في الثامنة والأربعين من عمره، أب لثلاثة أطفال، يرقد في مستشفى في فينيسيا، يلتهم الفيروس القاتل رئتيه، وأمام ذهول الأطباء يرفض بإصرار تلقي العلاج، رغم توسلات ابنه إليه لقبول العلاج، اختار أن يموت، كان من الممكن أن يتعافى من إصابته، لكنه فضل الموت على أن «يرتد عن دينه»، عن أفكاره التي تحولت إلى «عقيدة»، عقيدة تتشكل من مجموعة لا عقلانية من الــ «لا أصدق»/ لا أؤمن» لا أؤمن بالأطباء، بالطب الرسمي، بالسياسيين أو بوسائل الإعلام أو بأي شخص. لا نتحدث هنا عن حالة فردية، أو ظاهرة هامشية، فقد تكررت حالة هذا الرجل لدرجة دفعت نقابة الأطباء الإيطالية إلى إصدار بروتكولات للتعامل مع المرضى «غير القابلين للإقناع» والذين يرفضون العلاج.
يعتقد 5.9٪ من الإيطاليين، حسب تقرير Censis 2021، أن الفيروس التاجي «غير موجود»، وأن الوباء مؤامرة عالمية. تشكلت جماعات الـ (novax)، أو «لا للقاح»، وكونت تنظيمات تعقد اجتماعات ومحادثات سرية على مدوناتهم الخاصة كما قاموا بإنشاء «فرق شغب» لتدافع عن مسيراتهم الاحتجاجية ضد اللقاح، أناس عاديون جدًا كانوا، وأصبحوا يمارسون حياتهم كمناضلين سريين يقاومون غزو الفضاء الأخير الذي يمتلكونه؛ أجسادهم، إنها حربهم الأخيرة التي يخوضونها، حتى وهم يختنقون في المستشفيات، يردون أنبوب الأكسجين الممدود إليهم، فالموت أهون من الاستعباد.
كيف يمكن أن ينحدر أناس طبيعيون إلى هذا الرفض المطلق للعلاج؟ ما الذي يمكن أن يحرك مثل هذه الحالات من «الانتحار بفخر»؟
يتنقل ال(novax) عبر شبكة الإنترنت العميقة بحثًا عن شقوق في الكذبة العالمية، ينخرطون في جدالات لا تنتهي، تنطلق من الارتياب والشك، الذي يمكن تفهمه، في اللقاحات حيث لم يتوفر الوقت الكافي لتجربتها، ثم تنتقل إلى الحجج المنطقية (ظاهريا) لأولئك الذين أصبحوا علماء مناعة - في غضون عشرة أيام - من خلال قراءة المواقع «الصحيحة»، وصولاً إلى الخيال العلمي عن: «شريحة دقيقة تجعلنا عبيدًا».
ولن يعدم هؤلاء أن يجدوا «علماء» يؤكدون لهم الحقيقة التي يعرفونها مسبقًا: اللقاح لن ينقذ أحدًا، بل إنه يغير حمضنا النووي، يقوم بتعديلنا وراثيًا.
إنها رؤية مهووسة للعالم حيث الجميع يكذب، والجميع عدو. ولكنها أيضًا ناتج طبيعي للثقافة المهيمنة على أوروبا منذ عقود، ثقافة تضع الحقيقة في مواجهة الحرية، فكما يقول إيهاب حسن أحد كبار منظري ما بعد الحداثة « الآن إذا ماتت الحقيقة، فإن كل شيء يصبح ممكنًا من الناحية النظرية، وإذا كان كل شيء اعتباطيًّا، وعارضًا، ونسبيًّا: فإن الحقيقة تكون هي ما أختاره لأقوم به. هذا بالضبط هو «التحرر».
في المجتمع الأفقي الذي نعيش فيه احتلت قيمة الانتشار المكانة التي ظلت محفوظة طويلا لقيمة العمق، حيث يكفي وصول معلومة زائفة إلى حد معين من الانتشار لتحولها إلى حقيقة واقعية، عصر «ما بعد الحقيقة» الذي نعيش فيه فرَّغ قيم الحضارة الغربية من معناها، رغم تقديس الجميع لها، مثل قيمة الحرية التي ينظر إليها اليوم على أنها انفتاح على المطلق، على المجهول، وهو ما يجعلها محاولة دؤوبة للانسلاخ من الواقع، لم يعد التحرر مجرد فعل يهدف إلى التخلص من القيود الاجتماعية أو السياسية أو القانونية، إنما سعي للانعتاق من كل روابط الماضي والحاضر، ليست الحرية إذن دفاعًا عن معنى نؤمن به للحياة، أو هوية نراها محدِّدة لوجودنا، الحرية اليوم هي التخلص من هذه الأشياء التي ترسم حدودًا للذات وتحدّ من الانفتاح على اللاشيء، على ذلك الذي لم نعرفه بعد، ومن ثم نحن عاجزون عن تسميته، ولماذا يجب أن ننشغل بالأسماء ونحن نعيش في عالم ما بعد الأسماء؛ ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد التاريخ، وأخيرًا ما بعد الحقيقة!
هذه النزعة نحو اللاشيء يغذّيها على السواء الجناح الفكري السياسيّ اليساريّ الذي يرفع شعار «أنا مشرِّعٌ لنفسي»؛ وكذلك الجناح الفكري السياسي اليمينيّ الذي يختصر دفاعه عن الحرية في شعار «تتّسع حرّية كلّ امرئ بمقدار ما تتعدّد الخيارات المطروحة عليه» وبالطبع لا تتسع الخيارات من دون التحرر من التحيزات التي يتسع مفهومها ليشمل كل مفردات الذات والواقع الذي نعيش فيه، ومرة أخرى نحن لا نتحدث هنا على المستوى النظري إنما عن ممارسة يومية في حياة الأشخاص العاديين، فمثلًا سألت إحدى مدارس إقليم فينيتو - وعاصمته مدينة فينسيا التي انطلق من إحدى مستشفياتها هذا المقال- أولياء أمور الطلاب؛ إذا كانوا يوافقون على خضوع أبنائهم لاختبارات تساعدهم على تعرف هويتهم الجنسية؛ وعندما سأل أحد أولياء الأمور عن المقصود بكلمة هوية، قيل له: نحن نُولَد ذكورًا وإناثًا، لكننا نكون رجالًا أو نساءً حسب اختيارنا، إن مفهومي «الرجل» و»المرأة «وغيرهما ليست إلا مفاهيم ثقافية لدينا مطلق الحرية في قبولها أو رفضها. لست بصدد إصدار أي حكم أخلاقي هنا، لكني أرصد فقط هذا الفهم للحرية بوصفها «انفصالًا»، بوصفها حالة من الرفض الأوديبيّ ليس فقط للأب والتراث، إنما للواقع كذلك، ليصبح –في إطار هذه النزعة- الحديث عن تحقيق الذات مجرد انفتاح ساذج تجاه جديد مجهول، كثيرًا ما ينحدر باتجاه السخيف والمُنافي للعقل. إنّ حريّة مطلقة –أي منفصلة عن كلّ شيء– تنتهي بهذا الشكل إلى نوع من «الهراء السامي»، أو تنتهي، في شكلها الأدنى، إلى الاكتفاء بملذّات صغيرة متسلسلة تحاول أن تُشبع ذاتيّة لا أساس لها.
إنّ المرحلة التي تمرّ بها المجتمعات المتقدمة المُنهكة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وقبل كلّ شيء، روحيًّا؛ تتيح لنا أن نفهم بوضوح كان مستحيلًا قبل هذه الجائحة «الغيابَ» الأساسَ الذي يخترق هذه المجتمعات، وهو غيابٌ ناتج عن «انعدام ثقة في الوجود» واسع الانتشار، علينا أن نفهمه كنتيجة للقضاء على مسألة «الحقيقة» حيث إنّنا لم نعرف كيف نتناولُها، فقرّرنا تجنّبها، أو توظيف غيابها وهو ما تجسد في ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي انتشرت لدرجة اختيار معجم أوكسفورد لها في عام 2016م بوصفها كلمة العام، أطلت ما بعد الحقيقة برأسها أول مرة عام 2008م بعد الأزمة الماليّة الكبيرة التي أظهرت ما يمكن أن تُعرِّضنا له ما بعد الحداثة من خطرِ خلقِ عالَمٍ وهميٍّ يصبح فيه الواقعُ أكثر فأكثر سطحيّة، ففي سياق نصل فيه للشكّ بتماسك الواقع فضلًا عن تماسك حياتنا ذاتها، لا ينبغي لنا أن نندهش إذا دارت تجاربنا الحياتية، على الصعيد الشخصي أو الجماعي، في حلقة مفرغة من الأوهام والشكوك والمخاوف.
لهذا وفي شتاء الموجة الرابعة من الجائحة في إيطاليا لم يعد هناك من يغني في الشرفات، لم يعد هناك من يصفق لجنود الجيش الأبيض من الممرضين والأطباء، لم يعد أحد يلتفت لوسم «كل شيء سيكون على ما يرام» المطبوع على الجدران، أو المتداول في الفضاء الأزرق، لا أحد يقول «سننتصر»! عدم اليقين والخوف الممزوج بالثقة وحتى السخرية للتخفيف من وطأة الإغلاق تحول إلى ملل وانزعاج، والتواطؤ بين المواطنين المدعوين للانضمام إلى النضال المشترك، في اندفاع حماسي ضد الفيروس في الإغلاق الأول، قد تلاشى، أفاق الناس من الوهم الرومانسي الذي صدره كثير من الكتاب – بعضهم حاصل على جائزة نوبل – من أننا أخيرًا يمكننا الاستماع إلى زقزقة العصافير ومشاهدة الزهور تتفتح، حيث سمح الإغلاق للطبيعة بأن تتنفس!
لقد أصاب سكان المدن الإيطالية ما يصيب الجنود الذين طال بقاؤهم في الخنادق بلا أمل في نهاية الحرب، نفاد صبر وغضب قاد الكثيرين منهم إلى الميادين للاحتجاج على الإجراءات البيوسياسية الجديدة التي تحد من حرياتهم، والتي تروج لها الحكومات على أنها السبيل الوحيد لمواجهة الفيروس الذي ينتصر لأنه لا يتوقف عن التحور بينما ظلت استجابتنا له نمطية وبليدة، وعاجزة عن أن تفتح أفقًا جديدًا لوجودنا في عالم أفقنا من وهم السيطرة عليه. لقد أدت تلك الاستجابة النمطية بالبعض إلى الإعلان، دون خجل، «ليمت من يجب أن يموت، طالما أنهم لم يعودوا يزعجوني ويتدخلون في عملي وحياتي!».
بدأ الناس يدركون وهم يمارسون حياتهم عن بُعد حجم خسارتهم. لقد خسرنا وجوهنا، ندرك ذلك عندما نلتقي شخص لأول مرة ونحييه من خلف القناع، أصبح على النظرة التي تحملها أعيننا التعبير عن كل مشاعرنا، والقيام بكل ما كانت تقوم به ملامح الوجه مجتمعة، لقد أصبحنا عيونًا لأن الوجه كاملًا يمثل خطرًا علينا وعلى الآخرين، لم يعد الوجه كما كان يصفه دافيد لوبريتون “فيه ينعكس الإحساس بالشخصية، وفيه تسجل الجاذبية وكل درجات الجمال أو القبح. إن القيمة التي تعلق عليه عالية لدرجة أن أي تشويه له يصبح تجربة مؤلمة ينتج عنها تقريبا فقدان الهوية، فالوجه هو الذي يظهر الشخصية التي تعطي معنى اجتماعيا وثقافيا للفرد. الوجه وتعبيراته يربط الأفراد بالمجتمع وفي نفس الوقت يعطيهم المجال الكامل لتأكيد اختلافهم وتفردهم. تمارس الوجوه تأثيرا قويا عندما يتقابل الناس، ووجوه الآخرين تخلق انطباعًا أوليًا عن الود أو عدم الثقة أو الفضول أو الخوف والذي لا يكون من السهل التخلص منه.. فالوجه أحد الأشياء التي تسهل أو تعوق الاتصال بالآخرين.» أصبح علينا أن نبحث في أجساد الآخرين وفي ملابسهم عما يدل على وجوههم، وعلى ملامحهم، وهو ما جعلنا نكتشف أن الأجساد غامضة بدون الوجه، في غياب الوجه الجسد كله صامت، العلامات الكثيرة التي تعودنا أن نستنطقها لنعرف الشخص أصبحت ملتبسة، الوجه هو ما يمنح كل شفرات الظهور في العالم معنى، أصبحنا نعيش نوعًا من الخرس الدلالي المربك، بسبب الأنوف والأفواه المحتجبة. قد يرى البعض في كلامي هذا مبالغة، فالقناع قديم قدم الثقافة الإنسانية نفسها، ولكن هذا الاعتراض يتجاهل الفرق الكبير بين الأقنعة أيًا كان شكلها أو الثقافة التي تنتمي إليها والكمامة، لاحظ دلالتها على الإسكات، فالأقنعة وسيلة لكشف أبعاد أخرى للهوية، في أقنعة الثقافات الأخرى، يتم تحقيق مظهر من مظاهر الغموض وتعدد الهويات، الأقنعة فضاء لدمج الموجودات: الإنسان، الحيوان، النبات، الروح. بينما الكمامة هي مجرد حجب، يخلو من أي رمزية، ولا ينتج أي معنى.
قد يعترض البعض أننا في عامي الوباء هذين قضينا معظم حاجاتنا في العالم الرقمي، من خلال العمل عن بعد والدراسة عن بعد، ذهبنا إلى المسرح وحضرنا الحفلات الموسيقية عن بعد، بوجوه مكشوفة، وهو اعتراض مؤسف لأنه يكشف عن عدم إدراك المسافة الشاسعة بين الوجه وصورته على الشاشة، بين الوجه وقناعه الرقمي، إنه قناع شفاف بما يكفي ليلتبس في وعينا الفرق بين الوجود والحضور، وبالتالي لا نشعر بأننا وحيدون في عزلة أمام شاشة الكومبيوتر، انتهت مجتمعاتنا المغرمة بالصور إلى الاكتفاء بها، أصبحت تفضل صورتها على ذاتها، يبدو أن وعود الجنة الرقمية لن تتحقق إلا من خلال إبعاد الأصل وربما تدميره.
أما العالم/الواقع فسيتم اختزاله إلى أقصى درجة، سيكون واقعًا مخططا ومحددا مسبقًا لا مجال فيه للصدفة، ولا انفتاح له على المجهول، أدركنا هذا أيضًا في عامي الوباء، فقد تلاشت تمامًا من فضائنا الاجتماعي «الروابط الضعيفة» وهو المصطلح الذي سكه عالم الاجتماع مارك جرانوفيتر، وهو يشمل المعارف، والأشخاص الذين نراهم نادرًا، إنهم الغرباء القريبون الذين نشاركهم بعض الفضاءات. إنهم الأشخاص الموجودون على هامش حياتنا مثل الرجل الذي دائمًا ما يكون في صالة الألعاب الرياضية في نفس الوقت الذي نكون فيه، النادل الذي يبدأ في إعداد طلبك المعتاد بمجرد دخولك إلى المقهى، زميل العمل من قسم آخر تجري معه محادثة قصيرة في المصعد. إنهم أيضًا أشخاص ربما لم تقابلهم بشكل مباشر مطلقًا، لكنك تشارك شيئًا مهمًا مشتركًا معهم مثل الذهاب إلى نفس الحفلات الموسيقية، أو السكن في نفس الحي والتردد نفس المحال التجارية. هذه الدائرة الخارجية لحيواتنا المفعمة بالحضور الإنساني اختفت تمامًا في عالم الـ «عن بُعد».
يمكن أن تكون الآثار النفسية لفقدان جميع الروابط فيما عدا تلك الأقرب عميقة. تربطنا الوصلات المحيطية بالعالم بأسره؛ وبدونها، يغوص الناس في التشابه المركب للشبكات المغلقة. تقول جيليان ساندستروم، عالمة النفس الاجتماعي بجامعة إسكس، إن التفاعل المنتظم مع أشخاص خارج دائرتنا الداخلية «يجعلنا نشعر وكأننا جزء من مجتمع أو جزء من شيء أكبر». يقدم لنا الأشخاص الموجودون على هامش حياتنا أفكارًا جديدة ومعلومات جديدة وفرصًا جديدة وأشخاصًا جددًا آخرين. إذا كان التنوع هو ما يمنح الحياة نكهتها المميزة، فهذه العلاقات هي السبيل الوحيد إلى ذلك.
إن فقدان هذه التفاعلات أحد أسباب نمو نظريات المؤامرة على الإنترنت، لا شك أنه يمكن للقاءات عبر الإنترنت أن تفتح قنوات للقاء أشخاص جدد وتكوين صداقات في العالم الحقيقي، لكن في غياب العالم الحقيقي، في زمن العزلة ستغذي بشكل أكبر المؤامرة وتقود نحو عزلة ليس فقط للجسد وإنما أيضا للوعي. توضح ساندستروم أن: «هناك الكثير من الأبحاث التي تُظهر أنه عندما تتحدث فقط مع أشخاص مثلك، فإن ذلك يجعل آراءك تتحول بعيدًا عن المجموعات الأخرى وتنفصل تمامًا عن الواقع». «هذه هي الآلية التي تفرز الطائفية. هذه هي الآلية التي تتنمو بها الجماعات الإرهابية «. وتظهر بها أيضًا جماعات « لا للقاح» الذين يمثلون النسبة الأكبر من ضحايا الفيروس القاتل في شتاء الموجة الرابعة.
أستاذ الأدب العربي والدراسات الإسلامية في الجامعة الكاثوليكية بميلانو