يكتب الناقد المصري أن هذه الرواية التي تتناول مرحلة من أهم مراحل التاريخ المصري الحديث، تبرز دور المثقف في التأثير في الأحداث والتاريخ، وكيف أنه يمكن أن يلعب دورا حيويا في الوصول بالمجتمع للقاع، أو الصعود به للقمة، فجاءت الرواية أقرب إلى رواية الشخصية، لتعبر في النهاية عن التاريخ: الفرد، والمجتمع.

ثورة يناير واللعب على الأسلاك

فى.. «نادى المحبين»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

لم تشهد مصر فى عصرها الحديث، مثل تلك الحالة من الانقسام، كالتى شهدتها فى الفترة من 11 فبراير 2011، بعد خلع مبارك، إلى ما بعد 30 يونيو 2013 بعد خلع مرسى. حيث انتفض الشعب فى الأولى، للخلاص من حكم استمر منذ يوليو 1952، متسما بالحكم العسكرى، واستغلت التيارات الإسلامية المتشددة الموقف، واستولت على الحكم. فثارت القوات المسلحة، مدعومة بنسبة غالبة من الشعب لاسترداد الحكم، وعودة الأمور لما كانت عليه. فانقسم الشعب بين مؤيد لهذا ومؤيد لذاك. ونظرا لأن كلا الجانبين، يملك من السلاح ما يمكنه من من تحويل الصراع من الرغبة والأمل، إلى صراع بالقتل والتدمير، فكان الشعب الذى لا يملك من القوة ما يمكنه من حسم الأمور، هو الذى وقع فى التأرجح بين الطرفين، وكان الانقسام والتشرذم، وكانت نسبة لا يستهان بها، خاصة تلك الفئة المسماة بالنخبة- تلك النخبة التى حملها الكاتب رسالته فى "نقطة نظام" - تأبى أن تعانى تلك الخيبة التى أطاحت بطموحها بعد نكسة يونيو 1967، فآثرت أن تكون مع المنتصر، ولعبت على كل الحبال، وأكلت على كل الموائد، إن لم يكن بحثا عن ذهب المنتصر، فهروبا من سيفه.

وكثيرة تلك الأعمال الروائيةالتى تناولت الفترة. تسرع البعض منها، فلم تأخذ حظها من النضج، وتمهل البعض منها، فكانت تعبيرا عن جانب من جوانب المواجهة. غير أنه كلما تباعد الزمن، وهدأت الحرارة، كان التأنى، وكانت الرؤية الأشمل، مثلما فعل الروائى صبحى موسى فى ثامن أعماله الروائية "نادى المحبين"[1]، والتى تمتعت بالرؤية الشاملة والأوسع وقوفا على الحياد، ووصولا لرؤية الغالبية ودعمها لما وصلت إليه الرواية. 

فالمتابع للأعمال الروائية الثمانية لصبحى موسى، لابد ستنحفر فى أعماقه معالم عالمه الإبداعى، والمهموم كلية بقضايا تلك البيئة التى عاشها، ويعيشها جيل من المصريين، يحملون على أكتافهم تاريخ طويل من الإرث الثقيل والطويل، الى حفر مسارات الحاضر والمستقبل. إلا أن الشاعر، الذى كانه صبحى موسى، قبل أن يكون روائيا، أبى أن يغادره، فظلت الشاعرية، مبطنة لنسيجه السردى، متبديةفى أظهر صورها، وهى استخراج نسيج الذات الساردة، فكان استخدام ضمير المتكلم، هو الوسيلة التى ينفذ منها للأعماق، وهو ما برز بصورة جلية فى أحدث أعماله، والتى اختط لها عنوانا يقترب كثيرا من ذلك (البوح) فكان العنوان "نادى المحبين" ليكشف عن ذلك المخبوء من النفس (المحبين)، ويفصح به للجميع، فكان "النادى" وترك للقارئ البحث عن أولئك "المحبين"، لينكسر أفق توقعه، ويدرك أن المحبين فى ذهنه، غير أولئك الذين يعنيهم الكاتب، بل ربما كان العكس هو الصحيح. وهو ما يكشف أنه رغم أن "نادى المحبين" تُثْبِتُ أحد عناصر الرواية، والتى نراها "ديوان العصر" أو هى المؤرخ الحقيقى لحكاية التاريخ، إلا ان الكاتب –هنا- لم يشأ أن يغادر محيطه، كمثقف، فاتخذ واحدا منهم، كأنموذج عملى، مستخدما إياه فى الكشف عن مرحلة من أهم مراحل التاريخ المصرى الحديث، مُبرِزا دور المثقف، فى التأثير –التحتى- للأحداث وللتاريخ، وكيف أنه يمكن أن يلعب دورا حيويا فى الوصول بالمجتمع إلى القاع، أو فى الصعود للقمة، فجاءت الرواية اقرب إلى رواية الشخصية، منها إلى رواية التاريخ، لتعبر فى النهاية عنهما معا، الشخص/ الفرد، والمجتمع.

يهدى الكاتب عمله {تحية للثوار الذين فقدوا أرواحهم بلا ذنب على أرصفة البلاد} وما يعنى أن الرواية مشغولة بالدرجة الأولى، (بالبلاد)، مواساة لأؤلئك الذين فقدوا أرواحهم (بلا ذنب)، وكأنه يضع (أولئك) فى موضعهم الذى كانوا فيه– دائما- مفعولا بهم. ثم يعقب بذلك الاستشهاد من سلطان العاشقين –ابن الفارض- والذى جاء بالرواية على لسان السارد، إلا ان وضعه فى البداية – أيضا- (قلبىيحدثنى أنك مُتلفِ ... نفسى فداك عرفت َ أم لم تعرفِ)،  يشير إلى القلب وحديثه للنفس، فيصبح هنا وكأنه حديث الكاتب الذى يبحث عن ذلك الذى كان السبب فى الإتلاف. مؤكدا تلك الرؤية المبطنة، للسارد، والتى يقف بها أمام الأحداث الخارجية، منعكسة على ذاته، فتبدأ الأحداث بتأمل اللوحات الخارجية فى البداية، وتنتهى باللوحات الداخلية للذات. كما تبدأ بعملية التحول عن الرأى مقابل ألف دورلار، معلومة المصدر فى البداية، وتنتهى بألف دولار آخر، يبدو كما لو أنه مجهول المصدر، إلى أن تتكشف الحقيقة، ويصبح معلوم المصدر، وكأننا نسير عبر عديد الرؤى والمشاهد غير الواضحة، لنصل عند النهاية لأن تتكشف الأمور، ويصبح غير المعلوم معلوما. فقد مرت السنوات على تلك الفترة المتناولة، والتى تبدأ مع بدايات فترة ميدان التحرير، والتى أنتجت أعظم الثورات المصرية فى عصرنا الحديث، ثورة 25 يناير، لتنتهى الرواية – والأحداث- عند خلع "مرسى" وجماعته من احتلال للبلاد. وهو ما أعطى الكاتب فرصة أن يسير بالأحداث على مهل، وبتأمل متعمق، يبعده عن تلك المباشرة التى تعجل كتابها،فى الكتابة عن تلك الفترة، مؤكدا أن العمل الروائى يختلف فى تجاوبه مع الأحداث، عن الشعر والقصة القصيرة، وغيرها من الفنون والآداب.

تبدأ الرواية بالبحث فى الجذور، بطريقة فنية، جذور الشخصية( السارد ورفيقته "إنعام")، خاصة شخصية السارد، تلك الشخصية التى تحمل الكثير والكثير، سواء من الناحية النفسية، أو الاجتماعية أو السياسية، فهو نموذج ثرى، يعرفنا هو نفسه، برؤيته التى يبرر بها (شذوذه) على لسان رفيقته "إنعام"،  وإن كانت تأتى –ظاهريا- وكأنها تبرير من السارد لأفعاله، إلا انها تعكس تلك الرؤية المتجذرة، والتىتضع حجابا على تلك الحرية فى أعمق معانيها، فيبدأ التلازم بين الفرد والمجتمع فى الظهور. فيتحدث السارد عن "إنعام" التى شاركته أفعاله، ومسيرته، الازدواجية {أعرف إنعام منذ نحو عشرين عاما، كانت قد فُصلت من الجامعة لأسباب لم تُرد أن تُخبرنى بها على نحو دقيق، لكننى فهمت أنها أمور مخلة بالشرف كما يقولون، الشرف فى بلادنا لايتعدى عادة حدود الجسد، الذى هى بالبديهة ملك لصاحبه، يتصرف فيه كما يشاء، سواء كان يكرمه أو يبتذله، فتلك حريتة الشخصية، ولا تعليق لنا عليها، لكنه فى هذه البلاد ملكا للآخرين، هم الذين يحمونه، وهم الذين يبتذلونه أيضا}. ص14. فتكشف هذه الملاحظة - العابرة-  أولا: عن أن ما هو مخل بالشرف ليس فقط انتهاك الجسد. وهى كذلك، إشارة إلى الخيانةالتى يمارسها، بكل صورها، وكأنه إعتراف من السارد، او رغبة منه –للقارئ- بعدم الوقوف عند مسألة شذوذه، فهى إلى جانب الخيانات الأخرى،شئ هين.

وثانيا: إزدواجية الموروث الثقافى، الذى يقول فى العلن، ما لا يفعله فى الخفاء. ففى العلن، يصبح السارد أحد الأسماء التى تؤثر فى توجيه الأراء والقناعات. فتُبدلُالرأىفى مقال، يفرض قناعة الغرب فى إمكانية التيار الإسلامى (السياسى) على إدارة البلاد. وهو –فى الخفاء- ما يستحق عليه المليون دولار. وهو فى العلن، زوج "إنعام" . بينما هو فى الخفاء الجانب السلبى فى العلاقة الحميمة، بل وهى أيضا تمارس نفس الشذود. وهو فى العلن، يعمل لصالح التيار الإسلامى، وفى الباطن، يتعامل مع المخابرات المصرية، ليكون عينا لهم على تلك الجماعات.  لنصبح أمام عالمين، عالم الظاهر، المسموح، وعالم الباطن، المرفوض. وكلا الحالتين، هو ما يسرى فى المجتمع، حين يمثل السارد – وحالته- نموذج، أو رمز للنخبة التى تبيع مبادئها لمن يدفع، وهو ما عبر عنه السارد نفسه، فيما يشبه الإعتراف- ولتتحول الرواية ككل، وكأنها سيرة ذاتية يعترف فيها السارد بكل تفاصيل حياته- {أمضيت حياتى كلها راقصا على الأسلاك، ولا شئيربطنى بها إلا أطراف أصابع قدمى المعلقة فى الفراغ، فكيف يمكننى  أن أضبط اتزانى  على هذا النحو طيلة الحياة، ماذا لو أن أى من الأسلاك  قُطع ، أو أن أطراف أصابعى لم تعد بالمهارة الكافية لالتقاطه}ص46.

وقد ساعد الظرف التاريخى، السارد فى تأكيد تلك الشخصية اللاعبة على كل الأسلاك، والآكلة على كل الموائد، حيث تميزت الفترة بالانقسام الحاد،فتصارعت القوتان المالكتان للقوة والتنظيم، كان أحد الطرفين هو القوات المسلحة، والتى ترسخ فى الذهن الجمعى تلك الصورة التى عبر عنها الكاتب فىتلكالإشارات العابرة، رغم جوهريتها، فإنها تكشف عن الرؤية الجمعية، والتى ترسخت فى أذهان الكثيرين،  و نستبينهافى{أحضر –العلايلى- من الحمام زجاجة نبيذ أحمر، أشار إلى أنه فرنسى، وأنه منذ عام 1954، قلت  أنه منذ عام الجلاء، فقال أن عمره من عمر الجمهورية الأولى. قلت ونحن نعيش الآن فى الجمهورية الثانية}ص17. فالإشارة هنا تشير بما لا شك فيه إلى أحد طرفى المعادلة فى الصراع القائم. كما تهمس برؤية مبطنة ، تهكمية، وكأنها تُدين هذا الطرف أيضا – لتأتى الرواية وتدين الطرف الآخر –كذلك-. وكأن الصراع قائم بين طرفين مرفوضين من نسب لا بأس بها.  بل ويؤكد الكاتب تلك الرؤية فى {موضحا أن نظم الحكم فى أغلب هذه البلدان قامت نتيجة ثورات على الملكية القديمة ، لكنها أحدثت نوعا جديدا  من الملكية البديلة، يمكننا تسميتها بملكية المؤسسات العسكرية، حيث يوجد جيش قوى يتولى رئيسه حكم البلاد، مما يسمح له أن يظل فى الحكم إلى أن يموت..}ص116.

بينما نرى على الجانب الاخر، قوة التيارات المتخذة من الدين وسيلة للوصول إلى الحكم:

{لكننى لم أستوعب المطلوب بالتحديد، فالصراع الآن بين المجلس والإخوان، بين التيارات الدينية والمدنية، والأخيرة تضغط  بكل ما لديها فى الداخل والخارج كى تنتزع التورتة من يد المجلس، وحال سقوطها فى أيديهم قد تحدث محاكمات كبرى لكثير من القيادات، الشرطة قبل الجيش}ص45. كما يكشف الكاتب عن الحقائق فى قوة الآخر، أو الكشف عن الأحاديث التى صاحبت الفترة، وإن كان أغلب الظن أن تلك التيارات هى من روج وأشاع تلك الرؤى{سألت الشيخ جميل عن قدرته على حشد الناس للصناديق، قال بالملايين: فخطباء المساجدمعنا، المدرسون فى المدارس، والأساتذة فى الجامعات، والأطباء فى المستشفيات، والتجار فى الأسواق،  والسائقون فىالتكاتك والميكروباصات ، جميعهم معنا}ص92. و{وإذا كان فى مصر  مليون إخوانى، ما بين منظم ومتعاطف، فإن بها نحو عشرة ملايين سلفى على الأقل، وعشرة ملايين أخرى من المتصوفة على النهج السلفى، أى أن التيارات الإسلامية بها تزيد عن ثلاثين مليونا، فإذا اضفنا إليهم أن الشارع فى غالبيته محافظ وتقليدى، نجد أنفسنا أمام بلد دينى بالأساس، بما يعنى أن الإخوان لن يجدو مشقة فى حكم البلاد، ويكفى أن يخطب فيهم الرئيس خطبة الجمعة كى يعتبروه ظل الله على الأرض}ص132.

ومن هنا نستطيع أن نرى أن شخصية السارد، بكل انقساماتها، وتناقضاتها، ليست إلا توصيف للمجتمع المصرىفى تلك الفترة- على الأقل- المنقسم إلى قطبين يسعى كل منهما لللإستئثار بالسلطة، وليصبح – السارد- أيضا هو نموذج الكثير من أبناء المجتمع، والكثير من نخبته، على وجه الخصوص، بما تحمله من إنشقاقات وتمزق للهوية، ومنْ لعبٍ على كل الأسلاك { أما هذه فهى بعد ثورة شارك فيها الملايين، وتبلورت الانقسامات فى اتجاهين، لا ثالث لهما: التيار الدينى بكل فروعه، وتيار الدولة بكل توجهاته، وفى مقدمته العسكر ورجال النظام القديم}ص226.

و {...... ورغبة مديرى البلاد فى عدم الخروج من منظومة الحكم، بل وخوفهم من المحاكمة}ص227. وهو الأمر الذى سار بنا، وبالرواية، إلى لحظة التصويت التى حملت ذروة الضياع والحيرة ومعها قرر السارد التوقف، والانسحاب، وكأن كل ما فات كان (لعبة) إلى أن جاءت (الفكرة) وسطعت الشمس {هكذا قلت لنفسى وأنا أتابع الأحداث على الشاشة التىفىمكتبى. كان الشارع شبه منقسم. والإعلام منقسم، والهواء نفسه منقسم، حتى الجغرافيا والتاريخ منقسمين على الشاشة، فأغلقتها وقررت إبطال صوتى}. وليتكشف لنا –من جديد- انفتاح الخاص على العام، حيث تكشف {وقررت إبطال صوتى} أنه لم يكن موقف السارد، بقدر ما كان موقف الكثير من أبناء الشعب، المطالب بالإدلاء بصوته، لاختيار أحد الطرفين. فلم يجد أمامه إلى الانسحاب، بالوقوف السلبى ب(إبطال الصوت). فكان ذلك إيذانا بنهاية مرحلة "الفقد" ليبدأ فصل جديد فى (الحكاية) و (الرواية).

فمن الناحية الواقعية، ومن الناحية الإبداعيةالتى تعكس الرؤية العامة، وخلاصة التجربة. كان لابد أن يحدث تغيير المسار، او الانقلاب. فأنشا الكاتب القسم الثانى "الاستعادة"  والذى يمكن أن نسميه "عودة الوعى"، حيث خرج الإخوان من المخابئ، والأماكن التحتية، إلى العلن، فتكشفت سوءاتهم، وأصبحت فى مرمى الإنسان العادى. حيث انقلبت الصورة، وكانت رؤية السارد، او التاريخ ليقول {ووقفت  أتحدث عن الذين وصلوا بالديمقراطية كى يكونوا أعداء الديمقرطية..... كنا نراهن على أن الجماعات المهمشة سوف تحقق العدل الذى حُرمت منه، لكن الإخوان حتى الآن لا يقومون إلا بالكذب على الجميع..}ص291. الأمر الذى جنح بالكثير من المتعاطفين معهم، إلى الرفض، حيث تكونت جماعة "الرفض" كما تسميهم الرواية، والمسماة بحركة" التمرد" على أرض الواقع. وكان منطقيا، على المستوى الشخصى، وعلى المستوى الاجتماعىوالإبداعى، أن يتحول السارد، من مدافع ومبرر للتيارات الإسلامية، إلى رافض لها، بل ومبشر بقرب انتهاء شهر العسل الذى عاشته فى ذلك العام. نتيجة انقلاب مرسى وجماعته على الدستور، وإصدار ما سمى بالاعلانالدستورى. فكان تحول السارد، والذى أخذ شكل التعرف على "صباح" الممرضة التى وقفت إلى جانبه طوال فترة علاجه بالمستشفى،حين تم نقله إليها، بعد البيان الدستورى، وبعد أن أصاب السارد الانهيار فى التحرير. وكأن عملية لجوئه للتحرير، كما لو أنها عملية استنجاد، أو استدعاء للثورة، حيث كانت الثورة الأولى، والتى يمكن إعتبارها ثورة على الجانب الأول من المعادلة، لنصبح هنا أمام دعوة للثورة على الجانب الثانى. فضلا عن أن "صباح" هىالتى ساعدته فى التخلص من شذوذه، وكأنه ينفض مرحلة الإخوان برمتها، وبشذوذها، ونشوزها {أمضيت بالفعل ليلة ممتعة مع صباح، أكاد أقول أننى اكتشفتها بالفعل، فقد تفننت فىإثارتىوإغوائى، كأننى ملك وهى محظيتى الجميلة... .وشعرت أن ذلك مُرضيا  بالنسبة لى، شعرت فى أحضانها أننى أستعيد روحا طالما كانت غائبة عنى، لا أعرف لما بدت جميلة ودافئة إلى هذا الحد، حتى أننى  نسيت معها ميلى إلى الجنس الآخر..... ونهضت ذاهبا إلى الحمام لأغسل نفسى من هموم لا أعلم كيف تراكمت كل هذه السنوات على جسدى}ص299. . و{لا أعرف هل استطاعت "صباح" أن تشفينى من رغبتىفى الرجال، أم أنها قضت على رغبتىفى الرجال والنساء معا؟}ص330. فإن كان ذلك هو التحول الشخصى. ولم يكن التحول الجمعىبخفى عن المشهد -الروائى- فبعد إعتقاله من قبل الإخوان لحديثه فىقناة 24 الفرنسية، عن قرب نهاية حكم الجماعات الإسلامية ، بعد هذا الحديث، دخل السجن، وسأله أحد المسجونين عن سبب حضوره: { قلت الإخوان، وكان ذلك كافيا بأن يصب الجميع عليهم اللعنات. .. بدا لى أن الشعب هو الذى دخل السجن، بينما المساجين خرجوا للحكم}ص303.

التقنية الروائية

بناء الشخصية

استطاع الكاتب ألا يجعل من شخصيته الرئيسة، مجرد نموذج، يُحِملهُ أفكاره التى يبثها فى ثنايا العمل، وإنما نجح فى أن يخلق منها شخصية حية، تحمل من الصفات الإنسانية، المتأثرة بالمجتمع، والخاضعة لتجارب البدايات، ما يجعلها تتكون على النحو (الفردى)، وما يجعلنا نقتنع بها كشخصية حية، إلى جانب كونها التعبير الموضوعى عن الحالة المجتمعية.فكما سبق أن ذكرنا، بان "نادى المحبين" رواية شخصية، فقد حرص الكاتب على بدئها منذ فترة النشأة، تلك الفترة التى توضع فيها بذرة الشخصية، والتى تستمر معه ربما لباقى العمر. فقد تعرض السارد لعملية انتهاك، وهوفى الخامسة من عمره، من الجار "عطية"، وتكرار تلك العملية للحد الذى اصبح هو نفسه يبحث عن عطية، للإحساس بالشبع، ذلك الإحساس الذى ظل ينتابه طوال الجزء الأول من الرواية "الفقد" وكأنها بداية الفقد للشرف، والاستقامة، والطبيعية التى يراها المجتمع.

وفى هذا يقول سيجموند فرويد {إن الكائن البشري الصغير ينتهي صوغه، أو تكوينه غالبًا في السنة الرابعة، أو الخامسة من عمره، ثُم يفصح تدريجيًّا عن الكائن الخبيء في نفسه خلال السنوات التالية من حياته}.فنحن إذن أمام شخصية تكونت من الصغر، وتحكم فيها عمليتى ضبط، الأولى: حين ضبطته أمه منطرحا تحت الجار "عطية" {أتذكر يوم دخلت علىَّ ووجدتنى أسفل طفل يكبرنى بعدة أعوام......  حاولت أن أتخلص منه لكنه كان قويا بما يكفى لأن يجعلنى والأرض قطعة واحدة }ص53. والثانية عندما ضبط هو أمه تحت الجار- أيضا-. يضاف إلى ذلكـ تلك الواقعة التى عبرت سريعا فى مجريات السرد، وإن لم يغب ما تحمله من بذور باكرة فىالتربة. فحين طلب الأستاذ "حاتم"- مدرس اللغة العربية فى المدرسة الإعدادية- منهم كتابة موضوع إنشاء عن الأم، كتب الساردموضعا عن أمه، فقال- الأستاذ عنها أنها رائعة ف{كانت هذه أول مرة أسمع فيها كلمات مثل رواية وكاتب وأديب. فأصبح حاتم بوابة المعرفة التىجذبتنى إلى عوالمها السحرية، وكنت بالنسبة له الهدية التى أرسلتها إليه السماء كى يعلمها فنون الأدب، خاصة بعدما لاحظ عدم اعتراضى على يده التى تتسحب على جسدى}ص53.

فاصبح كل ذلك هو البؤرة التىساهمتفى تكوين الشخصة غير السوية، الشخصية المهزوزة {لا أعتقد أننى كنت المنتصر فى يوم ما، ولا أننى أمليت شروطى على أحد ، الجميع كانوا يملون شروطهم علىَّ، ولم يكن أمامى سوى أن أستجيب، كانوا يعشقون ضعفى، مدركين أننى لن أخرج عن قوانينهم، لذا كانوا يحموننى بقوتهم، فكنت أصعد، ودائما كان الصعود طريقى، وكلما شعرت  أننى لا شئ، كلما كانوا يمعنون فىتصعيدى أكثر}ص55.

كما كان تحول السارد، من دعم التيار الإسلامى، للوقوف ضده، منطقيا أيضا، بما يتمشى مع طبيعة الشخصية، بصرف النظر عن القناعة الشخصية، أو الرجوع إلى الحق، أو أى مبرر، غير أنها مالت إلى حيث تكون الكفة أرجح، فقد اصبحت الكفة الأرجح هى الجانب المدنى- كما تسميها الرواية، والغلبة لهم. فكان التحول منطقيا، فى رؤية الرواية للشخصية، فضلا عن منطقيتها من الوجهة الواقيعة، التىحرصت عليها الرواية –أيضا-.

ومن الأمور التى تُحسب للكاتب، أنه رغم تسمية كل شخوص الرواية – تقريبا- إلا أن الوحيد الذى تُرك دون تحديد اسم له، هو السارد، الذى لم يرد حصره فى شخص محدد –رغم إمكانية العثور على أمثاله فى واقع الحياة- إلا انه أردا له الانفتاح على المجتمع بصفة عامة.

كما كانت البدايات –كذلك- هىالتى ساهمت فى تكوين شخصية "إنعام" الشريكة الأولى فى مسيرة السارد. تلك التى بدأت من "مربع الشر" كما يصف الكاتب منطقة وسط البلد، والتى تحتوى الكثير من قهاوى ومراكز لقاء وتجمع (مثقفى) البلد، ومن يمكن تسميتهم بالنخبة{نفس المكان الذى كنت أجلس فيه مع نادر عزمى وعصابته، تطور المقهى وامتد بالطول والعرض، وحمل لافتة الأدياء والمثقفين}. خاصة أننا نلمح معالم تلك القهاوى الشهيرة. فكانت البداية مع احتضان "بثينة" ل"إنعام" {وعلى إحدى مناضد الممر الطويل تقاسمت بثينة ساندويتش الفول مع إنعام. وجلست فى صحبة نساء فى نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، بعضهن كن كاتبات، وأغلبهن غير متزوجات، فكرت إنعام فى المصير الذى ينتظرها، ولم يطل تفكيرها كثيرا، فسرعان ما قررت "بثينة" العودة إلى البيت، وفى صحبتها هناء الممثلة التى حصلت منذ عامين على مشهد ممرضة فى فيلم هابط، وسعاد التى تعمل فى جمعية الأرامل والمطلقات، ونعيمة عاملة الكوافير الحريمى، والملقبة بصاحبة الأيادى الناعمة}ص157. فكانت تلك هى البيئة الحاضنة لبدايات "إنعام" الانحرافية {تلك التى تعلمت وصارت تجيد القفز على الأسلاك، فهى مع الجميع، وضد الجميع، بنفس القوة ..... إنعام موهبوبةفى الإدارة، كائن سريع التعلم، ربما ليست مبدعة، لكنها تعشق الاهتمام بالتفاصيل، ولديها ذاكرة حديدية فيما يخص الوجوه والأماكن والمواقف والكلمات الشهيرة}ص242. فكان الارتباط بينهما، وكأنه القدر الرابط بينهما {التقينا فى الزمان الخطأ، لذا فنحن نجاهد من أجل أن نشعر أننا أخوة أكثر من كوننا زوجين، فلا أنا رغبتها الأكيدة، ولا هىرغبتى الأولى، لكن ليس أمامنا  سوى أن نكمل الطريق معا}ص224.

العناوين والأسماء

مثلما كان الكاتب حريصا على النفاذ لما وراء الأحداث، فى سرد متمهل، وشامل لفترة من أخصب فترات التاريخ المصرى، فقد كان حريصا أيضا على اختيار العناوين والأسماء الدالة، والتى لا تخفى بقدر ما تعلن عن رؤيته، وشهادته لتلك الفترة. فعنون الجزء الأول من الرواية ب"الفقد" حيث تعرفنا على فقد السارد - فى هذا الجزء - الشرف، والانتماء، والاتجاه. بينما جاء الجزء الثانى منها تحت عنوان "الاستعادة" وكأنه يستعيد كل ما فقده فى الجزء الأول. معضدا ذلك باسم الممرضة، والزوجة الثانية "صباح" بما يحمله الإسم من حمولة دلالية، والتىى أتت له بالمولود (الأمل فى الغد). بينما كانت الزوجة الأولى، والشريكة "إنعام" وكأنها تعبير عن فترة الصعود التى اعترف انه لم يكن له فضل فيها، بقدر ما كان (إنعاما) وعطايا من تلك الجماعات التى اشترت كل شى، الولاء، والدعم، والرأى، وكأنها تِأْثِر وتمتلك بما تُنعِم به على رعاياها. بل إنه لم يغفل كل التيارات، الداخلية والخارجية، بالإشارة إليها بما ينطق بمدلولها،الواقعى، كوزير المخابرات التركى، وصولا إلى الرئيس التركى ذاته، ووزيرة الخارجية الأمريكية "هيلارىلينتون"– صاحبة فكرة الفوضى الخلاقة-، و(الأمير نايف) الذى يشير إلى قطر، والعلاقة بالواشنطن بوسط الأمريكية، وقناة 24 الفرنسية، ومعهد شارل ديحول، وغيرها من الإشارات التى تشير للتدخلات الخارجية التى تم الاتفاق بينها وبين الجماعة، بما يفيد بإختراق البلد فى هذه الفترة، والتى تخيلها الكاتب وعبر عنها باختراق السارد، وشذوذه.

الواقع والمتخيل

رغم وجود الكثير من التفاصيل، بالرواية، التى كان يمكن الاستغناء عنها، حيث بدت عبأ على تلقى الرواية، إلا ان الكثير من الأحداث المعاشة، ساهمت فى عملية إعادة التذكر – بكل تقاصيلها- خاصة لمن عاش تلك الفترة الحيوية، الأمر الذى زاد من إحساس الواقعية التى جاءت عليها. غير ان ما أضافة الكاتب من قدرة على التخيل، ممزوجا بتلك الواقعية، وهو ما جعل الفصل بين الجانبين، الواقعىوالتخيلى، يتطلب الكثير من التأمل. وقد كان من تلك الأمور،ذلك المزج، وتعدد الرؤى حين الصعود بالحب المادى (المنفر) إلى الحب العذرى( المحبب): حين بحث السارد عن (رفيق) فى باريس، للتعرف على نوادى المحبين:

{وجدتنى أقول (قلبىيحدثنى أنك مُتلفِ)[2]، قلتها بصوت ما بين حديث النفس وحديث الآخر. ولدهشتى وجدته يرد علىَّ(نفسى فداك عرفت َ أم لم تعرفِ)، حينها ارتجف قلبى، ليس لأن صوته أجش، ولكن لأنه يتحدث العربية ويعرف سلطان العاشقين. حين وجد الدهشة غمرت وجهى غمز لى مغنيا (أنت القتيل بأى من أحبته.. فاختر لنفسك فى الهوى من تصطفى)}ص232. حيث بينما السارد يبحث عن الرفيق، بحثا عن الإشباع المادى، يظهر سلطان العاشقين، بما يوحيه من عشق روحى، وكأنه الصلة التى تصل الإنسان بالإنسان. فلا نعرف أى الروابط ربطت بينهما، أهو الاحتياج المادى، أن الصلة الروحية. كما أن ورود النص الصوفى على لسان السارد، لم يكن دخيلا أو مفتعلا، حيث أن السارد مثقف كبير يكتب المقالات والدراسات، فضلا عن أنه صاحب مركز ابن طفيل.

وفى رحلة أخرى نحو جبل المقطم، كانت الإشارة إلى صعود السيارة - إلى جبل المقطم- ذات جناحين: الأولى (الواقعية)أنها موقع مركز الإرشاد لجماعة الإخوان. والثانية (التخييلية) للمرور على مسجد ابن الفارض(سلطان العاشقين) والذى يلقى بظلاله على الحالة، حيث كان ابن الفارض – أحد رمزة الصوفية -مؤمنا بوحدة الوجود، وما أدى بالصوفية إلى رؤية ما لا يُرى، فجسدوا الله، وتحدثوا بعشقه. فكان العشق(الذى يحياه السارد هنا) وكأنه إذابة الفوارق، الذى يقونا لإذابتها بين الرجل والمرأة، ليندمجا فى واحد. فيقودنا عشق الجسد، فى عمومه، إلى عشق الحياة، فى عمومها. وكأنها عملية تبرير لذلك العشق الجسدى المثلى، الذى يعيشه السارد، وكأنه ما ارتكب خطأ، ولا خطيئة. ليعود بنا إلى ظروف النشأة التى جعلت منه هذا الكائن المثلى، وتلك الحالة التى عاشها عشقا للآخر.

الزمان والمكان

لم يقتصر الصراع- فى الرواية، وفى الواقع- على الصراع بين قطبى القوة والتنظيم، وإنما امتد أيضا إلى المقابلة الزمانية، المرتبطة بالوجود المكانى. ومن خلالهما، كان التحرك النفسى للشخصية الساردة،والتى بدأت بتأمل المكان فى زمن كان، وزمن كائن. وانتهت – الرواية – بتأمل ذات الشخصية، تأملا داخليا، تأمل الذات، وكأنها تحركت – معنويا- من الخارج للداخل، أى أن الذات تقوقعت على نفسها، وكأنها انسحاب إلى الذات، أو ما أسميناه من قبل "الهروب الاحتجاجى". وهو ما يعكس حال الخارج وأثره على الداخل. وهو ما يعكس –فى الواقع – حال كثير ممن اصابهم اليأس من المشاركة فى تلك اللعبة التى ليسوا مهيأين للدخول فى دواماتها. ليبرز من جديد انفتاح الخاص على العام. فتبدأ الرواية بما يعكس ذلك التضارب، وعدم اليقين، بتلك العبارة التى كانت البداية، وتكررت قبيل النهاية. وكأنها تطوق العمل بأكمله: { لا شئفى التاريخ واضح كما نعتقد، فكل حدث له أكثر من رواية ومصدر}ص9 ، ص348. وكأن الكاتب يهئ قارئه للدخول فى تلك المتاهة – التاريخية- وإعترافا بأننا بإزاء حكاية التاريخ. والتى– بالضرورة، يحولها إلى رواية له، وخطاب للزمن.

ثم يعكس التغير الزمانى، الناطق على الجدران، وكأنها لوحة الزمن، كيف كان، وكيف هو كائن{هذا النوع من العمائر المنتشرةفى وسط القاهرة يجذبنى إليه، أشعر بكم كانت الحياة جادة وبها ضمير....}.وحيث يعود بنا الكاتب من جديد، إلى فترة تسعينيات القرنالماضى والعشرية الأولى من هذا القرن، يعود إلى منطقة وسط البلد، التى كانت الرواية فى تلك الفترة قد ركزت- معظمها- فى تلك المنطقة، كرمز للقلب من الجسد، وكرمز لمنطقة (الحكومة) التى يُحَمِلها سوءات الحاضر. والذى أشار إليه فى مواضع عديدة من الرواية، مثل{ لا أعرف كيف لمسئول حكومى أن يجهز حمامه  بكل هذه الروعة والفخامة..... وتذكرت كم هو شديد التأنق ، تذكرت بعض اللذين كان يرافقهم فى (سنين) حياته، أغلبهم من الطبقة الراقية}ص16. وحيث يشير إلى أن ذلك البذخ (الحكومى) لم يكن من قبل سوى فى الطبقة الراقية، وكأنها إشارة إلى التحول الطبقى، الذى صاحب ذلك التغير فى السلطة، السابق الإشارة إليه، والذى يكشفه أيضا ذلك التطواف التاريخى {خرجنا من شارع المناضلة التى طالبت بخلع الحجاب فى أربعينيات القرن الماضى، ودخلنا فى شارع أبو الاقتصاد المصرى، دُرنا حول تمثاله فيما يشبه دورة كاملة قبل أن ندخل فى شارع قصر النيل، ومنه إلى ميدان الحرية والتحرير، ثم عبرنا الكوبرى فى اتجاه الفندق الشهير}ص19. ليصل لحد المباشرة فى الإشارة إلى كيف وصل غيرنا بالعمل، وكيف ظللنا فى مكاننا، إن لم يكن سيرنا للخلف، حين المرور على الأوبرا المهداة من اليابانيين {"تصور أن اليابانيين أرسلوا فى سبعينيات القرن التاسع عشر بعثة إلى مصر كى يعرفوا أسباب نهضتها" ضحك العلايلى قائلا: "لم يكن أحد يتوقع حتى منتصف الثمانينيات أن تخرج الصين من مستنقع الجهل والفقر والمرض، لكن أين هى الآن وأين نحن الآن؟}ص19.

       وهكذا حملنا صبحى موسى، عبر سرده التلقائى، السلس، والذى وضعنا فى بؤرة التاريخ الجمعى، من خلال التاريخ الشخصى، خلال زيارة ل"نادى المحبين". لنقف أمامه حائرين، أهى حكاية التاريخ، أم رواية الشخصية. هل هى بكل هذه البساطة، أم انها الرؤية المعمقة؟ فلا نملك إلا القول بأنها السهل الممتنع، وهى الرؤية السطحية لباطن البئر، هى الشهادة للتاريخ، وهى الشهادة للرواية التى أصبحت "ديوان العصر".

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

 

[1] - صبحى موسى- نادى المحبين – سما للنشر والتوزيع – ط 1   2021.

[2] - ابن الفارض -  الديوان العصر الأيوبى{ شرف الدين ابن الفارض. أشعر المتصوفين. يلقب بسلطان العاشقين}