يكشف الكاتب اللبناني وهو يقدم ديوان هذا المفكر النهضوي الريادي الذي يُجمع لأول مرة فيما يبدو، عن أحد الجوانب المهمة في إنجازه المعرفي، كشاعر موهوب آثر الخروج بالشعر من إهاب العواطف والانفعالات إلى الرؤى الفكرية والتأملات الفلسفية والعلم، فاتحا بذلك أبوابا جديدا للشعر العربي.

شبلي شميّل بين العلم والشعر

تحت مجهر فارس يواكيم

الحسام محيي الدين

 

أظنه الحس الريادي ما يجمع فارس يواكيم المؤلف المسرحي والناقد، المترجم والصحافي إلى القيمة الكلية لِمُخرَجات السيرة الذاتية لشخصية المُفكر والشاعر اللبناني شبلي شميّل (1850 ـ 1917) في كتابه الصادر حديثاً عن الفرات للنشر والتوزيع بعنوان «ديوان شبلي شميّل» في طبعته الأولى 2022 حيث التقطَ بإرادة صلبة وفضولٍ علمي المُنجزَ الأدبي لهذا الرجُل في مُصنفٍ غير مسبوق، يُؤولهُ شاعراً ويخرجهُ إلى ساحة النور بعدما ظل دهراً في حيز الظل، كَرجُلِ علمٍ وفلسفة مُثيرٍ للجدل في أذهان الناس.

يبتدر الكاتبُ الكِتاب بإهدائه إلى نُجباء بلدة كفرشيما من ضواحي بيروت بوصفها ولادتهم بين الأدب واللغة والموسيقى والشعر والغناء، بدءا بمشايخ آل اليازجي (ناصيف وإبراهيم وخليل) وانتهاءً بماجدة الرومي، متوسطاً بينهم باسم شميل قبل الدخول إلى حقائق جديدة تتعلق بمنجزه الشعري، عطفا على حيثيته الثقافية كمفكر علماني مثير للجدل.

شبلي شميل هو الأخ الأصغر والأخير لخمسة إخوة يكبرونه، برعَ معظمهم في حقول العلم والثقافة بألوانها، بين الاقتصاد والحقوق والفلسفة، فلم يتأخر عنهم في اجتياز مرحلتَي الأساسي والثانوي باجتهادٍ، إلى دراسة الطب في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية حالياً) في بيروت التي تخرج منها عام 1871 مُتجهاً إلى فرنسا لإتمام دراساته العليا، فإلى إسطنبول، ثم عائداً إلى لبنان حتى عام 1875 الذي غادر فيه إلى مصر نهائياً فأقام فيها حتى وفاته.

مارس شميل الطب خمس سنوات في مدينة طنطا، ثم القاهرة مستقراً فيها، يبسط آراءه الفلسفية التي كانت ترجمةً وافية لتأثره الكبير بنظرية داروين العلمية، مما نشره في مجلة «الشفاء» الطبية التي أصدرها عام 1886ولسبع سنواتٍ متتالية، عطفاً على عشرات المقالات الأدبية التي نشرها في مجلات «المقتطف» و«الهلال» وفي «البصير» التي أصدرها رشيد شميل ابن شقيقه، داعياً إلى فهم العلوم بأنواعها وأهميتها في تطور المجتمع، مُبدياً آراءه في جماليات الشعر وممكنات النثر. إلى ذلك كان شميل مترجماً مُتمكناً جداً عن الفرنسية إلى العربية، ومن الجهابذة المعدودين في اللغة الفرنسية، كما يؤكد معاصروه، فترجمَ شعر راسين الموزون إلى العربية المُقفاة على الوزن الخليلي، نعني مسرحية «إيفجيني» التي جعلها بعنوان «فيجينيا في أوليد» بلُغةٍ عالية الدقة وشِعريةٍ موصوفة كما يقول يواكيم، تؤكد موهبته في الشعر. كما ألف مسرحية شعرية هي «المأساة الكبرى» (صدرت في مصر عام 1915) تناول فيها الحرب العالمية الأولى بأهوالها ومصائبها.

وإذ يؤكد يواكيم أنه استقى مادة كتابه من معاصري شميل، فإنه يطالعنا بدَفْقةِ معلوماتٍ جديدة عنه توازي في أهميتها الجانب الأدبي الذي هو أُس فكرةِ إصدار هذا الكتاب/ الديوان، ولا يمكننا إغفالها بما هي مدخل إلزامي لفهم حقيقة هذا الرجل، التي تنبثق عن كينونته كمُفكر علمي وعلماني من الطراز الأول. فهو مُبتكِر مصطلح «النشوء والارتقاء» الذي أورده في معرض تفسيره لنظرية داروين «أصل الأنواع» عام 1884 ضمن ترجمته كتابَ «ست محاضرات في شرح نظرية داروين» للألماني بوخنر، عطفاً على وضعه ثلاثة كتبٍ علمية هي: «فلسفة النشوء والارتقاء» «الحقيقة، مباحث علمية اجتماعية» وكُتيباً بعنوان «آراء الدكتور شبلي شميل» (1912) الذي ضمنهُ شعاره «الحقيقة أنْ تُقال لا أنْ تُعلَم فقط».

شميل أيضاً صاحب مبادئ رياضية ترتبط بالمادة «فلا بصَرَ بلا عَين ولا فِكر بلا دماغ» يؤمِنُ بأن العلوم الطبيعية التجريبية البحتة هي أم العلوم البشرية الحقيقية، وأنها الخالدة التي ستبقى في سبيل تجدد الانسان وصَقْله قياساَ على علوم الفلسفة والكلام واللغة واللاهوت والقانون والآداب التي ستصبح جميعها مع الوقت أوهاماً لا طائلَ تحتها، بذلك الاعتقاد المثير يُمكنُ فَهم شميل اشتراكياً على المذهب الفرنسي، يحترم الدين لكنه يدعو إلى فصله عن السياسة، ويبتعدُ من رجاله بوصفهم عقبةً في تطور الإنسان، ما فجّرَ الخلاف العَقَدي مع أغلبهم، وأدى إلى محاربته دينيا، بل وشيطنتهِ كَرَجُلٍ غريبِ الأطوار والتصرفات، مما لم يتأثر به، بل سلكَ طريقه العلمي إيماناً منه بصدق ما يقوله ويكتبه، شاداً أزرهُ باحترام وثقة الكثيرين به من أهل الأدب والعلم كالمُفكر الإسلامي محمد رشيد رضا، تلميذ الشيخ العلامة محمد عبده، الذي كان صديقاً كبيراً لشميل، يجل استقلاليته وأخلاقه الحسنة، ويعدهُ مِنْ «طلاب الإصلاح المدني والتجديد المخلِصِين، لا من الذين اتخذوا العلم ذريعةً لجمع المال ولا وسيلةً للجاه» بل ومُشرعاً له الباب ليكتب في مجلة «المنار» (مارس/ آذار عام 1908) مقالةً بعنوان «رأي الدكتور شميل في القرآن والنبي». في السياق، لم يتأخر جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهم من رجالات النهضة في الشرق عن تقريظ شبلي شميل بوصفه رجل علمٍ وفكرٍ وأدب ومناقبية عالية، فقال فيه الشيخ خليل اليازجي:

تُدعى الشميل تصغيرَ الشمول على              وجهِ التلطف والتحبيب في الكَلمِ
وما الشمول إذا ما رُمْتَ نسبتها           إلا ابنة الكَرْمِ يا ابن الجودِ والكرمِ

وَعَى فارس يواكيم أن المستوى المعرفي لشميل ساهم جداً في بناء ملكته الشعرية الواسعة والعميقة، التي امتد عنها أكثر من خمسين نصاً عمودياً نُشرَتْ في حنايا المجلات والجرائد في عصره، فاندفع في جمعها وتحقيقها بعمق ودقة، إلى تنضيدٍ سليم يرتبُ القصائد باختلاف موضوعاتها وأطوالها، وعلى مستويات ثلاثة من النظم: القصائد الكاملة، المقطوعات (قصائد قصيرة) والأبيات المنفردة لخدمة فكرةٍ علميةٍ ما، هي كل ما وصلَ إليه مُحققُ الديوان من ذلك الميراث الشعري بِنًى ورؤيةً، حتى لحظة إصداره.

فقَبْل ما يزيد على مئة عامٍ سابقة، قدم شميّل آراءه النظرية في مسألة الشعر العربي سالكاً سبيلاً حداثياً في تحميل الأخير نظرةَ معانٍ اجتماعية تُعنى بوجود الإنسان ومصيره، ذامَاً الشعراء المُدعِين ممن يقولون ما لا يفعلون، طالبي التكسب وراغبي التزلف للحكام وأصحاب المال، وربما «لاستعطافِ الحسان وهن يقابِلْنَهُم بالإِعراض» مُقرراً أن الشاعر هو من يحمل قضيةً إنسانية/ اجتماعية/ تاريخية مُحقة يريد الانتصار لها، وموائماً المعنى مع جمالية الأسلوب، لا الاكتفاء بالمُحسنات وزخارفِ المُفردات. بهذا المعنى اكتنز شعر شميل كثيراً من البلاغة التي خدمتْ نصوصه، على الرغم من طابعها الفكري كما في قصيدته «صدى النفوس» التي هي في الأصل بحث علمي في نظرية أصل المخلوقات. ما رأى فيه عباس العقاد انحيازاً كبيراً إلى شخصيته العلمية وظلماً لشاعريته، في حين أنه كان أقدر على العطاء الأدبي «لو راضَ قريحته على معاني الشعر وعباراته لولا شدة تعصبه للعِلم.»

غير بعيدٍ مِنْ مي زيادة، التي وإنْ نوهتْ بأسلوب شميل واستحسنته فقد رأتْ أنه «يُعلمُ الشعراء التحول في الشعر، يكتبُ بفكره فقط». لقد فلسفَ شميل رؤيته الشعرية عند هذا المستوى مُؤولاً العالم من حوله معرفياً لا عاطفياً شعورياً، مما تمظهر فيما يمكن تسميته معاناة وجودية، ألهبتْ أرَقَهُ العَقَدي الذي اشتغلَ بين العِلم والشعر، وهو ما يفسرُ إعجابه الكبير بأبي العلاء المعري الذي يرى فيه «فيلسوف الشعراء قاطبة» وكان له معه مُطارحات فكرية كثيرة أهمها معارضته لمقولته الشهيرة «هذا جناهُ أبي عليّ وما جنيتُ على أحَد» حيث يقول شميل :

فلو ارتضيتُ بما جناهُ
أبي علي وما انفردْ
لم أشْكُ إلا دهرَنا
وبذاك تعزيةُ الولَدْ
لكنْ جنيتُ أنا عليّ
وما جنيتُ على أحدْ

تُوفي شبلي شميل ولَما يزلْ في قلب الثقافة النهضوية المشرقية، ورثاه عديدون من أعلام الثقافة والسياسة والأدب كيعقوب صروف وحافظ إبراهيم، وقال فيه خليل مطران مؤبناً:

لانتْ صلابُ العزائمْ
وانبت عقد العظائمْ
يا من مضى عن ثناء
ملء النفوس الكرائمْ
جرتْ بها فُلْكُ نورٍ
على الدموع السواجمْ
سَقَتْ ثراكَ غيوثٌ
مُخضلةٌ بالمراحِــــمْ

 

عن (القدس العربي)