خصصت مجلة الجديد في عددها السابع والثمانين لشهر أبريل 2022 ملفا كاملا يحتفي بالفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر وتجربته الفنية، تحت عنوان "ظل الخطوة في أرض أخرى – رحلة نهارية صحبة يوسف الناصر"، وضم الملف نصا كتبه الفنان بعنوان "مطر أسود" وشهادات لشعراء ونقاد في تجربته، وحوارا معه يفتح فيه عوالم انشغالاته وأعماله وأسئلته الفنية.

يوسف الناصر: شفرة اللوحة يمكن تحويلها إلى كلمات

 

مجلة الجديد: فنان عراقي يقف على حافة الضوء ليلتقط المطر الأسود. من بين جميع التشكيليين العراقيين يعتبر الفنان يوسف الناصر أقرب أبناء جيله من الشعر، والأدب بصورة عامة، فثمة في جميع أعماله فضيلة الشيء الناقص الذي تتمتع به عادة أعمال الفنانين القلقين، وهو ما يجعل مغامرته في عالم الرسم أقرب إلى عوالم الشعراء التجريبيين. ويتجلى هذا المعنى في موضوعات لوحاته ومناخاتها وكذلك في علاقات اللون في رسومه، سواء أكانت على سطح قماشي أم كرتوني أم ورقي أم خشبي.

ثمة شيء مالانخولي يطبع الحالات التي تعبّر عنها لوحته، وهي غالبا ما تتشكل من عناصر تحمل عين المشاهد على السفر في مخيلته الشخصية، تدعوه إلى تذكر شيء من أحلامه القاتمة، وربما كوابيسه، حتى لكأنّ الناصر يؤلف في لوحته كوابيس تجعل من لوحته عالما أوتوبيوغرافيا بامتياز.

تلك هي اللوحة الفنية وقد ضربتها لوثة الأدب، واستفحلت فيها أوهام وتصورات، وجعلت ريشة الفنان من عمله مساحات لتضارب الأفكار أكثر منها مساحات للانسجام. فالعناصر التي تتشكل منها اللوحة والمنظور الذي يقدمها لنا، لا يملكان أيّ استعداد للحوار المساوم مع العين. ولعل سيرة الفنان المنفي من بلاده والمسافر في جغرافيا الكوابيس الإنسانية عبر المدن، وقد احتضنت كوابيسه الشخصية، إنما تحمل لنا الأجوبة عن الأسئلة التي تثيرها فينا مشاهدة أعمال معرضه اللندني الأخير، كما كان الحال في معارضه العديدة التي أقيمت إن في لندن حيث يقيم أو في غيرها من العواصم الأوروبية، على ما تشكله تلك المعارض عبر عقود ثلاثة من تنوع في المواضيع والصياغات والمواد الفنية.

الرسم والشعر

 لوحات الفنان وتخطيطاته عن مدينة دمشق كانت متعته في ممارسة تمرينه الأكاديمي الذي تعلمه في بغداد.

عن سؤال المجلة، في علاقة بأعماله الفنية واشتغاله على رؤى أقرب إلى رؤى الشعراء، وتحديد لموقعه كفنان تشكيلي عن المسافة بين التشكيل والشعر، وكيف تتراءى له هذه المسافة عبر الخيال الفني؟ وكيف تتجسد في أدوات الفنان التشكيلي؟، يقول الفنان الناصر: "ما كنت يوما بعيدا عن الشعر، بل لطالما كان جزءا أساسيا من حياتي ويومياتي وتكويني الثقافي، منذ صباي المبكر إلى الآن. كنت أحفظ مطولات الشعر العربي في طفولتي، يأسرني إيقاع الكلام ونغمات الصوت أكثر من المعاني التي لعلّي لم أكن أدرك أغلبها، لكن يبدو أن ذلك لم يكن مهما أمام سحر الكلام وتأويلاتي الخاصة لما أقرأ، فلم يكن هناك من يرشدني خارج المدرسة، ولم يكن في بيتنا كتاب من أيّ نوع.. كانت المكتبة الحكومية التي افتتحت آنذاك في محلة الماجدية بمدينة العمارة جنوب العراق هي المأوى الدائم لمجموعة من الصغار، كنت بينهم، وخصوصا في أوقات البرد والشتاء والمطر، في البداية لم يكن ذلك حبا بقراءة ما هو أكثر من مجلات الأطفال، وهروبا من الأوضاع البائسة لبيوتنا الفقيرة وأزقتنا الموحلة، ثم تطور الأمر تدريجيا، وكان أكثر كتب المكتبة في التراث والشعر والأدب، وفي المدرسة الابتدائية، مثلا، كان عليّ أن أقرأ قصيدة صباح كل خميس، على ما أذكر، في اصطفاف المدرسة وتحية العلم، كنت أقرأ قصائد سهلة الفهم مثل قصيدة أبي القاسم الشابي “إذا الشعب يوما أراد الحياة..”، حتى زهق منها مدير المدرسة يوما وطلب منّي أن أحفظ قصيدة أخرى للأسابيع القادمة، فلم أجد غير قصيدة “بشر بن أبي عوانة في مصارعة الأسد” التي لم أتوصل إلى الكثير من معاني مفرداتها إلى اليوم. سألني الشاعر صلاح نيازي عندما سمع مني بعضا مما لا أزال أحفظه من أبياتها، هنا في لندن “أين عثرت على هذه القصيدة؟ وأضاف ضاحكا، لا أظن أن هنا من يتذكرها غيرنا نحن الاثنين". في المرحلة المتوسطة والثانوية كنت أعدّ نشرة حائطية فصلية عن الشعر، ورغم أني توجهت إلى الفرع العلمي من الدراسة، إلا أني قررت يوما أن أتعلم عروض الشعر، وهكذا درسته منفردا من كتاب اشتريته من مكتبة في منطقة العشار بالبصرة وكان عنوانه “ميزان الذهب”. ولما أدخل العروض كدرس أساسي لطلاب الفرع الأدبي كان ذلك مثل كارثة حلّت على الجميع، فصرت أساعد الطلاب على تعلمه خارج ساعات الدراسة، وكان مما يثير حنق بعضهم ممن استعصت عليهم ألغاز العروض، أني كنت أدرس في الفرع العلمي، إلى أن هجم عليّ بعضهم ممن لم يكونوا يفهمون لغز العروض هذا، ثم طلبت من مدرس الأدب إعفائي من المهمة بعد توتر الوضع وتعرضي للاعتداء. كنت، ولا أزل، أكتب الشعر وأشارك في مهرجانات المدرسة، وبعدها أكاديمية الفنون والجامعة، وفي بغداد كان اتحاد الأدباء هو مقري الدائم وليس جمعية الفنانين التشكيليين، وكان معظم أصدقائي من الشعراء لا من الرسامين، ولا يزال الوضع كذلك إلى اليوم، حتى أن صديقا شاعرا معروفا كان يردد "يوسف شاعر ضلّ طريقة إلى الرسم". إلا أني لا أعتبر ذلك ضلالا، لا مسافة عندي بين الشعر والرسم ولا أيّ فن آخر، المسافة في الشكل الذي يخرج فيه الشعر أو الرسم أو الموسيقى وفي طريقة تلقّيها، في الأداء والصورة التي تظهر بها وكيفية وصولها إلى المتلقي، وهي كالمسافة بين البصر والسمع والكلام، تبدأ من مواضع مختلفة، لكنها تلتقي جميعها في الدماغ، وأظن أن مهمة الرسام الأساسية هي أن يدرك طبيعة المادة التي يعمل بها وأن يكون سعيه الدائم باتجاه الواقعة البصرية الخالصة، فالرسام يعمل في الأشكال والسطوح والألوان وليس بالكلمات أو النغمات، لكن الاعتراف باستقلال البصر في ثقافة يتسيّد فيها الكلام، مثل ثقافتنا، ليس بالأمر اليسير".

وعن سؤال الجديد حول معرضه الأخير، حيث اللوحات تتراوح بين الألوان والتشكيلات الحلمية القاتمة وبين مطالع ألوان خفيفة أو شبه خفيفة بعضها أقرب إلى التخطيطات الرائقة..، يحكي الفنان الناصر: "ما يراه بعض الأصدقاء والمهتمين عتمة، لا أراه كذلك. ألوان مقتصدة ومتسللة بهدوء، نعم، والمعرض عنوانه “حافة ضوء”، لست شجاعا بما يكفي ولا متيقنا من الضوء كاملا مهيمنا سعيدا، ولم أرد أن أبقى حبيسا لوساوس القسوة وهواجس الأذى وقد تجرعتهما في حياتي بما يفيض عن طاقة شخص. ثم إنه، وهذا هو المهم، ليس عندي فهم ومعنى للون خارج اللوحة. عندما نتحدث عن الرسم، اللون يكتسب صفته ودوره من علاقاته بالألوان الأخرى على الورق أو في قماشة الرسم. أرسم باللون الأسود مثلما أرسم بأيّ لون آخر في أيّ إنشاء. رسمت مرة سلسلة من لوحات عن بساتين في يوم ربيعي مبهج، طافحة بالألوان والضوء، لكنها كانت حقولا جرى فيها قتل أناس كثيرين. قبل أيام رأيت فيديو لصحافي يعرض صورا التقطها لحقول جميلة في ساحة حرب في أوكرانيا، ويعلّق بقوله إنه لم يكن يعلم أن هذه المناظر ساحرة الجمال هي في الحقيقة حقول ألغام وكان على وشك الدخول فيها. أقصد من كلامي هذا أنني لم أرسم تلك البساتين بالأسود والرمادي ودرجاتهما استنادا على الفهم المسبق الشائع عن معنى السواد لكي أصل إلى صورة الأذى، وبالمقابل لم أتجنب رسم ما هو جميل ومفرح بأيّ ألوان أخرى بما فيها الأسود. الفنان هو الذي يعطي الاسم الجديد للون والصفة المبتكرة له، وإلا فلا معنى للعملية كلها وسيكون لدينا قاموس ذو معان محدودة للألوان، وشفرة للوحة يمكن تحويلها إلى كلمات، وطبعا ذلك لا يعني أن ظلال الفهم المسبق للألوان محذوفة تماما من لوحاتي أو لوحات الآخرين، فهي ضمن موروثنا الثقافي وتربيتنا الروحية والاجتماعية، رغم أني أذكّر نفسي على الدوام بأنني بصدد إبداع شيء جديد في عملي الفني، وابتكار أسماء جديدة، وأن هذه هي مهمتي الأولى.."