يعالج الكاتب العراقي موضوع العلاقة الزوجية وتمزقاتها بالذهاب أو بأدق النزول في أعماق شخصياته في محاولة لفهم هذه العلاقة الجوهرية في الوجود وألتباساتها غير المتناهية كونها متجددة مع طبيعة الأجيال والمجتمعات والتقاليد، ما يميز نصوص الكتاب تركيزها على الثيم الجوهرية في العلاقة لا على قشورها.

تِظلْ الروحْ تِنْحَبْ

سلام إبراهيم

انزوينا في ركنِ بارٍ في الطريق، كنتُ قد دعوتها لكي نَتَكلم ونَتَحاور، فنحنُ لم نتبادل حديثاً منذ فترة طويلة، عدنا نخشى الحوار الذي أصبح يؤدي لا محالة إلى شجارٍ.

ارتشفتُ من كأسي رشفة بيرة. تأملتها منفصلاً تماماً عن رواد البار المنشغلين في الحوار ولعب البليارد. خلف وجهها الصخر أرى بحراً من الرقةِ والألمِ والخيبةِ، وخلف عينيها الجميلتين الواسعتين فضاء من الخواء،

- من أين أبدأ؟

كنتُ حائراً، فما فَعلتهُ ليلة الأحد الماضي كانَ حماقة الحماقات، أنا الذي لا يكفُ عن ارتكابها بالرغم من تقدم العمر والتجربة.

ماذا أقول وذلك اليوم العاصف يُشعرني بالعارِ؟

ماذا أقول وهي المتعبة، المنهوكة القوى من مسار التجربة المرة ومن عملها وسط اللاجئين الأجانب، وأمراض جسدها الكثار؛ ألآم مفاصلها، ظهرها، تنفسها والعديد العديد؟

ماذا أقول وكيف أبدأ؟

وأنا أتذكر ما حدث وكأنهُ يحدث هذي اللحظة؛ عببتُ كؤوساً عديدةً من الفودكا في لحظاتٍ وهرعتُ نحو السلالم الخشبية قفزاً قاصداً غرفة نومنا، فتحتُ الباب، وجدتها تندس لتوها تحت الغطاء، نصف قائمة نصف مستلقية، حدقتْ بيّ بهدوءٍ وقالت بصوتٍ خافتٍ:

- ها..

- تردين تنامين!

- نعم.. متعبة.

- زين!

قلتها واستدرتُ نحو العتبة، عبرتها ونزلتُ السلالم بصخبٍ.

كنتُ وحيداً متوحشاً، وخلف نافذة الصالة الواسعة كانت ندف الثلج تتساقط ببطء شديد، عببتُ كأسين أخرين، احتدمت مثل فرنٍ يَدْوي وصرختُ بصوتٍ مخنوقٍ:

- يا إلهي يا إلهي..

وصعدتُ إليها ثانية، كانت غافيةً. أيقظتها، فتحت عينيها مذعورة:

- ها.. شكو؟

- ليش تنامين.. أرد أعرف عندچ واحد غيري!

انصعقتْ. تجمدتْ لبرهةٍ متصلبةً، ثم انهدتْ كميتٍ من التعبِ، وفي عينيها فزع طاغي يكاد يفيض، أخبرتني لاحقاً بأن ملامحي وما فيها أرعبتها أشّدَ الرعب كنتَ كمن يوشك على ارتكاب جريمة، كنتُ أطل عليها وهي تستقيم بجذعها الأعلى مستعيدة توازنها، ثمة صراخ يحتدم في قسماتها الشاحبة، تركتها في ناصية الجحيم ونزلت لأحتسي مزيداً من الفودكا، أفور دائراً في الطابقِ الأسفل، أفورُ مثل ثورٍ هائجٍ بحثاً عن عراك، محتدماً بما لا أدرك كنهه.

 لا أدري

أهي الوحدة.. لا أدري.. لا أدري!

سمعتها تتكلم بهاتفها النقال فاتحة الحاكي، كنتُ أفور وأعب مزيداً من الفودكا التي أخفيها في مكتبي وحقائب أوراقي، كانت تكّلم أبننا الكبير الذي استعار سيارتها للسهر مع أصدقائه، طلبتْ منه العودة فوراً بعد أن أخبرته ما حدث بيننا.

عاد فوراً، ألقي علي التحية وسألني:

- بابا أش صار؟

لم أجب بشيء، فهرع إلى السلالم. سمعتها تبغي الخروج، كان الليل أبيض تمور فيه عاصفة ثلجية، اعترضتُ طريقها ساداً بجسدي الباب المؤدي إلى المدخل قائلاً:

- وينْ.. تردينْ تكرار تجربة غيابك قبل عامينْ؟

- ..

تكسّرتْ قسماتها، لم تعلق بشيء.

- لا مبيتْ خارج البيت!

صرختُ بلهجةٍ قاطعة.   

تراجعتْ نحو السلم  وهي تتكأ على ذراعِ ولدنا. جعلتُ أخور خانقاً صراخي وعببتُ كأساً أخر، الخمرة ماء والليل ثقيل واللحظة رصاص، لا أستطيع الجلوس لا أستطيع الوقوف لا أستطيع الدوران، لا الخروج ولا الهدوء. نهبتُ السلم بقفزات صرتُ وسط الفسحة بين الغرف، تلكأت أمام باب غرفة نومنا المردود، ترددتُ في دفعها، ثم عزمت؛ وجدتها تجلس محطمةً على السريرِ وأبننا يتوسد قرب قدميها أرض الغرفة يسند ظهره إلى الجدار شديد الحزن، محمر العينين، صامتاً ينصت لها. أمعنتُ في سخفي متحدثاً بنابي الكلام، لم تجب بشيء، أخبرتني في الأيام التالية؛ بأنها قدرت للوهلة الأولى لو تفوهت بشيء أو ردتْ لضربتها، لكنها كي تكسر دائرة الصمت انفجرتْ بوجهي مثل لبوةٍ حبيسة فانسحبت قائلا:

- ليس لدي استعداد لسماع كلمات تشبه كلام بنات الشارع!

آه ما أقسى الإنسان يا ربي، ما أقسى قلبي وما أجلفه!

بعد لحظات نزلتْ مع أبننا، اعترضتهما مرة أخرى قائلا:

- وين.. وين؟

- مختنگه أريد أتمشى ويه أبني!

تنحيتُ جانباً وتركتهما يخرجان، بقيت وحيداً مع الخمرة والصمت، غير قادرٍ على شيء حتى على سماع أغانٍ عراقية حزينة كما كنتُ أفعل في أزماتٍ تشبه هذه مما فاقم وضعي وزاده وحشة.

قلت لها البارحة وهي تَهمُ بالصعودِ إلى غرفة النوم بعد أن صفا الجو نوعما بيننا:

- بتُ أخاف من نفسي جداً!

- ليش؟

- بدأت أميل للصمت في خلوتي بدلاً من سماع غناء

قالت:

- كل عمري أفضل الصمتْ.

- هذه مشكلة

- لِمَ؟

لم أستطيع القول بأنني مرعوب من امتداد الصمت اللانهائي، فقلت:

- مزعجٌ هو الصمت.

- بالعكس هو فسحة للتأمل بما كان وما نحن عليه وما في العالم.

- بالنسبة لي يضعني جوار قبرٍ ومعناه.

انتفضت قائلة:

- أتريد القول بأني ميتة!

 جعلت أخور في الصالة مثل ثورٍ مسموم، أدور في الصمت وحيداً، أفتح باب الحديقة، ترشقني ندف الثلج المتراقصة في الريح المدوية، أعود إلى صمت الدار، الخلوة، حماقاتي، عجزي، استلابي:

- كيف فعلت ما فعلتْ؟

أحدقُ في اللوحات المعلقة، أدراج المكتبة، الأرائك، الصور القديمة المنتشرة بالجدار، وجهي الفتي يطل على بؤس لحظتي، وجه أمي وأبي يحملقان بيّ وكأنهما يرثيان لحالي، وجه أصدقاء وأحباب سبقوني إلى السماء، محاطاً بالموتى، بالصمت. يا إلهي لماذا لا أسمعُ ندباً يبكيني، ندباً عراقياً حقيقياً يدميني كما أفعل طوال سنين الشدة في الحرب والتشرد والمنفى حينما أنهار باكياً على لوعة الغجرية "سورية حسين" وهي تندب بصوتها الشاكي الذي يذبح:

"يلي كله سماره حلو ينحب

تظل الروح دوم عليكْ تنحبْ".

وضعت "الكاسيت"، دقائق وشعرت بالغناء يضايقني، يثقل لحظتي، يضّخم الضجة القائمة في رأسي. أطفأته وبركتُ في الصمت والانتظار، في المتاهة والمدار.

هل صاحبتُ موتي وذاك الأنين المتصل القادم من بعيد؟

كاد رأسي ينفجر، فنهضت من الأريكة، تسلقت السلالم بهدوء هذه المرة، فتحت باب غرفة طفليَّ الصغيرين. طَبَعتُ قبلتين على الوجنتين الساكنتين، وانسحبت ناقلاً خطوي بحذر على درجات السلم الأز مع كل خطوة. بركتُ في صمت الصالة، أنصت لدقات ساعة الجدار الرتيبة:

- أين ذهبا؟

ارتديتُ معطفي الثقيل، وخرجتُ، أردتُ التأكد من وجهتهما، هل استقلا السيارة أم أنهما يدوران قريباً من البيت. قطعت المسافة نحو موقف السيارات القريب، وجدتها مغطاة بالثلج المتساقط منذ ساعات. كانت الريح العاصفة تدوي وندف الثلج تضرب وجهي، عدت من حيث أتيت وأمام البيت لمحتهما قادمين من الفرع المقابل، ما تبقى من أحداث تلك الليلة يزيدني عاراً وشناراً، دخلا بصمت، لذتُ بالأريكة أنصت لوقع نزع المعاطف والأحذية ووقع الخطوات على السلالم. تركاني في خواء الصمت والعاصفة، تنمرتُ، صرتُ أكثر من مجنونٍ، أتيت على ما تبقى من قنينة الفودكا، أبحرت في موج رقاص الساعة، في خوائي الهاوي في صمت موّاتْ، أبحرتُ في الجروح، في الندوب الصغيرة العابرة، في الطعنات الغائرة، فاستيقظت كل ما بالروح من مخلفات العذاب والسحق في تجربة هذا العمر العاصف، فوجدتني مثل كلبٍ أجرب وحيدٍ يندب خراب روحه.

وحيداً

مع كأسي

في صمتي

وحيداً في القصة

هل ثمة قصة في هذا الخواء،

ومن كانت سكني وأبني مرا عليّ وصعدا مثلما يمران على غريبٍ لا بل على منبوذ مصاب بداء.

- صعدا.. صعدا!

هتفت مع نفسي

نمّرتني الوحشة وألبستني مشاعر حيوان بدائي منبوذ.

العاصفة والبرد خلف النافذة، العاصفة في سكون أشياء الطابق الأسفل، فتحت قنينة أخرى، عببت كأساً، ازددت توتراً، الخمرة ماء، عصفت بيَّ ريح الأهواء، حب مخنوق لا باب له، وغضب يشبه الحقد تَفَجّرَ فاقتلعني من جلستي البائسة ودفعني نحو السلالم، لم أجدها في سريرنا المشترك، كان خالياً مبعثر الأغطية، أكيد لجأت إلى غرفة الطفلين ككل مرة، هل تظن لا أبغى منها إلا الجسد. وجدتني مجنوناً، فتحت الباب بصخب، على ضوء الفسحة أمام غرف النوم رأيتها ترفع رأسها وتحملق نحوي. لم أدخل الغرفة، قلت بصوت خافتٍ مسموع:

- ع بالك أريد النوم معك؟

- كـ..... أمك

قلتها بصلافة لهجة الشارع السوقية.

تجلس أمامي، بثوبها الأسود الطويل وقسماتها الجميلة الحزينة بيننا الطاولة الصغيرة وخلفها ضجيج البار، كيف أبدأ.. كيف وأنا مرتكب كل هذا العار.

قلت:

- بِمَ أبدأ؟

كانت ترمقني كمن يتمعن بكيانٍ جديد، كيان التبس عليها.

- أبدأ من حيث تشاء.

قلت:

- أبدأ بالحب، فليس لديَّ سواكِ امرأة!

- كلام سمعته مراراً!   

- ...

- كرهتُ الرجال، كل الرجال، سأترهب، سأترهب ليس لدي سوى أولادي والباقي قبض ريح.

أردتُ التعليق، لكنها أردفت:

- أسمع لم أمنح جسدي وروحي لسواكَ وأنت خير من يعرفني عنيفة وبعد هذه الخيبة معك سوف أُرَهب هذا الجسد، وإذا أردت أن تنتهكني

عند هذا الحد تَقَّطعَ صوتها وأختنق وانهمرت في بكاء خافت متمهل خاص بالذوات الصلبة القوية التي تحاول أن لا تظهر ضعفها للأخر أيً كان، كانت تهتز بكل جسدها الناحل، خلفها لاعب البليارد منهمك بتصويب عصا اللعب الطويلة لضرب كرته بالكرات الأخرى المنتشرة في حوض المنضدة الواسع ذي الثقوب الستة. راحتْ تختض بكل جسدها متخيلة لحظة اقتحامي الليلي لجسدها الشهي في أوقات الوئام، وفي أوقات عدم رغبتها إزاء توهجي العاصف الذي أدى بنا إلى الاختلاف وتراكم الصدامات الصغيرة واختلاف المزاج في الفراش، كانت تختض لتدفع عنها لحظة محتملة في كل ليلة وهي أن أقتحمها ليلاً في السرير وأضاجعها دون رغبتها، ومن بين دموعها وجسدها المرتجف أكملتْ بخفوت ورجاء:

- ترتكب بحقي جريمة لو حاولت، بحق جسدي وروحي، فالأمر لا يختلف عن اغتصاب!

وأهتز جسدها من جديد بنوبة بكاء خافت وهي تردد:

- حرام عليك.. حرام!

تلفظها من كيانٍ مبعثرٍ جعلني أفهم بعمق فداحة ما أقترفُ بحقها، لكني تداركت نفسي واجبت:

- هل تعتقدين أني حيوان، سوف لا أقربك أبداً، فبدون علاقة روحية وجسدية مطلقة كما كنا لا أقبل ببديل!    

قالت:

- مستحيل!

اتكأت بظهري إلى مسند كرسي وقلت:

- إذن لنفكر ببديل!

انفجرت بنوبة بكاء جديدة وقالت:

- لكن أعشقكَ بجنون!

كان الليل يخيم على روحينا واللاعبون يمرحون وسط البار.

كنا نتمزق على مقعدينا تحت وطأة وجهينا والكلام.

 

   18-10-2021

                  الدنمارك