يدعو الناقد والجامعي المصري كل باحث أو كاتب محتمل إلى الاهتمام بالمعاجم، وبالمعجم التاريخي للغة العربية بشكل خاص، ويحكي لنا قصة هذا المعجم وما بُذل فيه من جهد من مجامع اللغة في مختلف البلدان العربية حتى الآن، داعيا إلى بذل المزيد من الجهود لإتمامه وتعميم استخداماته العلمية والتعليمية.

المعجم التاريخي للغة العربية

عمل في الصناعة اللغوية الثقيلة

إبراهيم منصـور

 

كلما أتيحت لي الفرصة أن أدرّس لطلاب الدراسات العليا في قسم اللغة العربية، شرعت في تنبيه الطلاب إلى ضرورة أن يمتلك كل منهم مكتبة ورقية ولو صغيرة، هذه المكتبة هي عدة الباحث الذي يود أن يسير في طريق البحث العلمي في مجال الدراسة الأدبية واللغوية، فأقول لكل طالب ولكل طالبة: مكتبتك الخاصة الصغيرة، في حدها الأدنى، فيها خمسة كتب منها اثنان ينتميان لحقل المعاجم: معجم لغوي، ومعجم مصطلحات. وتفسير ذلك أن من يعمل في مجال التأليف والبحث، هو مثل الفلاح أو الصانع الذي يحترف حرفة، ومثل المهني الذي يمتهن مهنة، فهو مهني، وكل مهني يجمع بين الحرفة والمعرفة، فالفلاح ليس فلاحا بلا فأس وشرشرة، والسباك ليس سباكا بدون مفتاح ومنجلة، والنجار ليس نجارا بدون شاكوش ومازورة، هل أقول كما أن الطبيب ليس طبيبا بدون سماعة وجهاز ضغط؟!

ويسأل الطلاب عن نوع القاموس اللغوي أو المعجم الذي ينبغي أن يقتنوه، فأقول لهم: كان معكم معجم صغير حصلتم عليه أيام المدرسة اسمه "المعجم الوجيز" فليكن أول بذرة في حقل المكتبة الأكاديمية الخاصة، أما لو كنتم مستعدين لشراء معجم، فليكن أبو ذلك القاموس الصغير المدرسي، وأبوه هو "المعجم الوسيط" وحينما أذكر لهم المعجم الوسيط، أتذكر المحادثة التي جرت بيني وبين صديقي الدكتور مأمون وجيه عضو مجمع اللغة العربية، الذي أخبرني أن المجمع قد أنجز تحديثا للمعجم الوسيط، وأنه قام بطبعه طبعة جديدة صدرت في يونيو ٢٠٢١م وقد جاءت في مجلدين أيضا ولكن بزيادة كمية بلغت ٥٠٠ صفحة. لكن "مطابع جريدة الجمهورية" التي قبلت طباعة المعجم لم توفِ بالشروط التي وضعها المجمع.

خبر طيب أن صدرت الطبعة الجديدة المحدّثة من المعجم الوسيط، ولكن المؤسف أن "المعجم الكبير" الذي صدر أول جزء منه في القاهرة عام ١٩٦١، لم يكتمل حتى هذه الساعة من العام ٢٠٢٢م، أي أن هذا المعجم من عمري أنا شخصيا، وقد خرجت قدمه، ثم رجلاه، ثم تعثر في الولادة، حتى أن رأسه لم يخرج حتى الآن من بطن المجمع اللغوي، لكن الدكتور مأمون وفريق من اللغويين، كبير جدا، لا أدري ماعدده، قد انشغلوا بعمل آخر ليس أقل أهمية من "المعجم الكبير" ذلك هو "المعجم التاريخي للغة العربية"

لقد كتب الدكتور مأمون وجيه يشرح لنا قصة هذا المعجم في مقال نشره في صحيفة "أخبار الأدب"عدد ١٢ ديسمبر ٢٠٢١م، بعنوان "المعجم التاريخي.. قصة الميلاد والتطور" وأما قصة الميلاد فقد تعثرت كما تعثر ميلاد المعجم الكبير، أو تعثر اكتمال ميلاده، لكن ما قصة التطور هذه إذا كنا بعد لم نزل في طور الميلاد؟ يوضح لنا الدكتور مأمون أن المجمع الملكي، أو مجمع فؤاد الأول للغة العربية حينما نشأ في عام ١٩٣٢م، قد نص في مادته الثانية على أن "من مهام هذا المجمع، أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا في تاريخ بعض الكلمات، وتغيُّر مدلولاتها"

حينما عدت لمراجعة المرسوم الملكي الصادر بإنشاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وجدت في مكتبتي كتابين عن تاريخ المجمع أحدهما طبع عام ١٩٨٤م، بعنوان "التراث المجمعي في خمسين عاما" وتفسير ذلك أن المجمع لم يعمل إلا في عام ١٩٣٤م، أما الكتاب الآخر فقد صدر عام ٢٠١٠م، وعنوانه "إطلالة على قانون المجمع وتعديلاته" واللافت أن الكتابين المذكورين قد خرجا في صورة مزرية من حيث الورق والتنسيق والمراجعة، وقد كان ذلك حال المطبوعات التي خرجت عن المجمع في تلك الفترة، كانت الدولة قد تخلّت عن المجمع، وبعد أن كانت المطبوعات تطبع في المطابع الأميرية، صارت تطبع في مطابع تحت السّلّم، إنه شيء مؤسف، بل يدعو للخجل، أن نبخل على أقدم وأهم مجمع لغوي، ونتركه لا يجد ميزانية لطباعة منتجاته اللغوية الثمينة.

ولقد أسعدني الحظ أن ألتقي في تلك الفترة برئيس المجمع الدكتور شوقي ضيف (١٩١٠- ٢٠٠٥م) في مقر المجمع بالزمالك، وقد شكا لي من بطء العمل، وقال ساخرا "يستحيل إنهاء العمل في المعجم الكبير قبل نهاية القرن الحادي والعشرين" أظن الآن أن مشكلات التمويل قد حلّها الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، الذي قام أيضا بإنشاء مبنى كبير في مدينة ٦ أكتوبر ليكون مقرا لـ"اتحاد المجامع اللغوية العربية" لم يكتف الشيخ القاسمي بإنشاء مبنى اتحاد المجامع اللغوية العربية، بل إنه جعل لهذا الاتحاد معنىً، حين تكفّل بتمويل المشروع القديم الجديد وهو "المُعجم التاريخي للغة العربية" وقد نشرت جريدة أخبار الأدب في عددها المذكور آنفا عدة مقالات لبعض المسؤولين في اتحاد المجامع اللغوية العربية، يتحدثون فيها عن العمل الذي قامت به الفرق اللغوية في بلدانهم، ومنها الفريق المغربي، والفريق الأردني، والفريق السوداني، والفريق السعودي، ونشرت الجريدة صورا لأعضاء تلك الفرق مجتمعين كل في بلده، وقد أسعدني أن أحصي في الصورة الجماعية للفريق الأردني ثلاث سيدات، وفي صورة الفريق المغربي سبع سيدات، ولكني أسفت في الوقت نفسه لأن صورة الفريق المصري، لم يكن بها سوى سيدة واحدة تعمل في المعجم، بين زملائها من الرجال. ومع ذلك فإن الفريق المصري هو صاحب المسئولية الأكبر، كما يقول صديقي الدكتور شحاتة الحو الباحث بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث تقع على عاتق هذا الفريق مهمة التخطيط، أي الإعداد، ثم مهمة المراجعة، واعتماد المادة المعجمية في صورتها النهائية.

  يتحدث الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة محمد صافي المستغانمي في مقالته عن المعجم فيشرح كيف تكونت "المدّونة اللغوية" وهي المادة الأصلية التي أخذ منها اللغويون في الفرق العاملة في المعجم، فيقول إن أول مصدر في تلك المدونة العظيمة هو القرآن الكريم، ثم الحديث النبوي، ثم الشعر في عصوره المتتابعة من القديم إلى الحديث، ثم النثر العربي ويشمل الخُطب والمحاورات والرسائل والتوقيعات، والوصايا والأمثال. لكن النثر الحديث سيكون له شأن في مدونة المعجم التاريخي من نثر محمد عبده إلى نثر نجيب محفوظ مرورا بطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران. ونتمنى أن يصل إلى يحيى حقي وعبد الحكيم قاسم وإبراهيم أصلان.

المعجم العربي الجديد الذي ظهرت منه المجلدات الأولى، وعددها سبعة عشر مجلدا، يحمل اسم المعجم التاريخي، هو عمل يحاكي أعمالا مناظرة في اللغات الأوربية الحديثة، وتقوم الفكرة على أساس "تتبع كل لفظ من ألفاظ اللغة العربية منذ ظهر في عمل مدون منقوش أو مخطوط، وكيف تطور في نطقه وفي استعماله، مرورا بالعصور المتتابعة حتى وقتنا الحاضر، مع ذكر الشاهد اللغوي من كل عصر" ويصف لنا المدير العلمي للمعجم الدكتور مأمون وجيه هذا العمل قائلا "وما المعجم التاريخي إلا سجل لغوي يؤرخ قصة الألفاظ، ويبين شجرة النّسَب اللغوية لكل كلمة، وكيف تفرّعت الأصول وتطورت، وأنجبت أجيالا من الألفاظ والدلالات"

وذكر المعجمي الكبير المرحوم الدكتور أحمد مختار عمر أن العرب قد سبقوا جميع الأمم في تأليف المعاجم صغيرها وكبيرها، فنوّعوا فيها حتى أن معجما منها لا يغني عن معجم آخر، وقد دعّم رأيه بما قاله المؤلف"جون هايوودHaywood الذي شهد للعرب بهذا السبق فقال "إن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز" لكننا لابد أن نستدرك مع الدكتور عمر فنقول إن ذلك كان حتى مطلع عصر النهضة، فقد أصبح التأليف المعجمي صناعة، ولكل صناعة سوق، ولها رؤوس أموال، وقواعد عمل، لذلك تأخر العمل المعجمي العربي في عصرنا الحاضر، وهذا هو تفسير تأخر مجمع اللغة العربية في إنجاز المعجم الكبير، ثم تأخره في إنجاز المعجم التاريخي.

لقد شاهد العالم في عام ٢٠١٩م، فيلم The professor and the madman (الأستاذ والرجل المجنون) وهو فيلم سينمائي يصور حياة رجل معجمي هو جيمس مورايJames Murray  الذي أصبح منذ عام ١٨٧٩م مديرا لمشروع المعجم الذي خططت له مطبعة جامعة أكسفورد، وقد نجح الرجل في جمع عشرة آلاف مدخل، صارت نواة المعجم التاريخي للغة الإنجليزية المعروف باسم معجم أكسفورد للغة الإنجليزية Oxford English Dictionary

لكن هذا الزمن قد انتهى الآن، فليس في مقدور أي فرد، أو حتى جماعة صغيرة، أن تصنع معجما لغويا حقيقيا، مناسبا للعصر الحديث في أية لغة من اللغات.

لقد صار التأليف المعجمي صناعة تتطلب ضخ رؤوس أموال لتدريب الفرق الكبيرة العاملة في جمع المادة، وتجهيز المادة الضخمة حاسوبيا، ثم مراجعة المادة بعد صياغتها مرة بعد مرة، وهو وقت ومجهود له ثمن، وثمنه كبير جدا، لذلك لا نعجب أن يتقدم الدكتور مأمون بالشكر الجزيل للشيخ الدكتور سلطان القاسمي، الذي خصص أموالا كثيرة لهذا العمل العظيم، ونحن أيضا نشكره على هذا الكرم الذي صادف عملا قوميا علميا، تأجل سنين كثيرة، ثم خرج من تحت الرماد مضيئا شامخا.

لقد بلغت المدونة التي استقى منها الباحثون مادة المعجم ٢٠ ألف كتاب ومصدر ووثيقة، تحولت كلها إلى مصادر إلكترونية، ثم صار للمعجم موقع إلكتروني، أنشأه مجمع اللغة العربية بالشارقة، وأيضا تطبيق على الهواتف الذكية، غير النسخة الورقية المطبوعة التي تغطي فقط الحروف الخمسة الأولى: الألف والباء والتاء والثاء والجيم. وأخيرا فإنني أتمنى أن تشتري كل جامعة من الجامعات العربية، نسخة ورقية واحدة على الأقل من هذا المعجم، فتزين به مكتبتها،على ألا يتعلل القائمون على أمر المكتبات الجامعية، بأن الكتب والمعاجم متاحة على شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة، نريد لطلاب العلم أن يروا هذا المعجم ويتعاملوا مع نسخته الورقية، لكي يدركوا ضخامته، وما صرف فيه من جهد ومال. فلم يعد لائقا بعد صرف كل هذا المال، وبذل كل هذا الجهد، أن يوضع المعجم على الرفوف في المخازن، في حجرات معتمة، بل لابد أن يرى النور، بحسبانه أداة بحث لازمة لكل أستاذ، وكل مثقف، وكل طالب علم.

 

أستاذ النقد الأدبي والأدب الحديث، جامعة دمياط