت.
وقفت في زاوية الخيمة، مواربا جسمي بقماشتها حتى لا يراني.
كنت أعاينه برهبة، وبقلق، وبنظرات مخنوقة، لعلني أعرف كيف يعرف الحاجات كلها، والمقاصد، وخلجات القلوب؟!,
وكنت أتساءل:
لماذا يتلصص عليَّ هذا الرجل؟
ولماذا يتدخل في أدق تفاصيل حياتي إلى هذه الدرجة؟
حتى لو قلت له ذلك، وعاتبته على ذكر هذه التفاصيل الخاصة جدا على الملآ، سينكر معرفته بالأمر كله، ويضحك عليّ بقوله اللفاف وكلماته الهادئة المؤنبة كالعادة، ويتهمني أنا بأنني أتهمه هو بما ليس فيه، وهو العبد الفقير إلى الله الذي لا يملك من أمر نفسه شيئا، فكيف له بأمور غيره وحوائجهم التي لا يعرفها إلا الله، مؤكدا أنه لا يقصدني أنا وإنما كان يكلم "ذا النون الإخميميَ"، الغريبَ الجوابَ ذا القلب الذائب والعيون المقتولة من فرط السهر ومناجاة الغافي، هذا الذي كان يحب قمر الثلاثاءات في الأصياف التي تعبر القرى، وتحمل الوجد من البلاد كلها إلى البلاد كلها، حتى تأتيه هذه الأصياف معرجة على بيته في "أخميم"، "ذو النون"هذا الذي كان يترك الأحباب وأصحاب الوجد يطرقون عليه بابه الفقير، ويصعد للقمر في الأماسي البخيلة فوق أسطح البيوت بحثا عن فرحة الروح وارتعاشة البدن، ويرسل نجواه المحروقة إلى "رابعة" في بغداد، فتضمها لنجواها الحارقة وهي تكلم هذا الغافي المتستر وتشهده أمام الملأ كلهم أنها شديدة الامتنان له لأنه كشف لها الحجب كلها حتى يتجلى لها وتراه، كمانرىنحنبعضناالبعض، وأنها بسبب ذلك مشغولة دائما وأبدا بذكره عمن سواه.
وما الذي أخشش أهله أصلا في علاقتي بضيفة سكندرية تمتدح جمال "سوسن" وذكاءها بين يديها، وتشتمها وتلعن سلسفيل أهلها بين يديّ، وهي تكاد تذوب من الوجد، وتتعلل في وجدها بهجاء عروس غشاشة، على سطوح بيت من ثلاثة طوابق، يقام في مندرته عرسٌ، لشاب أعور له أخ أبله، وأمهما عارفة؟
6 جرجس .. اسمي البهيج
قال لي صديقي الشاعر "عصام زايد":
إن مولد الأنبا شنودة قد ابتدأ، والناس تذهب إليه أفواجا وفرادى، فما رأيك لو نقضي يوما أو بعض يوم في رحلة إلى هناك؟
قلت له:
وكيف يمكن أن يكون ذلك؟.
أجاب بهدوء:
بسيطة، سأسمي نفسي"بطرس" وألبس في رقبتي صليبا وتسمي نفسـك "جرجس"، وتلبس في رقبتك صليبا وهكذا نستمتع بليلة بهيجة حتى الصباح.
كانت الفكرة جريئة، وهو كان يعرف حبي للمغامرة، ورغبتي في الاستمتاع بالأسفار، فأجبته ضاحكا:
اتفقنا يا "بطرس"، مر علي عصر الغد لنبتديء رحلتنا.
في مدينة سوهاج، كما في كثير من مدن وقرى الصعيد والوجه البحري تقام الموالد المسيحية، ولها مريدوها الذين يأتون إليها من القرى البعيدة، بل إن هناك من هو متفرغ لها تماما، من هذه الموالد مولد الأنبا شنودة في الجنوب الغربي لمدينة سوهاج، والذي يمتد توقيته لما يقارب الأسبوعين، وكثير من العائلات المسيحية كانت تتعامل معه على اعتبار أنه رحلة ترفيهية، فيحملون حقائبهم القماشية وأواني الطبيخ ويذهبون لقضاء خمسة أيام أو أسبوع كامل، ينامون في باحة الدير أو في الساحة الكبيرة التي تحيط بالدير ذي المساحة الهائلة، والكائن بطبيعة الحال في أطراف الصحراء.
وهي فرصة مناسبة للقاء الشباب وقضاء أوقات ممتعة في الجري واللعب وفي الحب أيضا، حيث الليل لا نهائي والفضاء لا نهائي ونبض القلوب واجف على مصراعيه بشكل لا نهائي، والعيون متطلعة للفرحة بشكل لا نهائي.
سمينا أنفسنا بأسمائنا الجديدة، وتغاضينا عن فكرة لبس الصلبان في الرقاب، وركبنا سيارة فورد من ميدان سيدي العارف بالله بمدينة سوهاج وابتدأنا رحلتنا.
ما أن وصلنا حتى هالني هذا الحشد المرعب من البشر الذي يكادون يسدون عين الشمس التي قاربت على الزوال، كانوا يدخلون الدير بطوابير طويلة جدا، فاندسسنا أنا و"بطرس" في أحد هذه الطوابير، كانت المرأة التي تقف خلفه شديدة الجمال، وكانت المرأة التي أمامي شديدة الضخامة بحيث لم أستطع أن أبصر شيئا أمامي غيرها، فميل "بطرس" رأسه إلى رأسي قائلا:
انظر إلى التي ورائي، وانظر إلى التي أمامك، لتعرف الفارق بيننا.
ميلت إلى رأسه رأسي، وهمست له:
لكل مجتهد نصيب.
لكن الضخامة التي أمامي أزعجتني بالفعل، فأدرت وجهي بالكامل إليه وأنا أقول:
يبدو أننا سندخل الدير في الغد، فهذه المرأة هي التي عناها الشاعر بقوله:
(تدخل اليوم وتدخل أردافها غدا)
كان"بطرس" منشغلا بجمال من تقف وراءه لكن البيت الشعري جعله يضحك بصوت عال، مما جعلها تظن بنا سوءا فخرجت من الطابور وانضمت لطابور آخر ليس فيه شبان قليلو الأدب مثلنا.
استطعنا الدخول بجهد جهيد، وهناك رأينا العجب العجاب.
المكان ضارب في القدم كأنه إحدى القلاع الرومانية العتيقة، ثمة درجات قديمة متهالكة تؤدي إلى "المذبح" وخراف وعجول كثيرة تذبح، والدماء تلون الأرضية كلها، وتعلق في الثياب كلها وفي الأحذية كلها، تاه مني "بطرس" أو تهت منه، – سيظل توهاننا من بعضنا حتى انتهاء الرحلة – استطعت الصعود إلى الأعلى، وفي الأعلى لا شيء، مجرد سور يدور بالمكان كله، معلق على لا شيء، وكلما ازداد الزحام تحركت للأمام حتى وجدت ما يشبه الفجوة، نظرت فإذا ببعض الرجال النائمين في هذا الكهف الصغير، قرفصت على رجلي وأسندت ظهري إلى الحائط، ويبدو أن أحدهم صحا، فنظر لي وتساءل:
هل عم "عبد الله" أشعل الشموع؟
أجبته بثقة:
أين أنت وأين موعد الشموع؟
فعاد لنومته.
أحد النائمين كان يحضن كيسا ورقا به بعد البرتقالات، ويبدو أن بعضها تدحرج من الكيس، فاستكبرت اثنتين، ولقطتهما، وبدأت في تقشيرهما، مر بي رجل يحمل مخلاة، وضعها أمامي وطلب مني أن أخلي بالي منها حتى يعود، كان في يده الأخرى بعض الشموع الكبيرة، فطلبت منه واحدة، فأعطانيها.
فجأة صرخت امرأة بصوت عال جدا:
"العدرا"
خرجت للسور، متجها صوب الصوت، وتركت المخلاة التي من المفروض أن أخلي بالي منها، لكنني لم أخل، فإذا بالناس كلها تنظر للسقف العالي، وإذا بضوء يبرق وينطفيء في وسطه تماما، وإذا بتشكيلات في عمق هذا السقف يظل بريقها البرتقالي بعد انطفاء الضوء، وإذا بالصيحات تتعالي من باحة الدير، وكان البعض يبكي.
أدرت رأسي لأرى السيدة العذراء، فأنا لم أرها من قبل رغم محبتي الشديدة لها ولابنها الشهيد الحي، ويبدو أنني لففت دورة كاملة حول نفسي، وإذا بإحدى قدميّ تصطدم بالقدم الأخرى، وإذا بي أقع من على حافة السور الذي يبلغ ارتفاعه قرابة الستة أمتار أو يزيد، لكنني وقعت على أكتاف المتجمهرين بالباحة وبعدها استقر جسمي على بقجة لأحدهم، استطعت الوقوف، وأنا أتحسس جسمي، آلمتني ساقي اليسرى بعض الشيء، لكنني نجحت في التسلل شيئا فشيئا بعيدا عن الازدحام.
كان مجرد التفكير للوصول للباب للخروج منه عبثا كبيرا، لكنني لمحت بالقرب مني شباكا واطئا يجلس عليه طفل يبكي، نططت إلى جواره لأسلمه لأحد خدام المكان كما نبهوا علينا ونحن ندخل الدير، ما أن جلست بجواره حتى كف عن البكاء، ولما سألته إن كان يريد شيئا، ضربني بالقلم على وجهي وضحك وقال:
يا ابن الهبلة.
ثم نط كالقرد إلى الأرض.
وضعت يدي على خدي مكان قلمه وضحكت، وتغاضيت عن شتيمته الوقحة، لكنني اكتشفت أنني لو قلدته ونططت للخارج بدلا من النط للداخل فسأصبح خارج الدير، فتشبثت أصابع يديّ بسور الشباك الخشبي، وثبّتُّ قدمي اليمنى على نتوء حجري بارز في الجدار الخارجي، وعاينت المسافة بيني وبين الأرض، سميت باسم الله، وهكذا بقفزة واحدة وجدت نفسي في باحة الدير الخارجية، ومنها اتجهت مباشرة إلى البوابة الحجرية الكبرى وأصبحت بكل سهولة في الفضاء العريض.
في الفضاء العريض كانوا يفترشون الرمال، وبعضهم كان يأكل، وبعضهن كن يتسربن يمينا وشمالا.
تبعت إحداهن وقلت لها:
أهلا يا "إيزيس"، أين أنت؟، لقد بحثت عنك في المكان كله؟.
أشاحت غاضبة وهي تصرخ بصوت عال:
إن لم تبتعد عني فسأخبر الشاويش لتروح في داهية.
ابتعدت عنها وأنا أتمتم:
معذرة ظننتك "إيزيس" جارتي.
فردت أصابعها الخمسة في وجهي وقالت:
كُبَّةْ.
تركت "إيزيس" وكبتها، وعرجت ناحية الجبل، كان بعض الرجال يصعدون، فانضممت إليهم، وشاركتهم أحاديثم، كانوا يتكلمون عن "العِلِّيَّةْ" ويصفون بركاتها، لاحظت أن معهم بعض الحمير، غير أنهم يمشون بجوارها ولا يركبونها، كان الصعود للجبل متعبا بعض الشيء، خاصة أن سفحه لا يبين، وكانت قدمي اليسرى مازالت تؤلمني، ويبدو أن المشوار طويلجدا، قلت لأحدهم:
هل هذا حمارك؟
أجاب:
لا إن حماري هو الذي في المقدمة، أحضرت عليه البرتقال والمنّين، وسوف أحمل عليه الجراو في أعلى الجبل.
استأذنته في ركوبه، متعللا بأنني مشيت اليوم كثيرا وأشعر ببعض التعب.
لم يجب صراحة بلا أو نعم، وإنما غمغم ببعض الكلمات لم أفهمها، وأشار بيده بعض الإشارات التي تناسبت تماما مع كلماته غير المفهومة، اعتبرتها موافقة منه على ركوب حمـاره، فشكرته واقتربت مــن حماره، ونططت عليه بخفة أنا نفسي اندهشت لها،وركبته.
يبدو أن ركوبي للحمارشجع رجلا آخربركوب حمارة أخرىفركبها، واقتربتحمارته من حماري وبدأنا نتسامر.
عرفت أنه صاعد لـ "العِلِّيَّة"، حيث سيبدأ عمله حتى طلوع الشمس، وهو عمل مرهق لكنه يفعله فقط لوجه الله، ولقضاء حوائج خلقه المهمومين، أما عمله هذا الذي يفعله ولا ينتظر من ورائه أجرا، فهو فك الأعمال والعكوسات التي تقوم بها بعض نسوة مغتاظات من بعض نسوة أخريات، فينتج عن هذه الأعمال عدم زواج أو تأخر إنجاب أو تعطل أزواج عن القيام بما عليهم القيام به تجاههن، أو ضياع مستقبل، إلى غير ذلك من أنواع الأذى المختلفة، وهؤلاء النسوة ينتظرن هذا المولد من العام للعام ليقمن بفك هذه الأعمال فوق هذه "العِلِّيَّة" المباركة، حتى يتاح لهن أن يتزوجن أو يحملن أو يتجدد الأمل في نفوسهن بعض الشيء، أو يحلون في وجوه أزواجهن فيقومون بواجباتهم الطبيعية بعد فك الربط.
التفت إليّ راكب الحمارة وسألني:
لماذا أنت صاعد لـ "العِلِّيَّة"؟
أخرجت من جيبي الشمعة التي أخذتها من صاحب المخلاة في كهف سور الدير مقابل أن أخلي بالي منها ولم أخل، وقربتها من عينيه وأنا أربت برفق على رقبة حماري ليقترب من حمارته وقلت له:
في العـــــام الماضي نـذرت أن أشعل هذه الشمعة في جوف الجبل، غير أن أبي كان مستعجلا وأصر على العـودة قبلا لصعود للجبل، لكنني احتفظت بشمعتي، وها أنا ذا أصعد لأقيدها هذا العام، فالنذر، وأنت سيد العارفين، لا بد من الوفاء به.
يبدو أنه اندهش جدا من إجابتي، وأفهمني أنه كان بمقدوري إشعالها في جوف الدير، لأن الدير يصلح فيه هذا الأمر أكثر مما يصلح في أعلى الجبل، وأن أبانا القس العجوز سوف يرانا ونحن نشعل الشموع فيباركنا ويشهد علينا، وأوضح لي أن الذين يقيدون الشموع في كهف الجبل هم شباب قليلو الأدب، يتعللون بإشعال الشموع وهم في الحقيقة ينفردون بالفتيات اللواتي يذهبن إلى هناك بنفس الحجة، وفي ظلام الكهف يختلط الحابل بالنابل، كما أن أبانا القس العجوز ليس موجودا في كهف الجبل، وإنما بعض الفتية من خدام المكان الذين لا يملكون مباركة الأعمال الصالحات.
كنت أعرف حكاية الشموع، وما أتيت أنا و"بطرس" من آخر الدنيا إلى هنا إلا من أجل موضوع الحابل والنابل هذا، لكنني اصطنعت عدم التصديق، وزجرته على اتهامه لي، وأفهمته أن الأمر، بالنسبة لي على الأقل، ليس على هذه الشاكلة، وأنني فقط أريد أن أفي بنـذري الذي نذرتـــــه العام الماضي وحال أبي المستعجل بيني وبين تحقيقه.
نظر إلى الرجل فيما يشبه الاعتذار وأكد لي أنه لا يقصدني، وإنما فقط ينبهني لكي آخذ حذري من هؤلاء الشبان الذين لا أخلاق لهم، وعقب بعد أن تملاني مليا:
ثم أنك صغير جدا على هذه الأفعال.
شرّق بنا الكلام وغرب، وكان كلما مررنا بمجموعة من الشباب صاعدين أكد لي بتصميم غريب أن مقصدهم حكاية الحابل والنابل، فإذا ما ضحكت إحداهن وهي صاعدة أشار لي بغمزة من عينه لآخذ بالي، فآخذ بالي، أما إذا أمسك أحدهم بخصر إحداهن وهي تتعثر في صعودها ليسندها حتى لا تقعفتتدحرجمن أعلىالجبل قال لي:
تفرّج يا سيدي.
فأتفرج.
حتى وصلنا إلى السفح، فنزلت من على ظهر الحمار وشكرت صاحبه، وتركت راكب الحمارة الأخرى راكبا فوقها، الحمار الذي كنت أركبه خطا خطوتين في اتجاه صاحبه، ثم توقف ونظر للحمارة التي مازالت مركوبة من قبل من رافقني رحلة الصعود ونهق لها، فردت عليه نهيقه بنهيق أرق منه، وبدلا من أن يتجه إلى صاحبه، اتجه إلى الحمارة ومشى وراءها وهو يتشممها، فجرى وراءه صاحبه يشتمه بألفاظ بذيئة، ويشوح له بعصاه ليعيده إلى رشده.
تبعت الضاحكات والساندين هؤلاء المتحججات والمتحججين بالشموع، حتى وصلنا لكهف عميق جدا ومتسع جدا، حتى أن أول ملاحظة يمكنك أن تلاحظها هي أن سقف هذاالكهف سيقع لا محالة على رأسك، فهو مجرد نتوء من الجبل، نتوء كبير جدا، لا أعمدة تحمله ولا أحجار تسنده، وهو سميك جدا وعميق جدا، وتندهش كيف بقى كل هذه السنوات الضاربة في القدم دون أن يقع؟.
دخلت مع الداخلين، كنا في بعض الأحيان نضطر لأن نحني رءوسنا نظرا لأن ارتفاع هذا السقف أحيانا يكون منخفضا جدا، وفي آخر هذا العمق، يلتحم السقف تماما مع أرضية الجبل، هناك يوجد ما يشبه الحائط المائل، في هذا الحائط المائل عليك بتثبيت شمعتك وإشعالها، وعليك بتمتمة كلام ما وأنت ترسم شكل الصليب على صدرك، بينما عيناك مغمضتان، كان الزحام كثيرا، وكانوا يشعلون الشموع ويمضون، وفي زوايا كثيرة من هذا الكهف كان يمكنك بكل بساطة أن ترى الحابل والنابل، فعلا يبينه ضوء الشموع الشحيح أحيانا، وتخفيه الظلمة الشاحبة أحيانا أخرى.
نجحت في إشعال شمعتي بسهولة، وتمتمت بكلام ما وأنا أرسم شكل الصليب على صدري، وأغمض عيني، واجتهدت كثيرا من أجل موضوع الحابل والنابل، باذلا كل ما في وسعي من أجل تحققه، مستخدما كافة الأساليب والمهارات التي كثيرا ما تدربت عليها وجربتها في مناسبات مشابهة، لكنني لم أنجح أبدا، فاكتفيت بالفرجة البريئة، والتجوال الصامت، والحسد البريء، وكنت كلما مررت باثنين متشابكين، ينفصلان عندما يريانني إذا رأياني، وينشغلان بتثبيت الشموع، حتى أتركهما فيعودان للاشتباك، أما إذا لم يرياني فيظلان منهمكين في حابلهما ونابلهما.
خرجت، وظللت أمشي.
كانت الجماعات البشرية المتناثرة على سفح الجبل على قلتها قادرة على منح الإيناس، حتى سمعت من ينادي بصوت عال:
"جرجس"، يا "جرجس".
لم ألتفت، حتى وجدت من يشدني من يدي، فالتفت، فإذا به رفيقي راكب الحمارة، تذكرت اسمي، وعرفت أنه يقصدني، فاعتذرتله بأنني لم آخذ بالي من ندائه، لكنه سألني:
هل تشتغل معي الليلة؟.
اعتذرت له، وأكدت أنني وفّيت نذري وانتهى الأمر، وعليّ الآن العودة فقد تأخرت.
قال لي:
سأعطيك أربعين قرشا لو بقيت معي حتى شروق الشمس.
أجبته:
أربعون قرشا فقط؟.
قال:
خمسون قرشا.
وعقب وهو يمضي:
تعال ورائي.
ولما لاحظ أنني لم آت وراءه عاد لي وقال:
الأمر في غاية البساطة فلا تحمل هما، هيا بنا حتى لا نتأخر.
كان أحدهم قد ضرب طوبة على كلب وكلبة وهما يقضيان وقتا ممتعا، وكان الكلب والكلبة رغم انفصالهما ملتصقين من الخلف، وسرعان ما كان الطوب يلقى عليهما من أكثر من رجل، ومن أكثر من طفل، بينما كانت الفتيات يدارين وجوههن فيما يشبه الخجل ويبتسمن ويهمسن لبعض بكلمات ما، وددت لو انني عرفتها، بينما الكلب يحاول الهروب جارا معه الكلبة التي كانت تجري للخلف بحكم الاتصال اللاإرادي، فإذا ما جاءتهما الطوبة منالاتجاه الآخرجرتالكلبة الكلب فجرى خلفها للخلف.
فكرت أن عقوبة الرجم الخاصة بالزنا ليست قاصرة على البشر فقط، لكن الرجل شدني من ذراعي وهو يفهمني أنني لا بد أن أفهم عم "سمعان" أنني من طرف عم "نزيه العوكلي"، وأننيعملتمعه منقبل وأفهم في الشغلانة.
7 غفوات المتدحرجات في الفضاء العريض
قال لي عم "سمعان":
هل تحسن القراءة والكتابة؟.
أجبته بثقة:
فماذا كنت أفعل إذن مع عم "نزيه العوكلي" طوال كل هذه السنوات؟.
قال:
اكتب على كل ملاءة الرقم الذي أكتبه على كف المرأة، حتى إذا هبطت لك عرفت ملاءتها ولففتها بها.
أعجبتني الفكرة جدا، فمجرد إحساسي أنني سأستقبل امرأة وأقوم بلف ملاءتها عليها بيدي الاثنتين حدث بالنسبة لي خيالي، وهدف مرجو، فأجبته فرحا:
وهل تريدني أن أكتب الرقم باللغة الانجليزية أو باللغة العربية؟
ضربني على كتفي باستخفاف وقال:
بالعربي يا خفيف، عندما يجيئنا السياح الأجانب سنحتاج إلى لغاتك التي تتقنها جيدا أيها المثقف.
طمأنته وأنا أبتسم بأنني سأقوم بما يوكل لي بأمانة مطلقة.
قلت لزميلي راكب الحمارة:
لماذا ألف الملاءة على المرأة عندما تأتي لي، ألا تستطيع هي لفها؟.
ما حكاه لي زميل رحلة الصعود المبجل راكب الحمارة النهّاقة شيء يفوق الخيال.
المرأة صاحبة الحال الموقوف، التي تريد أن تنجب أو تتزوج أو تحلو في عين زوجها فيكون قادرا على مشاطرتها الفراش حين يحين الحين، تخلع كل ملابسها وتصبح عارية تماما، وتلف جسمها بقماش أبيض شريطة ألا يكون مُخَيَّطا، ويربط قدماها ووسطها وصدرها بأربطة شديدة على هذا القماش الأبيض غير المخيط والذي يشبه الكفن، ثم تنام في أعلى "العِلِّيَّة"، ويزقها أحدهم بيديه زقة خفيفة فتتدحرج من أعلى حتى تصل إلى أسفل الـ "العِلِّيَّة"، غالبيتهن يكن في حالة إغماءةوعدم وعي بسبب هذه الدحرجة الطويلة، أكون أنا في انتظارها فأسارع بفك الأربطة وأنزع عنها القماش الأبيض الملفوف، وأقرأ الرقم الذي في يدها اليمني وأحضر الملاءة التي عليها الرقم نفسه، فألفها بها، وأسقيها الماء المحلى بالسكر حتى تفيق وأزيل عنها خضة الدحرجة.
أعجبتني الشغلانة جدا، وقلت له:
هذا أمر بسيط جدا، وفي غاية السهولة، فلا تقلق.
أعطوني جركل ماءمحلى بالسكر معكوز معدني، وأحضروا لي أكثر من خمسين ملاءة، في طرف كل منها رقم، الغريب أن هناك أرقاما كبيرة مثل "365" أو "567"، فيما عدد الملاءات لا يفي بهذه الأرقام الكبيرة، لم أهتم بالأمر، كومت الملاءات فوق بعضهاعند رجل بجواري سيشاركني في مهمتي المقدسة، واتفقت معه أنني سأنادي عليه برقمالملاءةفيحضرها، وجلسنا ننتظر.
لما طال الوقت أكثر مما ينبغي، قلت لحارس الملاءات:
هل رجعوا في كلامهم؟ أين النسوة؟
أفهمني أن الأمر يحتاج بالفعل لوقـتكبير، فالمرأةتأخذالقماش الأبيض، ثمتتنحىجانبا خلف الجدار الجبلي بحيث لا يراها أحد فتخلع كل لبسها، ثم ترش على جسمها الماء المقروء عليه من قبل القس العجوز، وتقف في الهواء حتى ينشف جسمها كله، فتلف القماش الأبيض حول جسمها، ثم تنادي من يربط لها الربطات، فيأتي إليها ويحملها بين يديه، ويضعها في وضع الجالسة على رأس "العِلِّيَّة"، فيقبل عليها القس العجوز ليتلو كلماته وهو يمسح على رأسها المغطى بالقماش الأبيض، ثم يدحرجونها لنا، وهكذا.
وضع ثلاثة قوالب طوب على هيئة مربع ناقص ضلعا، وكوم بعضا من الحطب وأشعله، وأتى بعلبة مربى ملأها ماء وأخرج من جيبه قرطاسا دلق منه في يده بعض الشاي وحطه فوق الماء وأغلق القرطاس وأعاده لجيبه، وأخرج قرطاسا غيره ودلق كل السكر الذي فيه في علبة المربى ووضعها على النار، قلت له وأنا أنظر للنجوم في السماء:
"الشاي خمر الصالحين".
رد علي بعدم مبالاة وهو ينفخ في وقيد فرنه الصغير:
لا، إنه شاي التموين.
كان بين الحين والحين يقلب حطب "الكانون" بحطبة أخرى في يده، ثم ينفخ في ناره المتوهجة حتى استوى الشاي، فصب لي كوبا وصب لنفسه كوبا وأخذنا نشربوأنا أسمعمنه حكايات النسوة المتدحرجات.
أتانا الصوت من "العِلِّيَّة":
اصح يا "جرجس" واستقبل.
عرفت أنه يقصدني، فقد اعتدت تماما على اسمي الجديد، وبدأت أتعامل مع جرجسيتي هذه كـ "جرجس" عتيق، فتركت كوب الشاي قبل أن أستكمله، وقلت لحارس الملاءات انتبه، وجريت لأسفل "العِلِّيَّة" ووقفت لأستقبل.
كانت "العِلِّيَّة" تنحدر على مدى ما يقرب من الكيلو متر، وكان الذي يدحرج المرأة ينادي "اصح يا "صبحي" واستقبل"، فينتبه "صبحي" الذي يكون في ثلث المسافة تقريبا، وينادي بدوره "اصح يا "وزيري" واستقبل"، و"وزيري" هذا هو الذي يكون في المسافة التي تفصل بيني وبين "صبحي"، وهو الذي ناداني وطلب مني الصحيان والاستقبال، كم أنت واهم يا صديقي الطيب، فهل كنت نائمالأصحو يا سيد"وزيري" فيمثل هذا الموقف؟.
النسوة المتدحرجات تقريبا كن غائبات عن الوعي، وبعضهن كن يبكين، والبعض الآخر كانت تصيبهن حالة من التشنج والصراخ العصبي، لكن بعضهن، خاصة اللواتي لهن تجارب سابقة في هذه الدحرجة، كن هادئات، لكنني كنت أؤدي عملي بحنكة وحرفية مبهرة.
كان انعكاس ضوء القمر على أجسادهن العارية بعد أن أزيح عنهن قماشهن الأبيض يزيده وضوحا وحلاوة.
إحداهن بعد أن خلعت عنها القماش الأبيض ونجحت في تهدأتها وشربتها الماء المحلى بالسكر، وقفت أمامي وظلت تشتم في"أم عطيات" الحولاء، واكلة ناسها، وتلعن سلسفيل جدودها، فهي سبب كل هذه المصائب التي حطت عليهم، ولولاها لاستطاعت أن تبني الطابق الثالث من البيت، ولولاها لما اضطرت لأن تبيع ذهبها وتلبس الذهب القشرة، كانت حادة جدا في كلامها عن "أمعطيات" هذه، وهي تشرح لي كيف أن الله ابتلاها بهذه المرأة الخبيثة التي تبث سمها في كل مكان تحل فيه كالحية الرقطاء، وكيف أن زوجها ضعيف أمامها لأنها أخته الكبرى التي ربته بعد وفاة أمه، وهو لا يعرفها على حقيقتها، يظنها ملاكا وهي شيطان رجيم.
ولما أرادت أن تريني الذهب القشرة الذي ترتديه في يديها، رفعت لي يديها، وبحركة عفوية أرادت أن تشمر كم جلبابها، فلم تجد كُمًّا تشمره، ونظرت إلى نفسها فإذا هي واقفة أمامي كل هذه الفترة وطوال كل هذه الحكايات وهي عارية تماما، وحتى بدون الملابس الداخلية، فظلت تضرب على ثدييها وعلى كتفيها، وتصرخ بشكل عصبي وتدق برجليها على الأرض وتحـــــاول أن تداري ســـــوءتها بيــــــديها، ثم أخذت تقبض من رمل الأرض وترشه عليّ، وهي تطلب مني الابتعاد، وأنا أتحاشى رملها بيدي، وفجأة وقعت على الأرض في إغماءة أخرى.
إحداهنكانتمغمضةعينيها بشكل دائم، هززتها لكي تفيق فأفاقت وهي مغمضة العينين، فككت عنها قماشها الأبيض وهي مغمضة العينين، ونفضت الرمال العالقة ما بين ثدييها بيدي الاثنتين وهي مغمضة العينين، وقربت منها الملاءة رقم 26 ووضعتها على ركبتيها وهي مغمضة العينين، وسقيتها الماء المحلى بالسكر فشربته حتى الثمالة وهي مغمضة العينين، وسألتها إن كانت بخير،فأجابت بأنها بخير جدا وهي مغمضة العينين، ومسحت عن جبينها عرقها الهاطل وهي مغمضة العينين، وقبلتها في شفتيها فاستقبلت قبلتي مغمضة العينين، وحاولت أن ألف ملاءتها حولها فأخذتها مني وأحكمَتْ لفها حول جسدها بيديها وسارت وهي مغمضة العينين.
إحداهن كانت فرحة جدا بعد أن تأكدتأنهااجتازت التجربة بنجاح، نظرت حولها في كل الاتجاهات ورقعت بزغرودة كبيرة ظننت أن من في جوف الدير قد سمعها، وظلت تدور حولي وتتنطط، حتى أنها رقصت عارية أمامي، ويبدو أنها تعاملت معي كطفل صغير أكثر مما ينبغي، لأنهـــــا أخذتني في حضنها وضمتني إليها بقوة وقبلتـني في خدي وهي تملّس على شعري وقالت لي:
لو تــم المراد من رب العبادفسأعطيــكهدية كبرى يا أحلى "جرجس" في العالم كله.
إحداهنكانتشديدةالجرأةبشكليكاد يكون وقحا، وكانت تأتي بأفعال خطرة، وتقول ألفاظا مكشوفة قليلة الأدب بالفم الملآن، وتمد يديها في أماكن محظورة، وتبحلق كالمتوحشة، ويبدو أنها تعاملت معي كرجل ناضج أكثر مما ينبغي، لأنها قبلتني في شفتي وهي تملس على صدري وقالت لي:
إن تحقق ما أتيت من أجله فسأدخلك الدنيا الحقيقية من أوسع أبوابها.
الحقيقة أنني كنت بارعا في استدراج هاتيك النسوة لسرد دقائق وتفاصيل حكاياتهن، وكنت أفهمهن أن الصراحة والوضوح جزء لا يتجزأ من بلوغ الهدف المرجو، وقد لاحظت من حكاياتهن أن كثيرا منهن كن مسلمات، كما لاحظت غرائبية بعض مطالبهن، كثير منهن كن يردن العثور على "لقية" أسفل دورهن، فآباؤهن أكدن لهن قبل رحيلهم أن البيت مبني على كنز فرعوني مليء بالذهب، وهو ما اصطلح عليه باسم "اللقية"، وهن أتين هنا ليعرفن الإشارات التي تدلهن على باب هذا الكنز.
امرأة سمينة جدا، كان كل مرادها من هذه الحياة الدنيا أن تعرف من الذي دس السم لابنها فمات منذ سبعة عشر عاما، وهي في الحقيقة محتارة ما بين جارتها زوجة نجار الطبالي، وما بين زوجة أخيها التي أتى بها من أبوتشت، ولا تريد أن تظلم إحداهما، فقط تريد أن تعرف لكي تقوم بدس السم لابن التي دست السم لابنها، صحيح أن زوجة أخيها قد ماتت منذ خمس سنوات، لكن الصحيح أيضا أن ابنها مازال حيا، ويمكن وبكل سهولة أن تدس السم له لو كانت أمه هي الفاعلة.
إحداهن كانت تريد أن تموت أختها لتتزوج هي من زوجها الذي تعشقه في صمت وهو لا يدري، وتصر على رفض كل الخطاب الذين يتقدمون لها طالبين يدها، في انتظار موت أختها التي كانت أصغر منها بكثير، ولم تكن تعاني من أي مرض على الإطلاق.
إحداهن كانت فوق الستين بكثير، وتريد أن تنجب.
أما أغربهذهالحالاتعلىالإطلاقفقدكانتلخادمة كبيرة في السن، تعمل في قصر أحد الوجهاء، وتريد أن يقع هذا الوجيه في حبها، فيطلق زوجته ويتزوجها، وسوف تشترط عليه أن يكتب القصر باسمها، وعندما يستتب لها الأمر ستطلب منه أن تأتي بزوجته التي طلقها لتعمل عندها خادمة، وسوف تريها نجوم الليل – بعد أن تصبح خادمة – في عز الظهر، غرابة الأمر أن هذه المرأة شديدة القبح، وبلا أثداء تقريبا، وجسمها مكعبر بشكل يجعلها شبيهة بالبرميل الصديء، وفي المجمل الأعم ليس فيها أي شيء يدل على أنها تنتمي لطائفة النساء، لكنها مصرة على تحقيق حلمها، هي في الحقيقة تعيش على أمل تحقيقه، وقد أكدت لي أن هذه الدجرجة التي تدحرجتها هي الدحرجة التاسعة، وهي على استعدادلأنتتدحرجالعام القادموالذي يليه حتى يتحقق مرادها.
كان على هؤلاء النسوة بعد أن ينجحن في التجربة، ويهدأن من تبعاتها المخيفة، أن يصعدن الـ "العِلِّيَّة" على أقدامهن حافيات، حتى يصلن إلى المكان الذي فيه ملابسهن فيرتدينها ويذهبن لحال سبيلهن.
قبل شروق الشمس بقليل ناداني عم "سمعان"، ومد لي يده بأربعين قرشا وهو يبتسم ابتسامة خبيثة.
رفضت وقلت له إنالاتفاق كان على نصف جنيه غير منقوص، لكنه رفض مؤكدا لي أن هذا المبلغ هو المتفق عليه، وإن لم يعجبني فعليّ أن أقول ذلك لعم "نزيه العوكلي"، وهو الحكم الفصل بيننا.
شوحت له بيدي غاضبا، وعليت صوتي وأنا أقول:
ومن أين آتيك الآن بعم "نزيه العوكلي"؟
أكد لي أنه لن يزيد المبلغ مهما حدث.
زعقت متمالكا أعصابي:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، يا أخي لقد اتفقت مع راكب الحمارة على خمسين قرشا، فهاته واسأله.
كانيبحلقفيوجهيبشكل مبالغ فيه، وإذا به يترك موضوع الفصال على المبلغ ويقترب من وجهي ويقول لي: أنت مسلم.
انتبهت لملاحظته وإلى زلة لساني لكني واصلت كلامي:لا تخرج عن الموضوع وأعطني المبلغ الذي اتفقنا عليه.
قال :تعال معي لأعطيك ما اتفقنا عليه.
سرت معه فإذا به يأخذني إلى القس الذي يتلو كلماته على رءوس النسوة المتدحرجات، ويميل على أذنه ويوشوش له ببعض الكلمات، أظنني فهمتها وعرفت مقصوده، كان القس رجلا كبيرا في السن، ورزينا إلى حد كبير، أشار لي أن أقترب، فاقتربت، وقال لي:
ما اسمك؟
قلت له:"سماح عبد الله الأنور فواز".
قال لي: فلماذا إذن ادعيت أنك مسيحي واسمك "جرجس"؟.
أجبته بأنني لم أدع ذلك، وإنما صاحبي "عصام زايد" هو صاحب الفكرة وقد سمى نفسه "بطرس" وأسماني "جرجس"، وأننا أتينا فقط من أجل الفسحة والتنزه، وقضاء وقت طيب مع أشقائنا المسيحيين، وليس في نيتنا أي شيء على الإطلاق.
سألني: وأين صاحبك "عصام زايد"؟
أخبرته بأنني تهت منه في زحام الدير.
هز رأسه وسكت.
بعد فترة أتى عم "سمعان" بأحد العساكر الذي اصطحبني إلى مكان ما بالقرب من مدخل الدير، كان فيه عدد كبير من الشباب، فيهم اللص النصاب والهارب من التجنيد، وكان كثير منهم مسلمين، كنا نقترب من الخمسين شابا، فأجلسونا في صفوف، كل صف فيه عشرة شبان، كانت الشمس قد سطعت، وكان مجموعة من الضباط قد أتوا إلينا، بدأ أحد الضباط بالكلام مع واحد في الصف الأول، ثم طلب منه الجلوس وحده بجوار السيارة، وعندما أوقف الذي بجواره فوجئت بأنه يضربه ويركله على كل أنحاء جسمه بلا سبب واضح لنا، لكن العساكر استلموه وأدخلوه في السيارة الكبيرة وأغلقوا بابها، نظرت إلى الضباط، فإذا بي أجد بينهم ضابط شارع المدرسة، وكأنه طوق النجاة الذي أرسله الله لي، كان ينظر في اتجاه العربة ويتابع المنضمين إليها، فوقفت وهززت رأسي يمينا وشمالا وزعقت بصوت عالٍ:
هل طلعت شمس هذا اليوم؟
زعق أحد العساكر فيّ بأن أصمت، فجلست، لكن ضابط شارع المدرسة رآني، وظل يتابعني بعينيه، وفجأة وقف وطلب من العساكر أن يركبونا في السيارة، والباقون ينتظرون حتى تعود السيارة مرة أخرى لتحملهم، ووقف بيننا، وعندما جاء دوري لأركب شدني من قميصي، فجلست، لكن العسكري الساذج سأله بسذاجتهالمعهودة:
وهذا؟. وأشار عليّ وهو متجه لي، فزعق فيه الضابط قائلا:
إنه طفل صغير، فهل أتينا لنقبض على الأطفال؟ أم تريدنا أن نضعه مع هؤلاء المجرمين ليصبح مثلهم؟.
امتلأتالسيارةعن آخرهاوانطلقت، كانت جلسة القرفصاء التي طلبوا منا أن نجلسها مرهقة جدا بالنسبة لي، وبدأت أشعر بالتعب وببعض التنميل الخفيف يسري في جسدي، فمددت رجليّ وفردت جسمي على الرمال ووضعت يدي على وجهي لتقيني من ضوء الشمس الذي بدأ يفرش الصحراء كلها، نهرني العسكري، لكن ضابط شارع المدرسة نهره، فتركني، الأمر الذي شجع بقية رفقائي الجدد الخارجين على الأعراف والتقاليد على أن يقلدوني، ففعلوا فعلي، ولم ينهرهم العسكري ولا الضابط.
عادت السيارة لتحملنا، ولما جاء دوري للصعود حجزني أحد العساكر الذي يبدو أنه لم يكن ساذجا،فصعد من معي كلهم إلى السيارة وانطلقت بهم.
ولما لقيت نفسي وحدي في هذه الصحراء الممتدة، خطوت متسللا في اتجاه بعض الخيام المتناثرة هنا وهناك كأنني أتمشىى، لعلني أجد فرصة ما للاندساس بين الناس الكثيرين فلا يراني أحد من العساكر المتناثرين حول المكان كالسياج، إن هي إلا خطوات قليلة ولقيت عسكريا يقترب مني، ويطلب مني بأدب أن أتبعه، تساءلت مندهشا:
لأين؟
قال:
لا تقلق وتعال معي.
قادني إلى سيارةأخرى، سيارةملكية عادية،
وفتح لي الباب الخلفي وطلب مني الصعود والانتظار فيها، فركبت.
طال الوقت بعض الشيء، ويبدو أنني نمت، ولم أصح إلا عندما شعرت أن السيارة تهتز، فتحت عيني فإذا بالسيارة تسير بي في طريق العودة إلى سوهاج، وإذا بجواري ضابط شارع المدرسة، وإذا بالعسكري الذي قادني إلى السيارة هو نفسه السائق الذي كان يقود هذه السيارة كل صباح في شارع المدرسة فيقلب حال الشارع بسبب هذه الكلاكسات الكثيرةالتييضربها طوال الطريق.
نظرت إلى الضابط وقلت له:
هل رأيت النخلات الطويلات اللواتي على سفح الجبل؟
ثم نظرت لزجاج نافذته وأكملت:
هل أكلت من تمراتهن؟
أجاب مندهشا:
لا توجد نخلات في أي جبل في الدنيا.
أعدت عليه نصف السؤال مرة أخرى:
هل أكلت من تمراتهن؟
قال:
لا.
هززت يدي وقلت:فاتتك حلاوة الدنيا كلها إذن.
وعقبت:عندما ترجع اصعد للجبل، دع الكهف الذي يقيدون فيه الشموع، ودع "العِلِّيَّة" التي يدحرجون منها النسوة صاحبات الحاجات المستحيلة، وسر لمدة نصف ساعة وحدك، ستجـــد النخلات وتأكل تمراتهــن، وأغمضت عينيّ وسكتُّ.
على كبري الهاويس، وفي منتصفه تماما، قلت للسائق:
قف هنا.
لم يقف، لكنالضابططلبمنهالوقوف فوقف، وسألني إلى أين؟
كان كبري الهاويس هذا تحت منزلنا مباشرة، ولم أكن أريده أن يعرف سكني، كما لم أكن أريد لأحد من أصحابي أو جيراني أن يراني معه، قلت للضابط :
عد أنت إلى تمرات الجبل، ودعني هنا.
فتحت باب السيارة ونزلت، وجلست على سور الكبري، لم تتحرك السيارة، كان الضابط ينظر لي ولا يريد أن يتحرك، فنزلت من السـور ونظرت إليه وقلت:
احرص على أن تأكل التمرات اليوم، وعدت إلى مكاني على السور.
لفت السيارة وعادت في الطريق الذي أتت منه، ولما غابت عن ناظريّ، نزلت من السور واتجهت إلى البيت.
8 زيارة السيد الرئيس
رؤيتنا للرئيس السابق "محمد أنور السادات" اختلفت بعض الشيء مع توالي العقود على رحيله، استطعنا أن نقرأ فترته بعين موضوعية، بعيدا عن شِباك الفترة المعاشة بشعاراتها وقناعاتنا تجاهها، وبعضنا حاول جاهدا أن يرد له اعتباره.
لكن الذين عاشوا فترته يتذكرون جيدا رؤيتنا القديمة له، كنا نراه رجلا خائنا، تمسكن حتى تمكن من مقاليد الأمور، أتى بعد رجل شديد الوطنية، تعلق به الشعب المصري، واكتفى به زعيما دائما لا يرى سواه، ورفعه لمكانة عليا بجوار النبيين والقديسيين.
كان "جمال عبد الناصر" بالنسبة لجيلنا، المخلص الذي انتظرته الشعوب العربية كلها ليواجه – وحده – العالم كله، ويدحر عدوانهم الأثيم، فمنحناه من المحبة ما لم نمنحه لزعيم قبله ولا بعده، وتبارى الشعراء ينظمون شعرهم في محبته، أنا نفسي كتبت فيه أكثر من قصيدة وبكائية عنه ومنه وإليه.
وبالرغم من أنه لم ينتصر في حرب واحدة، وبالرغم من أن صاحب الانتصار الحقيقي هو "أنور السادات"، إلا أنه ظل في عيوننا – تلك الفترة – الزعيم الأوحد والمخلص الأوحد والوطني الأوحد.
بينما ظل "السادات"، المنتصر، مهزوما وخائنا، أخرج رجال الإسلام السياسي من جحورهم ليضربوا الشيوعيين والناصريين بعد نشوب مظاهرات 17 و18 يناير 1977 التي اجتاحت وسط القاهرة، وكادت تهوي بعرشه، والتي أسماها "انتفاضة الحرامية" ونفض يده من مصافحة السوفييت، الحليف الاستراتيجي القديم، ووضعها كلها في يد الأمريكان، وفتح الباب على مصراعيه أمام تجار الخيش والخردة ليصبحوا رجال المال الجديدين ويتصدروا المشهد السياسي والاقتصادي خاصة بعد انتهاج سياسة "الانفتاح الاقتصادي" التي أسماها "أحمد بهاءالدين" "سياسة السداح والمداح" الأمر الذي ساهم في الكثير من الارتباكات الاقتصادية التي شهدتها البلاد، كما ازدهرت في عهده تجارة الحشيش والمخدرات. أما الطامة الكبرى، والتي جعلته في أعيننا شيطانا رجيما، فهي مده يده لمصالحة اليهود، أعدائنا الطبيعيين، وتوقيعه لمعاهدتي كامب ديفيد، الأمر الذي نتج عنه هذه المقاطعة العربية لمصر.
في نهايات عام 1979 عرفنا أن "السادات" سيزور سوهاج، لتكريم أحد شبابها النابهين، وهو المحامي وعضو مجلس الشعب ورئيس المجموعة البرلمانية لمحافظة سوهاج وأحد أمناء ومؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي "محمد عبد الحميد رضوان" البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاما، والذي سيقوم باستضافة الرئيس المؤمن "محمدأنور السادات" في بلدته "أولاد طوق شرق" والتي سيتغير اسمها بمجرد دخول الرئيس إليها إلى اسمها الجديد الذي تعرف به اليوم "دار السلام"، وهو اسم بيت "السادات" في مسقط رأسه بـ"ميت أبو الكوم" مركز تلا بمحافظة المنوفية، حيث شاعت في هذه الفترة مفردة "السلام" كاسم وعنوان لكل شيء، حتى أن الحلاق الطيب الذي كان يقص شعر رأسي والذي ليس له في السياسة على الإطلاق، غير اسم دكانه من "حلاق الأمانة" إلى "حلاق السلام"، وحتى أن النشيد الوطني لمصر تمت إضافة كوبليه له يؤكد على السلام، يقود عزفه في نهاية الإرسال التليفزيوني، وقت أن كان للإرسال التليفزيوني نهاية، كل يوم الفنان الدكتور اللواء المهندس "محمد عبد الوهاب" وهو مرتد الزي العسكري، حيث يقرر في هذا الكوبليه أن أولاد مصر كرام وأوفياء ويرعون الزمام، ثم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، وهو يحرك عصا المايسترو أننا حرب وسلام وفداك يا بلادي. أما السياسي الشاب "محمدعبد الحميد رضوان" فسوف يتم اختياره بعد هذه الزيارة مباشرة وزيرا للثقافة المصرية بعد فصلها نهائيا، ولأول مرة عن وزارة الإعلام.
في يوم زيارة الرئيس "محمد أنور السادات" لسوهاج كان هو نفس اليوم الذي من المفترض أن أذهب فيه إلى قسم شرطة سوهاج لاستلام بطاقتي الشخصية فقد كنت أكملت عامي السادس عشر، هذا العام الذي كتب عنه "أحمد عبد المعطي حجازي" عندما تجاوزه قصيدته الحلوة "العام السادس عشر" حيث اصفر لونه عندما وقعت على المرأة عينه.
لكن الضابط المتجهم الذي ذهبت إلى مكتبه في قسم الشرطة زعق في وجهي:
ألم تجد غير يوم القيامة هذا لتستلم فيه بطاقتك الشخصية؟ اذهب وتعال في أي يوم آخر.
أغلق مكتبه ومضى مسرعا وهو يقول بصوت عالٍ:
اللهم عدّ هذا اليوم على خير.
كانت الناس كلها في الشوارع تسير باتجاه ما، سرت معهم، كنت أريد أن أرى وجه هذا الخائن الذي كنت أهجوه في قصائدي، والذي باع البلد لليهود وحط يده في يد من قتل المصريين، وكنت واثقا من أن شباب سوهاج الثوريين سوف يعاملونه معاملة تليق بخيانته لوطنه وناسه وتاريخه، معاملة تأخذ لنا حقنا وتمنح للشهداء رقادا آمنا، كنت متحمسا جدا في هذا اليوم، حتى أنني ظننت أن سوهاج سوف تكون محطته الأخيرة، وأن هذه اللحظة سوف تكون لحظته الأخيرة.
أثناء سيرنا انضممت إلى مجموعة من الشباب الكارهين له، الذين كانوا ساخطين عليه وعلى "محمد عبد الحميد رضوان" وعلى محافظ سوهاج، وكانوا يسبون "السادات" بأفظع الشتائم، حتى أن بعضهم كان يتفوه بألفاظ خارجة، وكانوا يخصون السيدة زوجته بالنصيب الأكبر من هذه الألفاظ، تلك التي كانت تسمح للرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" بتقبيلها على مرأى ومسمع من زوجها، وكنت أشاركهم هذا السباب، وأتحاشى ذكر الألفاظ الخارجة خاصة تلك التي تصف السيدة زوجته بصفات غير لائقة.
وصلنا إلى حيث لانستطيع أن نسير، كانت الناس كثيرة جدا، وكان الضباط والعساكر حولنا في كل مكان، جاءنا أحد الضباط وقال:
قفوا هنا.
مـد يديه الاثنتين على امتدادهمـا لإيقافنا، جادله بعضنـا لكنه رفض، مؤكدا أن هذه الوقفة أفضل لأن الاستمرار في الانضمام إلى الآخرين من شأنه إعاقة حركة سير الموكب، تركته يجادل المتجادلين وتركتهم يجادلونه وأحنيت رأسي من تحت ذراعه الممدودة وانفلت، لم يستطع أن يلاحقني ويترك المتجادلين، واستطعت أن أقف في صدارة الصفوف.
أتت الموتوسيكلات من على البعد تزمر تزميرا موقعا، لم تكن مسرعة، على العكس تماما كانت بطيئة جدا، بعدها مرت بعض السيارات السوداء التي لم نعهد مثلها في سوهاج، فيما بعد عرفت أنها أتت معه من القاهرة، كانت هي أيضا بطيئة.
الذي غاظني جدا وسوّد الدنيا كلها في عينيّ هو كل هذا التصفيق المرعب والمدوي الذي كنت أراه من جماهير سوهاج، وهذا الهتاف الحنجوري الزاعق:
أهلا بيك يا سادات
احنا معاك يا سادات
أهلا بالبطل المغوار
بطل السلم وبطل التار
الصعايدة بيحبوك
أهل سوهاج بيحيوك
أهلا بيك يا سادات
احنا معاك يا سادات.
أما الذي فوّر الدم في عروقي وكاد يقتلني غيظا، فهو موقف شباب سوهاج الذين شاركتهم المسير إلى هنا، فقد نظرت إليهم حيث مكانهم الذي تم حجزهم فيه مع الضابط رافع الذراعين، لأستنجد بهم في مواجهة هذا الهتاف الحنجوري المنافق، فإذا بهم يشاركون من مكانهم في هذا الهتاف بحماس زائد، بل إن أحدهم وهو أكثرهم حماسة في رحلة السباب المشترك بيننا في الطريق إلى الموكب والذي كان يؤكد على أن السلام مع العدو الصهيوني يعد جريمة تاريخة كبرى لا ينبغي لنا أن نغفرها أبدا، وأن الحل الوحيد هو الحرب الدائمة مع إسرائيل حتى زوالها تماما من على ظهر الأرض، وزوال من يساندها على المستوى الدولي – يقصد "جيمي كارتر" – أو يقف وراءها – يقصد أمريكا – هذا الشاب عندما التفت إليه، وجدته راكبا كتف زميله الآخر، وأخذ يزعق بصوت أكثر جهورية قائلا:
يا سادات يا همام
احنا جنودك للسلام
يا سادات سير سير
كمل مشوار التحرير
اقتربت منا السيارة التي يركبها السيد الرئيس، كانت سيارة مكشوفة، وكان السادات واقفا فيها يلوح بيديه يمينا ويسارا، ويرد على تحية الجماهير بابتسامة كبيرة جدا.
الملاحظة الكبيرة التي استوقفتني في رؤيتي له، أنه كان شديد السمرة، بل لا أبالغ إذا قلت إنه أسود تماما، كانت السيارة تسير ببطء شديد، وكان الهتاف والتصفير والتصفيق قد بلغ عنان السماء على جانبي الطريق، وكانت الموتوسيكلات والسيارات التي تسبق سيارة الرئيس قد سبقتها وثمة مسافة كبيرة أمام هذه السيارة المكشوفة التي يقف فيها الرجل الأسود الهمام الذي نحن جنوده للسلام.
فجأة تكهرب الجو كله، وسكت الهتاف والتصفير، وتوقفت كل السيارات بما فيها السيارة المكشوفة، أما الضباط والعساكر فقد أسقط في أيديهم.
الذي حدث أن الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، ظهر فجأة أمام السيارة المكشوفة، لا يعرف أحد في الدنيا كلها كيف استطاع أن يعبر من كل هذه الحواجز الأمنية، وهو البطيء الخطوات، ويصل إلى عمق الشارع وأمام الرئيس المؤمن "محمد أنور السادات" مباشرة، اندفع كثير من الضباط إليه، لكنني رأيت ضابط شارع المدرسة يهرول إليهم حتى وصل إليه قبل أن وصولهم، أبعدهم عنه بإشارات من يده اليسرى، ومد يده اليمنى ليد الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت اليسرى، ومشى معه بنفس إبقاع خطوته الهادئة المهتزة المرتبكة، حيث كان ثمة اهتزاز يعتري جسده كلما هم بتحريك إحدى رجليه يجعله أحيانا كثيرة يرجع إلى الوراء بدلا من التقدم للأمام، فإذا ما خطا خطوتين للأمام يعود خطوة للوراء، لكن ضابط شارع المدرسة كان يخطو كما يخطو هو، مصرا على التشبث بإمساك يده ومحاذاة خطاه.
عندما اقترب من الصف الذي أقف فيه، مددت أنا يدي إليهما، رآني ضابط شارع المدرسة، فابتسم ومد يده لي، فخرجت من الصف وأمسكت بكوع الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت، الذي ما آن رآني حتى ابتسم لي ابتسامته المعهودة، القديمة، الحانية، حتى استطاع ثلاثتنا أن يعتلوا الرصيف.
تركنا الموكب والمصطفين واتجهنا ناحية الحائط، عاد التصفيق والهتاف، وبدأت السيارات تتحرك بطيئة متمهلة، وعاد الرئيس المؤمن إلى تلويحاته وابتساماته التي يوزعها على المرحبين به، سرنا أنا والضابط والرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت في اتجاه النفق المؤدي إلى ميدان الأوبرا.
لا الرئيس المؤمن "محمد أنور السادات"، ولا محافظ سوهاج، ولا مدير الأمن، ولا رفاقهم الضيوف، ولا الضباط والعساكر، ولاالجماهير الغفيرة المحتشدة يعرفون السبب.
وحدنا، أنا، وضابط شارع المدرسة، نعرف كل حاجة.
خاتمة القول
لاَ يَقْدِرُ الحِبُّ أنْ يُخْفِي مَحَاسِنَهُ
وَإِنَّمَا فِي سَنَاهُ الْحُجْبُ تَحْتَجِبُ
أُعَاهِدُ الرَّاحَ أَنَّى لاَ أُفَارِقُهَا
مِنْ أَجْلِ أَنَّ الثَّنَايَا شِبْهُهُا الحَبَبُ
وَأَرْقُبُ البَرْقَ لاَ سُقْيَاهُ مِنْ أَربَى
لَكِنَّهُ مِثْلُ خَدَّيْهِ لَهُ لَهَبُ
يَا سَالِماً فِي الهَوَى مِمَا أُكَابِدُهُ
رِفْقَاً بِأَحْشَاءِ صَبٍّ شَفَّهَا الوَصَبُ.
العفيف التلمساني