أوقف المفكر المصري نبيل عبد الفتاح معظم مؤلفاته على دراسة التركيب البنائي الشديد التعقيد للدولة المصرية في تجليها الديني والاجتماعي والسياسي. وذاك بداية من الثورة التحديثية التي بدأها رفاعة الطهطاوي في عهد محمد علي، مروراً بالحقبة الليبرالية الملكية، ثم الحقبة الناصرية وحتى أيامنا، عبر نقض المعايير شبه الجبرية التي أسَّس لها متطرفون وغلاة ومراكز استعمارية ومستشرقون وغيرهم. وهو موقف حاول عبد الفتاح تجذيره في جل كتبه. لكن الشمول الذي أتى عليه كتابه الجديد "تفكيك الوهم... مصر والبحث عن المعني في عالم متحول" (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة) يبدو استعادة لثلاثة كتب مهمة وشديدة التأثير بين مؤلفات عبد الفتاح، وكذلك شديدة التأثير في الفكر السياسي والاجتماعي على الصعيدين المصري والعربي. تتبدى أهمية الكتب الثلاثة في أنها ما زالت تمثل إجابة عن أسئلة ملحة في واقع لا يزال يشهد العديد من الالتباسات بسبب ثقافة الاستبعاد والإقصاء وغياب الحوار، كما يتبدى في الأول "خطاب الزمن الرمادي"، والثاني "عقل الأزمة"، ثم التناول العميق والجذري للحركة الإسلامية في كتابه المهم "الوجه والقناع".
لكن ونحن نتحدث عن إعادة نشر هذه الكتب الثلاثة في كتاب واحد لا بد أن نشير إلى أن تلك الكتب صدرت في بداية التسعينيات، ونفدت كلها بعد أن لاقت حفاوة بالغة وباتت جزءاً من الدرس السوسيوثقافي في معاهد العلم وخارجها. غير أن عبد الفتاح يقدم كتابه الجديد بمقدمة ضافية، تأتي على قدر عالٍ من الأهمية. فهو يبدأ من اللغة كتعبير عن المؤسسة الحاكمة التي تبدو غالباً مؤسسة محافظة تلجأ إلى تديين اللغة، ومن ثم تقاوم كل حركات التجديد الإبداعي والفكري بدوافع الخوف المرَضي على الهوية. غير أنه يشير إلى أن هذا الوضع ينتج في مجال العلوم الاجتماعية واقعاً اصطلاحياً مشوهاً، رغم أنه ربما يحلل ظواهر مستقرة.
اللغة الانتقالية
يدعو عبد الفتاح إلى ابتكار ما يسمى باللغة الانتقالية مع اللغة الما بعدية، التي واكبت التحول السياسي والثقافي في الفكر الحديث. كما يتطرق إلى قضايا شديدة الخطر والأهمية؛ على رأسها وظيفة القانون واستخداماته لدى الدولة عبر إعادة بحث مضامين فكرة العدالة وتطورها التاريخي وإساءة استخدام المؤسسة التشريعية باعتبارها تعبيراً عن مصالح قوى اجتماعية مهيمنة. كل هذا لا ينفصل عن مسارات مفكرنا في جل كتبه. ولعل كتابه "تجديد الفكر الديني" يبدو الأكثر عصفاً؛ لأنه الأكثر تحديداً وتأسيساً. وأول ما يمكن أن يلحظه المتابع لأعمال عبد الفتاح أن منطلقه لفكرة التحديث ليس اعتماده على تطوير الفكرة الدينية نفسها، كما يذهب تيار ما يسمى باليسار الإسلامي: الجابري، ونصر أبو زيد، وحسن حنفي، وعلي مبروك، وطه عبد الرحمن، ومحمد أركون، وغيرهم.
من هنا تبدو أطروحات عبد الفتاح أكثر تماساً بفكرة ما بعد الحداثة؛ لأنها الأكثر راهنية، ولأنها تقدم الواقع على ما عداه من نصوص. وهو في كتابه يبدأ من المنطلق نفسه حيث تشريح العقل النقلي والاتباعي باعتباره آلة إنتاج الماضي. ويشير إلى العنت الذي لاقته محاولات التحديث. ويتعرض لفوضى المصطلح الذي عانى منه الفضاء العام في ظل مناخات من التجهيل وانعدام الكفاءة. كما يرصد دور الدولة في الاستخدامات السياسية للدين وتوظيفه على غير وجه باعتبار الدولة ما زالت تمثل السلطة المهيمنة. ويرصد كذلك النكوص الذي انتهت إليه ثورة التكنولوجيا، إذ يرى أن المؤسسة الدينية؛ سواء مثَّلتها الكنيسة أو الأزهر، طمحت إلى صياغة المصطلح الذي يربط الدولة الحديثة بالمرجعية الفقهية، وهو طموح يراه محكوماً بالفشل؛ لأن الدولة الحديثة لم تنهض على الصراع العقائدي بل على تفتيته لصالح فكرة المواطنة كأساس للصياغة الجمعية للمستقبل.
يتناول عبد الفتاح أيضاً ظاهرة شديدة الأهمية وهي فكرة "سوق الدين" أو تصدير الدين، وذلك عبر تحويله من مُعطى أخلاقي إلى مُعطى تسويقي تنطبق عليه قوانين الدعاية حتى لو لم يكن ممثلاً لحقيقة اجتماعية في الأماكن المعدَّة لـ"العزو".
من هنا يبدو لباس السلفيين موضع احتفاء، وقمصان جماعات "هارـ كريشنا"، بثوبها الزعفراني موضع إعجاب. ينطبق ذلك على البوذية والهندوسية والصوفية وجماعات العنف وغيرها. فالأصل هنا إعادة صياغة نظام الاعتقاد بحيث ينفصل عن المكان الذي نشأ فيه ومن ثم يصبح صالحاً للتداول والاستعمال في الأماكن التي تبدو غريبة عنه، وهو نمط من الوعي تفرضه الثقافة المهيمنة وتضطر ثقافة المغلوبين إلى التكيف معه.
هنا يبدو التقارب الشديد في تصورات المؤلف بين نتائج العولمة ونتائج الاستعمار.
بين الثقافي والديني
الصراع لا يستمر فقط بين الثقافي والديني، لكنه أيضاً ينسحب على الصراع مع العلمانية حتى في أعتى قلاعها. مظاهر ذلك لدى الأصوليين الإسلاميين تتبدى في تعزيزهم فكرة الاغتراب داخل مجتمعاتهم باعتبارهم يمثلون "المسلمين الصالحين".
ولطالما نبَّه عبد الفتاح إلى ما سماه "بيئة التدهور والعجز" التي أنتجتها الأنظمة السياسية بعد أن ترهل البناء ووصل إلى أقصى مراحل فساده قبيل سنوات عديدة من ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأظنه لم ينته بعد.
ومن يعود إلى كتب عبد الفتاح؛ (سياسات الأديان، الحرية والمراوغة، الخوف والمتاهة، النخبة والثورة، واليوتوبيا والجحيم)، سيرى كيف أنه كشف عن المجازات اليومية التي مثَّلت طوفاناً من الانحدار على الخطاب السياسي، وهو خطاب ظل، حسب عبد الفتاح، فاقداً دلالته التاريخية من حيث استعادته عوالم ومعاني واستعارات وأزمنة أفلت أو وهنت أو لم تعد لديها الكفاءة على توليد المعاني. من هنا كان يرى أن الحالة المصرية سحقتها الأفكار الجمعية، لذلك ظل واحداً من دعاة تعزيز النزعة الفردية وصيانة المجال الخاص للفرد وحمايته والذود عنه في مواجهة السلطتين المادية التي تمارس العنف غير المقنَّن، والمجازية، التي تقوم على توسيع نطاق التحريم لتوسيع مجالات عملها وتحقيق المزيد من الإخضاع للفرد والقيمة الفردية.
وقبل 2011، بسنوات ليست قليلة، نبَّه نبيل عبد الفتاح، عبر أكثر من مؤلف، إلى جرائم التخريب المنظَّم للأمة والدولة المصرية الحديثة. وكان على رأس ما حذر منه كارثة توريث الوظائف، التي أتصور أنها تعاظمت على خلفية محاولة التأصيل لمشروع التوريث السياسي. وقد وصف عبد الفتاح الظاهرة بأقسى التعبيرات، بحيث رأى أنها ليست أكثر من "برطلة مملوكية". وكان يشير تحديداً إلى تحول الصفوة الحاكمة إلى مفهوم يتجاوز الحكومة على يد من أطلقوا على أنفسهم صناع "الليبرالية الجديدة".
وتأكيداً لمفهوم جون ديوي عن الحرية التي يجب أن تحرسها دولة القانون، فإن عبد الفتاح كان يرى أن ضمانات الانتقال إلى نموذج أكثر ديمقراطية تتطلب القضاء على مراكز إنتاج الفساد والاستبداد بمعنييهما السياسي والاجتماعي.
إن من يقرأ تنبؤ عبد الفتاح بمصير النظام السياسي المصري قبل يناير 2011 سيتأكد من رجاحة المقدمات التي ستظل شاهداً حياً على النهاية التي تجاوزت الدراما الإغريقية من فرط سوداويتها.
عن (اندبندنت عربية)