يكشف لنا الناقد السوري المرموق هنا عن الدور المهم الذي لعبه الكاتب الروسي الشهير في تأجيج النزعة القومية الروسية، وفي ترسيخ البنية الفكرية التي تأسس عليها غزو بوتين لأوكرانيا من منطلق روسي شديد المحافظة. لا تدعمه مسيرة بوتين السياسية فحسب، وإنما الكثيرون من مثقفي المحافظين في أميركا نفسها.

سولجنتسين: أنبياء اجتياح أوكرانيا

صبحي حديدي

 

ثمة جانب مرتبط بالاجتياح الروسي العسكري في أوكرانيا لا يتكشف كما ينبغي له، أو على الأقلّ لا يتصدّر السجالات حول الأبعاد القوموية الكامنة عميقاً في قلب الاعتبارات التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اتخاذ قرار الاجتياح. ذاك الجانب هو المناسبات العديدة التي شهدت توافق، وتطابق، عدد من كبار المحافظين وأهل اليمين والقومويين في روسيا والغرب، على نكران حقّ أوكرانيا في الاستقلال، أوّلاً؛ وحقّ حكوماتها المتعاقبة في الانضمام إلى الغرب عبر الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي، ثانياً.

ولقد بلغ الأمر أحياناً شأو اعتماد مراجعات تاريخية أقرب إلى تحريفات نظيرة، على نحو أو آخر، لتلك التي يقوم الغرب ضدّها ولا يقعد إذا تجاسرت على تدقيق وقائع الهولوكوست بصفة خاصة ومحددة، أو حتى حصرية؛ على شاكلة التشكيك في المجاعة المعروفة باسم «هولودومور»، أو «مجاعة الإرهاب» أو «المجاعة الكبرى» في تسميات أخرى، التي ضربت الاتحاد السوفييتي عموماً، وأوكرانيا خصوصاً خلال أشهر 1932-1933 وأسفرت عن وفاة الملايين جوعاً. وأن يأتي النكران من جهة ستالينية، جامدة في العقيدة كما في قراءة التاريخ، أمر يختلف جوهرياً عن مجيئها من رجل مثل ألكسندر إيساييفتش سولجنتسين؛ الروائي الروسي (السوفييتي، سابقاً)، الذي تربّع ذات يوم على عرش «الرمز الأعظم» للنضال من أجل حرية التعبير في الاتحاد السوفييتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي؛ الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1970 بتأثير الترجمة الإنكليزية لروايته الأولى «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي كانت قد صدرت بالروسية أوّلاً، في موسكو، وبقرار شخصي من نيكيتا خروتشوف.

وصدقٌوا أنّ أوّل من استهدفهم سولجنتسين بالهجوم الشديد، من منطلق نكران الشطر الاوكراني من تلك المجاعة، لم يكن سوى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن؛ الذي سافر إلى كييف، وشارك الرئيس الأوكراني يومذاك فكتور يوشنكو تدشين نصب تذكاري لتخليد ضحايا المجاعة. كانت الولايات المتحدة هي الموطن الثاني الذي اختاره سولجنتسين بعد مغادرة الاتحاد السوفييتي، لكنّ النزعة القوموية لم تتكفل بإعادته إلى موسكو، وإعلان تأييده للرئيس بوتين الذي ردّ التحية بتقليده أحد أرفع أوسمة روسيا، فحسب؛ بل صبّ جام غضبه على بوش، لأنّ الأخير صادق على «أكاذيب» الغرب حول المجاعة، وجاءت غضبة «الروائي الكبير المنشقّ» ضمن مقال اختار أن ينشره في صحيفة… «إزفستيا«!

وقارئ تصريحاته، بعد عودته المشهودة سنة 1994 إلى «روسيا الجديدة» كما سارت تسمية تلك الأيام، لا يُلام إذا خال أنّ سولجنتسين ما يزال على قيد الحياة، في قلب موسكو، خلف بوتين، مطلق الحماس لاجتياح أوكرانيا: الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تسعى، في يقينه، إلى تطويق روسيا وحرمانها من سيادتها، ليس عن طريق الحشد العسكري جنوب البلاد وشرق أوروبا فقط؛ بل كذلك بمساندة «الثورات الملوّنة»، في إشارة إلى أوكرانيا البرتقالية وجورجيا الوردية. وإذْ أغدق المديح على بوتين لأنه يجهد لإحياء «روح روسيا»، شنّ سولجنتسين هجوماً عنيفاً على الزعيم السوفييتي الإصلاحي ميخائيل غورباتشيف لأنه استسلم للغرب، ولم يوفّر الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين لأنه واصل الاستسلام ذاته.

ولا يُنسى أنّ تلك الحصيلة تنتسب إلى انتهازي سابق ومنافق لاحق وديماغوجي قوموي حتى ساعة رحيله سنة 2008، صعد ذات مرّة على يد الغرب ذاته الذي عاد إلى قدحه والتشنيع عليه؛ ولم يكن ذلك الصعود نابعاً من عبقرية أدبية أو سجلّ كفاحي متميّز من أجل الحرّية، بل لاعتبارات كانت تخصّ المعارك الصغيرة التي اكتنفت عقود الحرب الباردة. وحين صدرت الطبعة الروسية من روايته الشهيرة «أرخبيل الغولاغ»، كان أمراً طبيعياً أن تتخاطفها الأيدي وأن تبيع ملايين النسخ؛ وأمّا حين أصدر كتابه التالي «روسيا المنهارة»، فإنّ الأيدي ذاتها لم تتخاطف أكثر من ثلث الطبعة، التي كانت خمسة آلاف نسخة أصلاً، في بلد شاسع واسع اعتاد القرّاء فيه على استهلاك الكتب بالملايين وليس بالآلاف.

ثمّ صدّقوا، إلى هذا، أنّ نفراً من محافظي هذه الأيام في الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، يواصلون الدفاع المحموم عن سولجنتسين حتى حين تُفتضح كلّ يوم أهوال الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا؛ أو، في ترجيح آخر، وكأنّ الحرب الباردة لا تُستأنف اليوم بمواضعات القرن الحادي والعشرين، بل بأعراف أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين. ففي موقع «المحافظ الخلاّق» يكتب جوزيف بيرس عن سولجنتسين بوصفه «بطل الحرّية الجسور في عصر التوتاليتارية»، و«ناقد الشيوعية الذي لا يخاف»، و«الصوت النبيّ»؛ ولكن، أيضاً، «ناقد الغرب الحديث والمتحلل أخلاقياً»، والرؤيوي الذي «لم يؤخذ على محمل الجدّ، كما هو مصير الأنبياء»! وليس أقلّ مغزى أنّ صاحبنا يمتدح تشديد سولجنتسين على يقظة الفلسفات القوموية، وكأنه يبارك واحداً من أبرز حوافز بوتين في اجتياح أوكرانيا.

وإذا صحّ أنّ عدداً غير ضئيل من أنبياء اجتياح أوكرانيا لم يتخرجوا من الكرملين أو أكاديميات الجيش الروسي فحسب، بل أتوا أيضاً من صفوف الرواية والشعر والتشكيل والموسيقى والفلسفة؛ فإنّ سولجنتسين أحد كبار هذا الصنف الأخير، ليس لأنه أعلاهم كعباً في الرواية والسرد والقَصّ، بل لأنه أكثرهم تمتعاً برعاية الغرب ودلال أجهزة الاستخبارات، قبل أعمدة الصحف ومجالس الأدب والفنون والفكر.

 

عن (القدس العربي)