أطل من شباك الأتوبيس، وأحاول قراءة اللوحات الإرشادية، واللافتات. والأستاذ محمود يواجهنا، بجوار المقعد الأول، ويكرر شرح التعليمات:
- كلنا ماسكين إيدين بعض، مع مدرس الفصل.
- لو واحد أفلت يده، يبحث عن أي تلميذ يعرفه، ويشبك يده معه.
- سوف نمشي ببطء، حتى لا نتعثر في زحام المدارس.
- ................
- المدرسون الأوائل سوف يمشون في الخلف، لو تاه واحد منكم.
- أبلة إنصاف: أين فصلك؟
وقفت الأبلة إنصاف، ونادت: فصل ثانية ثالث.
خرجنا؛ أشرف، وأسماء، ورضا، وسعيدة، وعيدة، وأنا من مقاعدنا، وتبعنا الأبلة إنصاف على سلم الأوتوبيس، وكدتُ أتعثر في مريلة عيدة التي كانت طويلة دائما. أقصد المريلة.
عند مدرسة "سيدي عمر"، صفونا، جميعا، وجاء مدرسون آخرون، وضعونا في صفوف أخرى.
ناداني الأستاذ نصاري، وقدمني إلى مدرس الموسيقى الثاني الذي أعطاني أوكورديون ثقيلًا، بأزرار إضافية.
كان الأوكورديون في المدرسة صغيرا، ولم تكن فيه تلك الأزرار ناحية يدي اليسرى. لما دُست عليها أصدرت أصواتًا مفاجئة، فقال الأستاذ: ما ينفعش.
فكرت في الإكسليفون، ولكنني لم أتحدث. غلبتني دموعي، وأنا أعود إلى الصف، وأنظر في عيني الأبلة إنصاف في الناحية الثانية. ثم نظرت إلى الأرض.
عندما ركبنا الأوتوبيس، مرة ثانية، أخذونا إلى ميدان الكمال. قالوا إن الرئيس سوف يهبط بطائرته في ميدان المحطة، وإنهم صفّونا في ميدان الكمال لأنه واسع، وسوف نرى الرئيس عندما يمر من هناك.
حملَت سعيدة علما صغيرًا، وكانت أسماء تنظر حولها في دهشة، أما رضا فكانت غاضبة، كعادتها، وقالت سعيدة: أنا شفته. سألتها: شفت مين؟ فقالت: الرئيس. وجهه أحمر، وبدين، ويرتدي بذلة سوداء.
قالت الأبلة إنصاف إنه لم يكن ذنبي، لأنها المرة الأولى التي أحمل الأوكورديون فيها. وقالت: العازفون يجربون آلاتهم قبل العزف. والأستاذ نصاري كان حزينا أنني لم أعزف أغنيته عن الفيران. تدربت سعيدة ورضا على غنائها، وكان أشرف يمثل الفأر.
ومن الطُرقة، كان صوت الأستاذ محمود يأتينا، وهو يخبر الناظر أن الرئيس ألغى زيارته في اللحظة الأخيرة، أمس، بعدما اندلعت مظاهرات، من الأسكندرية إلى أسوان، بسبب رفع أسعار الخبز، قبل يومين.
امتحان إملاء
"إن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لا يخشى العدو سواها."
وقفتُ دقائق أمام العلامة الحمراء تحت "حرف العلة"، الألف المقصورة، في كلمة "يخشى". كان أقصى ظني، يومها، أن "الأبلة سيدة" لم تر الحرف بشكل واضح، وظنته محذوفا، في قراءتها، على علة الجزم. قلت: "أنا وضعت الألف المقصورة، يا أبلة. لم أحذفها." فقالت: "هذا هو الخطأ، فأنت لم تحذفها."
انتشرت الشمس على الطاولات الدراسية في يسار الفصل، من وراء غيمة خفيفة، وكنت في أقصى اليمين، فوجدت صعوبة في تبين ملامح "الأبلة"، غير أنني، مدفوعا بالحماس، ربما، وقفت في مكاني وأنا أرد: "بس يا أبلة اللام هنا نافية، أنا أنفي عن العدو، ولست أنهاه." قالت: "هي لام الناهية. هذه صيغة نهي."
ذابت الغيمة أمام لفح شمس أبريل، ولم يذب إصراري ولا إصرارها، قلت: "أنا أنفي عنه، ولست أنهاه." فقالت: "بل تنهاه." وكان طبيعيا أن تطردني من الفصل.
قال المدرِّس الأول إن إجابتي هي الصواب، ولكنه رفض أن يتحدث إلى "الأبلة". وكلمني الناظر عن أنهم سيخبرون "الأبلة" أن إجابتي صحيحة، ولكنني لن أستعيد نصف الدرجة الذي فقدته في امتحان الإملاء، وقال: "حتى تستمر في تعليمكم؛ لا يمكن أن نعلن أنها أخطأت." وقال: "اجعل الموضوع سرا بيننا، ولا تخبر زملاءك." وأضاف: "لأجل العملية التعليمية."
عندما التقيت "الأبلة سيدة" بعدها بعدة سنوات، في المواصلات العامة، أصرت على أن تقطع لي تذكرة، وقالت للركاب: "أقل ما أفعله، اعتذارا لك." وحكت لهم القصة كاملة. وأعادت عليهم، في حماس: "إن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي لا يخشى العدو سواها."
ملأت وجهي ابتسامة محرجة لحظتها، وأنا أتلقى ثناء الركاب و"الأبلة"، وأتمتم في سري: "هناك خطأ في الجملة، ما يزال، يا أبلة؛ قد يظل العدو يخشى مصر، فعلا، ولكنه، قد يخشى سواها، أيضًا."
لكنني اضطررت إلى الصمت، لخاطر "العملية التعليمية".
نسخ ورقعة
عاد أبي من تصحيح الثانوية العامة، في أسيوط، وكان مسؤولا بالكونترول. حدثني، بإعجاب، عن ورقة إجابة عرضوها عليه. قال: كان خط الطالب رائعا. يكتب بخط النسخ، ويشكل الكلمات كعصافير أو طيور.
وقال: لم يكن بارعا في الجغرافيا، أبي مدرس جغرافيا، ولكن المصححين تمنوا لو أعطوه الدرجات النهائية.
بدا أبي مسحورا، وهو يتابع: كان رائعا أن تشاهد خطه، تلك الحروف في ميلها الساحر نحو السطور، وفي علامات التشكيل، وهي منثورة بين الحروف، لتغني وحدها.
كنت شاطرا جدا في الجغرافيا؛ حدود الدول، وخطوط الطول والعرض، والمناطق المدارية، وأعرف عواصم 100 دولة على الأقل، وتوزع المياه واليابسة، وتعلمت خريطة الكونتور وحدي. لكنني كنت دائما، عندما أكتب، أكتب بخط الرقعة. ولم يكن خطي جميلا.
حاولت، في الحقيقة؛ درست الكتابة بالنسخ مرة، وبالرقعة مرة، وزاوجت بين الخطوط أحيانا. ونقلت جمل الخط العربي في الكراسات العريضة أكثر من مرة،
في رسائلي إليه، أيام الجامعة، اخترت خط النسخ، قلت: أبي يحبه. غير أنه في الأجازة الأولى أخبرني أنه لم يفسر الياء في كتاباتي، ولا أعجبته التاء المربوطة.
ولما كتبت بالرقعة قال: اكتب رسائلك لإخوتك، فيما بعد، وهم يقرأونها لي.
مات أبي في 2009، وما زلت أشتري كراسات الخط، وأحلم برسالة تعجبه حروفها في ميلها الساحر نحو السطور، وفي علامات التشكيل، وهي منثورة بين الحروف، لتغني وحدها.