على سبيل البدء:
تتميز رواية )مراتيج[1] ( للكاتبة التونسبة عروسية النالوتي كونها رواية تصدر عن روح تجديدية، تضمنت كل عناصر الحداثة والتجريب، سواء تعلق الأمر بعنصر الأداة الفنية، حيث اعتمدت السرد المباشر الذي تأسس على ضمير المتكلم أحيانا، وضمير الغائب أحيانا أخرى، وعلى حوار باطني مكن من ازاحة الستار عن البعد النفسي للشخصية الروائية، في قلقها واضطرابها، وتوترها، وتأزمها، وعلى تقنية التداعي التي يتزامن فيها الماضي مع الحاضر والمستقبل، وعلى تقنية التشظي/ التشذر، وتداخل السرد بالوصف، والحوار، والتعليق، والاستبطان، والتأمل، ومزج الواقعي بالمتخيل، والعجائبي، والأسطوري، كما انفتحت الرواية أيضا على الشعر، ونصوص أخرى من أجناس مختلفة مكنتها من تحقيق حوارية داخلية وخارجية، مما ساعد على خلق نسيج فسيفسائي متنوع الإيقاعات والمنظورات. أو تعلق الأمر، بجانب الرؤية، والدلالة حيث تضمنت مواضيع وتيمات تميزت بتداخل الذاتي بالموضوعي، مستوعبة في الآن ذاته أسئلة الراهن بكل تمفصلاته، وقضاياه الفكرية، والثقافية، والحضارية عبر تفكيك الوعي الزائف الذي شيدته النظرة الضاربة في عمق النفوس والزمن.
والرواية بالرغم من هذه القيمة الإبداعية التي جعلت الناقد الكبير ‘‘جورج طرابيشي يقول عنها: «ستظل ‘مراتيج‘ من أجمل النصوص العربية»، لم تحظ بالاحتفاء النقدي الذي يليق بها. لهذا وذاك، اخترت أن تكون ‘مراتيج‘ موضوع قراءتي هاته، علني أستطيع إضاءة بعض من جوانبها، وأخص هذه الورقة بمستوى الدلالة، على أن أتناول مستوى الشكل في مناسبة أخرى.
- تقديم الرواية:
تعرض الرواية موقف الجماعات اليسارية من الطلاب المهاجرين بفرنسا من أحداث، ما يعرف في تونس بالخميس الأسود، الذي يصادف إضرابات 26 ماي 1978. يتم تقديم هذا الموقف من خلال اختيار اجتماع طلابي، باعتباره بؤرة لبلورة هذا الموقف. يقود هذا الاجتماع ويشرف عليه، بطلا الرواية الرئيسيان: "المختار جمعية"، و"الهادي" ، ويخترق (إيقاع) الرواية ككل. وتنتهي الرواية بنهاية هذا الاجتماع الذي أفضى بإصدار موقف بسيط لا يتناسب في شيء مع مشروع الثورة والتغيير لدى شخصياتها، موقف فيه إدانة للأحداث، وإن يكن المختار من خلال أصداء شعورية يرى أن الذات أحق باللوم والإدانة.
قراءة العنوان:
"مراتيج" : كل آلة تمكن من الإغلاق. مراتيج: مغاليق", وقيل: "الرتاج: الباب المغلق". وقيل: "إن أبواب السماء تفتح ولا ترتج أي: لا تغلق"، والراتج: الطرق الضيقة. والمرتاج: المغلاق"([2]). يتضمن المعنى المعجمي إذن، بعدا استعاريا عميقا، يدل على أن اختيار "مراتيج"، عنوانا للرواية، فيه الكثير من التكثيف الدلالي، كما يظهر من خلال حضور لفظة ‘مراتيج‘ في الكثير من محطات السرد إما بشكل صريح أو بذكر مرادفها كما في المقاطع التالية:
"جودة !… جودة!… أيتها الحبيبة التي أوصدت دونها صدري ولم أناولها سوى صدا النفس، ولم أعود سمعها إلا صرير الأقفال والممنوعات" (ص32).
"المقهى، وباريس النائمة على جنبها تدير لك ظهرها ومفاتيج البلد والصدور ومفاتيح نفسك المقفلة بألف رتاج" (ص49).
المراتيج في ضوء النص إذن، هي كل العوائق والأقفال التي تحول بين الشخصية الروائية وبين تحقيق أهدافها/ أحلامها، كما أن هذا البعد الاستعاري والتكثيفي للعنوان يوحي لنا أيضا أن الرواية بصدد حل الأقفال، واختراق العصي والمحظور.
وإذا كان "المختار" قد صب اللوم في أعقاب الأحداث الدامية التي شهدتها بلده-تونس- على الذات خارقا بذلك أفق انتظار القارئ الذي اعتاد في مثل هذه الحالات من الانكسار أن يلقي باللائمة على السلطة وأنظمة قمعها، فلأن الكاتبة تريد أن تصرف نظرنا إلى أن أسباب الأزمة تكمن في الآليات التي تشتغل بها هذه الذات في مواجهة حلم الثورة والتغيير. ولعل أبرز ما يلفت انتباه القراءة، هي العلاقة التي تربط بين الرجل (المختار) والمرأة (جودة)، وهي علاقة يطبعها الالتباس، والتصدع، واللاتفاعل. ونعتقد أن الوقوف عند هذه العلاقة من خلال تتبع تجليات ، وأسباب، وأبعاد تصدعها، سيقربنا أكثر من معرفة السبب الذي جعل المختار يرى أن الذات (ذاته ومن خلالها كل الذوات) أجدر باللوم والإدانة وأحق بهما وهو يراها السبب في فشل الحلم بالثورة والتغيير.
- تجليات التصدع:
استوقفت المختار في خضم لومه للذات، التي لم تقو على انتهاك ممنوعاتها، وأثناء بحثه الدءوب عن مصدر الخلل الذي كان سببا في فشل مشاريع الثورة والتغيير، علاقته بـ«جودة» التي بدت له وهو يسترجع بعض محطاتها، علاقة غامضة، متصدعة، يطبعها التناقض والتوتر، يقول مخاطبا "جودة" في حوار داخلي إسترجاعي: "كان يحدث في غالب الأحيان أن أحس بضيق أجهل سببه وأنا إلى جانبك، إنني أشتهيك حتى الإغماء، لكن تراكمات الكلس في صدري كانت تقف حيال رغبتي المبهمة آنذاك … كنت أعرف الطريق إلى بيتك وأجهل الطريق إليك، كنت بالنسبة لي شرخا في ثباتي أسده فيعود لينفتح." (ص 61).
إن هذا التصدع، وهذا الشرخ لا يمكن إلا أن يكرسا حالات الغموض والالتباس في علاقة "المختار" "بجودة" كما أدرك هو ذلك عند قوله: "ومن أين لها أن تعرف ما اطلبه، وحبنا لم يتجاوز مستوى أصابع اليد، فيبقى متشردا يجول حول الأطراف، لا يعرفنا ولا نعرفه، وقد يصطدم بنا ولا يدري من نكون." (ص 34).
وكانت المحطة التي وقف عندها "المختار" عند استرجاعه هذا، ونقف عندها بدورنا كونها تكشف عن الأثر البليغ لما ترسب بذات "المختار" من عقد، هي ذكرى تلك الزيارة التي قام بها إلى غرفة "جودة" بالمبيت الجامعي، والتي تبرز حالة التجاذب الذي يعيشه المختار داخل نفسه، بين التواصل واللاتواصل مع المرأة (جودة)، كما تكشف مدى الصراع الداخلي الذي يعتمل في نفس ‘المختار‘ وهو يبحث عن القفل/ العائق الذي حال بينه وبين إنشائه علاقة تواصل حقيقي مع المرأة التي يحب كما يظهر في هذا المقطع: "ما الذي يحصل لي، كنت في الطريق إليها أسرع الخطو وأحلم برؤيتها في ثوب نومها الخفيف تفتح لي الباب فأقتل دهشتها بين ذراعي وأمنعها من التقاط أنفاسها قبل الصباح … فإذا بي هنا وحدي معها، أموت شوقا إليها، فأنطلق أحدثها عن الانقلابات في إفريقيا والمجاعات في الهند وغربة المهاجرين في فرنسا، وأنا اكبر مجاعة تسعى بها قدمان وأوسع قبر تؤوب إليه أسراب الغربة بأجنحتها السوداء في ليالي الصقيع وفقدان الرشد" (ص 69).
ومما كان يزيد من تعميق هذه المفارقة، ردود فعل "جودة" المتذمرة من نكوص "المختار"، مما يثبتهما (المختار وجودة) على قاعدة التجاذب الجسدي المتلبس، عبر إبراز التقابل بينهما بواسطة الكلام الحواري المفعم درامية، والموقف المخترق بالأحاسيس المتناقضة، والحركة الموقعية في المحيط المتوثر، كما يبدو من خلال استرجاع "المختار" الآتي:
"فرحت دفعا للحرج أسالها هكذا فجأة و بدون مناسبة عن اسم تلك النبتة المتعرجة على الحائط… أذهلها السؤال. صمتت لحظة ونظرت إلي طويلا، فغرست نظراتي في النبتة ورحت أشغل أصابعي بتصفح إحدى المجلات الملقاة فوق المنضدة قرب السرير دون أن أنظر فيها. نهضت "جودة" بصورة عصبية مفاجئة ووقفت أمامي وقالت في لهجة جارحة: "اسمها ميزيريا"… وران صمت بيننا وظننت أنها تهزأ بي، فنظرت إليها في لوم أردته قاسيا، فلم تكثرت بنظراتي، وواصلت شروحها وهي تسكب القهوة في فنجان وضعته أمامي، دون طلب سابق مني وراحت تتحداني بشروح مستفيضة قالت: "هذه أعشاب، متسلقة يسميها الفرنسيون "ميزار" وهي سهلة النمو لا تطلب عناية خاصة وتكتفي بالقليل من الماء، وهي كما ترى تكبر دوما وتعرش في كل الاتجاهات، ولا رائحة لها ولا زهر." (ص 68-69)
تحيل هذه الزيارة –كما يبدو- على التناقض الكياني والعاطفي، وتشخص لحظة الأوج في مسار التقاط التوتر. وما يجعل هذا التصادم صاعقا ومجللا بالمفارقات، هو هذا الصراع الذي يخوضه "المختار" بداخله، بدءا بالتوجس الحائر تجاه فعل الزيارة، وانتهاء بتقريع الذات: "ما الذي جاء بي إلى بيتها؟ ما الذي أردت أن أوصله إليها فضاع مني عند عتبة الباب، فإذا أنا جالس كراهب يتأمل في شقاء البشرية، ألتهم حبات الخوخ التي وضعتها جودة في سلة أمامي؟ هل جئت إلى بيتها فقط لألتهم حبة الخوخ وانصرف؟ هل هو جوع البطن فحسب يا مختار يا ابن عبد الكريم؟ أم هو شيء آخر يحولك إلى أرنب مذعورة أمام أشواقك الرابضة ككلب صيد تشل حركاتك وتربك فراصك." (ص 69). إن هذه الصورة اللغوية التي تنفذ إلى أعماق الرصيد الدلالي لتوتر وتصدع العلاقة بين الرجل (المختار)، والمرأة (جودة)، كان القصد منها تمثيل الصلة المعقدة لثنائية: الرغبة والاستبعاد، القائمة بين "المختار" و"جودة". التي سنتداول خلفياتها في العنصر الموالي.
- أسباب التصدع:
"المختار"، وهو يستوقفه تصدع علاقته بجودة الذي يقول عنه : "قفل أزيده لمجموعة الأقفال الأخرى." (ص 61)، وبعد إدراكه أن هذا التصدع، كان في كثير من الأحيان سببا وراء فشل مشاريعه، كما يقر في قوله: "كان يفشل في بعض الحالات مشاريعي ويعبث بقراراتي الصاحية" (ص61)، قرر الرجوع –كعادته كلما أحس بأزمة- إلى طفولته إلتماسا للغوث، بالبحث في ذكرياتها عن المصادر الأولى لهذا الخلل في علاقته بالمرأة عامة و "جودة" بشكل خاص. فكان أن اكتشف كما يقر في قوله : "أن هذه الأنثى كانت كارثة سقطت على رأسي منذ البدء…" (ص61).
وكان يعني بـ(البدء)، تلك الحكاية التي سمعها من جدته وهو طفل، حكاية ‘العروس المتصنمة‘ وجماعتها المرافقة لها، الموجودة كما يحدد المختار: "على حافة الغاب القريبة من منازلنا ‘‘(ص 64). وتحكي حكاية العروس هاته، عن تلك الفتاة التي : "داست على سكون العادات وتخطت سير الأقدمين، فكانت تخرج للغابات لتلتقي بفتاها" (ص 64). وكان بالجزيرة: "شيخ يبارك كل منجز في الجزيرة خاصة مشاريع الجيزات والمصاهرة، فلا يتم زواج بدون أن يأخذ فيه قرار يذعن له الأهل وينفذونه حسب مشيئته" (ص64). وفي يوم زفاف الفتاة بفتاها، ولما كان العرس بدون إذنه، ومباركته: "خرج الشيخ عليها من وراء الأشجار على الربوة وانحنى إلى الأرض وقبض قبضة من ترابها وذراه فوق رؤوس الجميع … فتوقفت الأرجل وانقطعت الزغاريد وانطفأت ألإيقاعات وتحول كل من كان يصحب العروس إلى أصنام باقية إلى يومنا هذا … لم تؤثر فيها الشمس والريح ولا مياه الأمطار، وقد يكون ذلك لحكمة أرادها الشيخ الصالح أن تبقى دوما في ذاكرة الناس جيلا بعد جيل (ص 64).
إن ما نستخلصه من خلال قراءة أولية لهذه الحكاية، هو هذا التضارب بين الرغبة والخضوع، أو بين سلطة الرغبة، ورغبة السلطة: رغبة الفتاة في العيش مع من تحب وتختار، وسلطة الشيخ كحامي للتقاليد والأعراف التي تعيق هذه الرغبة، وتحول دون إتمام العرس وهي تلحق العقاب بالعروس ومن كان معها بتهمة الخروج عن سير الأعراف والتقاليد. هذه الحكاية الضاربة في القدم، ما تزال حية في حاضر "المختار" الذي اعتبر أن ما لحق بالعروس لعنة، عكس صديقه "يوسف شعبان" الذي اعتبر ما أقدم عليه الشيخ: "تخليدا لقصة خرجت عن المعتاد وأرادت أن تبقى حاضرة في أذهان الناس تحتهم على تذوق الثمرة المحرمة". (ص 64).
لم يكن هذا الطرح ليقنع "المختار"، الذي يعارض صديقه قائلا: "يايوسف، لايمكن أن يخلد الشيخ حدثا شذعن القاعدة وهزأ بالأعراف والتقاليد وهو من كان حريصا على بقائها وثباتها، لذلك فإن ما تقوله ليس سوى ضرب من التخريف" (ص 66). هكذا، يتشبت "المختار" بتأويله للحكاية التي لم تخف سلطتها عليه، وفعلها السلبي في لاوعيه لما خلفته لديه من انطباع بأن حب المرأة أو التقرب منها - ولو على مستوى التخييل - يعد ذنبا تلحقه اللعنة كما يقر المختار: "سرعان ما كان الذعر يعتريني وتنط حكاية جدتي في رأسي فأكنس الصورة الحرمة وأبيت أتخبط في الذنب" (ص65-66).
الأمرالذي يفسر أن آليات الضبط الخارجي تتحول بواسطة التنشئة الاجتماعية إلى آليات ذاتية، تفرز الكبت، والخوف، والهرب، والمبالغة في التحوط،، فيتحول الظلم الاجتماعي إلى قهر ذاتي، ولم تكن هذه الحكاية سوى تمثيلا للأعراف والتقاليد الموروثة، والموضوعة - بتخطيط مسبق وغايات مقصودة، كما أدرك صديق المختار يوسف شعبان وهو يقول: "المراد من هذه الحكاية وأمثالها التي ترويها الجدة بعدما سمعتها وورثتها كما ورثت حياتها كلها عن جدودها، وهي ترى أن عليها أن توصلها بأمانة إلى أحفادها حتى تتواصل الأعراف ولا يفكر أحد من الصغار أن يخرقها ويتحداها" (ص66).
لم يكن سلوك "المختار" إذن، سوى ، "تكرارا لنسق مقولة (ذم الهوى) التي ترددت في كل الخطابات الموروثة عن الحب، وحكاية الجدة هذه، صورة من هذا النسق الثقافي الموروث الذي يكرس التباعد بين الرجل والمرأة من خلال تشويه خطاب الحب. وهو نفس النسق الذي ينتج حسب ‘‘ عبد الله محمد الغدامي‘‘: نوعا من العمى الثقافي الذي يجعلنا ننصرف ضد أي فرصة للتحرر"([3]) وهذا ما حصل مع "المختار" الذي تمكن منه هذا الإرث وخلف لديه خجلا، وخوفا ظلا يقفان حاجزا بينه وبين تحقيق تواصل طبيعي مع المرأة كما يقول مقرا بهذا التأثير: "كانت حكاية جدتي قد بعثت في قلقا شديدا لم أعرف كيف أفسره، ولما كبرت كانت خيالات النساء تطاردني وتحاصرني وكأنها تريد أن تمسك بي وتوقعني في شراك اللعنة… وكنت أتحاشى التفكير في المرأة رغم انهمارها علي في نومي ويقظتي، وكنت لا أتصورها إلا من أشباح الظهيرة تعترض طريقي لتسحبني للهوة التي لم يخرج منها أحد " (ص 65).
نستنتج إذن، أن سلوك "المختار" تجاه "جودة" وفهمه للحب «ليس طارئا ثقافيا، بل إنه صدى نسقي لتشكل ثقافي ذهني مديد، لا يختلف فيه تقليدي محافظ عن حداثي علماني... الكل يتكلم باسم النسق ويصدر عنه"([4]). كما أن الرواية كشفت لنا من خلال تجربة المختار مع جودة وعلى ضوء "محكي العروس" أن المسؤول عن هذه الوضعية الشاذة بين الرجل (المختار) والمرأة (جودة) هو هذا الخطاب الموروث الذي يجعل المرأة في خانة الحرام، ويدفع الرجل لأن يعيش على هذه الأفكار مسلوب الإرادة، موزعا بين صورتين متعارضتين: الأولى تعبر عن الذات في غمرة اتصالها بالجسد، وهي تحيل على الحاضر، والثانية تتداعى فيها صور الماضي، وتحيل إلى عالم الطفولة (حكايات الجدة) . ويرجع تناقض الصورتين إلى كون الأولى حالة انعتاق، أما الثانية، فهي حالة إعاقة مضادة للجنس، تحضر فيها النزعات الأبيسية التي "تشكل وسيلة لتهيء أفراد خادعين عاجزين عن التمرد شبيهين بالأكباش على حد تعبير رايش"([5]). ومن تم، كانت الضرورة ل"تقنين ممارسة المتع حسب منظومة من الأوامر، والنواهي، والقيم القمعية الرافضة لحق الجسد اللانهائي في اللذة"[6]، بغاية نمذجة الأفراد في شكل قطيع، بحيث: "لاشيء يفرق بين القوم، لا الصوت، ولا المشية، ولا الفكرة، ولا السلوك، ويكفي أن ترى أحدهم ليخيل إليك أنك رأيتهم جميعا، ويكفي أن تراهم جميعا لتحس أنهم واحد لا يختلف ولا ينقسم" (ص34).
لهذه الأسباب، يحث هذا الخطاب الموروث على تحريم المرأة وتجنبها لأنها تعد رمز "اللذة والجمال" والناس كما يقول صديق "المختار" (يوسف شعبان): "لا يخافون من شيء بالقدر الذي يخافون فيه من الجمال واللذة، لأنهما يهددان الاستقرار، ويحرضان على الجنون والتمرد…فلو شاع الجمال واللذة لتفرق القطيع وصعب على الجامع جمعه … وقطيع لا يجمع في وجهة واحدة لم يعد قطيعا … وإذا زال القطيع أصبح الراعي لا يرعى شيئا وبذلك يفقد ضمانات عيشه، ويهدد في وجوده" ( ص : 66_67). هكذا يفهم ان التواطؤ الموجود بين إرادتي السلطة، والخطاب مرصود لخلق "تكنولوجيا" تحول الجسد إلى طاقة إنتاج لا أقل ولا أكثر، وتعدم كل إمكانياته ومؤهلاته"([7]).
- أبعاد التصدع:
إن ما يمكن استخلاصه من العنصر السابق، هو أن ذات "المختار" ومن خلالها الذات العربية، ذاتا أسيرة لقيم الكبت، والزهد. ولأنها كذلك، فهي – كما ترى ذلك جميع المذاهب النفسية- موسومة بالخوف، والتردد، وعدم القدرة على الفعل –الحسم- ، وفقدان التوازن، واختلال الرؤية، والتناقض، وأسر الطفولة، وكلها سمات شكلت العوائق- التي حالت دون تحقيق ذات "المختار" وجماعته، حلم الثورة والتغيير.فهي ذات يسكنها: الخوف: يخاطب "المختار" صديقه "الهادي في إحدى تداعياته مشيرا إلى هذا العائق/ القفل: "لا … لست جبانا، لم تكن يوما جبانا، ولكنه الخوف يا صديقي، أنا أيضا عرفته، أنا أيضا أخاف على نفسي كأي حيوان داجن وأستفيق في الليل على صراخي…" (ص84). فقدان التوازن: يقول "المختار" متحدثا إلى نفسه ومخاطبا في نفس الوقت ‘‘جودة‘‘: "هل لك أقراص يا حبيبتي ضد نوبة الشك وفقدان التوازن، الآن؟ …فأنا أحتاجها … احتاجها بشكل ملح حتى لا أندلق أمام الجميع وأتقيأ عليهم نفسي المقروحة" (ص 60).
اختلال الرؤية:
إن فقدان التوازن هذا، هوما يعكس اختلال الرؤية التي يكون من نتائجها: التناقض بين الفكر والسلوك، ف"الهادي" الذي يدعو إلى قيم التحرر والانعتاق، وتقدمه الرواية رفيق "المختار في النضال ، ينقلب كلما تعلق الأمر "بالمرأة" إلى ناطق باسم الموروث، وتفصح عن ذلك جملته المأثورة : "نساؤنا متخلفات ومعقدات" (ص 61)، كما تفصح في نفس الآن عن فشله في مشاريعه الثورية ، لأن الثورة كل لا يتجزأ، فهي ثورة ضد المحتمل، وضد السلبي من الموروث والعادات، وبمقدار مصداقية الثوري يحقق انسجاما بين ذاته السياسية والاجتماعية، والشخصية. ولعل اختلال الرؤية هذا، أهم عائق أمام الفكر العربي عامة، الذي يظل أسير أقفال (تصورات ماضوية)، فيما هو يدعي النزوع نحو التحرر، والتمرد.
عدم القدرة على الحسم:
وككل ذات تحوطها قيم الكبت، تصبح ذاتا مترددة، وغير قادرة على الفعل/ الحسم لأنها ذاتا محرومة لا تملك ما تعطي، يقول "المختار" : "الحسم! الحسم !… أحسم مع من؟ وفيم؟ والأوراق تشوش نسقها وبدأت تتساطق الواحدة تلو الأخرى في حزن أزرق داكن... ماذا أفعل الآن؟ … وماذا أقول…تسألني الحسم في اللحظة التي أستجدي فيها قطعة حب، وذراع أم ورائحة إنسان…" (ص 32-34 ) وتظل الذات أمام عدم قدرة الفعل (الحسم) هاته، لا تملك سوى النوايا التي مهما كانت طيبة، سخية، فلن ترقى إلى مستوى الفعل، وهو ما يفصح عنه "المختار" وهو يقصد البيان الختامي للاجتماع: "صحيح كانت الورقة عريضة والحق يقال، بحجم الآمال والخيبات، بحجم الحرمان والإنتظارات …لكنها ورقة عادية مخطوطة بأصابع عصبية مرتعشة أختامها النيات السخية الحسنة، وتوقيعاتها تخاطيط متحفزة إلى أفق جديد لم يرتسم بعد" (ص73). ذلك ان هذه العوائق تحول دون ملامسة الذات الواقع، وتصبح بالتالي جل مشاريعها لا تبرح منطقة الحلم/ الوهم، لتتحول مع مرور الزمن إلى مجرد صدى لأحلام الشباب والفتوة، بعد أن يتجاوزها الواقع ، كما يؤكد هذا المقطع من رسالة المختار- الملحقة بآخر الرواي "عندما نكون في قمة الفتوة، يمنحنا الشباب كل مفاتيح الحلم حتى مفتاح الباب السابع (…) وتمر السنوات وينخرنا دخان السجائر فيفسد الصوت، ونلغي عندئذ من حسابنا وسام التفوق … ونروح نخط رسوم الخيبة في قصيد طويل عريض مرجرج الأطراف نحار في جمعه ونقرر أخيرا أن نرتديه ونمشي في الأسواق" (ص79).
أسر الطفولة:
إن ذاتا غير قادرة على الفعل، تظل ذاتا قاصرة، حبيسة طفولتها، فـ"المختار" لا يزال ينظر إلى كل شيء في حاضره بعيني طفل، ويتموقف من كل حالة تعترضه انطلاقا من مخزون الطفولة، كما نقرأ: "شعر المختار بسعادة طفولية بريئة واسعة تغمره وهو يستمع لقرقرة الآلات الضاغطة تحلب القهوة… يالهذه المدينة الشيخة ! ماكرة، وخبيثة، ومتصابية، تعانقنا أحيانا فنعانقها بكل طفولتنا الدافقة: (ص75).
إن أسر الطفولة هذا، يعني، أن ذات "المختار" وجماعته، ومن خلالها الذات العربية، لم ترشد بعد، يقول "المختار" مشيرا إلى عدم الرشد هذا: "كبر الطفل منذ عهد وصغر الإنسان، صغر إلى حد التقزم فماذا أفعل؟ أتطاول على قزامتي؟…"(ص72). ويقول أيضا في إحدى تداعياته: "تحمل ولا تقل شيئا يا "مختار" يا ابن عبد الكريم … وتذكر أن البطولة الآن أن تقبل كل هذا ولا تتكلم … في انتظار أن، تكبر، جئت يا "مختار" باريس… جئت تبحث عن الهواء لتطلق العنان لصيحاتك ... جئت لكي تكبر". (ص 49).
على سبيل التركيب:
نستخلص من خلال ما سبق أن رواية ‘مراتيج‘ وهي تكشف عن عوائق نجاح مشروع الثورة والتحرر لدى شخصياتها، تقدم قراءة جديدة لبنية الفكر العربي، كاشفة عن الأسباب الظاهرة والخفية، التي كانت وراء فشل مشاريع هذا الفكر، والتي لم تكن تتجلى سوى في غبن الذات العربية التي تحمل هزيمتها بداخلها. كما تكشف في الآن نفسه اسباب الهزائم العربية التي لم تكن حسب الرواية سوى نكوص هذا الفكر أمام عوائق وحواجز تحول دون انطلاقه نحو أفق بناء مشروع تحرري يؤدي إلى التقدم، والازدهار.
لهذا وذاك، كان أول لقاء لنا مع "المختار" بالرواية، أو بالأحرى، أول حدث يواجهه، هو تلك الفوضى المحتدمة في غرفته، وحيرته أمام نشازها حيث: "كل ما في البيت حاد عن موقعه، فنط الكرسي المتآكل الأطراف فوق المكتب يطلب الأمان، وكمد المذياع المبحوح أزيزه تحت أغطية الفراش… وتساقطت كتب الثورات على الأرض مشدوهة، مفرجة الأوراك، لا تملك القدرة على تغطية عورتها، فإذا رماد المنفضة يختلط بتجارب الشعوب المقدسة المحفوظة في الأسفار والملفات، وينحشر داخل دواوين الشعر الرشاش، يسد فوهات مدافعه، يحرف بعض العناوين، يغيرها، وينقط حروفا لم تنقط" (ص :6).
إن تقديم "المختار" في البداية، أمام هذه الفوضى العارمة بغرفته، لها دلالة كبيرة في سياق السرد بالرواية، فهي تشير إلى هذه الفوضى الداخلية التي تعتري الفضاء النفسي. وإذا كانت الفوضى تعني : انزياح الأشياء عن أماكنها الخاصة والمخصصة لها، فتتداخل، وتختلط، وتفقد بالتالي معالمها، ومن تم هويتها، فإن ما تعنيه الفوضى الداخلية في سياقنا هذا، هو اختلال مواقع القيم، حيث تلبس لبوسا آخر يمسخها ويفرغها من معناها الأول حتى لـ:"ينادي أحدنا "يا أمي" وهو يقصد سفرة الأكل بما عليها من تصانيف للطعام تصعق لها الشهية، وقد يهتف الآخر يا: حبيبتي" و بداخل رأسه كمبيوتر لا يتوقف عن الجمع والخصم والضرب ليقيم ثمن الحبيبة بالجملة والتفصيل" (ص 71-72). وتلك علامة السقوط "السقوط الحر": "الذي يجذبنا إلى السفح جذبا لا هوادة فيه" (ص 71). وإعادة تركيب وتصحيح مواقع القيم بداخلنا لن تتأتى إلا بتخليص الذات مع عوائقها التي لم تكن تعني بالنسبة إلى الرواية، سوى تلك: "الأسلة الحرام التي تبحث عن ثغرات مخارجها داخل متاهة الممنوعات المخزونة منذ القديم" (ص7).
ولأن الرواية، تريد مكاشفة صادقة، وواعية لكل معالم الطريق التي قادت إلى الفشل، فقد كانت تعني ب "الأسئلة الحرام": تلك العوائق الإبستيمية المتمثلة في النزعة الأبيسية السائدة في الخطاب الثقافي العربي، والمتأصلة في بنية العلاقات الاجتماعيات بين الرجل والمرأة، وبخاصة تلك التي تقوم على تغييب المرأة كآخر، بدونه لا يكتمل المشروع الإنساني، ويكون محكوما عليه منذ البدء بالفشل. لذا فقد كان واضحا لما صمم "المختار" أخيرا إزالة اللبس، والتوتر عن علاقته ب "جودة"، وكان تصميمه هذا، قد حسم تساؤله السابق: "إن كان الأمر يتعلق بهذه المرأة فيعلن لها عن هزيمته؟" (ص16)، وإن تكن المسألة كما يعترف بذلك "المختار": "معقدة قد يطول شرحها … وقد يستلزم الشرح عمرا بأكمله" (ص76) فقد "صار لديه الآن استعداد لأن يفصح عن كل شيء" (ص76)، ولم يعد أمامه كما يقول سوى أن: "يجد الكلمة الأولى المناسبة" (ص76)، التي ستنطلق حالما تجد: "الفرصة الملائمة للحديث والبيان ورفع الالتباس" (ص76). هكذا يتخلص المختار من حالة استدعاء الماضي الرادع، وينخرط في علاقته بالمرأة (جودة) بعد اقتناعه أن رفع الالتباس عن علاقته بها هو المفتاح لكل أقفاله.
باحث من المغرب
الهوامش:
النالوتي (عروسية) : "مراتيج" رواية دار سراس للنشر تونس 1985
ابن منظور : "لسان العرب" المجلد الثاني، حرف الجيم، فصل الراء. دار صادر بيروت.-ص : 279.
الغدمي محمد (عبد الله) : الزواج السردي : الجنوسة النسقية، مجلة فكر ونقد. سنة 6 عدد 51 شتنبر 2003،
ص : - 131. ص : 132.
نفس المرجع، ص : - 131.
الديالمي (عبد الصمد) : المعرفة والجنس من الحداثة إلى التراث. منشورات عيون. البيضاء 1987.
- ص : 16.
المرنيسي (فاطمة) "الجنس كهندسة اجتماعية. ترجمة : فاطمة الزهراء أزرويل. نشر الفنك-البيضاء 1987. - ص : 20.
الكبسي (محمد علي) : ميشال فوكو : تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السلطة، تكنولوجيا السيطرة على الجسد، دار سراس تونس 1993، ص : 68.
([1] ) التالوتي (عروسية) : "مراتيج" رواية دار سراس للنشر تونس 1985.
([2] ) ابن منظور : "لسان العرب" المجلد الثاني، حرف الجيم، فصل الراء. دار صادر بيروت.-ص : 279.
([3]) الغدمي محمد (عبد الله) : الزواج السردي : الجنوسة النسقية، مجلة فكر ونقد. سنة 6 عدد 51 شتنبر 2003،
ص : - 131. ص : 132.
([4]) نفس المرجع، ص : - 131.
([5]) الديالمي (عبد الصمد) : المعرفة والجنس من الحداثة إلى التراث. منشورات عيون. البيضاء 1987.
- ص : 16.
([6]) المرنيسي (فاطمة) "الجنس كهندسة اجتماعية. ترجمة : فاطمة الزهراء أزرويل. نشر الفنك-البيضاء 1987. - ص : 20.
([7] ) الكبسي (محمد علي) : ميشال فوكو : تكنولوجيا الخطاب، تكنولوجيا السلطة، تكنولوجيا السيطرة على الجسد، دار سراس تونس 1993، ص : 68.