يطرح الشاعر الفلسطيني هنا سؤالا جوهريا عن غياب اسم شاعر مهم عن المجال المعرفي لجيل جديد من الكتاب والشعراء، اهتموا بالثقافة والشعر، ودرسوا الآداب في الجامعة، ومع هذا لم يرد لحسب الشيخ جعفر الشاعر المتميز الذي رحل عن عالمنا مؤخرا فيما درسه جيله ذكر.

لماذا لم نكن نعرف الشاعر حسب الشيخ جعفر؟

فرّاس حج محمد

 

الشاعر حسب الشيخ جعفر من الشعراء العرب العراقيين الذين لم أعرفهم- ولم يعرفهم على الأغلب كل أبناء جيلي، إلا أنه قد حالفني الحظ أن أتعرف إليه بديوان واحد بعنوان "رباعيات العزلة الطيبة"، وذلك بفضل من كورونا والحجر المنزلي. استشهدت بشعر هذا الشاعر المولود في العمارة عام 1942 عندما كتبت عن قصيدة للشاعرة العراقية ابنة العمارة أيضا الراحلة "لميعة عباس". قصيدة لميعة كانت عن الوحدة أو العزلة. صادفت القصيدة بقصاصة من إحدى الصحف منشورة على تويتير، فصادفت هوى في نفسي، لاتفاق موضوعها مع الظرف الذي وضع فيه العالم آنذاك أيام اشتداد الجائحة. ليس فقط هذا الشاعر الذي كان غائبا عنا بل هناك شعراء وشاعرات أخريات لم أعرفهم أو أعرفهن إلا بسبب "الاجتهاد الشخصي للمعرفة" من أمثال سركون بولص وفاضل العزاوي ولميعة عباس وعاتكة الخزرجي.

ديوان حسب الشيخ جعفر الذي قرأته "رباعيات العزلة الطيبة" لم يذكره أحد ممن قرأت مقالاتهم في الحديث عن الشاعر، وركزوا كثيرا على التدوير في شعره، لعله لا يدلّ على عمق تجربة الشاعر الإبداعية، وفي الحقيقة لم يسترعِ انتباهي هذا العمل لأبحث عن مؤلفات الشاعر المتاحة بنسخ إلكترونية على شبكة الإنترنت. كل ما خرجت به عن الشاعر هذه الرباعيات لا غير.

حسب الشيخ جعفر كتب السيرة الذاتية، وكتب أيضا الرواية، كما كتب القصيدة الديوان، وكتب النص القصير، وكتب القصائد المطولة، كما أنه كان مترجماً، فقد اكتسب معرفة باللغة الروسية بحكم دراسته في روسيا، فترجم مجموعة من القصائد الشعرية لمجموعة من الشعراء الروس، ضمها كتابه الضخم "مختارات من الشعر الروسي"، تجاوزت (800) صفحة لخمسة من الشعراء؛ بوشكين، إلكساندر بلوك، ويسنين، ومايكوفسكي، ورسول حمزاتوف، وشاعرة واحدة هي آنا أخماتوفا.

خسارة كبيرة أن لا يذكر هذا الشاعر في الصحف وفي المجلات قبل رحيله- فيما اطلعت عليه- ولم يكن له ذكر أيضا في مقرراتنا الدراسية الفلسطينية في اللغة العربية، فأغلب الشعراء العراقيين الحاضرين في مقرراتنا المدرسية السياب ونازك الملائكة، ويذكر عرضا أحيانا الجواهري والبياتي وسعدي يوسف. فهؤلاء الشعراء على ما يبدو غير معروفين لطلاب المدارس والمعلمين وواضعي الكتب المدرسية. ومثل حسب الشيخ جعفر والشعراء العراقيين مئات- إن لم يكن آلاف-  الشعراء العرب الذين يستحقون الدراسة لم يمنحهم النظام التعليمي فرصة التكوّن الوجودي على شفاه التلاميذ وأفكارهم.

فحسب الشيخ جعفر- كأدونيس- من جملة الشعراء غير المدروسيين، ربما لأن شعرهما يتخطى الكلاسيكية في الكتابة الشعرية، وخاصة شعر التفعيلة، وتصل إلى آفاق أبعد مما يحق لطلاب المدارس أن يعرفوه. وحتى لا يتحمل النظام التعليمي كل التبعات في هذا التقصير، يتوجب أن يكون معروفا أن النظام التعليمي يتوجه نحو الظواهر العامة البارزة التي تشكل جزءا من الذاكرة الجمعية العامة؛ ولا تبحث عن الفرادة الخاصة لدى أحاد المبدعين بل تسعى إلى ترسيخ نمط ما يتماشى مع صناعة شخصية الفرد، ليكون جزءا من المشتركات الثقافية العامة، ولعل هذا التوجه في النظام هو أبرز عيوبه، وليس محمدة فيه.

ما الحل- إذاً- مع هذه المشكلة الحقيقية التي تخلف في عقول الطلاب فجوة معرفية هائلة في الشعر العربي ومذاهبه، بل في صنوف المعرفة كافة، والأدبية منها على وجه الخصوص؟ ثمة شعراء غير المتنبي وأحمد شوقي والسياب جديرون بأن يتعلم الطلاب قصائدهم ويتذوقوا جمالياتهم كأمين نخلة اللبناني، وجريس سماوي الأردني، وأحمد محرم المصري، وكثيرون آخرون في سوريا وليبيا والجزائر والمغرب وأقطار العرب كافّة. ربما يكمن الحل في انفتاح التعليم وحريته بمنهجية جديدة، تطلق للطلاب حرية تربية أذواقهم بهذه الأنهار العذبة الدفاقة، وليكن هناك تكامل معرفي بين الجامعة وبين المدرسة لتعريف الطلاب بتلك المنارات المميزة، ليتعرف الطالب على مئة شاعر عربي معاصر على أقل تقدير قبل مرحلة الجامعة، يكون هؤلاء من ذوي الإنجازات التي أسهمت في إحداث تغيير وبصمة في مسيرة الشعر العربي.

وفي الجامعة، كما في المدرسة، لم أسمع بحسب الشيخ جعفر لا في مساق الأدب الحديث ولا في مساق علم العروض والقافية، على الرغم من أننا درسنا "ظاهرة التدوير" في شعر التفعيلة التي تميز بها حسب الشيخ جعفر، ولا أذكر أن له نموذجا واحدا في الكتاب الذي كان مقررا لدراسته، فالمساق لم يكن مفتوحا لنبحث عن شعراء تميزوا بهذه الظاهرة، بل كان يعرف بالظاهرة وبنماذج لها فقط. وعلى العموم أيضا لم تكن مرحلة الدراسة الجامعية أحسن حالا من التعليم المدرسي، فلم تكن تعتمد في أغلب مساقاتها على البحث العلمي، ما خلا مساقا أو مساقين، إنما كانت المساقات مغلقة بكتب مقررة، ندرسها ونستظهر أفكارها، لنجيب عن أسئلة الحفظ والتذكر التي نعيد فيها ما هو مسطور في تلك الكتب حرفيا، وكلما كنت متقنا لتلك الحرفية كنت متفوقا، وتحتل مراتب الشرف الجامعية.

فمن ذا الذي سينقذ طلابنا من هذا الجهل المعرفي الذين هم غارقون فيه، لاسيما أن مرحلة الدراسات العليا في الماجستير أخذت تنحو منحى الدراسة الجامعية الأولى في الحفظ والاستظهار وأخذت مساحة البحوث تقلّ وتصغر وتتضاءل، ربما لعدد الطلاب الكبير في قاعات الدرس، ما يعني أن اعتماد استراتيجيات عمل البحوث ستكلف المحاضر وقتاً طويلا لعملية المتابعة والتصحيح، ولذلك فأسلم طريقة هي: احفظ للامتحان واحصل على الماجستير.