من السّطر الأول من رواية "عرس الديدان" الى آخر محكيّاتها يصطدم القارئ بطوفان من الأمكنة والشخوص، والأزمنة والمرويّات الملتصقة من بعيد أو قريب بتفاصيل الواقع. هذا الأخير كان رصده قويّا وعنيفا في بعض الأحيان. إنه المنظار الوحيد الذي استعان به الكاتب لإعطاء الكثير من الصّدق لواقعية الأحداث، والأشياء والإشارات، ممّا ساعده أكثر على الحفر الانثروبولوجي المؤسس لرؤية روائية تنهال من سلطة الواقع دون أن تستطيع تكيّيفه فنيا وجماليا. وبهذه الرؤية الغارقة في عنف الواقع انغمست الرواية في خيار واحد يبتعد ضمن سيروراتِه الحكائية عن التخيّيل والإبداعية كآلية من آليات السرد الروائي. فبهذا الفراغ التخييلي سمح لحسن حداد للواقع ببُروز استثنائي يكشف شغفه بالبحث الأكاديمي الذي يكسّر كل جماليّات الشعرية في النص الادبي.
لقد اسقطت هذه الرؤية الرواية في نمط السرد التسجيلي المهتم أساساً بالتداول الواقعي للأحداث والناس كمسْروداتٍ تستقصي الحدث والواقع بمنظار الانثروبولوجيا وعياً وثقافة وأنماط حياة. ولم يكن نهج الكتابة هذا، راجعا الى مصادفة او انزلاق لا ارادي نحو الواقعية، بقدر ما كان الامر اختيارا اساسيا للكتابة الروائية لدى المؤلف. إن الانفلات الوحيد الذي يُخرج رواية (عرس الديدان) عن توجهها البحثي الخاص، هو تلك المشاهد الدافئة، والوقفات الحالمة التي يتجرد فيها الكاتب من عباءة الأكاديمي، ليرى العالَم بمنظار الروائي المترف فلسفات ورؤى (فالحزن البادي على وجه محجوبة يجعل جمالها أقرب إلى ممثلات أفلام الابيض والاسود التي مازالت تعرض في سينما أبي الجعد./ في السحر والجمال. ص:51).
إن هذا الدفء "اللفظي" واللحظات الشاعرية المنفلتة من معجم لحسن حداد يُثبت مدى قابلية الكاتب لأن يتحول قلمه الى منبع لكل الدفق التخييلي، المبتعد عن التعرية السطحية العنيفة للواقع ونتوءاته الحادة. ولأن الامر لا يتعدى أن يكون انفلاتا نحو شعرية مأمولة، لم تستطع الرواية ملامسة البعد التخييلي للكتابة، وأن تصمد امام الحاح واقعية الاشياء الصغيرة من أسماء ومشاهدات وامكنة، وتبئير انثروبولوجي.
إنّ الكاتب كان خاضعا لضغط واقعية الاحداث، وهو ما جعله ينخرط كليا في واقعية هذا المسار واصفا تارة، ومعاينا أخرى. وبالتالي، لم يكن من اليسير عليه التخلص من فيض هذه التراكمات المعرفية التي تبدو في حلة اشياء صغيرة لا يزيدها السرد الجاف ومتوالياته إلا بروزا خشنا يملأ المكان والزمن الروائيين. إن هذا الكم الكثيف من التفاصيل الصغيرة والاشارات المتواترة على امتداد الحكي، خلق للرواية قالبها الواقعي المتجه نحو صرامة اللغة الاكاديمية الواصفة بدقة: (الكوشة عبارة عن حفرة عمقها حوالي متر ونصف تم بناء سور دائري حولها يبلغ علوه حوالي ستة أمتار/ كتاب قويدر، ص. 86)، بدل الاتجاه نحو حرية الابداع وشغبه، وايحاءاته.
فلم يكتف لحسن حداد بالإشارات الواقعية فقط، بل تعدى الامر احيانا، الى الاشتغال على تقنية التحليل المخالف تماما لسلطة السرد الابداعي، بل وفي بعض الاحيان، رام الشرح المبسط البعيد عن اشراقات وصفاء النص الادبي. انها تقنية التحليل العلمي التي تسير في تضاد واضح مع عفوية استرسال المد الروائي وشعرية تجلياته اللغوية. إن هذا الاداء بكل بساطة، يعصف ببلاغة الصورة الادبية وايحاءاتها. إن الكاتب بدا مهتما كأي باحث مختص، بالتقاط التعاريف والشروحات التي تعتبر هامشية المقام في شعرية النص الأدبي، واقحامها داخل منظومة عمل فني بالأساس، من المفروض، أن يخضع في صلب معماره للتكثيف والمراوغة الذكية والخيال السلس الذي لا يلغي بالمطلق، شرعية النظرة الواقعية للأحداث.
إن خاصية البحث الأنثروبولوجي الصارم المطبق في ادارة المسح الميداني لأشياء الواقع الصغيرة التي غذت انساق كتابات لحسن حداد، ألغت بعضا من روافد التخييل وجمالياته. وبالتالي، حرمت الكثير من القراء متعة التماهي مع صدق قضايا وانفعالات (عرس الديدان)، ولذة تمثلات صوره. غير ان المتخيل الوحيد الذي أسهم في تخفيف ضغط الواقعية هو هروب النص الروائي في كثير من تقاطعاته نحو الماضي. إن هذا اللجوء المنفلت من راهنية اللحظة كان السبيل المُفضي الى اشاعة نوع من الدفء في نصوص المحكيات الغارقة في كثافة المباشر. لقد كان بإمكان الكاتب استغلال زهو الماضي في تشكيل صورة مفعمة بالحنين والانفعالات الضاجة بالحركة والتنوع. بيد أن صرامة طرح الموضوع أكسبت لغة (عرس الديدان) دلالات لغوية مباشرة أغرقتها في وتيرة النمطية النّهمة التي لا تتورع في التهام اخضر التعابير ويابسها، دون التمييز بين ما قد يصلح لمشاهد الواقعية البحتة، وما قد يصلح لحالات المتخيل الرومانسي.
إن الاستناد الى روافد المنهج التقريري، خارج لعبة اللغة الشعرية وتداولاتها المتعددة، حوّل جمالية الاشياء الصغيرة المكونة لعنصر أحداث المحكي، إلى نتوءات بارزة في جسد النص، أساءت بواقعيتها الخارجة عن السيطرة، لمجمل البنى الفنية للرواية/ عرس الديدان. إن الشيء المهم الذي تم إغفاله من طرف الكاتب، هو أن من طبيعة اللغة أن تتكيّف مع الوعاء الذي تصب فيه. وبالتالي، فتساميها، واستعمالها الجمالي لا يضعف من اهمية واقعية الاحداث. بل بالعكس، فكل لغة طيعة متجردة من مألوف التداول، تضفي تميزا اخر على موضوع العمل، وترفع من إمكانية تأويلاته وإقرائه، وتعدد رؤياه.
فبفضل اللغة المرنة والاقرب الى الايحاء، تنبعث واقعية الاشياء والمحكيات، في أشكال بهية وملامح أبهى. فالواقع في صوره الخشنة لا يستهوي القراء إلا ضمن نصوص أدبية مصاغة باحترافية مطلقة يحتل فيها الشق الإبداعي الجهة المقابلة للجانب الواقعي، في تواز ملفت وساحر. إن الأكثر إيلاما في النص، أنّ واقعيّة لحسن حداد أحرقتْ سحر التماهي مع أجمل لحظات الغوص في ملامح الحلم وآفاقه المتشعبة. فعالجتْ العودة إلى الماضي الدافئ بنفَس سردي جاف لا يحتمل إلاّ رؤية واحدة محددة البوصلة والاتجاه، وهو ما كرّس بحقّ، النفس الانثروبولوجي في النص لغة وتداولا.
* طالب باحث سلك الدكتوراه/ جامعة سيدي محمد بن عبد الله - فاس.