الإهـداء
إلى مريم.
أستطيع أن أكون فذاً
في الكتابة عن الألم،
لكن شيئاً
لا أستطيع كتابته
عن السعادة
(1)
لم يكن أحد يعرف الجبل مثل أبي.
وكان الجبل يقوم على رأس البلدة من جهة الغرب، منذ أمد لا أعرف مداه على وجه الدقة. لكن طالما أن عينيّ تفتحتا عليه من البداية، وقد كان كاملاً وعالياً وعظيماً، تكسوه تلك الحُمْرَةُ التي تلمع في الشَّفَقِ، وتَهَبَه المهابة والقَدَاسة الدائمتين، فلابُدَّ أنه كان موجوداً منذ أمد بعيد. لا يعنيني في ذلك حساب تاريخه جيداُ، كيف هو ممتد في الزمن، فالأزمان السابقة مِلْكُ أصحابها فقط، أولئك الذين عايشوا أحداثها، وطعموا حلوها ومرها، مِلكُ الجبل وحده، من فترة التكوين وصولاً إلى ما ساعد به في إرساء قواعد الأرض، وما حَمل من فوقه من طير وحيوان وبشر وأسرار. أما أنا فليس لي من التاريخ سوى تلك السنوات التي أُعَايش أحداثها، وتجول ذاكرتي فيها مثل حصان جامح في الأرض البَراح، لا شيء يَحُدُّه، وليس من قوة تقدر على إيقافه أو توجيهه صوب ما هو محدد سلفاً واستقر الرأي عليه، ليس سوى الركض قَدراً لا يفارقني، ولا أبرحه حتى وأنا أجلس في مكاني هذا فوق الصخرة الحمراء على سن الجبل. ألهثُ وأحسُ الوجع في قدميّ، وجع الركض لأكثر من ألف كيلو متر بغير انقطاع.
عرفتُ الجبل من خلال أبي، ولم تكن معرفتي به معرفة السائح المُتَمَتِّع. كان أبي يجرني وراءه عصر كل يوم، بعدما يطوي حصير البلاستيك الصغير تحت إبطه، وفي يديّ تضع أمي زجاجة الماء وطبقاً مُغْلقاً على تمرات رطبة ومبللة من اليوم السابق. حينها يكون أبي عند باب البيت البَرَّاني، وأمي في مؤخرة الصالة، وأنا في المنتصف قريباً من أمي. وحينها أيضاً تقع تلك النظرة العميقة، المبللة بالدموع، والمتبادلة بينهما، أراها أولاً تنبعث من أبي حيث يكون في مواجهتي، نظرة آسية وآسفة كأن شيئاً لم يكن في يده، وحزينة باكية مثل نظرة موت حصل في حياة أخرى لم أَعِشْها معهما، وحين يبدأ وجه أبي في السقوط إلى أسفل كأنه ينظر الأرض، ويستدير في مواجهة الباب ليفتحه خارجاً، أستدير أنا جهة أمي لأطالعَ نفس النظرة على عينيها، لكنها مُثْقَلَة بدموع أكثر احتجزتها الجفون ومنعتْ سقوطها. كنتُ أشعرُ بها تكاد تبكي لأنها امرأة، وقبل أن أندفع نحوها – وبداخلي شعور الخوف والرهبة وعدم القدرة على فهم ما يجري – تأتي إليّ تُرَبِّتُ على كتفي، وتهمس في أذني كأنها توشوشني:
- احرص على والدك.
وتبتسم في وجهي، فأنطلقُ من وراء أبي خارجاً من البيت، وعابراً الحديقة في خِفَّة طائر الأرض
" أبو قردان " إذ يفرد جناحيه فوق الزروع هائماً في انسيابية عظيمة، بينما عينه ومقاره مُصَوَّبان إلى الحقول، باحثان عن حمايتها من الديدان الشريرة التي تجوس فساداً في جذورها. لقد عبرتُ بسرعة الصقر وقوته لألحق به في عَرْضِ الشارع، وأظلُ أسير من خلفه حتى نصل إلى شاطئ النهر، عندها نرتاح فوق جسد النخلة المقطوع والمَرْمِي بموازاة الشاطئ مثل " دكَّةِ " أُعِدَّتْ للجلوس، ننتظر قُدُوم المَعَدِّيَّة.
من مكاننا كان الجبل أمامنا في الجهة الغربية للنهر ـ تحت شمس العصرية التي لم تزل قوية وساطعة ـ يبدو جليلاً يقف في حِدَّةٍ وشموخ، وشاملاً يغطي كل الدنيا في وجهينا، وينتهي بِسِنِّ رفيعٍ وحَادٍ يمتد من الأفق إلى الأفق، ويحتك بجسد السماء كأنما ليقطع منه، ومن داخل المعدية إذ توغل بنا نحوه كان سن الجبل يزداد إيغالاً في جسد السماء، وارتفاعا فوقنا حتى لا نكاد نرى السماء بغير صعوبة، وبمزيد من الجهد والعنت في رفع رأسينا بحيث نشعر بذلك الوجع الذي يُصيب عظام الرقبة.
لم يكن صعود الجبل بالأمر الهَيّنِ، أحياناً كانت الصخور تختفي لتحل مكانها رمال ثقيلة، تُثْقِلُ الخطو وتُتعب الجسد، لكن أبي اعتاد ذلك، قدماه قد تدربتا على الارتكاز جيداً بحيث تميل إلى الخارج وتنبطح كلها فوق سطح الرمال، تجمع تحتها أكبر قدر ممكن يساعدها على الثبات، لقد بدتا مثل خُفَّيّ جمل عريضين وحانيين، وحين كان التعب يُدْرِكَني بحيث لا أستطيع التقاط أنفاسي، كان أبي يحملني مرة ونرتاح مرة، لكن إصراراً غريباً وعِنْدَاً مُرَّاً أحسستُهُما داخله يدفعانه نحو الاستمرار والصعود حتى نصل إلى قمة الجبل. وهناك كان السِنُّ الرفيع الحاد الذي نراه من بعيد يختفي لتَحُلَ بديلاً عنه تلك المساحة المستوية من الصخر الأحمر، يفترشها أبي بحصير البلاستيك ويجلسني إلى جواره، يُشير إلىّ واضعاً سُبَّابَته اليمنى أمام فمه ويَهُش في وجهي أن أصمت وأتأمل، فيما يذهب في تأملاته التي تمتد وتطول إلى ما بعد مغيب الشمس، متوحداً مع الجبل والصمت والارتفاع الشاهق وتلك المهابة الرائعة التي يقذفها الكون المترامية أطرافه من تحتنا، لكن ما كان يجعل قلبي يسكت وتختفي نبضاته بحيث أكاد أُشْرِفُ على موت محققٍ هو توحد تمتمته الخافتة المنسلخة من أصداء الأصوات الصاعدة مع صوت كنت أحسه يهبط من السماء، ويتردد صداه في فضاء الكون الأعلى من حولنا جليلاً ومهيباً وخاشعاً ومفترشاً المكان بسطوة عظيمة.
لم أستطع طوال فترة سَعْيي مع أبي أن أُميز تمتمته، كانت مثل صلاة رتيبة وخاشعة، تسبيح متقطع وباكٍ، ترانيم قبطية تأتي من بعيد، أو لعلها – كما أقنعتُ نفسي فيما بعد عندما عجزتُ عن الفهم والتفسير – طلاسم فرعونية أو سحرية تحتاج مَنْ يَفُكُ شِفْرَتَها، وكنت أنتظر دائما بصبر العنيد أن يَفُكَّ أبي لي شيئاً منها، ومع الوقت أحسستُ أنه يأتي تلك الأفعال الشيطانية مع الجن، وهو الأمر الذي يُكَذِّبه أبي دائماً لما يقوم إلى حافة الصخرة المُتْرِبَةِ، يضربها بكفيه ويمسح على وجهه وساعديه وظاهر قدميه ثم يدعوني إلى جواره للصلاة، قياماً وركوعاً وسجوداً حتى يمسني التعب فأجلس، وحتى لا أستطيع عمل شيء سوى مراقبة الرجل في صلاته وأذكاره، مُطالعة نور الإيمان المُنْسَل من وجهه شعاعاً من ضوء أبيض يصعد للسماء ويُنير الجبل من حولنا، حتى أنني أرى – من مكاننا البعيد هذا – على ضوء نوره أغواراً في صخر الجبل، أشبه بالخنادق الصغيرة تُطل منها رؤوس وعيون مفتوحة ولامعة لذئاب وأسود وثعالب وحيوانات أخرى لم أكن أعرفها، لكنها جميعاً تُطِل في صمت كأنها تسمع، وتنظر في خشوع كأنها تعي، وبين الحين والآخر عندما كان صوت أبي يعلو بالترديد والنداء في فضاء الجبل الأعلى، رافعاً ذراعيه عن آخرهما يزعق في السماء – كانت أصواتهم تأتي، ليستْ عواءً ولا زئيراً بل أصواتاً طويلة وممطوطة وهادئة، مثل نداء كلب في ظلام الليل المتأخر في الشارع الخالي وهو يرى الشيطان يمر من أمامه، أو لعلها أشبه بالترديد " آمين " الهادئ الطويل الذي يُطْلَقَهُ المصلون خلف إمامهم.
تقبع الخنادق الصغيرة في مكان يَسفلُ عن مكاننا فوق سِنِّ الجبل، وفي ناحية الجبل الأخرى المطلة على الغرب الصحراوي الشاسع بغير منتهى يقبضه البصر، وفي موازاة مكاننا على مسافة غير بعيدة – كانت عيناي تنسحبان صوب كهف آخر كبير، يبدو عميقاً من الظلمة التي تمتد داخله، وروحي تكاد تنسحب هي الأخرى لتجوس فيه، وكنتُ أستغرب ذلك دونما أن أعرف ساعتها بأن هذا الكهف الذي يرقد وحيداً فوق سِنِ الجبل هو نفسه المكان الذي سألتقي فيه مع سعادتي الأبدية، لم أكن أعرف أنه المكان الذي سيصبح شاهداً على أول لمسة ليد مريم، وأول قبلة من شفتيها الرطبتين والهشتين كجسد " تورته " تخرج الآن من فرن الحلواني، عيناي كانتا تحملقان في عين الكهف، والكهف يكاد يسحبني إليه، فأظل على حالي هذه مأخوذاً ومسحوباً، ولا يَرُدَّنِي غير ترديد أبي في الفضاء:
- الفِدْيَة، اِجْعَلها الفِدْيَة.
وبكاؤه المنتحب على عُمْرٍ سابق لم أعشه معه.
لم يكن أبي ينتهي من صلاته طواعية، بل كان يسقط مرتحلاً في غيبوبة طويلة وممتدة، يهمد خلالها الجسد وقد أضحي مُنْهَكَاً وتَعِبَاً إلى أقصى مدى، وتجف عيناه من الدموع المنهمرة، من أين يأتي أبي بكل هذه الدموع؟ وعلى أي شيء يسكبها؟ ويظلُ ساكناً حتى أخشي عليه من الموت، فأقوم إليه، أهزه في تؤدة ابن تَرَبَّي على الأدب الجم فلا يتحرك، أهزه عنيفاُ فلا يتحرك، وعندما أخاف من الموت بشكل حقيقي، وأخاف أن أرجع إلى أمي وحيداً بغير أمانتها التي وَضعَتْها بين يديّ، أبكي وتتساقط دموعي على وجه أبي خائفة ومرتعشة لكنها كثيرة بحيث تُشكل على وجهه حُفْنَةً من الماء العذب، ما إن يشمها أبي ويذوق حلاوتها على لسانه حتى تتسلل اليقظة إلى جسده وتنفجر على وجهه بسمة مُطْمَئِنَّةٌ وحانية وعميقة وكفيلة بأن تُعيده سيرته الأولى، أباً حقيقياً وعادياً مثل كل الآباء، يأخذني بين يديه طويلاً فأتمدد إلى جواره وفي حضنه حيناً من الوقت، أعرف خلاله أنني أُحب هذا الرجل، وأنني محظوظ بشكل كبير أنه أبي، حتى وإن بدت أفعاله غريبة وغير عادية أعجزُ عن تفسيرها وعقلنتها، إلا أنني أثق تماماً في امتلاكه المبرر لفعلها، وأنه مبرر كبير وقوي، وفي مصلحتنا ليس في ذلك من شك.
لم نكن نهبط مع ظلام الليل، بل حين يختفي من فوقنا – في الأعلى – شعاع الضوء الأبيض الضارب في حَدِّ الأفق هناك عند طرف السماء، وفي وسط العتمة – عتمة الهبوط – كان أبي يعرف طريقه جيداً، لم تكن تخطيء قدماه ولو لمرة واحدة، كانتا ثابتتين قويتين كأنما مكان رُسُوِّهِمَا يدعوهما للهبوط الآمن، السليم، وينضح – إذ تفارقه القدمان – بزرعٍ أخضر مُحَلَّي عند حدوده الخارجية بشريط من ضوء فسفوري يومض في العتمة من تحتنا على هيئة حذاء أبي، وأهتدي عليه وأنا أسير من خلفه ممسكاً بذيل جلبابه، ويتراقص السؤال أمام عينيّ، ما الذي يجعل رجلاً مثل أبي يتخلى عن حياته كلها ويلزم الجبل كل يوم؟!
كان أبي يمتلك حياةً كاملة، بيتاً مؤثثاً ومكوناً من طابقين بناه بالأعمدة الخرسانية والطوب الأحمر، خلافاً لمعظم بيوت البلدة الفقيرة المبنية بالطوب اللبن والطين، تتقدمه حديقة صغيرة أرضها نجيل أخضر، وترتفع فيها أشجار النبق والمانجو والفيكس، أشجار تُنْبِتُ زهراً برائحة طيبة وأخرى للظل، كنا نجلس تحتها نحن الثلاثة ومَنْ اجتمع معنا من أفراد العائلة في زيارة خاطفة، نأنس بظلها من صهد الشمس اللافح في الصيف، وتكون ملتقى لنا في نهار الشتاء قريباً من دفء الشمس، يضحك أبي وتجلجل ضحكته في الحديقة، فيُثْمِرُ زهر الشجر وتتساقط ثماره من حولنا.
كان أبي يمتلك حياة كاملة، زوجة جميلة لها وجه وَضَّاء في العتمة، وروح تحلق في سماء البيت فَتَسَّاقَطُ منها البسمة والفرحة ووهج الحياة، لم يكن ثمة رجل في زمنها لم يتمن السكون إليهـا لكنها هاجرتْ إلى أبي، وسكنتْ إليه، تُظلل منه القلب والبيت والحياة بأسرها، سَمَّاها أبي " هاجر " حتى نسيتْ اسمها الأول محبة خالصة له، وجعل يردد في كل مكان:
- لولا هاجر لهاجرتْ الدنيا من بين يديّ.
كان أبي يمتلك حياة كاملة، صديقاً وفياً، وابناً يبلغ الآن معه مبلغ السعي، عزيزاً عليه وقد أتاه على طول صبر، وعلى كِبَر من العُمر، ومَدْرَسَة يعلم الأولاد فيها كيف يمكن لهم حين يكبروا أن يصيروا رجالاً، وأن يمتلكوا زمام الحياة، كان بشوشاً لا تفارق البسمة وجهه وبين يديه حب الناس وتقديرهم، يقدمونه في الأفراح وفي الأحزان، ما من مشكلة إلا وكان حلها بين يديه، ما من رجلين تخاصما في حضرته، ولم تُطَلَّقُ امرأة كان وسيطها في الصلح عند الزوج، وحين أتم حفظ الكتاب صار إمامهم في كل مكان.
كان أبي يمتلك حياة كاملة، فما الذي يجعله يترك كل ذلك؟!
أي شيء عظيم في هذه الدنيا يمكن للرجل – حين يضع يده عليه – أن يتخلى عن كل شيء من أجله.
(2)
حدثتني أمي، وكنا جلوساً في صالة بيتنا عند أول الليل، فقالت:
كان أبوك "خالد الذكر" فتى البلدة الأول كما يقولون في السينما، شاب وسيم أنهى خدمته العسكرية وتم تسريحه بعد هزيمة النكسة، مجروحاً وقد أصابتْ الشظية ظهره إلى جوار العامود الفقري تماماً، بشوشاً ويعمل مدرساً لكنه متخم بالفلوس بما تركه أبوه من أموال وأراضيٍ تصلح للزراعة وأخرى للبناء، لم تكن من أسرة في البلدة إلا وتمنت زواجه من إحدى بناتها، وكل بنات البلدة تمنينه في نفوسهن وحلمن به، ومنهن مَنْ بذلتْ محاولات مضنية للوصول إليه، وكان أبوك في فتوته ومحتاجاً للسكن إلى امرأة، وقد دفعه ذلك لإقامة علاقات كثيرة كان يخرج منها بكف خاوية، كل النساء اللواتي عرفهن كن تواقات لأمرين فيه فقط، أمواله ورجولته التي لم تكن تخفي على عين امرأة، حتى وقع الأمر الجلل واهتزتْ البلدة في مساء يوم أطلق عليه الناس بعد ذلك "اليوم الأسود ". لقد انطلقتْ من بيت الشيخ موسى صرخة مدوية، بالتحديد من امرأته، وتصاعدت في سماء البيت وفضائه الرحب الذي لم يكن يشغله غير العتمة، ولأن الصوت يسري في الليل فقد اتسع نطاق الصرخة ليشمل البلدة كلها، كل الكائنات الحية من ناس وحيوانات وطير وجن قد سمعوها، حتى مَنْ كان منهم نائماً استيقظ على هلع مرعب من حجم القشعريرة التي رَجَّتْ أجسادهم إثر الصرخة وقادتهم إلى مصدرها، قادتهم على حالهم التي كانوا عليها، مَنْ يتسامر أمام بيته هَبَّ بنرجيلته وكلمته وضحكته، والنائم صحا يجري بلباس نومه، حتى النسوة خرجن بجلابيب بيوتهن الرقيقة الشفافة، وتجمعوا أمام بيت الشيخ موسى يتهامسون عن سبب الصرخة، ليضعوا أياديهم في نهاية الأمر على المصيبة التي حَلَّتْ بأهل البيت وجعلت امرأته تصرخ بعزم سنينها الخمسين وبكل صوتها، العذراء بنت الشيخ موسى هدأ سِرُّها لكن في الحرام، حامل بغير زواج والذي فعل ذلك أبوك.
لن تتخيل حجم الفضيحة التي تَلَبَّستْ أباك، ووَحَلتْه في طين لزج حتى الرقبة، حتى الشعور العميق بالاختناق وتمنى الموت جلباً للخلاص، فجريمة تمس العِرض والشرف في البلدة هي أعظم كارثة بمكن أن يُبتلى المرء بها، كارثة تودي بتاريخه كله وبكل المستقبل، لقد تغيرت نظرة الناس إليه، ذهب تقديرهم واحترامهم وجاءوا بِكُرْهٍ عظيم وبالبغض والإهمال، ارتدوا جميعاً لباس الشرف والإيمان وتفوهوا بالآيات والأحاديث كأنهم يتحدثون باسم السماء على الأرض، حتى طمعهم في أن يزوجوه بإحدى بناتهم ذهب، وكأن أحداً ما قد اقتلعه من نفوسهم اقتلاعاً لا رجعة له، لقد باتوا يتحاشونه كأن جرباً مَسَّه وراح ينثر عليهم بقعه الداكنة وحَكَّاتُه الموجعة، وكذلك تخلي عنه الأهل وصدقوا فيه الفاحشة رغم إنكاره وإصراره الدائمين على عدم ارتكاب الفعل مع بنت الشيخ موسى، لم ينقذه من التهمة حتى تصديق إسماعيل له، صديق الطفولة والشباب وأقرب الناس إليه، ولم يكن من حل في وجه أبيك سوى الزواج من البنت، فتحرك الوسطاء وجاءوا بموافقة الشيخ موسى، كان الزواج بديلاً عن قتل البنت، لكن أباك صرخ في وجوه الوسطاء، ووجوه كل أهل القرية:
- لن أحتمل خطيئة فعلها غيري.
وظل على إنكاره، أصر على عدم الزواج ولم يجد الشيخ موسي بُداً من قتل البنت فقتلها، وجدها الناس وهم يذهبون لصلاة الفجر أمام باب المسجد، كانت في وضع السجود لكنها مقطوعة الرأس، ومن تحتها سجادة من الدم.
تنازع الناس بعدها أمر أبيك، منهم مَنْ صَدَّق ارتكابه للفعل، خصوصاً مع تاريخه غير الملتزم وحبه للنساء وكثرة الفلوس بين يديه، ومنهم مَنْ صدقه ووقف باستغراب عجيب ومتسائل أمام إصراره على إنكار الفعل وثقته بنفسه في مواجهة كل الناس، وفي مواجهة تحدي الشيخ موسى له بالقتل وإطعامه نفس مصير ابنته، لكنهم جميعاً ظلوا على توجسهم منه وتحاشيهم لقاءه أو معاملته، فالجرب ظل ملتصقاً ولم تنزل إشارة من السماء لتبرئته، وكنت أنا مثل كل الناس أسمع الأقاويل المتطايرة، وأشاهد الأحداث التي تتوالى كل يوم، غير أن انشغالي بالأمر بدا زائداً عن الحد وأكبر من انشغال الفتيات في سني، من قبل كنا نتنازع فيما بيننا عليه، الحلم به والزواج منه، أي منا سيكتب القدر لها أن تفوز، وقد شهدتْ حنفية الماء حنفية الماء العمومية التي نملأ منها، وشاطئ النهر الذي نغسل فيه، صراعات شتى، أما الآن فقد بات الحديث عنه بيننا عيباً وخطيئة ليس لبنت شريفة أن تخوض فيه.
لقد حاولتُ مقاومة الأمر، قتل إحساسي به، وأد حب أشعر بنموه في أحشائي كل لحظة، لكنني عجزت عن المقاومة وعن القتل، وصرتُ كلما أحاول كلما أزداد وقوعاً في الأسر، داخلي كان صوت يهمس أنه بريء، صورته كفارس لم تزل تعلق في مخيلتي، وحلم الزواج منه لم يفارق مضجعي، لكنني لم أكن أجرؤ حتى على مجرد الحديث عنه مع إحدى البنات، حتى فاض الأمر داخلي ولم أستطع الصبر عليه، وبدتْ لي فكرة لقائه والحديث معه مغامرة يجب أن أخوضها كي أستريح، إما بالفوز به، وإما بالوقوع للصلاة على سجادة الدم.
عجز الشيخ موسى عن فعل القتل، كان كلما دبر للفعل يفشل، بعدها ملأ الخوف قلبه من عائلة أبيك فسكت، واشتهر أبوك في تلك الفترة العصيبة بالعزلة، صحيح أنها عزلة إجبارية فرضها الناس عليه، لكنه استسلم لها وأحبها لفترات طويلة، كان يعبر النهر إلى بيوت القرية الغربية القليلة والراقدة من أمام القبور أسفل الجبل، ويتعدى القبور صاعداً إلى ركن في الجبل العالي الكبير الأحمر، يجلس وحيداً يقرأ ويسرح في تأملاته ومأساته حتى مغيب الشمس، ويعود مع أول الليل حيث تكون القرية ساكنة وغارقة في النوم، أو النميمة المتوارية من خلف الأبواب الموصدة، يعبر النهر بعد العصر، نفس الموعد الذي كنا نغسل فيه، وفيما البنات تتوارين وتخبئن وجوههن عنه متحاشيات حتى مجرد النظر إلى وجهه، كنتُ أتعمد القيام بأية حركة صاخبة أو قول من شأنه أن يلفت انتباهه إلىّ، كان ينظر إلينا في حسرة وسخرية وغضب من فعل البنات، وكنتُ أتعمد النظر إليه وتثبيت عينيّ في وجهه حتى تنزلق قدماه داخل المَعَدِّيَّة، ولقد أفادني ذلك كثيراً وأدخل السعادة إلى قلبي ورمي بي خطوة نحو راحة البال، لقد أدركت من عينيه أنه بريء، فالعينان الغاضبتان عينان صادقتان لا يقربهما الكذب، الغضب هو الإحساس الوحيد القادر على إظهار شفافية النفس وصدقها، أو على أقل تقدير جَرِّها باتجاه الصدق واكتشاف حقيقة الأمور، أليس الغضب هو ما دفعني لمعرفة هل هو صادق أم لا في إنكاره الفعل مع بنت الشيخ موسى؟ وقد شجعني ذلك تماماً لما عقدت العزم عليه من لقائه والحديث معه.
كنتُ أغسل على شاطئ النهر، وكان يأتي نحوه مرتحلاً صوب الجبل، بدأت البنات في لم ثيابهن على أفخاذهن المكشوفة وتغطية وجوههن وسحبها في الجهة الأخرى بعيداً عنه، لقد تعمدتُ حين أتيتُ مع البنات أن أكون في أول الصف، فلما أتي أصبحتْ البنات جميعهن من خلفي وأصبحتُ أنا في مواجهته، ثَبَّتٌّ عيني عليه وبدأ ينظر إلىّ في سخرية وغضب سرعان ما تحولا إلى استغراب ودهشة، لقد رأيت السؤال ينط من عينيه، مَنْ هذه البنت التي تتحدى بنظرتها؟ وقد أعجبني ذلك كثيراً فيبدو أنني أفلحت في جذب انتباهه، وحين هززت رأسي له بدا مرتبكاً للغاية وتوقف لوهلة قصيرة كمن لا يدري ماذا عليه أن يفعل، ابتسمتُ وهززت رأسي ثانية فوقف في جمود صنم فرعوني قديم، تحوطه الجلالة والرهبة لكنه عاجز عن الحركة، ولوهلة أخذتني الشفقة عليه، شعرت تجاهه بأحاسيس متباينة، خليط من الحب الذي أستطيع الآن أن أصارح نفسي به، والخوف عليه من السقوط في هوة العزلة، ثم ذلك الإحساس الشديد ببراءته، هل لمثل رجل يهتز من إشارة فتاة أن يأتي بمثل هذه الجريمة مع بنت الشيخ موسى؟! البنت التي نعرف – نحن البنات – سيرتها الخفية وجرأتها وقدرتها على التخفي من وراء عمامة أبيها وعباءته، وقررتُ أن أمضي في هجرتي نحوه، أن أغوص في البحر تجاهه مهما كلفني ذلك، فخير للمرء أن يسير باتجاه مشاعره طالما جاءه ذلك الإحساس الداخلي الذي يخبره بأنه على صواب، أنه يسير على درب سليم، كوَّرت يدي اليسرى في قبضة واحدة وجعلت ألف بسبابتي اليمنى حولها، فهل سيفهم أنني أقصد الساقية؟ ثم أشرت لشمس العصرية وهززت رأسي بالنفي، ففهم أنني أقصد بعد المغيب، بدا متردداً للحظة لكنه هز رأسه موافقاً في نهاية الأمر.
يبدو الأمر جنونياً على نحو ما، أن تخاطر بنت بمقابلة رجل في مكان منعزل وتحت جنح الظلام بعيداً عن أعين الناس، وإذا أضفنا الشبهات التي تثور حول هذا الرجل فستبدو المخاطرة أكبر والجنون عظيم، لكن ماذا أستطيع أن أفعل في نفسي التي تهفو إليه؟ في حبه وقد امتلك مني القلب والعقل على غير موعد وبدون أدنى مناسبة، لقد كنت أحس القشعريرة تأكل جسدي كله، ويصيبني تنميل عظيم من مجرد التفكير فيه، حتى أنني ألجأ إلى حك أجزاء جسدي كلها كأن براغيث الدنيا قد تجمعت عليها، أنط وأفور، وأطلق تلك التنهدات
الحارة والعميقة التي تخرج من عمق بركان الجسد، والجسد يفور في شبق غريب لم أَخْبَره من قبل وكأن دودة ما تأكلني.
لا أعتقد أن المرء يقدر على امتلاك نفسه إذا أحب، وإذا كان المرء مجرد بنت فقيرة مثلي لا تملك غير أبوين أجيرين في أرض القرية حتى وإن احترم الناس أباها لكبر سنه، فإن الحب حينها يصبح بمثابة المخرج الوحيد من عنق الزجاجة الضيق، لقد بدا الأمر بالنسبة لي هكذا، أن أخلصه من عزلته وتهمته التي أُبتلِي بها، وأن يخلصني من الفقر والعوز والحاجة التي تذل النفس وتكسر العينين وتطأطئ الرأس إلى الأرض دوماً، وإن كانت المغامرة كبيرة قد تهبط فيها كفة الشرف والسمعة التي يتباهي الفقر بهما، فإنهما إن نجحت فستزيد منهما بكل تأكيد، وإن يبدو الأمر جنونياً على نحو ما فإن الجنون الحقيقي هو الاستسلام للفقر، الاستسلام لإيقاع الحياة الرتيب والممل والذي يلعب كلام الناس فيه دائماً دور البطولة.
نام أبي وأمي دونما مقدرة على نطق كلمة واحدة، كانا مهدودين من الفلاحة في الأرض، وبعدما لَقِما آخر نقطة فول في طعام عشائهما جعلا ينظران إلى السجادة المفروشة في الغرفة الداخلية كأنما يريدان الاستباق إليها، وحين وصلا ناما دونما كلمة واحدة في انتظار الفجر، قمتُ أحمل أطباق الطعام وأصنع في البيت صخباً عالياً على غير المعتاد، فلما لم تصدر منهما بادرة تدل على الحياة تأكدتُ من نومها فالتفحت ملاءتي السوداء أخرج من البيت.
بدت الساقية كبيرة ومهجورة وغائمة تحت الظلام رغم وجود القمر في السماء، لم يكن في انتظاري فجلست إلى حافتها الطينية وطال جلوسي حتى أنني شككت في أنه قد فهم الإشارة، لكنني أخيراً تسمعت لحفيف أوراق الزرع المجاور، علمني الفقر والأيام أن أتعامل مع الناس بإحساسي وقد أخبرني إحساسي في هذه اللحظة أنه هو لكنني تجنبتُ للحيطة، ففي أمور كهذه يجب على المرء أن يأخذ بأذيال الحذر حتى لو تأكد من إحساسه، خرج من الزرع وبدا كشبح يتحرك في الظلام نحو الساقية، لا أعرف إن كان القمر قد اختصه بنوره أم هو قلبي الذي أراه به قد سكب النور على وجهه فبان في الظلمة، لقد رأيته كما كنت أراه عند النهر تحت شمس العصرية، جلس في نفس مكاني متكئاً على حافة الساقية الطينية وقد طلعتُ له من الجهة الأخرى المتوارية خلف الحافة وخلف الظلمة مثل جنِّيَّة تخرج من عمق الأرض عبر ماء الساقية الراكد، المهجور، جِنِّيَّة بجسد أحمر وقلب كبير كما قال لي من بعد.
في العودة إلى البيت كلماته كانت تنير الطريق تحت قدميّ، وتُدْخِل الطمأنينة إلى قلبي، قلت:
- أعرف أنكَ بريء، إحساسي يخبرني بذلك.
وأقْسَمَ لي على صدق إحساسي وأنه لم يرتكب الفعل مع بنت الشيخ موسى، أنني أول بنت يواعدها بنية خالصة رغم ما يشيعه الناس عليه، ولولا هجرتي إليه لما حصل ذلك، لمسة يده حملتْ إلى قلبي محبته، وإلى روحي نفس القشعريرة وكأنني أنظر في بلورة سحرية وأرى نفسي في المستقبل عروساً متوجة، وفي البيت
كنت أريد إيقاظ أبي وأمي، وأن أصرخ في وجهيهما عالياً، ابتهجوا، أصدروا أصواتاً فرحة من أجلي، صوت الزغرودة الطويلة التي تخرج من القلب.
تعمدتُ من بعدها أن أتوارى عن عينيه، أن أجعل الجنون يركبه بحثاً عني في شوارع البلدة، وتلصصاً من حول بيتنا في آخر الليل، وعند النهر وتحت عباءة الظلام عند الساقية، لم أكن أريده أن يظنني بنتاً فقيرة وسهلة يمكن أن تتكرر معها مأساة بنت الشيخ موسي، حتى شاع أمره وأمري في البلدة كلها، وصار الناس يدعونه بالمجنون الجديد قياساً على تاريخهم البدوي، لكن حبه المجنون بي هذا هو ما جعل الناس يعتقدون ببراءته من جريمة بنت الشيخ موسي، ويدخلونها سجل النسيان التاريخي لحواديت قرية نائية تقطن بعيداً في جنوب البلاد، وفي ليلة تشبه إلى حد كبير ليلتنا الأولى أخبرني أن الناس يعزلونه عنهم وسألني:
- إذا تكلمتُ مع أبيكِ فهل يقبلني؟
ربَّتُ على يده في رفق وقلت في حَزْمٍ:
- ليس عليكَ سوى أن تكلمه.
كنتُ أعرف أن قبول أبي زواجه مني إنما يعني براءته في وجوه الناس.
وكان صادقاً في حبه، هزيمة النكسة ومحنة بنت الشيخ موسى وحبه المجنون بي زرعوا في نفسه الإخلاص والحكمة، بني من أجلي بيتاً جديداً من طابقين تتقدمه حديقة صغيرة، وصبر علىّ سنين طويلة كنتُ خلالها عقيماً، رفض كل نصائح أهله بتطليقي والزواج من غيري، أو حتى الزواج علىّ، راحوا يقنعونه بعدم تكافؤ الزواج من البداية وأن عليه اختيار بنت من عائلة ذات أصل ونسب، وراح يردد على أسماعهم:
- لا أهجر مَنْ هاجرتْ بنفسها إلىّ.
كان يمارس في بطء ويُلقي بداخلي القليل لكنني أبداً لم أشك في كونه السبب، رغم تأكدي من نفسي وبشهادة حكيمة الوحدة الصحية، سنين طويلة ومملة وموحلة بكلام الناس لكنه صبر كمن ينتظر معجزة من السماء، قال:
- ولم لا، وقد برأتني من قبل وأدخلتْ تهمتي وهزيمتي سجل النسيان.
وفي ليلة تشبه إلى حد بعيد ليلة أخرى تكررتْ بعد ذلك بست عشرة سنة أتاني من الخارج بمزاج رجل حقيقي، دعاني للخروج إلى الجبل ولبيتُ الدعاء، وجئتَ أنت بعد تجربة قاسية وممتعة إلى حد كبير بعدها بتسعة شهور مكتملة، فكنتَ قُرَّةَ عينه، سَمَّاك إسماعيل العبراني تماماً مثل اسم صديقه الشيخ، مَنْ وقف إلى جواره وصَدَّقَه من البدء إلى المنتهى.
حكتْ أمي كل ذلك وكأنها تحكي عن رجل آخر، أبي الذي كان قبل أن أبلغ معه مبلغ السعي، لكنها عجزتْ عن تفسير ما آل إليه من عُزلة فوق سن الجبل، عجزتْ عن تفسير إصراره على أخذي معه كل يوم رغم المشقة والعنت وحجم الإجهاد الذي أبدو عليه كل فجر ونحن نعود من رحلتنا اليومية.
قالت أمي:
لا أعرف شيئاً على وجه التحديد لكنها بدتْ ليلة فاصلة في تاريخ حياته، منذ خمس سنين عاد في منتصف الليل من الخارج بمزاج رجل حقيقي حتى أنه دعاني ولبيتُ النداء، وبعد عراك جسدينا الحميم استلقى إلى جواري على السرير، بدا الجو حاراً رغم الليل والمروحة التي تدور في السقف، لكنه كان عارياً ومرتاحاً تحت الملاءة الخفيفة التي تغطينا، يتنفس في هدوء وعمق وتمسح يده على شعري تُعيد ترتيبه من جديد، أغمضتُ عينيّ واستسلمت لهدوء الملاطفة حتى سكنت أصابعه فوق خدي، ولما طال انتظاري أن تتحرك فتحت عينيّ لأجده مغمض العينين وذاهباً في أعماق النوم في انسيابه، أنزلت يده إلى جنبه تحت الغطاء وأطفأتُ نور الأباجورة المجاورة للسرير فوق الكوميدينو وبدأت أستسلم للنوم أيضاً، كان جسدي كله مخدراً وتشمله قشعريرة لذيذة لم أُرِد لها أن تنتهي حتى بالنوم رغم احتياجي إليه فبقيتُ صاحية، كنت أتفاءل بالخير غير أنني لم أحبل مرة ثانية، لم أشعر بشيء يتحرك أو يطفو داخلي مثل المرة الأولى، بل كابوس في حجم كرة سوداء كبيرة ينزل من السقف ويهبط نحونا، لعلها لحظات قليلة التي قضيتها مترددة بين النوم والصحو ليغلبني الصحو بعدها تماماً إثر تحركاته وتقلبه على السرير، بدا فجأة كمن يتشاجر مع أحدهم وجعل يصدر تمتمات مبهمة لم أستطع تفسير شيء منها سوى جملة " لن أذبحه " وغلبه الصحو بعدها فصحا، مفزوعاً كان وعلي وجهه تجسد الرعب والخوف والفزع، نطق الشهادتين كثيراً جداً وشرب زجاجة ماء كاملة قام بعدها واغتسل وارتدى ملابسه، أخذتُه في حضني وربتُ على ظهره ورأسه، بدا خائفاً من النوم لكنه غلبه، وقد مرت نفس الفترة التي قضاها في نومه الأول ليبدأ الشجار والتمتمة من جديد، ولا أستطيع تفسير سوى نفس الجملة " لن أذبحه " ليستيقظ مرة أخرى بنفس الخوف والفزع، ضممته في عنف وهو يتشبث بي كطفل مرعوب وبات على صدري مستيقظاً حتى الصباح.
تكرر الأمر في الليلة التالية وفي عدة ليالٍ أخرى من بعد، على فترات تطول وتَقْصر، وحاله تتغير وتميل إلى الوحدة والاعتزال حتى عاودته سيرته القديمة وبدأتْ رحلات الجبل الليلية تماماً مثل بعد الهزيمة ووقت المحنة، وحيداً في أول الأمر ومصراً على اصطحابك معه من بعد إصرارا عجيباً.
قالت أمي:
- ماعدا ذلك لا أعرف شيئاً.
ولم أسأله مرة أخرى بعدما رفض إجابة سؤالي الأول، لكنه بدا بالنسبة لي كمن ينتظر شيئاً من السماء، معجزة/ إشارة/ رسول، لا أعرف، لو كنا في زمن النبوة لاعتقدتُ واعتقد الناس معي أنه نبي، لذلك سيبقي أمره غريباً ومثيراً للدهشة حتى تأتي الإشارة، أو يأتي أي شيء آخر من شأنه أن ينهي هذا الأمر، أن يغلق صفحته إلى الأبد، وأن نجد التفسير.
أنا صابرة، سأعد له زجاجة الماء وطبق التمر الرطب كل يوم، وسأقتل جسدي ألف مرة إذا حَنَّ إليه وهو مأزوم لا يقدر على الإجابة، عَلَّمني أبوك القراءة والكتابة، وصرتُ أعبر النهر معه كل يوم خميس، نقرأ ونتأمل ونمرح، ليس هو، لذلك أعرف أنه مأزوم، لكنني أعرف أيضاً أنني امرأته وأن علىّ الصبر حتى يرضى.
كان صوتها قوياً يترجرج صاعداً في فضاء الصالة، لكنه سقط فجأة بنفس القوة مرتطماً على الأرض، تماماً كما يسقط الليل الآن في وجه الشمس الزاحفة، وتحسه لن يعود.
وهذا نسب أمي.
لما كان مبروك ابن خمس وعشرين سنة كانت هوجة عرابي، ولما انتصر الإنجليز أخذوا في القبض على أنصار عرابي من الفلاحين، ففر مبروك – الفلاح الأجير – إلى بلاد الصعيد في رحلة استغرقتْ شهراً كاملاً، راكباً على ظهور حمير الناس الطيبين أحياناً، وسيراً على أقدامه أحياناً عديدة، حتى استوطن مدينة قنا، اشتغل بأعمال كثيرة إلى أن استقر الحال به أجيراً في أرض عبيد باشا، تزوج مبروك من أم الهنا وكانت بنتاً لأجير في نفس الأرض، وأنجبتْ له أحمد ومحمود وخديجة، عاش مبروك خمسين سنة ودُفِنَ في مقابر الصدقات التي خصصها عبيد باشا بجانب من أرضه لدفن الموتى من أُجرائه، ولما كان أحمد ابن ثلاثين سنة تزوج من آمنة وولدت له مبارك وصفية وفاطمة وسعاد، وعمل أجيراً في أرض مكرم باشا التي ورثها عن أبيه عبيد باشا، ولما كان مبارك ابن خمس وثلاثين سنة كانت ثورة يوليو التي أممتْ أرض مكرم باشا، غير أن مبارك لم يمتلك أرضاً من الأراضي التي وزعتها الثورة على الفلاحين، فبرغم اتساع مساحة أرض مكرم باشا إلا أن عدد الفلاحين الأجراء كان أكبر بكثير من إمكانية توزيعها لتشملهم جميعاً، ترك مبارك الأرض مغاضباً وارتحل إلى قرية المَعنَّى حيث الأرض الجديدة التي يعمرها الأغنياء القدماء بما استطاعوا أن يخبؤه من أموالهم، وقد ساعدتْ السيول المدمرة التي اجتاحتْ منطقة المَعنَّى بعد الثورة بعامين على اتساع مساحة الأرض المستصلحة، وعلى تدفق الناس إليها من كل البلاد المحيطة، بحثاً عن العمل والسكن والحلم في ذات الوقت بامتلاك الأرض، تزوج مبارك من حميدة وهو ابن أربعين سنة وولدتْ له أمي صفية التي دعاها أبي هاجر بعد زواجه منها، وقد امتدتْ حياة مبارك إلى ما بعد حرب أكتوبر، وما زالت أمي تعيش إلى الآن.
(3)
أحببتُ الجبل كما أحبه أبي، ولما كان الجبل كل حياة أبي فقد أضحي كل حياتي من بعده، وتترامي أطراف الجبل من تحتي ممتدة وموغلة إلى الأسفل في غور سحيق ومخيف، يتسع وتصغر صخوره الحجرية كلما نزل إلى الأرض، فيما تبدو الرمال مسطحة وفي استواء مرآة أحسن الصانع صقلها، لونها الأصفر الفاقع تتكسر من فوقه آثار أقدام كل التواريخ السابقة بكل ما حملتْ فوقها ـ وامتدتْ في الرمال تحت وطأة ثقله ـ من ناس لا حصر لهم، وجِمال بمواكبها المبهرجة، وخيول بفرسانها الأشاوس قطعوا طول الأرض ولم يسعهم عرضها، وحيوانات برية ووحشية أكلتْ وأُكلتْ، ولم يبق لهم من تاريخ سوى آثار أقدام متكسرة فوق رمال مستوية، لم تزل الريح تأتي بحبيباتها الصغيرة من كل صوب بغية طمس المعالم كأنما عن عمد.
أما سن الجبل الأعلى فينسل وئيداً من تحت قدميّ، وممتداً من أمام عينيّ إلى حيث تعجز العينان عن المتابعة، ويختفي عند حد الأفق متوحداً بحُمْرَتِه الداكنة في حُمْرَة شمس المغيب، هل كانا على موعد فالتقيا؟ أم اشتاقت الحُمْرَة للحُمرة فعادتا سيرتهما الأولى، أم تراهما دليلاً على شيء مبهم وغريب مثل أفعال أبي وسيأتي تفسيرها يوماً ما لمن يصبر ويكون أحق بالنفع به.
ما الذي أفعله وحيداً فوق سن الجبل بعد فراغ الحدوتة؟
أأبحث عن الخلاص وأتأمل في فراغ الحكاية، مَنْ يستطيع الجزم بفراغ الحدوتة واهم حقيقي، إذ ليس للحكايات أن تنتهي، إنها فعل ممتد في الزمن، فعل مواز لفعل التاريخ، والتاريخ لا ينتهي أبداً، تأخذني الحكاية كما يأخذني الحنين، وتجرني كما تجرني الذكرى إلى بحور لزجة لا تفضي إلا إلى الموت، وليس من سبيل للخلاص سوى الصدق مع النفس مجداف مركب وطوق نجاة.
شَدَّني أبي إلى الجبل وهو يَدَّعي أن الرؤية الشاملة من فوقه، لكن مريم ربطتني إليه بسلسلة حديدية أتمنى ألا فكاك منها، وقالتْ:
- أُنْظُر بشكل صحيح فأنتَ صاحب العينين وحر فيما ترى.
كنتُ قد تركت أبي في تأملاته، دفعني الملل إلى السير فوق سن الجبل، ودفعني الفضول إلى الجانب الآخر منه بعيداً عن الخنادق الصغيرة والعيون اللامعة للذئاب والأسود والثعالب التي تطل منها في صمت، وكانت مريم تقف على باب كهف كبير وموغل في الجبل، وحدها تضيء في ظلمة الجانب الآخر مثل جِنِّيَّة وحيدة وجميلة، انسيابية جسدها يشبه إلى حد كبير انسيابية جسد عروس البحر، فهل كانت هي عروس الجبل؟ تقف وشعرها الأسود الكثيف الناعم يكاد يقف إلى جوارها، وثمة ضوء فضي يحيطها وينير باب الكهف من حولها، لم أخطُ إليها بإرادتي إنما شَدَّني خيط الضوء برغبة حقيقة وجدتها داخلي ودعتني إلى القُرب منها، ومحاولة لمسها أو ضمها إلى صدري، كنت أود الدخول إلى ما حسبته سحراً يحيط بها وبالمكان الذي تحول فجأة من أجواء التراتيل السماوية الصامتة التي يسيطر عليها الجبل بارتفاعه الشاهق وظلمته المطبقة وجبروته الذي أحسه جلالاً مهيباً يلقيه داخلي، ولا أكاد أعرف كنهه ولا من أين يأتي ـ إلى جنة خضراء مضيئة ترعى فيها جِنِّيَّة يانعة، تمنيتُ لو تكون صاحبة الرسالة التي تناثرتْ من حولها أوراق الوردة الحمراء، لكن الأمر بدا غريباً ومحض خيال، وأنها يجب أن تكون جِنِّيَّة، إذ كيف يتسنى لواحدة من بنات البلدة أن تصعد الجبل إلى هذه الساعة من الليل، خطوتُ على هدى الضوء الذي بدا مثل آثار أقدام محفورة في جسد الجبل لا يعوقها شيء، ولا حتى الصخور الحديدية الناشفة، هبطتُ منازل منزلقة وصعدتُ ارتفاعات وعرة وتسلقتُ صخوراً عالية، وكلما أحسستُ بالقرب كلما ابتعد باب الكهف ونأي عني، بدا كمن لا يريدني أن أصل إليه رغم أنه موجود ويبدو أمام عينيّ واضحاً وجلياً، تتراقص الجِنِّيَّة من أمامه على أنغام موسيقى " أنت عمري " العذبة لأم كلثوم، وتلوِّح بيديها تشير إليّ " تعالي " وأنا أجاهد بكل عزيمتي وأدفع قدميّ نحوها دفعاً، ولما وجدتُ نفسي أخيراً قاب قوسين أو أدنى منها توقفتْ أم كلثوم عن إرسال أنغامها، وتوقفتْ الجِنِّيَّة عن الرقص تُحدِّق فيّ بعينين حادتين متحديتين، تبحثان عن شيء ما / تتأكدان من شيء ما، لا أعرف على وجه التحديد، لكنهما ثابتتان في وجه عينيّ كأنهما تعرفاني جيداً، وبدا مصدر الضوء الذي يعم المكان من حولي إلى جوار عينيهما تماماً، الأمر الذي جعل عينيّ تزوغان في وجه عينيها، وحين كنت أمسح عينيّ من ثقل الضوء، وأضع كفيّ أمامهما متحاشياً مصدره، اختفى الضوء واختفت الجِنِّيَّة، خِلت أنني مغمض العينين ففتحتهما عن آخرهما فلم أر شيئاً، ولم أحس بشيء، بدا المكان مقفراً تماماً وخالياً من كل شيء، ليس سوى دبيب وقع أقدام تعرف طريقها إلى أسفل الجبل، حتى باب الكهف الذي ظننته عميقاً لم يكن تحت ضوء القمر الذي بدأ يحتل المكان، بعد ذهاب الضوء الفضي، غير نتوء واهٍ في صخرة عظيمة، ولولا أبي الواقف أمام قرص القمر فوق سن الجبل العالي رافعاً يديه إلى السماء لما عرفتُ طريق العودة إليه.
كان من الطبيعي بعدها أن تصيبني الدهشة والجنون، ليس فقط من محاولة فهم ما حدث في تلك الليلة واستقصاء حقيقته من وهمه، وعجزي طوال الفترة الماضية عن الفهم والتفسير، بل لأنني الآن أرتع في حالة مزعجة من الملل والقلق بعدما أنهيتُ دراستي في العام الفائت وحصلتُ على المعافاة من أداء الخدمة العسكرية، أجلس منتظراً تعييني مدرساً في مدرسة البلدة الابتدائية، ثم هذا العجز الرهيب الذي يشملني ويطغى على حياتي كلها لما تتركه حالة أبي من جو مقلق على البيت والعائلة كلها وهي تبدو بغير نهاية قريبة، قد يقذف كل ذلك داخلي احتياجاً ما إلى التوهم، محاولة حثيثية ومضنية للبحث عن دائرة حياة أخري بأجواء مختلفة ينيرها وجه أنثوي جميل، لكن ما حدث رأيته بأم عينيّ وانطلاقاً من حالة اليقظة، فلم أكن لأنام في حضرة أبي فوق سن الجبل، على أن ذلك كله لم يكن مصدر الدهشة الوحيد، لقد فتشتُ داخلي جيداً وعرفتُ بعد مصارحة عظيمة مع النفس أنه الخوف من عدم رؤيتها مرة أخرى، حتى ولو كانت وهماً فأنا أود رؤيتها، أن أسبح في بحور عينيها الزرقاوين بغير عمق يحدهما، وأن يشملني نور ضوئها الفضي في ثناياه، عساه يأخذني إلى عوالم من السحر والتألق.
في الليالي التالية الطويلة مع أبي فوق سن الجبل عيناي كانتا هناك معلقتين على باب الكهف في الجانب الآخر دونما أثر، لم تترك لي ولو اسماً أُفتته على لساني كحبات السكر المَكَنَة المربعة ناصعة البياض، أو أتركه يذوب من فوقه مثل قطعة الجيلاتي ممتزجاً مع لعابي فأحس بانتعاشة برودته في روحي، حتى محاولتي الأخيرة التي صعدتُ فيها الجبل صباحاً محاولاً اقتفاء آثار قدميها النازلتين صوب بيوت القرية الغربية فشلتْ بانتهاء الآثار عند حافة النهر، ولأول مرة في حياتي أكره النهر وأحس مرارة مياهه في حلقي، كان لها نفس مرارة العتمة التي تحيطني الآن فوق سن الجبل في انتظار انتهاء تراتيل أبي وصلواته الباكية، تلفني الوحدة والصمت والعجز عن احتواء الأمور ومسك زمامها بيدي، وفي اللحظة التي بدأ اليأس فيها يخطو أولى خطواته داخل الروح العطشانة ـ يزيد من ظمئها وقفرهاـ أتى بصيص الضوء يومض كنجمة بعيدة في فضاء السماء حتى لا أكاد أراها، لكنه يكبر ويتضح كلما صعد إلى أعلى الجبل من نفس مسار هبوط الجِنِّيَّة حتى استوي جلياً وظاهراً أمام باب الكهف أو نتوء الصخرة، وتَجَلَّتْ الجِنِّيَّة في فضائه كاملة واضحة المعالم وهي تشير إلىّ هذه المرة إشارة محددة ومعينة، لم أمهل نفسي الفرصة لتوسوس بأشيائها إنما قفزتُ مثل قنفذ يهرب من فزع محقق إلى يقين لا يعرفه حتى استويتُ أمامها، كنت ألهث وكانت البسمة تتفجر فوق شفتيها وأتى صوتي متقطعاً:
- مَنْ أنتِ ؟ لقد أذبتِ قلبي من ورائكِ.
- كنتُ أريدكَ أن تحبني قبل أن تعرفني.
- ما أعرفه الآن أني أحبكِ حتى لو كنتِ جِنِّيَّة.
- ليتني كنت جِنِّيَّة لكان أمر اختطافك بعيداً عن كل الأشياء سهلاً، ولجنبت نفسي مشقة المصاعب التي خضتها للتعرف عليكَ.
- أية مصاعب؟!
- يكفي صعودي الجبل في هذه الساعة.
- أريد أن أعرفكِ أكثر؟
وجلسنا على كومة من الرمل الناعم متكئين إلى باب الكهف، يحيطنا ضوء الكشاف الفضي ومن فوقه سكون فضاء الجبل وظلمته، وبدأتْ مريم حديثها فقالتْ:
كانوا يريدون تزويجي من ابن عم لي لكنني رفضتُ، ليس لأن ابن عمي ولد سيء بل تلبية لرغبة جامحة في التمرد وجدتها داخلي، ودفعتني دفعاً للخروج عن تعاليم القبيلة، للبحث عن ذاتي، محاولة للتحقق وامتلاك زمام الأمور، مسافة للخروج بعيداُ عن محرقة الجبر التي نشأنا عليها منذ الصغر، وتحطيماً لجبروت العائلة التي تُملِي الكلمة والفعل، كل ما رجوته ممن يريد الزواج بي أن يختارني لذاتي، لأنه يعرف يقيناً يقبض عليه دخله أنه لا يستطيع استكمال رحلة الحياة بدوني، أنا مريم وكفى، تكفيه بقية الحياة، وليس لأي سبب آخر، وقد زاد من إصراري وتمسكي بموقفي حين تحايلت على لقاء ابن عمي خلسة وطلبتُ منه أن يتحدث معي بصراحة، أنه مجبر هو الآخر لكنه لن يقول " لا "، لقد أَبَى أن يحمل الأمانة ملقياً فوق كاهلي عبء تقرير المصير، لو كشفتُ لك عن ظهري يا إسماعيل لرأيتَ كم تحملتُ من ضربات السياط و العصا، لكن وجهي أمامك وأعتقد أنك تستطيع تمييز الخطوط العرضية التي تركتها أصابع أبي واخوتي على الخدين والرقبة، غير أني ظللت ثابتة حتى زاد مقدار الألم عن قدرة الاحتمال، عندها هددتهم بالخطيئة المتعمدة فكفوا أيديهم عني، ولما بحثوا وتأكدوا أنني لا أضمر في نفسي إنساناً آخر ارتاحوا وتركوني كماً مهملاً بغير زواج، وحبيسة غرفة داخلية في آخر حوش البهائم عقاباً لي على التمرد، وعقاباً لأنفسهم على خطيئة تعليم البنات وترك الحبل لهن على الغارب في الخروج والدخول والحديث لإبداء الرأي.
لعلهم ظنوا غرفتهم الداخلية في آخر حوش البهائم سجناً، ولم يَدُر بخلدهم أن تكون غرفة إنقاذ بالنسبة لي، لقد كنت أهرب إليها وأنا وسطهم أدس فيها الكتب والروايات التي آتى بها من المدينة في طريق العودة من مدرسة التجارة، وحين أصبحتُ صاحبة الغرفة صرتُ ملكاً لنفسي فقط ومالكة لإرادتي، لقد أتاحتْ لي النافذة التي تطل على الجبل قدراً كبيراً من التأمل والتفكير في الخطوة القادمة، كيف يمكن أن يصير شكل الحياة من بعد؟ أدركتُ أن فترة توقيفي لن تمتد للأبد فسوف ينكسر الأب يوماً ما إما بالشيخوخة أو الموت، ساعتها سوف يبحث الاخوة عن حيواتهم الخاصة وسيكون أمر زواجي من رجل ما قدراً محتوماً وواجب النفاذ بالنسبة لهم، كي يتخلصوا مني، ويغطون في نوم عميق وهم يضعون رؤوسهم فوق المخدات في أول الليل، أو آخره، معتقدين أنهم ستروا عارهم، وكفوا أنفسهم شر البلية التي وضعها الأب فوق كواهلهم، لقد بدا الأمر في مخيلتي صراعاً على الصبر، ومقياساً لطول النفس، وطالما أصبحت مالكة لإرادتي فلأمارس إذن حقي في الاختيار، وإن بدا الأمر الآن حقاً ذهنياً خالصاً فسوف يأتي اليوم الذي يتحول فيه الحلم إلى حقيقة واقعة وملموسة.
لقد تلاشتْ صور الفتيان كلهم من مخيلتي ومن نفسي ومن أحلامي، ولم تبق غير صورتكَ وأنت تجلس في المقعد الأمامي للسيارة الرمسيس التي تقلنا إلى مدارس المدينة، بسمتكَ الهادئة التي كانت تطل في وجهي من مرآة السائق الأمامية هي مَنْ طبعتْ صورتك داخلي وفَجَّرَتْ في قلبي ينبوعاً من الحنين إليكَ، فَرُحْتَ تتغلغل في روحي قوياً وسريعاً مثل ضيف غير منتظر في ساعة القيلولة، وكأمر غير متوقع في لحظة عادية أو غير مناسبة، تُضايق وتحرج وتُحدث اضطراباً عظيماً، تماماً مثلما يكون الحب.
وانصرف تفكيري بعدها إلي كيفية الوصول إليكَ، كيف أقذف داخلكَ ما أحسه داخلي من مشاعر وأحاسيس ـ كنتُ موقنة عن إحساس مبهم اطمأننت إليه في نفسي ـ أنها ستسعدك، أخبرتُ صديقتي سعاد وبعد طول حيرة هدانا تفكيرنا إلي كتابة خطاب وضعته في مظروف ونثرتُ حواليه أوراق الوردة الحمراء ـ التي تمنيتُ لو أعطيها لكَ يداً بيدـ كي لا تبدو مكتظة داخل المظروف، أغلقته وكتبتُ عليه من الخارج
" إلي إسماعيل إبراهيم العبراني وكَفَي" وألقيته في خفة طائر ينسل سريعاً من عشه إلي رزق الكون ـ في المقعد الأمامي للسيارة التي أقلتنا بعد ذلك إلي آخر يوم من أيام امتحانات العام الأخير، بالطبع لم أكتب اسمي علي المظروف ولا داخل الخطاب حتى، فقد كنتُ أخشي الفضيحة إن لم تكن مشاعري تناسبك، أو يغلب الفضول السائق فيفتح الخطاب، لكن السبب الحقيقي الذي لمسته في نفسي من بعد أنني كنتُ أريد لقلبكَ أن يدلكَ عليّ، وقد احتفظتُ بنسخة مطابقة من الخطاب دليلاً علي شخصيتي إن مشتْ الأمور حسب ما أُقدر لها، وكنتُ أعرف أنكَ ستحتفظ به.
لكن وقتاً طويلاً مرَّ دون أن يدلك قلبك، حتى بعد انتشار خبر رفضي لابن عمي في سماء البلدة ـ التي لا تحتفظ حوائط بيوتها بسر ـ لم تحرك ساكناً فحسبتُ أن الأمر لا يعنيكَ في شئ، أنني فشلتُ في إيصال مشاعري إليك وجَعْلِكَ تحبني مثلما ظننتُ أني أحبك، وكدتُ أنسي الموضوع تماماً لولا أن عرفت من سعاد خبر أبيك وأمر صعودك الجبل معه كل يوم، أردتُ أن أنساك فرفض قلبي، تمنيتُ لو تتلاشى من أمام عينيّ فأصرتْ مخيلتي علي رسم صورتك أمامها وثبتها في عمق الروح الظمآنة، حتى أصبحتُ أتمني أن أظل فقط هكذا، مجرد حبيبة لا تعلم عنها شيئاً وأن تسمح الظروف لي بذلك، ألم أقل لكَ إن الغرفة الداخلية في آخر حوش البهائم قد أتاحتْ لي قدراً كبيراً من التفكير في الخطوة القادمة، وأتاحتْ لي أيضاً – لما كانت تطل علي شاطئ النهر الغربي والمساحة الخالية من الأرض والممتدة حتى أسفل الجبل ـ فرصة رؤيتكَ كل يوم، كنتُ أرقبكَ كل عصر تَقْدم مع أبيك في المَعَدِّيَّة تحمل بين يديك زجاجة الماء وطبق الطعام وتسلكان طريقكما صوب قمة الجبل، وقد أخذ الأمر مني كثيراً من التردد واستجماع الجرأة حتى قررتُ الصعود من خلفكما في الليل خلسة من عيون الأب والإخوة، وبعدما دبرتْ سعاد لي أمر الكشاف الضوئي.
ينام بيتنا بعد صلاة العشاء مباشرة كي يتمكنوا من الاستيقاظ فجراً والذهاب إلي الزرع، بعدها قمتُ إلي نافذة الغرفة القديمة التي لم يهتموا بإصلاحها لاطمئنانهم إلي متانة باب الغرفة المؤدي إلي حوش البهائم في وجه مَنْ تسول له نفسه التلصص علي بهائم بيتنا، فظلت النافذة مجرد ضلفتين واهنتين من قِطَعِ خشب طولية قديمة مثبتة إلي جوار بعضها بخشبتين عريضتين قصيرتين، واحدة في الأعلي والأخري في الأسفل، حين فككت الترباس الصغير الذي يلضم الضلفتين انفتحتا علي سياج حديدي واهٍ بحجم الشباك، تشقه ثلاثة أسياخ حديدية طولية ورفيعة، ومثبت في الحائط الطيني بمسمارين صغيرين ظللتُ أحفر حولهما في الحائط ببنسة شعري حتى تخلخلا تماماً وأصبح من السهل نزعهما بأصابعي، نزعتهما ودسستهما تحت مرتبة الكنبة التي أنام عليها والكائنة أسفل الشباك، بعدها أمسكت بسيخين من أسياخ السياج الحديدي وهززتهما في قوة وهدوء حتى انخلع السياج، وضعته إلي جوار الكنبة وبعد أن تأكدتُ من إغلاق باب الغرفة من الداخل قفزت من الشباك لأصبح في مواجهة فراغ عظيم ومظلم يضج بعواء الكلاب ونقيق الضفادع المقلق الآتي من الجداول الصغيرة بين أحواض الزرع، وصوت الصمت الليلي المرعب والمطبق علي النفس بحواديته القديمة وثقل سواد ظلمته، لكنه يطل أيضاً علي الجبل القائم من بعيد في عزة وكبرياء، يطل علي الطريق إلي روحي.
أيام طويلة أرقبكما من الجانب الآخر للصخرة التي تستويان عليها، أبوك يدعو ويصلي وينتخب صوته في فضاء الكون الواسع الممتد علي الظلمة، وأنت تجلس من خلفه في صمت وسكون وعدم قدرة على فعل شئ من شأنه تغيير الأمور، كدت أصدق ما أشاعه الناس عن أبيكَ، قدرته على الأعمال السحرية أو كُفره ومجيئه بدين جديد يتعبد له فوق سن الجبل، لكن عجزكَ وترددكَ اللذين كنتُ أحسهما من مكاني أخبراني أنكَ خارج الدائرة وأن بالأمر سِراً لا يخصكَ، أعجبني ولاؤك لأبيك وعرفت أنكَ رجل يمكن ائتمانه على الأسرار، فأضأت الكشاف الفضي في اتجاهك وأمَّلتُ نفسي كثيراً أن يكون عبورك إليّ فوق جسر من النور الخالص.
وماذا بعد أن سكتت مريم؟!
ران صمت جميل سقطت خلاله عيناها إلي كفيها المعقودتين فوق حجرها، وجاء صوت تنفسها هادئاً وممتداً كأنما علي مهل، لكنه يكمن في انتظار شئ ما وكنتُ خلال هذا الصمت سعيداً وغير مصدق أنني تعرفتُ أخيراً علي صاحبة الخطاب المنثورة من حوله أوراق الوردة الحمراء، البنت التي أحببتها دون أن أراها، وحلمتْ بها مخيلتي كثيراً وهي تحاول رسم صورتها، وهِمْتُ علي وجهي في شوارع البلدة طويلاً باحثاً عنها ومحاولاً معرفة مَنْ تكون، لو كان لي جناحان لطرتُ إلي النجوم فَرِحَاً بحصولي علي سعادتي التي أتمني أن تكون سعادة أبدية، كنتُ لا أريد لهذه اللحظة أن تنتهي، أن تستمر وأن تصبح لحظة أبدية خالدة، لم تكن بيني وبين مريم مسافة بعيدة لكنني تمنيتُ مرة أخرى لو كانت لي أجنحة لأطير إليها، أمسكتُ كفيها بين يديّ فوجدتهما باردتين وطريتين ومرتعشتين، ووجدتها بيضاء في مثل وهج الضوء الفضي، ترنو إليّ بحنين تمنيته طويلاً ولم أطالع مثله في غير عينَيْ أمي، وكلما اطمأن قلبها كلما زاد الحنين، نظرتُ إلي يديها فعرفتُ أنها يد مُحبة، وتعرف أنني أحبها، لكنني كنت في شوق جارف، ومحتاجاً إلي قولها والاستئناس بها داخلي أكثر من احتياج مريم إلي سماعها تتردد في أذنيها لتخبرها بصدق الإحساس، قلت:
- لو أخبرتكِ أنني أحبك منذ يوم الرسالة فهل تصدقينني؟
- عندما قررت الصعود إلي الجبل من خلفكَ وحتى هذه اللحظة لم أكن متأكدة من شيء، كل ما أردته هو أن تعلم أنني أحبك فقط، أما الآن فلن تستطيع معرفة حجم سعادتي وإحساسي بأن كل ما فعلته لم يضع، لم يكن وهماً أو تخيلاً، بل إرادة حقيقية، ومشاعر صادقة.
وضعتُ أصابعي تحت ذقنها أرفع وجهها نحوي، فرأيتُ الدمعتين تسقطان فوق خديها، لكنني لم أخف ولم أتساءل، لقد عرفتُ أنهما دمعتان سعيدتان وفرحتان، وحين ملتُ بوجهي نحوها واضعاً شفتيّ فوق شفتيها، ومفجراً في روحي طعم القُبلة الأولي من أنهار العسل الخالدة، كنتُ أُحدث نفسي عن الكثير من السعادة التي تشملني الآن بعباءتها، وكأنني أنظر في بلورة سحرية وأري نفسي ترفرف بين جوانحها كفراشة في دائرة الضوء، وتمنيتُ لو أُعمم هذه اللحظة علي بقية حياتي، وأن يكف أبي عن ترانيمه السماوية فوق سن الصخرة، أو يقدم لي مبرراً قوياً لها كي تشملني الراحة تماماً.
(4)
عن " أبي يوسف " إسماعيل بن أدهم العبراني أنه قال:
شهور طويلة قضيناها في البحث عن أبيك، طوفنا خلالها بكل الأماكن العسكرية المحتمل تواجده فيها، حتى وجدناه أخيراً في المستشفي العسكري وسط كم هائل من الجنود المصابين إثر هزيمة النكسة، كان فاقداً للوعي وقد استقرتْ الشظية إلي جوار العمود الفقري أسفل الظهر، لم يقدر الأطباء علي إخراجها بعدما تكوَّن اللحم من حولها، لكنه أذهب وجعها المؤلم ولم تبق سوي ضغطة تُسبب عرجاً خفيفاً في مشيته، استرد وعيه بعد طول صبر وبدأ في التعرف علينا مرة أخري، بعدها تم تسريحه من الجيش وعاد إلي البلدة، غير أنه لم يعد كما كان من قبل، عاد صامتاً ومنكسراً وحزيناً وميالاً للعزلة والبقاء وحيداً بشكل لم نعهده فيه من قبل، وبعد فترة وجيزة عرف طريقه إلي الجبل هروباً من الأهل والأصدقاء والناس الذين شَكَّلوا بالنسبة له تطفلاً عظيماً في محاولاتهم إخراجه من أزمته، يعبر النهر عصر كل يوم حيث يكون مستيقظاً لتوه من النوم ـ صاعداً إلي مكان مرتفع من جسد الجبل، يجلس ويقرأ ويتأمل ويعود في آخر الليل مهدوداً ومنهكاً ولابساً عباءة الصمت والحزن والألم، لا يُخرجه منها شئ ولا حتى أنا، قريبه وصديق الصبا والشباب والبئر العميقة التي يدفن أسراره فيها مطمئناً.
لقد بدتْ الهزيمة ثقيلة علي نفوسنا جميعاً لكننا تحملنا المرارة، فلماذا لم يقدر هو علي تحملها؟! ألأنه كان في قلب المعركة فالثقل كبير ويحتاج إلي وقت أطول، بيد أن الفترة طالتُ وامتدتْ حتى خشينا عليه من الضياع، فليس من شئ يقدر علي تفتيت المرء سوي استسلامه لشيطان العزلة ووقوعه في بئر الصمت، كنتُ أنتظره أمام باب بيته فارداً ذراعيّ عن آخرهما في انتظار وقوعه بينهما إذ يُقبل مستنداً علي جدران الحوائط تَعِبَاً ومُغبراً وأشعثاً لا يكاد يري من أمامه، آخذه في حضني وأدخل البيت به، أنظفه وألبسه ثياباً جديدة وأُرقده علي السرير حيث عيناه بالكاد تتفتحان علي ضوء الغرفة، يتحسس وجهي ويقبض علي صدر جلبابي ويلهث باسمي.
- إسماعيل، يا إسماعيل.
كأنما ينادي عليّ من بعيد ولا يراني، أرشُ الماء علي وجهه وأصفعه مرات عديدة لكنه لا يُفيق، بل يذهب في نوم عميق وساكن كأنه الموت.
ومثل صاعقة تنزل من السماء بغير إنذار أتتْ كارثة بنت الشيخ موسي، لم يكن أبوك بحاجة لهزيمة جديدة لكن المرء لا يختار معاركه، ولم يملك بعد ازدياد الألم والمرارة والحسرة سوي الإنكار والصمت في سكون سلاحاً يرفعه في وجوه الناس والأحداث والأيام التي لا تأتي ببهجة، ولم تزل تُدخله في مصائب جديدة، لم أكن لأصدق ارتكابه للفعل لكنني لستُ صِدِّيقاً خالصاً وقد احتجتُ إلي يقين ما يثبتني، ولم يكن من بُد سوي الحديث معه مباشرة وأن أنظر إلي عينيه جيداً أثناء الكلام، فطول معرفتنا الممتدة مع العمر علمتنا كيف يُخرج كل منا الصدق من عينَيْ صاحبه، انتظرته عند حافة النهر بعد العصر، كان يأتي من بعيد مترنحاً مثل سكران، وتائهاً مثل الشيخ رجب الأهبل في شوارع البلدة، لكن قدميه ثبتتا في سيرهما عندما رآني أقف علي حافة الماء، نظر إلي الأرض وهو يبطئ في خطوه نحوي، بدا كمن لا يريد الحديث غير أني لم أترك له الفرصة للهرب فأضطر إلي الاستسلام، فقط رجاني أن أصعد معه إلي الجبل فصعدتُ، وهناك علي حافة صخرة في منتصف الجسد الصلب بدا صوته متحشرجاً، تخرج الكلمات منه في بطء وحسرة، لم يُنكر علاقته ببنت الشيخ موسي لكنه أقسم علي عدم ارتكابه للفعل الفاحش معها.
وهكذا جاء صوته مسترسلاً بعد الجملة الأولي فروي:
عرفتها لمدة ثلاثة شهور وقابلتها مرتين، كنت عائداً من الهزيمة، ممتلئاً فمي بطعم السؤال المر، ما الذي فعله بنا عبد الناصر؟!
كيف تركنا فريسة للعراء يأكلنا الجوع، والخوف، والشمس، وقِلة الحيلة، وغياب اللحظة، وتضارب الأوامر، حتى أصبحنا دُمي يلهو الطيران المنافس بنا، يقتل ويُفزع ونحن نتساقط في مياه القناة مثل فراشات استبد الخوف بها فهي تتخبط في بحثها عن الضوء تتواري فيه حتى وإن حمل هذا الضوء نفسه معني الموت، لقد أنقذتني الغيبوبة وما كنت أبغي الاستيقاظ منها، فيما تركتْ الإصابة داخلي جرحاً عميقاً ظننتُ معه أنني فقدتُ رجولتي حتى تأكدتُ من ذلك، لقد فشلتُ حتى في ممارسة العادة السرية، سلواي في الهروب من الرغبة أو الهروب إليها، وهكذا سُيِّج من حولي سياج صلب، مادته الخوف والفزع وعدم الثقة بالنفس وانكسار ذليل ظل يسبح في عمق الروح العطشانة، ما من شئ قدر علي إخراجي منه ولا حتى أنتَ يا إسماعيل وما كنتَ لتقدر، شئ واحد فقط كان يقدر علي ذلك، أن توجد امرأة واحدة وحقيقة، لم أكن أعبثُ مع البنات، كنتُ أبحث عنها فيهن، عن التي تقدر علي إخراجي وإنقاذي مما أنا فيه، وحين كنتُ أعبر النهر مرتحلاً إلي وحدتي وعزلتي الاختيارية ومناداتي اليومية لاستلهام المدد وانتظار المعجزة ـ كانت عيناها سهمين مسلطين علي الفرحة، ويغمرهما شعور جارف بالحرية والرغبة في الانطلاق، بنت الشيخ موسي لم تكن الضحكة تفارق وجهها بل كان صداها يدوي في الفضاء قوياً وحراً، حتى أحسسته يخترق السياج الصلب من حولي وينفذ إلي عمق الروح العطشانة، كلما رأيتها عصر كل يوم أحسستُ بالارتواء يملأ روحي وكان له طعم العسل،تتواري كل البنات ويلملمن ثيابهن المرفوعة إلا هي، فقد بدتْ ساقها سهمين آخرين يضربان في قوة بحثاً عن معني الرجولة.
ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل؟!
أنا مَنْ يبحث عن الضحكة هروباً من اليأس، وعن المرأة هروباً من الإحساس بالعجز الذليل، عجز الروح والجسد والارتكان إلي شلل كامل يصير الموت إلي جواره رحمة، ما إن أشرتُ لها حتى لَبَّتْ النداء، وفي جرأة حسبتها عظيمة حيث البنات يولين وجوههن وأجسامهن إلي الجهة الأخرى حتى أرتحل في مَعَدِّيَّة النهر إذا بها ترمي إليّ بحجر، التقطته متردداً وخائفاً من أن تتلصص عليّ عين ما، لكنني حرصتُ علي التقاطه فلم يكن حجراً عادياً، بل ثمة ورقة بيضاء ملفوفة من حوله ومربوطة به بالكثير من فِتَلِ الخياطة التي التفتْ من حوله في حيطة وخِبْرَة، داخل المَعَدِّيَّة قرأت الورقة وعرفتُ الوعد، ووسط زراعات الذرة الطويلة المطلة علي النهر وتحت عباءة الليل حالكة الظلمة كان لقاؤنا الأول عند حافة بئر الشيخ سالم، أتتْ متخفية وحذرة إلي أقصي مدي، وبدا خطوها الحثيث وسط زراعات الذرة حريصاً علي ألا يصدر منه أي صوت، وعند حافة الأعواد حيث أحسَّتْ بوجودي عند البئر توقفتْ وكَحَّتْ مرات عديدة حتى أتاها صوتي زاعقاً:
- من هناك؟
وحين تأكدتْ مني تقدمتْ نحو البئر، لقد استغربتُ ذلك منها ورأيتُ أنه لا مبرر لكل هذه الحيطة، ويبدو أنني كنت مدفوناً في بئر من اللامبالاة، فعلي عكسها تماماً أتيتُ بغير خوف وعلي عجلة، كنت أضرب أعواد الذرة بكلتا يديّ وأهرسها قريباً من جذورها بقدميّ، أكاد ألقيها علي الأرض حتى أنني شعرت بوجود شق طولي كبير من الفراغ بين الأعواد من خلفي، يمتد من مكان دخولي فيها وينتهي حيث أقف عند حافة البئر، ولو أن أحداً تبع الشق لاهتدى إليّ بسهولة رغم الظلام، إنني لم أُبال كثيراً لأمر الحيطة هذا فلم أكن أرغب من اللقاء سوي إجابة سؤال واحد يكمن داخلي في خبث ألف شيطان، وأن أتأكد من نفسي ومن جسدي.
حين تقدمتُ صوب البئر أخذتها بين يديّ في لهفة وغشامة العطشان حين يقع بجسده في ماء النهر، فانزعجتْ وتململتْ في حضني حتى أفلتت منه، وانزاحتْ بجسدها بعيداً تلهث ويأتي صوتها ممطوطاً ومدللاً:
ـ يووه ليس هكذا.
لم أفكر في كونها تعرف كيف تجري هذه الأمور، فلم يكن ذلك يهمني في شئ، بل اعتبرتها تعرف يقيناً وسألتُها:
ـ كيف إذن؟!
فأتتْ إجابتها بعد صمت، عيناها بحثتا خلاله عن عينيّ في الظلمة، حاولتا التأكد مما ظنته خبثاً أداريه عنها، فلما فشلتا في اصطياد عينيّ قالتْ:
ـ هكذا.
وفردتْ ملاءتها السوداء علي الأرض وأخرجتْ من جيبها شمعة وعلبة كبريت، وفي جانب من حافة البئر كان ثمة عمق أشبه بحفرة صغيرة وضعتْ الشمعة داخله وأشعلتْها، فبدا العمق مثل كشاف يضئ المكان من حولنا، قالت:
ـ أريد أن أري وجهكَ وعينكَ، أنت إذن إبراهيم!
وحدقتْ في وجهي طويلاً ونحن نجلس متجاورين فوق الملاءة، تحسستْ وجهي بأصابعها وهمستْ في خفوت شديد كأنها تحدث نفسها:
ـ من حق البنات أن يغرمن بك، ومن حظي أن أفوز.
كنت أحس بسخونة أنفاسها علي وجهي، وأري عينيها إذ تغمضهما علي التوهة، وأكاد أسمع أنينها وتنهداتها المنادية والمتوسلة، لكنني لم أجد الرغبة داخلي، فماذا أستطيع ساعتها أن أفعل؟ رحتُ أزيد من تخيلاتي محاولاً الدخول في اللحظة بحثاً عنها، لكنني لم أجدها وخشيتُ علي نفسي.
قلتُ ستأتي الرغبة مع اللمسة الأولي، فلم تأتِ.
قلتُ ستأتي مع القبلة الأولي، فلم تأتِ.
قلتُ ستأتي إذن مع الوقت واندماجي الكامل والحقيقي في اللحظة، فأخذت شفتيها في فمي وملتُ بها علي الأرض أكاد أهرسها من تحتي، لكننا ظللنا هكذا، هي تأن وتتوجع في خبرة ودراية ومعرفة وأنا أعصر نفسي فوقها، أبوس وأعض وأزوم وأرتفع وأهبط دونما أمل في أن يقوم مارد الرغبة، وأن يأخذ طريقه نحو بلوغ الاكتمال، وحين استبد الألم بها أحسستُ بيديها تجوسان بين رجليّ، فضغطتُ جسدي عليها كي لا تعثر علي خيبتي، وكنتُ حتى هذه اللحظة لم أزل أُمَني نفسي باكتمالها مع الوقت، لكن طوال الوقت لم يأت بغير صوت طويل وممطوط وعالٍ لعواء ذئب بدا من قُرب صوته الشديد أنه يجري علي حافة النهر المجاورة، انتابنا الحذر لبرهة قصيرة لكنه سرعان ما تملكنا تماماً بعدما توالتْ من خلف صوت الذئب أصوات رجال كثيرين، توافق زعيقها المتواصل المنتخب مع وقع خطواتهم المهرولة فوق الأرض، والمصطدمة بالأعواد في عشوائية، مع صوت إجتزاز عصيهم جسد الهواء، بدا واضحاً أنهم يطاردون الذئب فخفنا أن يحصلوا علي صيد آخر قد يكون بالنسبة لهم أثمن بكثير مما يجرون من خلفه، فقمنا مفزوعين وخائفين وقد انتقلتْ مشاعرنا بسرعة مذهلة من محاولة الحصول علي اللذة إلي لذة محاولة النجاة بالنفس والجسد، جرتْ مسرعة إلي حفرة البئر وأطفأتْ الشمعة فساد الظلام، وبعدما لمَّتْ ملاءتها من الأرض رحنا نجري بين أعواد الذرة الطويلة باحثين عن النجاة، ومهتدين بشق طولي كبير من الفراغ امتد بين الأعواد أمامنا حتى حافة الحقل وبداية بيوت البلدة.
أن تصل المرأة إلي حافة اللذة ولا تكتمل فذلك سبب كافٍ لوصولها إلي حد الجنون، وهكذا جُنَّتْ بنت الشيخ موسي في علاقتها بي وظلتْ تطاردني عند النهر عصر كل يوم، لم تعد تأبه حتى للبنات صويحباتها على حافة النهر، ولا بتلميحاتهن وغمزاتهن المكشوفة في بعض الأحايين، بل تقف ثابتة في وجهي وأنا أقدم جهة النهر، تظل تشير إليّ بيديها ورأسها، وبالكاد تمسك لسانها أن ينده عليّ أمام الناس حتى أغوص في المَعَدِّيَّة وتغوص المَعَدِّيَّة في النهر، وكذا طاردتني في شوارع البلدة، وفي آخر الليل حين أعود البيت أسمع الطرقات علي الباب واهنة وسريعة ولا أجد أحداًً في الخارج حتى إنقذف من الشباك في آخر الليل حجر كالذي قذفتْ به عند النهر، وكان في الحجر ورقة وموعد آخر.
بالنسبة لي لم أكن في تمام الثقة من نفسي، بل إن مخاوف العجز والتأكد منه قد زادت داخلي بعد طول انتظاري للرغبة في اللقاء الأول وعدم مجيئها، لكنني في حديث النفس الذي جال داخلي طويلاً أخبرتني نفسي باحتمالية مجيئها مع الوقت، فلولا الذئب والرجال الذين كانوا يطاردونه لربما نجح الأمر، عندما استقر هذا الرأي داخلي قبلتُ الموعد علي أن آخذها من عند البئر، وأعبر النهر بها مرتحلين إلي مكاني الأثير فوق سطح الجبل حيث أجد هناك الأمن وراحة النفس عساهما أن يكونا مساعدين في إنجاح الأمر، وفي عصر اليوم التالي علي شاطئ النهر أومأتُ لها بالإيجاب، وشاهدتُ الفرحة في كل عينيها.
عند حافة البئر كنتُ أنتظر وجاءتْ في موعدها تماماً، لكنها بدت مختلفة عن المرة السابقة.أحسستها مزيجاً من اللهفة والخوف والحرص الشديد علي الموعد والفوز به، بل والقلق من حدوث شيء آخر قد يفسده، أو لعله الخوف من عدم اكتماله جسدياً كما المرة الأولي. وكان يبعث بداخلي نفس الخوف لكنني ظللتُ أطمئن نفسي مثلما أحاول طمأنتها الآن وأنا آخذها في حضني وأُرَبِّتُ علي ظهرها في حنان استغربتُ له وعزيته إلي حرصي علي إنجاح الأمر بحثاً عن خلاص الروح العطشانة وطمأنة للنفس الحائرة. أرادتْ أن تفرد ملاءتها لكنني قبضتُ علي طرفيها ألمها عند مفرق الثديين، ابتسمتْ وضغطتْ صدرها نحوي حتى غاصتْ كفي في لحمها اللدن وراحتْ تفركهما فيها وهي تفك حذرها وخوفها وتبدأ اللحظة.
ـ ماذا بكَ؟!
ـ ليس هنا.
ـ أين إذن؟!
ـ عندي لكِ مفاجأة.
وسحبتها من يدها في اتجاه النهر، وهناك علي شاطئه كانت المركب التي استعرتها من أحد الصيادين تقف في انتظارنا، حملتها داخلها وقفزتُ من ورائها. كان صوت قطرات الماء المنزلقة من قدميّ يصطدم بماء النهر الساكنة في هدوء الليل في خبطات متتالية ومنتظمة وهي تخبط صدرها معترضة وتسألني:
ـ إلي أين؟!
ولم آبه لها، فقد كنتُ أعرف أنه اعتراض بمعني القبول، وسرعان ما جاء صوتها المدلل إذ تميل بظهرها علي مقدمة المركب الأمامية حتى نامتْ عليها، كان ثمة نسمة هواء باردة أزاحتْ الملاءة عن جسدها وكانت رأسها في اتجاه الغرب فأسلمتْ عينيها إلي ظلمة السماء وهدوء الليل:
ـ فقط لا أريد أن أتأخر، فأبي يستيقظ عند الفجر.
بدا منظرها مثيراً إلي أقصي مدي، تنام أمامي وقد انزاحت الملاءة من فوقها ونامت إلي جنبيها في انتظام شديد، كان الهواء يعرف ماذا يفعل، وراحتْ ساقاها الساقطتان في جوف المركب تبعدان عن بعضهما في نداء سمعتُ صوته بأذنيّ وذقتُ حلاوته في لساني، ولأول مرة أحسُ بشيء ما يتحرك داخلي، شئ يشبه الرغبة إلي حد كبير، فَرِحْتُ به ورحت أُجّدِفُ بكل يديّ وبكل عزيمتي، وأنظر إلي الشاطئ الغربي بغيظ كبير كلما أردتُ التقاط أنفاسي، أو استعجلتُ الوصول إليه.
تجاوزنا المساحة الخالية من الأرض التي تُطل عليها من بعيد بيوت البلدة الغربية القليلة، وعند أسفل الجبل حيث بدأ ظهور الرمال التي أثقلتْ خطونا أشرتُ إليها أن تخلع حذاءها فخلعته، وكذا خلعتْ عنها ملاءتها ولمتها تحت إبطها مستندة بذراعها الأخرى على كتفي، ورغم أن خطونا أصبح سهلاً فيما بعد مع ظهور الصخور والتربة الصلبة لجسد الجبل إلا أنها سألتني:
ـ كيف تحتمل صعود هذا الجبل كل يوم، ولماذا؟
كان سؤالها مباغتاً وغير متوقع، وكانت الإجابة عليه تعني تعريتي أمامها، وتعريتها أمام نفسها أيضاً إذ ستبدو ساعتها وكأنها حقل لتجربة فشل أحسه داخلي. لم أكن لأجيب، إنما ابتسمتُ فقط في خفوت ورددتُ بصوت التمني والرجاء:
ـ لعلها تكون المرة الأخيرة.
في أعلي الجبل بدا المكان هادئاً تماماً، أشبه بجزيرة مهجورة من غير ماء يحيطها وينفخ فيها روح الحياة، فتمنيتُ لو أُغرقها بمائي وأنا أنضو عن بنت الشيخ موسي ثيابها، وأهبط بها عريانين فوق الملاءة السوداء المفروشة علي مساحة من الرمل الناعم سَوَّيناها بأيدينا، أعلو وأهبط وأحسُ الرغبة تأكل جسدي كله وتغلي داخلي مثلما يغلي الماء في براد الشاي، غير أنه بدا غلياناً مراً وعاجزاً عن إنتاج بخار يقدر علي إزاحة الغطاء وقذفه بعيداً، لم يكن من شئ يقف من جسدي سوي شعري، ولم يخرج منه غير ماء العرق الذي يتصبب غزيراً رغم برودة ليل الجبل، وأنا أذوب في الدهشة لأتأكد من عجزي عن الوقوف والدخول في أي شيء من شأنه احتواء الروح الضالة، حتى بدأ جسدي يرتخي ويتمدد ويخور فوق جسدها الذي اشتعل بالرغبة والجنون والإصرار علي إكمال الأمر.
أن يخذل الرجل المرأة مرتين فذلك كفيل بإسقاطه من نظرها إلي الأبد، ووقوعه في بئر من الخزي لن يقدر علي الخروج من قعرها الممتد عميقاً في الغور السحيق، وهاأنذا أبدو وقد وقعتُ في بئر بنت الشيخ موسي التي علقتْ عينيها علي وجهي طويلاً غير مصدقة وقد فهمت الأمر.
كادتْ تصرخ في وجهي.
وكادتْ ترميني من فوق سن الجبل.
لكن غليان جسدها المحموم من تحتي جعلها تتشبث بالجثة التي فوقها إلي آخر الأمل، كنت أحاول الوقوع إلي جنبها وهي تقبض علي عنقي بيد، وعلي كفي بيدها الأخرى تأخذها إلي وسطها، هناك عند منبت الفخذين حيث مكانها الخاص، تفركها فيه وتتوسل وتسقط دموعها غزيرة وممتزجة بكثافة العرق المتراكم بين الفخذين.
ـ ليكن الأمر هكذا.
أذهلني طلبها ورفضته بإصرار، وكلما زاد رفضي زاد توسلها وبكاؤها حتى فاضتْ الدموع من عينيّ وبدأ صوتي ينتخب في عويل طويل وممطوط، أشبه بمواء قطة تسير باتجاه الموت، وعندما غرقتْ تماماً في بحر التوسل الموحل بالعرق والملح والخيبة والرضي بالقليل أجبتها حتى غرقتْ كفي كلها في ماء لزج وثقيل ومر، له طعم الدموع ورائحة الخيبة ومعني هدوء الموت.
الآن يبدأ صوت إسماعيل بن أدهم العبراني يتهدج ويمتد حتى تكاد الدمعة تطفر من عينيه، وهو يمسحهما بِكُمِّ جلبابه ويكمل روايته:
هكذا كان الأمر إذن.
إحساساً عميقاً بالعجز والعقم والخيبة والمهانة، ولم يكن من سبيل في وجه أبيكَ سوي الصمت سلاحاً يرفعه في وجه اِدِّعَاء بنت الشيخ موسي وفي وجوه الناس جميعاً، ما الذي يمكن أن يقوله إن تحدث؟! لكن الصمت لم يكن لينجيه من المصيبة، لم يكن كفيلاً لأن يصدق الناس ببراءة رجل أبَيَ أن يدافع عن نفسه، واتخذ من الإنكار موقفاً لا يتزحزح عنه، ولا يدع في وجه الشيخ موسي من مَخْرَجٍ سوي أن يقتل ابنته، وأن يحاول قتل أبيكَ من بعدها.
لقد كان أمر ابنته سهلاً علي غير أمر أبيكَ الذي وقفتْ من خلفه عائلة كبيرة تجثم علي صدور البلدة كلها، وأصل يمتد في الزمن والتاريخ متربعاً فوق صدور الناس وفي قلوبهم عقيدة مقدسة يحرم اختراقها حتى علي عفاريت البلدة التي تخرج آخر الليل لاصطياد الخائفين وهم يعودون إلي بيوتهم فُرادا، والأطفال فوق أسطح المنازل، وعقول النساء العرايا المختالات من أمام مراياهن الصغيرة، فتلك العائلة وإن رفضت فعل ابنها ووقفتْ أمامه مخذولة وقليلة الحيلة، إلا أنها لن تقف نفس الموقف من قتل ذلك الابن ولنفس سبب الخزي والمذلة وقلة الحيلة، علي أن جريمة الشرف والدفاع عنه أوقعتْ الشيخ موسي في الاختيار وكان لزاماً عليه أن يحاول، وليحدث بعد ذلك ما يحدث، حتى وإن بدتْ الخسارة كبيرة من بعد وقد تمتد لأجيال قادمة، إلا أن ذلك لم يكن ليساوي شيئاً في مخيلة الشيخ وعائلته في مقابل الوقوف عرايا قدام الناس بعد الفضيحة.
لم تكن محاولة اصطياد أبيك صعبة، لقد ارتكن إلي الجبل كأنما ليتخذه سنداً بعدما تخلي الكل عنه، أو لعله أراد أن يكون قريباً من السماء وأن يمد جسراً بينه وبينها، وحين كان يعود وحيداً آخر الليل كان أحد أقرباء الشيخ موسي يختبئ بين أعواد الذرة المطلة علي الطريق الترابي علي مشارف بيوت البلدة، بدا أبوك مثل سكران يَطَّوح شارد العقل والبال، يستند إلي جدران الحوائط المجاورة ويقع علي الأرض دونما أن يحس أو يتوجع من ألم الاصطدام في عتبات البيوت، أو الأحجار الكبيرة الملقاة إلي جانبي الطريق، أو حتى يتأذي من القرف الذي يصيبه وقدماه توحلان في ورث البهائم الذي يملأ الشوارع، كان ملقي علي الأرض والروث يلطخ قدميه ويديه وأطرافاً متفرقة من جلبابه، ولم تكن تصدر عنه أية حركة، بل يجلس في هدوء كأنما يتلذذ بالرائحة الكريهة، أو يستريح من مشوار طويل قطعه علي عجل، كانت الدنيا منيرة بضوء القمر وقريب الشيخ موسي في الجانب الآخر من الطريق، يكمن بين أعواد الذرة الطويلة وبندقيته مصوبة باتجاه أبيكَ، بدا الجو مناسباً تماماً للقتل، فلم يكن من كائن حي علي الأرض يُسمع له نفس أو تصدر عنه حركة، ولم يكن علي قريب الشيخ موسي سوي أن يضغط علي الزناد لتخرج الرصاصة باتجاه أبيكَ وينتهي الأمر، لكن الزناد أبَيَ أن يُضْغَطَ، أبَيَ أن يرجع إلي الوراء لِتُقْذَف الرصاصة، وقد ظل قريب الشيخ موسي يضغط بكل قوته، وظل الزناد علي عناده لا يلين ولا يستسلم لإصبع القريب حتى اختفي القمر فجأة من السماء، وحَلَّ الظلام علي الدنيا كلها مُدَثِراً أباك بعباءة من السواد الحالك، يصعب اختراقها من كل العيون مهما بدتْ قدرتها علي الإبصار، وفي الصباح حين بدأتْ الشمس تغزو سطح الأرض في قوة وسرعة لم يعهدهما الناس من قبل، وحين بدأ الناس يزحفون من بيوتهم إلي حيث أعمالهم اليومية الشاقة في حقل الذرة والحقول المجاورة، وقفوا جميعاً في دهشة المذهول، وتحنطوا كأنما أصنام تم استعادتها من الزمن القديم، كانوا حشداً عظيماً من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال والبهائم قيل إنهم لم يتجمعوا بهذا القدر في هذا المكان في أي يوم من الأيام، سواء قبل هذا اليوم أو حتى من بعده، ينظرون وبلاهة الدنيا منحوتة في وجوههم غير مصدقين لما يرونه أمامهم، لقد بدا الأمر في مخيلتهم وكأنه آية سماوية جديدة، أو معجزة لنبي من الزمن القديم، وكان الاثنان علي حالهما منذ الليل، أبوك يجلس في هدوء علي جانب الطريق الأيمن إلي جوار الحائط ملطخاً بروث البهائم وينظر إلي غور بعيد لا يراه أحد غيره، وقريب الشيخ موسي علي الجانب الغربي من ذات الطريق مصوباً بندقيته باتجاه أبيكَ، يحاول الضغط بكل قوته علي الزناد، والزناد لا يتحرك تحت كل أصابعه، وقد مالتْ أعواد الذرة ـ التي كانت تدرايه في الليل ـ من حوله كأنما لتكشفه في عيون الناس.
ـ معجزة سماوية تتحقق لغير نبي.
قالها كل الناس حين عجزوا عن تفسير الحكاية وآمنوا بها، وقد دفعهم إيمانهم هذا إلي التصديق ببراءة أبيكَ من خطيئة بنت الشيخ موسي، وقد أُسقط في يد الشيخ موسي نفسه وكل أفراد عائلته ولم يعد في مقدورهم فعل شيء في مواجهة إيمان الناس بأبيك، أولئك الذين راحوا يرفعونه إلي مصاف الأنبياء والأولياء الصالحين القُدامى أصحاب الكرامات والقدرات الغيبية الخارقة، يعاملونه بقداسة حذرة، ويتغاضون عن أفعاله وهي تبدو غريبة في عيونهم، ومتعدية لمنطق معرفتهم، حتى أنهم ما عادوا يتساءلون عن سبب عزلته فوق سن الجبل، ولا عن صلاته وتراتيله المبهمة التي تصل إلي آذانهم في جوف الليل جلية وواضحة ومخترقة جدران البيوت وفضاء الجبل الواسع الممتد فوق بلدتهم، والموجهة إلي غيب لا يرونه ولا يعلمون شيئاً عنه، لكنهم الآن يحترمونه ويبجلونه ولا يفعلون أو يقولون شيئاً قد يُغضبه، بل إنهم ـ إمعاناً في الإيمان أو الغواية ـ راحوا يترقبون كل فعل أو قول يصدر عن أبيك ويحللونه في إطار رؤية إيمانهم الجديد.
هكذا انتفتْ تهمة الخطيئة عن أبيك، وانتفتْ معها فكرة الانتقام منه أو قتله. لكن الناس مع إيمانهم الشديد هذا ظلوا حذرين أيضاً ولم يعد أبوك الذي تمنتْ كل عائلة في البلدة تزويجه من إحدى بناتها مطمعاً لأحد، كأنهم أرادوا له أن يظل هكذا في عيونهم مجرد حكاية أو أسطورة أو حتى خرافة ينظرونها من بعيد، يجلونها ويقدسون أفعالها وأقوالها، بل ويتبركون بها إن دعتْ الحاجة إلي ذلك، دونما أن يقربوها أو يدعونها تقربهم. وارتْ كل العائلات كل بناتها عن عينيه، وخابتْ مساعي أهله في إقناع أي عائلة بتزويجه من إحدى بناتها، لقد خاف الناس أن يكون أبوك نبياً حقيقياً فخشوا علي أنفسهم وبناتهم من ابتلاءاتْ السماء. قالوا في نفس واحد:
ـ زوجوه من أنفسكم.
لكننا ـ ونحن أهله ـ خِفْنا على بناتنا مثلهم، وقلنا:
ـ يكفي العائلة ابتلاء واحد.
وقد غذي ذلك الاعتقاد في نفوسهم أبوك نفسه، الذي ظل علي حاله من العزلة فوق سن الجبل، والتوهان في شوارع البلدة، والاختباء في بيته نهاراً لا يُكلم ولا يدع أحداً يُكلمه أو يراه، وقد امتدتْ تلك الحالة زمناً لم نعد نقدر علي حسابه من بعد، فقد كانت أحداثه ثقيلة ويمر ببطء السلحفاء حتى بلغ إحساسنا بطول اليوم الواحد مقدار ألف سنة أو يزيد.
بعدها، وفي يوم من أيام القيظ الشديد، خرج أبوك علينا من بيته ظهراً علي غير العادة، ومر علي كل بيت من بيوت أهله يدعوهم إليه، حتى إذا تجمعنا من حوله في ديوان العائلة، بحيث لم ينقص منا واحد، ركب علي إحدى الكنبات العالية ووقف فوق رؤوسنا يلقي علينا نبأ زواجه من صفية بنت مبارك بن أحمد المبروك، ذلك الأجير في أراضي البلدة.
وقع الخبر علي رؤوسنا كما تقع الصاعقة علي قش ناشف، فأحدثَ حريقاً زاعقاً راح فحيحه يصيبنا بعرق غزير تصبب في كل أجزاء أجسادنا، كيف يتزوج ابن العائلة من بنت الأجير؟ بدا ذلك ضد أعرافنا وأعراف البلدة كلها، لكننا بعدما تخلصنا من عرقنا بحيث لم تعد أجسادنا بقادرة علي زرف نقطة عرق إضافية، وبعد أخذ ورَدِّ مع نفوسنا رضينا بالأمر، فلم يبق في وجوهنا وقت لإقناع إحدى العائلات، ولا في حقائبنا من وسيلة نقدر علي الإقناع بها، وأمَّلنا أنفسنا أن يكون زواجه هذا نهاية لأمره في ألسنة الناس، وانتقاءً لأسطورته التي أخذتْ من رصيد العائلة.
تزوج أبوك من صفية ودعاها هاجر، فسكت الناس عن أمره حيناً من الوقت. ويبدو أن أباكَ كان في حاجة إلي امرأة، أو أن بنت الأجير قد استطاعتْ أن تحتويه تماماً وأن تُصلح من أمره الكثير مما عجزنا جميعاً عن إصلاحه، حتى أنا رفيق الصبا والشباب وبئر أسراره الغويط. لقد أبوك عن العزلة فوق سن الجبل وعاد إلي عمله مدرساً بمدرسة البلدة الابتدائية حتى رُقِّي إلي درجة ناظر، وبدأ في رعاية أرضه ومخالطة الناس، ولم يكن يشغله طوال تلك السنوات سوي أمر الخِلْفَةِ الذي تأخر طويلاً حتى كاد الناس يلوكون سيرته من جديد، غير أن العناية التي أخرجته من الابتلاءات السابقة أنقذته مرة أخري حين حملتْ هاجر، وجئتَ أنتَ يا إسماعيل طفلاً ولداً حَسَنَ المظهر وبهي الطلعة، تمر السنون عليك فتزيدك حسناً، وبهاءً، وصحة في الجسم والعقل، ومكانة في قلب أبيك، حتى بلغت معه مبلغ السعي وأصبحتَ رجلاً يعتمد عليك.
فما الذي ينقص أباك من بعد؟!
لماذا يُصر أبوك علي الإنقاص من شأنه وشأن عائلته بين الناس؟!
ما الذي يدعوه لترك حياته التي استتب أمرها له، ليرتكن إلي عزلة ثانية فوق سن ذات الجبل؟!
تتحدث أمك عن حلم مزعج يُلح عليه في نومه ولا يبوح به لأحد، فأي حلم هذا الذي لم يزل يجرجرنا إلي هُوةٍ سحيقة بغير قاع يحدها إلي نهاية معلومة، وبحيث يبدو الأمر وكأننا لن نعرف طريقاً للخروج من متاهاتها المتكاثرة.
(5)
لم يكن أمر خطبتي لمريم هيناً، ولا مفروشاً بتناثر أوراق الوردة الحمراء التي بعثرتها مريم في رسالتها الأولي. كان مزدحما بالرفض، ليس من قِبَل أهلها فقط فقد كان رفضهم يبدو طبيعياً في سياق تأديبهم لابنتهم علي تمردها ومعاقبتهم لها بالعنوسةـ بل من قبل أبي أيضاً وهو ما استغربتُه ووقفتُ منه موقف المذهول عقله وغير القادر علي التصديق، لقد خالف رفض أبي كل توقعاتي وتوقعات أمي التي حين أخبرتُها برغبتي في الزواج من مريم طارتْ فرحاً وتاهتْ نظراتها في فضاء صالة البيت تجوس أرجاء المكان في دورات منتظمة حتى حسبتُها تنسج دائرة خاصة بها في الهواء تتمرجح فيها، ثم تمتمتْ كأنما تُحدث نفسها:
ـ دع الفرح يدخل بيتنا فقد فارقنا طويلاً.
وأصرَّتْ علي أن تخبر أبي بنفسها.
في صباح اليوم التالي خرجتْ من غرفتها وحيدة ومتأخرة، بدتْ كمن لا يريد الخروج أو الحديث إليّ، وحاولتْ عدم الخوض في الموضوع لكنني حاصرتها فحاولتْ الالتفاف من حوله، أخبرتني أن أبي يريد التريث قليلاً حتى تتم مسألة تعييني بالمدرسة الابتدائية، فلما طأطأتُ رأسي لأسفل حيث بدا السبب غير مقنع علي ملامح وجهي وسكتُّ حتى كادتْ فرحة الأمس تنطفئ تماماً داخلي، حينها خافتْ أمي عليّ فأخبرتني بالحقيقة، قالت في تردد وبصوت متقطع:
ـ لقد رفض أبوك ولا أعرف لرفضه سبباً.
وقفت حائراً لا أدري ماذا أفعل، لكنني جادلتها كثيرا حتى تعبتُ وتعبتْ هي من عدم قدرتها علي إيصال رغبة أبي إليّ أو إقناعي بها، كيف يكون ذلك ولم يُعطها أبي سبباً؟! فلما استيأستْ من نفسها طلبتْ مني الانتظار حتى يصحو أبي، وأن أكلمه مباشرة.
لما استيقظ أبي طرقتُ باب غرفته مستأذناً في الدخول. بدا فوق سريره كما هو فوق سن الجبل مهيباً وجليلاً، تختلط ملامحه بمزيج من العظمة والكبرياء والتواضع وخشوع رائع يطلع من عينيه، وحين تتفجر الكلمات في شفتيه تتزلزل أركان الغرفة تماماً كما تتزلزل جنبات الجبل وتتصدع من صدي تراتيله المحلقة بين السماء والأرض. فوق سن الجبل كان قلبي ينخلع من مكانه، تتزايد دقاته ورغبته في الخروج من الجسد، فأتململ في مكاني، أفرد ذراعيّ عن آخرهما وأغرسهما في صخر الجبل علي جانبيّ، أحاول التشبث أو الحصول علي قدر كاف ٍمن الثبات يطمئن له قلبي الهَلِع من هول الحدث وأنا أري اتحاد السماء والأرض بين يديّ أبي، وحين تُلْفِتُ الصخرة انتباهي أراها وهي تتشقق إلي أحجار صغيرة، وتنفجر كأن شيئاً ما قوياً قد ضرب قلبها، ثم نفخ فيها فجعلها تتطاير في سماء المكان نتفاً صغيرة، تتبعها عيناي الخائفتان وهي تأخذ طريقها إلي أسفل الجبل، وتتصنتْ أذناي الهلعتان الواقفتان في ترقب وحذر لصوت ارتطامها بالأرض البعيدة، فلا أملك سوي أن أصمت وأسمع وأطيع أحاسيس أبي وأنا أنتظر المعجزة أن تأتي بين يديه، طالما أنني لا أملك شيئاً أدفع به، وطالما أن يديّ خاويتان وذهني مرتعب من الهول وقلبي فارغ، وطالما أن خيطاً ما / رغبة ما تجرجرني إليه.
أما الآن فإنني أري داخلي شيئاً مختلفاً. شيئاً ما يثبتني ويدفع عني قدراً كبيراً من الهلع والخوف، حين نظرتُ داخلي جيداً وجدتُ صورة مريم تتربع فوق محيط القلب وتمنع تزلزله، فأجدني ثابتاً إلي درجة تجعل الكلمات داخلي تخرج في ثقة، وثمة رغبة حقيقية في الجدل تستثيرني للدفاع عن رغبتي، وتمنع عني الخوف من ثعبان عظيم وجدته يتجسد فوق رأس أبي في فراغ الغرفة، تقف رأسه وتجحظ عيناه وتمتلئ رقبته بهواء كثير يندفع للخارج في فحيح طويل ومنتظم، شفتاه تتملظان في انقباضاتهما وتكشفان بين الفينة والأخرى عن نابين طويلين وحادين يكاد السُّم يطلع منهما، بينما أخذ جسده الطويل الملتف فوق رأس أبي في دوائر حلزونية فوق بعضها ينقبض وينبسط استعداداً للوثوب والفتك. لما نظر أبي إليّ جاء صوته محملاً بخشوع النظرة وعظمة جلالها:
ـ أعرف ما يدور داخلك.
ـ لماذا رفضته إذن؟!
ـ ولماذا لا تنتظر حتى يتم تعيينك بالمدرسة؟
ـ وهل نحن بحاجة إلي المال يا أبي؟!
ـ قيمة المرء في عمله.
ـ إنها مجرد خطبة.
ـ يُعَلَّقُ الرجل من كلمته، إنها سيف إذا لم يقطع به استدار يقطع منه.
ـ مريم مأزومة وتحتاجني كي أخلصها.
ـ ومَنْ يخلصك أنت، ومَنْ يخلصني أنا، ومَنْ يُخلص رقاب الناس الممدودة إلي الأرض؟!
ـ أنا أتحدث عن نفسي، أنا كفيل بها وحدها يا أبي.
ـ وأنا أحدثك عن نفسك ونفسي وأنفس كثيرة كُتِبَ عليّ أن أكفلها.
ـ يا أبتِ ...
ـ يا بني ليس لنا من وسيلة للخلاص سوى الصبر، يابني اصبر إني أري ما لا تقدر علي رؤيته.
وأسقط عينيه إلي حجره فعرفتُ أنه ينهي الكلام، وحين حاولت مواصلة الحديث بدأ الثعبان في فتح فمه وإبراز نابيه الحادين، لقد أخرج لسانه نحوي طويلاً يكاد يلعقني بسُمِّه، فهممتُ بالصمت، علي أن صمتي لم يكن إذعاناً ولا خوفاً من الثعبان بقدر ما بدا داخلي إنهاءً لحوار عقيم لا فائدة منه.
وفرحتُ كثيراً حين وجدتني أرتب في مرآة خيالي الخطوات العملية التي سأتخذها لخطبة مريم. لقد نويت أن أتخذ من العم إسماعيل بديلاً عن أبي وهو يحبني كثيراً، أما إن رفض هو الآخر فسأفعل ذلك بمفردي، وحدي أحُدُّ الخطي إليك يا مريم، أعلم أن بيني وبينكِ جبالاً تليدة من العادات والتقاليد البائدة، العقيمة، لكنني سأهم المسير علي درب قيس وعنترة والحلاج والحارس المحاسبي، سأحاول تحطيم القيود بسيف العشق، وامتلاك الإرادة بمحاولات التحدي، وإن أنا لم أصل إليك، إن أخفقتْ محاولات التحدي حيث كانت الجبال عالية والقيود محكمة الإغلاق فلا تحزني مثلما أنا لن أحزن، فنحن لا نملك أسباباً وجيهة للغضب من قدرنا، لكننا نملك الإصرار علي تكرار المحاولة، وحين كنتُ أخرج من الغرفة بصعوبة شديدة وتثاقل وخيبة أمل من عدم موافقة أبي كي تسير الأمور بشكل طبيعي أحبه، كان الثعبان يخرج من السقف في الأعلى فلا يعوقه.
لماذا لم يرفض العم إسماعيل طلبي؟
كان يعلم برفض أبي فقد كنتُ صريحاً معه، ولم يكن هو ليتعدي حدود العُرف والتقاليد، لكنه قالها بعد تفكير عميق وتأمل، وبعدما حدَّد ذقنه الطويل الحاد بأصابعه ومسح عليه في بطء مرسلاً في الفراغ من حوله نظرة الفكر العميق.
ـ دع أباك فهو أدري بشأنه، أما نحن فليس لنا غير حدود المحاولة حتى نعلم.
واتفقنا علي الذهاب إلي عائلة مريم بعدما أرسلنا رسولاً حدد لنا موعداً.
ديوان عائلة مريم فسيح ومرتفع وغائر في العمق أمام العيون، ظننتُ وأنا أخطو بقدميّ داخله أن نظرتي لن تصل إلي نهاية. سقفه العالي مُحَلَّي بأضواء مصابيح النيون البيضاء الساقطة أسفل طلاء الجبس الأبيض المزين في حواف التصاقه بالحوائط بنقوش زخرفيه حاول مَنْ رسمها أن يُقَرِبَها من فن الأرابيسك، بحيث تستطيع أن تميز ـ إن دققت النظر ـ بعض محاولات فقيرة لرسم مشربية أو شباك أو أعمدة دائرية صغيرة، كانت مدهونة جميعها بلون بني غامق وظاهر إلي أقصي مدي تحت مساحة البياض الساطعة، الساقطة من السقف وكأن مهمتها كسر عيون الناظرين إلي أعلي ليخفضوا رءوسهم سريعاً ويبدون وهم داخلون ساحة الديوان غاية في الأدب الجم،أما الحوائط فبرغم علوها المبالغ فيه واتساع مساحتها فقد دُهنتْ جميعها بطلاء زيتي لونه أصفر سن فيل، كان فاتحاً إلي درجة التوهان في مساحة البياض النازلة من السقف ومن الضوء، وعلي البُعد في الجدار المواجه لباب الديوان الرئيسي تستطيع أن تلمح بسهولة رسماً كبيراً وبارزاً لمبني الكعبة بحجم الجدار تقريباً، ثلثه الأسفل القريب من الأرض مدهون بلون بني غامق تقطعه خيوط بيضاء، رأسية صغيرة وأفقية بطول الرسم، يصنع تشابكها تشكيلاً دقيقاً لصفوف أحجار لم يوارِها الطلاء بعد، بينما الثلثان العاليان في سماء الجدار يكسوهما لون أسود داكن تدلَّى إلى الأسفل حتى تواري من تحته الخط الأفقي السادس لأحجار الطوب غير المطلي تاركاً أجزاء الأحجار بارزة عبر التواءات الغطاء الأسود إلى أعلى في أنصاف دوائر متشابكة، وقد شقَّها في الأعلى مستطيل من آيات قرآنية مكتوبة بخط الثلث ومتداخلة كي لا تقدر عين على قراءتها، في منتصف الكعبة يرقد باب صغير أبيض ومزخرف بنفس محاولات نقوش الأرابيسك غير الجادة. أرضية الديوان مفروشة بالبلاط النظيف والدكك مرصوصة على الجوانب أسفل الحوائط وتحت الأعمدة الخرسانية زاهية كأنها دُهنتْ حديثاً ومفروشة بسجاجيد صوف، مساند المخدات الطويلة تحدها من أعلى لكل دكة مخدتان. بدا منظر الديوان فخيماً وكان منظر الرجال الكثيرين الذين وقفوا في انتظارنا يزيدونه فخامة وجلالاً، وصوت ترديدهم لتحية السلام التي ألقيناها عليهم يكاد يهز جدران الديوان إذ يتردد صداه في جنباته العالية. لما لفني بياض المكان أحسستُ الخير داخلي وبدوت مطمئناً إلى حد كبير، إلى درجة نسيت معها أبي، ولم يشعر بالخجل من مفارقة المقارنة بين الناس الكثيرين الذين وقفوا في استقبالنا وكأن عائلة مريم كلها قد اجتمعتْ في المكان وبين دخولي والعم إسماعيل فقط عليهم. جلسنا وقُدِّمَ الشاي كتحية، سبقه في فترة إعداده الكثير من السجائر الفرط التي تكومتْ بيني وبين العم حتى ظننا بوجود جسد ثالث بيننا، تبادل العم ووالد مريم كلمات الترحيب والاشتياق وذكريات بدتْ بينهما لم أكن أعلمها من قبل، بعدها بدأ العم في الإفصاح عن سبب الزيارة وتَقَدَّم لخطبتي من مريم، لم يفت والد مريم السؤال عن سبب عدم حضور أبي لكن العم رد بأنه متعب ويعتذر عن عدم الحضور، ونقل إلى والد مريم ـ كذباً أو يقيناً يحسه داخله ـ مباركة أبي لهذا الزواج، قال العم:
ـ نحن نتشرف بنسبك يا حج.
ـ ونحن أيضاً يا حج إسماعيل لكن الموضوع يحتاج إلى تفكير.
ـ على أن نرجوه خيراً في نهاية الأمر.
ـ كله على الله، لا تكن عجولاً يا رجل.
ـ العجلة من الشيطان يا حاج، نسأل الله أن يبعده عنا.
ـ آمين يا حاج إسماعيل، واعلم أن ابنتنا إن خرجتْ من دارنا فلن تدخل داراً خيراً من داركم.
وبذكاء شديد سحب والد مريم الحديث ليقطع حواره في مسألة الخطبة وليعود به مرة أخرى إلى حيث الذكريات البعيدة والسؤال عن أحوال أبي، محاولة للاطمئنان عليه من ناحية، ومن ناحية أخرى الخوض في سيرته التي يحب كل أهل البلدة الحديث عنها، قداسة أو سخرية أو امتزاجهما معاً في آن واحد، ولم يجد العم بعد طول الحديث بُداً من إنهاء اللقاء فأنهاه، كنا ننسحب من المكان يحوطنا صدى الأصوات المزلزلة، ويقبع داخلي يقين ما ـ وأنا أنسل من بياض الديوان ـ أن الخير الذي أحسسته وأنا أدخله، لم يعد كما كان في البدء.
ماذا فعل أبي عندما سمع بما حدث؟
صحيح أنه لم يُجن جنونه، ولكنه راح في صمت طويل وممتد وعميق، لقد ظل لثلاثة أيام متتالية لا ينطق بحرف واحد، حتى وحدته الجبلية رفض اصطحابي فيها لأول مرة في حياته، بعدما أعدتْ أمي بعد أذان العصر طبق البلح المبلل وزجاجة الماء حملتهما بين يديّ وبدأت خطواتي باتجاه باب البيت البرَّانى حيث يستعد أبي للخروج، حينها التفت وراءه و مد ذراعه في وجهي يثبتني مكاني، فعرفتُ أنه لا يرغب في اصطحابي معه، تاهتْ نظراتي في فضاء صالة البيت للحظة، لكنها استقرت أخيراً علي وجهه في استغراب وتساؤل فَهِمَه أبي وردَّ عليه بجملة قاطعة:
ـ أما أنت فلا.
ثم أسقط عينيه في الأرض واستدار خارجاً، ولم نعد نسمع من منزلنا في وسط بيوت البلدة الشرقية أصداء تراتيله، وفي البيت كان يغلق عليه باب غرفته بغير طعام، ليس سوي الماء غذاءً في ثلاثة أيام متواصلة و ثقيلة، كانت أمي تأتي به في كوب الألومنيوم الصغير إذ تسمع الخبطات الثلاث علي الباب من الداخل، تضع الكوب أسفل باب الغرفة وترد بثلاث خبطات مثلها وتغادر، بعدها يفتح أبي الباب يرفع الكوب ويشرب ثم يضعه مكانه ويعود الباب لينغلق عليه مرة أخري، ثلاثة أيام متواصلة وثقيلة مرت فوق نفوسنا ببطء شديد وكتمتْ أنفاسنا حتى رأينا الموت على مقربة من باب بيتنا، لم نسمع خلالها سوى نحيب متصل ومكتوم تقطعه بين الفينة والأخرى شهقات تشبه شهقات سكرة الموت، يروح خلالها أبي في غيبوبة طويلة من الصمت والسكون قبل أن يعود لنحيبه المتصل، وفي آخر ليل اليوم الثالث بعدما نزل من الجبل واستكان إلي غرفته قمنا فزعين ـ أنا من غرفتي وأمي من صالة البيت ـ علي صوت صرخته المدوية تهز جدران بيتنا و تشق آذان النوم في جسدينا حتى يكاد سقف غرفته أن يقع لها:
ـ يا رب إجعلها الفدية.
أيادينا امتدتْ تخبط في هلع علي باب غرفته وكان مغلقاً من الداخل، وكلما علا نحيبه وتواصلت شهقاته في الداخل بترديد النداء كلما جُنَّتْ أيادينا علي باب الغرفة حتى سكت فسكتتْ الأيدي ورحنا نرهف السمع لما قد يصدر عنه، إلي أن جاء صوته هادئاً وواثقاً ومطمئناً كأنه لم ينتحب قط ولم يشهق ولم يجهر بترديد النداء:
ـ اذهبا فأنا بخير.
وخلال ثلاثة أيام أخري أحسسنا وكأن نفسه قد اطمأنتْ إلي شيء ما صَعُبَ علينا تفسيره ولم نجرؤ علي السؤال عنه، لكن نفوسنا ارتاحتْ هي الأخرى حين رأيناه يعود لسيرته الأولى، بل ووصل بي الأمر إلي حد الفرحة حين وجدته في هذه الثلاثة أيام يقلع عن صعود الجبل، بدا هادئا في ترقب، ومطمئناً في حذر كمن ينتظر معجزة من السماء، غير أنه رفض الحديث تماماً عن أمر خطبتي لمريم، لقد حاولت لما اطمأننتُ إلي حالته الحديث عن ذلك الأمر، لكنه قال:
- اصبر و سنرى.
وفي صباح اليوم الرابع صحا مبكراً علي غير عادته، أيقظني بتربيتة حانية علي كتفي وهو يمسح علي رأسي بأصابعه، وأمرني أن أرتدي ملابسي للخروج معه إلي السوق.
في ركن البلدة الغربي قريباً من شاطئ النهر بدا السوق مزدحماً أكثر فاليوم هو "الخميس"، بدايةً استغربت أن يخرج أبي لشراء حاجيات البيت، ولما سحبني من ذراعي متجاوزاً بي الأماكن المخصصة عُرفاً لباعة الخضروات والفاكهة واللحوم عرفتُ أنه يقصد لشيء آخر. لم أسأله عن شيء وآثرت التريث حتى يستبين الأمر، إلي أن استوينا في قلب المكان المخصص لسوق البهائم. جعل أبي يطوف بعينيه علي الخِراف المتناثرة تحت أقدام البائعين في عشوائية، يفرزها بنظرته الحادة الثاقبة، ثم يفرزني من بعدها حتى ظننته يعقد مقارنة بيني وبين الخِراف، ولما اطمأنت نفسه إلي أحد الخِراف هزَّهُ بين يديه مرات متتالية ثم زفر سعيداً بانتقائه وفوزه به، قال كأنما يحدث نفسه:
ـ هذا أفضلهم.
ودفع بثمنه إلي البائع وقفلنا نعود إلي البيت.
ربط أبي الخروف إلي جذع شجرة خضراء يانعة في حديقة بيتنا، وظل يُطعمه ويُسمنه لأربعة أيام متواصلة، لقد حرص أبي ونحن نعود من السوق أن يأتي بما يلزم الخروف من علف وبرسيم ورَدَّة وغَلَّة وشعير وظل يُقدم له الطعام حتى كاد أن يبشم، وفي مساء اليوم العاشر من انقطاع أبي عن الصعود إلي سن الجبل أمرني بحل رباط الخروف، وحمل تحت إبطه حصير البلاستيك وبين يديه زجاجة الماء وطبق كالبلح المبلل وقال في حزْمٍ:
ـ سنصعد الليلة إلي الجبل.
كان المغرب قد وَلَّي وبدأ الليل يلف البلدة في عباءته السوداء، يكاد يعم بظلامه علي البيوت والشوارع والجبل لولا أن ضوء القمر قد خفف من حدة وطء ظلمته فجعلها فضية ظاهرة، لكن أبي أصر علي الصعود، وعلي حافة النهر بدتْ المَعَدِّيَّة تحت ضوء القمر الساطع تربض هناك عند الجانب الغربي وقد شُدَّ رباطها إلي جذع نخلة تقف وحدها بعيداً عن بقية النخلات التي تراصتْ إلي جوار بعضها بطول شاطئ النهر، حتى مراكب الصيادين إلي جوارنا كانت راسية علي الشط ومربوطة هي الأخرى بعدما ذهب عنها أصحابها، لكن أبي لم ييأس، قال:
ـ لن نتأخر كثيراً.
وأمرني بفك رباط إحدى المراكب، فاتخذنا سبيلنا إلي الشاطئ الغربي.
وسط العتمة الفضية كان أبي يعرف طريقه إلي سن الجبل حتى وصلناه، وإستوينا قاعدين علي الصخرة الحمراء المستوية نلتقط أنفاسنا، وندع فرصة طيبة للتعب كي يتسلل من أجسادنا إلي حيث الفراغ العظيم والمهابة المقدسة لقمة جبل عالٍ فوق رؤوس الأشياء جميعاً وقادر علي تحمل تعب جسدينا، سقى أبي الخروف ثم أراح جسده فوق جسد الصخرة، أنامه علي جنبه الأيمن وأمرني بإمساك أقدامه بيديّ وإحكام قبضتي عليها، بدا واضحاً الآن أمام عينيّ أن أبي يقوم بذبح الخروف، لكنني لم أعرف لماذا ؟ لماذا الذبح، و لماذا فوق سن الجبل وليس في حديقة بيتنا المتسعة، ولما استل سكينه التي لمع نصلها رغم ضعف ضوء القمر كَبَّرَ وهَلَّل في صوت زاعق تجهَّمَ له وجهه وجحظت عيناه، ثم قال في هدوء:
ـ لنري الآن إن كان الدم سيصعد.
بعدها زعق مرة أخري عالياً وبكل ما حمل جسده من قوة.
ـ يا رب اجعله يصعد أو يحترق.
ووقف فوق رأس الخروف ممسكاً إياها بيد والسكين بيد والسكين باليد الأخرى، وفي هدوء ورحمة رفع رأس الخروف ونزل بسكينه علي الرقبة المستسلمة في هلع، ومع سقوط الدم فوق جسد الصخرة كانت دمعتان ساخنتان ـ أحسست سخونتهما في وجهي ـ تسقطان من عينَيْ الخروف وتحرقان خديه.
سقط الدم علي جسد الصخرة إذن، ولم يصعد ولم يحترق بنار تهبط له من السماء.
سقط من الرأس التي اجتزها أبي عن آخرها وأزاحها بعيداً عن الجسد، ولم تزل عيناها الجاحظتان تذرفان الدموع، وكذا سقط الدم من جسد الرقبة المبتورة مندفعاً إلي الأمام في قوة تزيد كلما فَرْفَطَ الخروف تحت يديّ إذ يحاول الوثوب للتخلص من قبضتي، أومن الألم الحاد، المستعر ناراً، الذي خَلَّفَهُ حد السكين في رقبته، غير أن الخروف لم يتخلص سوى من دمه الذي انسال سريعاً من شدة فرفطته فوق الصخرة، ثم راح يذرفه وئيداً وفي هدوء مع همود جسده من تحتي، حتى استكان الجسد تماماً مع سقوط آخر قطرة دم مستسلماً للموت أو الألم، فيما ظلتْ العينان ـ هناك عند الرأس المخلوعة ـ تجحظان وتذرفان دموعهما كأنما علي الجسد الذي كان.
كان من الطبيعي ألا تتشرب الصخرة دم الخروف نظراً لطبيعتها المصمدة، الخالية من الثقوب لكن أن ترفض الرمال أيضاً تَشَرُّب الدم فهذا ما أذهلني وأذهب عقل أبي، لقد ظل الدم يتدحرج ساقطاً من فوق الصخرة العالية في قمة الجبل إلي فوق صخور أخرى أسفل منها ماراً برمال كانت أقدامنا تغوص فيها، لكنه عبرها مثل سطح زجاجي أملس، ينزلق من فوقها بسهولة ومرونة كأنه ينزلق علي جليد صلد، وكنا فوق الجبل نسمع لسقوطه خريراً باكياً وهو يتخذ طريقه إلي أسفل الجبل، نفس طريق صعود أبي، ويلمع تحت ضوء القمر الواهن منتحباً، حتى تكوَّم في الأسفل تشكيلاً خرافياً لبركة حمراء دامية وصلدة فوق رمال الجبل السفلية، رفضتْ أن تغوص في بطن الرمل كما رفضتْ أن تمتزج به، و لم ترض بشيء سوى أن تظل فوقه مثل صخرة ملساء ومستوية وجافة، لا تختفي أو تتبخر في الهواء، ولا تذوب تحت أشعة الشمس الحامية.
شعور مرير بخيبة الأمل أصاب أبي في كبده كأن المعجزة التي كان ينتظرها لم تأتِ، وهل كان ثمة معجزة يجب أن ينتظرها؟! ما الذي يبغيه أبي من وراء كل ذلك؟ كل هذه الأفعال الغريبة وغير المبررة والمستعصية علي الفهم والتحليل يأتيها مثل أمور طبيعية عليه إنجازها وإتمامها علي أكمل وجه، بل وانتظار نتائجها المرجوة، وأن علينا التسليم، التسليم وفقط، دون فهم أو حتى مجرد محاولة للتأويل وإن صَغُرَتْ، دون حتى مجرد توجيه الأسئلة لاستجلاء الأمور، صحيح أن الأفكار العظيمة التي تُظلل هذا العالم من حولنا تستطيع أن تنبت في رأس مَنْ لا نأبه له علي الإطلاق، وقد تأتي أيضاً نتيجة أسباب غاية في البساطة أو التفاهة، لكن يجب أن يكون هناك قدر ولو بسيط من تبرير الأمور، يجب أن نمتلك قدراً ولو بسيطاً من الفهم كي نتواصل، كل توضع الأمور والأحداث والأفعال والأقوال في بؤرة متزنة فلا يصيبها الخلل ولا تُغَلِفَها الغياهب.
كيف سمح أبي لهذا الشعور الغريب بخيبة الأمل أن يصيبه، وأن يُرقده بغير حراك ؟!
حتى الكلام كان يُجهده وينال منه، فشل كل الأطباء الذين أتينا بهم من المدينة في تشخيص المرض، كان ثمة سخونة عظيمة ـ غير مبررة هي الأخرى ـ تصيب الجسد كله وتُدخله في غيبوبة طويلة، طويلة بحيث نستمر أنا وأمي والعم إسماعيل ملتصقين بحواف سريره لثلاث ليالٍ متصلة ممسكين بفوط صغيرة ومبللة بالماء البارد، ندعك بها جسده دون أن تخف وطأة السخونة، أو تذهب حرارتها حتى من فضاء الغرفة الذي أصبح حاراً، وعندما كان يفيق فإن ذلك يحدث من تلقاء نفسه، بعيداً عن مفعول الأدوية أو تأثير الفوط المبللة، وبعد إفاقة طويلة ظننا أنها نهاية المرض قَرَّبَني إلي جواره علي السرير وهمس بيأس في فضاء الغرفة:
ـ أخطبها فقد أصابتنا اللعنة وانتهي الأمر.
فرحت بإفاقة أبي، وفرحت بموافقته علي خطبة مريم، لكن فرحتي لم تستمر طويلاً فقد دخل أبي في المرض مرة أخرى، وجاء رَدُّ عائلة مريم بالرفض، مجرد كلمة واحدة " لا " أرسلوها مع أحد أقربائهم البعيدين في موقف تناقض كلياً مع طريقة استقبالهم لي وللعم إسماعيل، ودونما نظر لمكانة مَنْ يخاطبونهم، فهل يحق لهم المجد الآن.
هم الذين قالوا " لا " صراحة وعلانية وغلظة وتمسكاً بتقاليد القديم.
هم الذين يقذفون بمريم الآن في قلب بركان الألم.
(6)
لا يوجد ما يساوي لمعان الحياة في عين الرجل حين يكون مقبلاً علي الموت.
هكذا دخل أبي في المرض إذن، وأظنه الرقاد الأخير الذي يسبق الموت، ذلك الباب الذي إن عبرت منه لا يُفتح من خلفكَ أبداً، إنه أشبه ما يكون بصمام القلب يجبر الدم علي السير في اتجاه واحد ولا يسمح له بالعودة مرة أخرى. لقد مرتْ فترة طويلة علي رقاد أبي إلي جوار المرض منذ يوم الذبح، وقد تعودنا منه السخونة والغيبوبة، لكنهما زادا في هذه الأيام وبسرعة شديدة إلي درجة لم نكن لنتوقعها، كنا نظنها إحدى رقداته التي عودنا عليها مثل عزلته وحيداً فوق سن الجبل، حتماً سوف يقوم منها بعد فترة كما يعود من عزلته مساء كل يوم، لذلك لم نأبه لطول الفترة ولا لشدة المرض أو عدم قدرة الأطباء علي تشخيصه أو علاجه، حتى في هذه الأيام التي زادت السخونة فيها وبدأت في الخروج من سماء الغرفة لتعبق سماء البيت كله برائحة الشياط، وبدأت فيها سحائب الغيبوبة تتكاثر من فوقه ويثقل ماؤها بحيث يغيب في متاهاتها لفترات طويلة امتدتْ في بعض الأحيان إلي أسبوع كامل، وبدأتْ إفاقته منها تضعف في كل مرة بحيث لم يعد قادراً سوى علي فتح عينيه ببعض النظرات الزائغة في أرجاء الغرفة، وغير القادرة علي السقوط علي جسد أحدنا أو تحديد ملامحه، يفتح فمه ببعض الكلمات التي تطل علينا كأنما من رحم الغيب ولا نعرف مَنْ تقصده، حتى هذه اللحظة لم نكن نعتقد في تطور الأمور وتدحرجها نحو الهاوية، كنا نعتقد أنها فقط تتدهور لتستقيم من جديد، لكنني حين لمحت بريق الحياة يطل من عينيه في هذه الإفاقة عرفتُ أنه الموت.
أفاق أبي وسط صمت شديد يجثم علي الغرفة، كانت أمي تجلس إلي جواره علي السرير تتحسس جبينه بعد كل مرة ترفع فيها الفوطة المبللة بالماء البارد، وحين تجدها سخنه لم تزل تبللها مرة أخرى وتضعها فوق جبينه دونما أن تعصرها، فيما استلقيت أنا والعم إسماعيل فوق الكنبة في الجانب الآخر غارقين في الصمت ولم نكن نملك شيئاً سوى النظر إليه ممدداً علي السرير، ومراقبة أمي ومحاولاتها اليائسة لاخفاض درجة حرارته، لم يكن في الغرفة من صوت سوى خرير واهن يصنعه الماء البارد علي استحياء أثناء تساقط قطراته عند منبعها الأصلي في الطبق الأبيض المدور والتي لم تقدر الفوطة علي الاحتفاظ بها حين ترفعها أمي من جوف الطبق. كانت عيوننا تتحرك بغير إرادة إذ تتابع حركة الفوطة بين يديّ أمي ذهاباً ورواحاً من الطبق إلي رأس أبي ـ حين لمحتُ الحركة الواهنة تصيب أصابع يد أبي الممددة فوق الغطاء الذي يكسو جسده حتى حافة العنق، ظننته خداع نظر من طول تَمَنِّي إفاقته في نفسي، ولم نتأكد من إفاقته إلا حين بدأ جفناه في التذبذب فوق عينيه، وبدأ صوته يشق الصمت بآهات متكسرة ومتقطعة وضعيفة كأنها تأتي من بُعد سحيق لا تقدر علي الخلاص منه، استبقنا أنا والعم السرير حتى تحلقنا من حوله، وحتى بدأت عيناه تتفتحان عن تلك النظرة التي رأيت فيها بريق الحياة يلمع في عينه، تفتحتْ عيناه علي ظمأ شديد، طلب الماء فذهبتْ أمي مسرعة تأتي به من الخارج، وتقف عند رأسه ترفعها بيدها الخالية من الكوب وتسندها علي صدرها وهى تريح رأسها فوق رأسه بحنان شديد، وتضع كوب الماء بين شفتيه، مدَّ أبي يديه يحضن كوب الماء فوق يد أمي في لهفة وملأ فمه به ثم أزاح يد أمي الممسكة بالكوب إلي أعلي ليسقط الماء في فمه، فسقط الماء، لكن أبي عجز عن ابتلاعه. لا أعرف إن كان جسده هو الذي رفض الماء أم أن الماء هو الذي رفض أن يُبتلع، لكنني رأيت الماء يتكون في فم أبي ثم يفيض ساقطاً علي شفتيه وصدره حتى بلل الغطاء والجلباب، حينها أزاح العم إسماعيل يد أمي الممسكة بالكوب وأمرها أن تريح رأس أبي فوق المخدة، فراحت الرأس تنزاح إلي أسفل بتسليم لم أعهده في أبي من قبل، بدت عيناه مفتوحتين عن آخرهما وقد بدأتْ مساحة البياض فيهما تزداد وتلمع مع محاولة النِنِّي الانسحاب إلي أعلي أو الاختفاء تحت لحم الجفنين، لقد لمحتُ نِنَّيْ العينين يبرقان بوهج الحياة كأنهما يستعرضان شريط حياته كلها ومنذ المولد، لمحتُ فيهما آخر محاولة فاشلة للإمساك بتلابيب الدنيا، محاولة العض علي جرعة ماء تبعث الأمل وتريح النفس، فأحسستُ حينها أن أبي يفارقني، وبدأتُ في تقبيله والمسح علي وجهه في تربيت تمنيته لو يكون في نفس حنان تربيت أمي، حينها أمسك أبي بكفي ووجَّه نظره نحوى بصعوبة شديدة ونطق " يا بُني " بحنان شديد، لكنه لم يقدر علي إكمال الحديث، أخذ نفساً عميقاً زفره بعد أمد بعيد علي دفعات وئيدة، ولما أحس أنه قد ارتاح قليلاً بدأ في الكلام مرة أخرى:
ـ يا بني أنت لا تعرف ما حاولت فعله لك، لكن اعلم أن الابن هو روح الرجل، وأنت إن فعلت هذا وأنجبت ابناً في يوم من الأيام، فاصنع له كل ما تستطيع من غير أن تَمُنَّ عليه بمعرفة ذلك، وحينها اعلم أن أباك سوف يبتسم لك من السماء.
وبدأ أبي في إغماض عينيه ببطء شديد تواكب مع ضعف قبضته علي كفي حتى توقفت عن الحركة تماماً، حينها زعقتْ أمي بالصرخة المدوية، وبدأ العم إسماعيل في النحيب، فيما كنتُ أنا أبحث عن الموت في فضاء الغرفة دونما جدوى، ولم أكن أعلم بعد أن الليل قد خيم علي البلدة في الخارج ورمى فوق بيوتها عباءته السوداء.
كيف قضينا ليلتنا هذه ؟!
كانت صرخة أمي مدوية بحق، اهتزت لها كل جدران بيتنا حتى تصدعتْ وظهرتْ فيها الشقوق الكبيرة تكشف عن سواد الليل في الخارج وتسمح للصرخة بالخروج من نطاق بيتنا لتتسرسب في فضاء البلدة جميعها، تهز جدران بيوتها الطينية الواطئة، تبعث اليقظة في أجساد أهلها الذين راحوا يستسلمون للنوم المبكر استعداداً لشقاء اليوم القادم، وكذا الناس الساهرون في المقاهي وعلي المصاطب أمام البيوت، والبهائم التي أرختْ آذانها لسكون الليل في الأحواش المغلقة، والطير النائم فوق أشجار النخيل داخل أعشاشه الهادئة، جميعهم دخلتهم الصرخة فنبهت حواسهم بأن خطباً جليلاً قد وقع، ثم دفعتهم صوب بيتنا، يأتون عبر شوارع البلدة كلها ليستقروا في منتصفها، لم يقل أحد لأحد شيئاً فجميعهم لا يعرفون ما الذي يجرى، فقط ينظرون بعضهم في فزع وتساؤل وهم يجدون أنفسهم مدفوعين نحو شيء ما مجهول، يجذبهم ولا يسمعون منه صوت الصرخة، وأنهم مدفوعون باتجاهها، حتى تحلقوا بيتنا وطفقوا في الطواف من حوله، وعندما علموا نبأ وفاة أبي سكت صياحهم، توقفوا جميعاً عن الحركة كأنهم يتنفسون الصمت والسكون، ثم افترشوا أماكنهم داخل البيت وفي الشوارع المحيطة حتى حلق فوق رؤوسهم طائر الدموع فبدأوا في البكاء.
أعترف أن العم إسماعيل كان أكثرنا رباطة جأش وقدرة علي التماسك والتصرف في مثل هذه الأمور، سرعان ما سيطر علي نحيبه وخرج إلي الناس يخبرهم النبأ، ثم ذهب بنفسه لإحضار طبيب الوحدة الصحية الذي أكد حالة الوفاة وكتب تصريح الدفن، بعدها أرسل العم إسماعيل مَنْ يأتي بملابس الكفن ودخل علينا ـ أنا وأمي ـ الغرفة واستوى إلي جوارنا علي السرير الممدد أبي من فوقه ميتاً.
كانت أمي تجلس عند رأس الجثة تبكي وتنتحب وتنادي علي الرجل الذي أسعدها وأهداها حياة تمنتها طويلاً وكافحتْ من أجل تحقيقها، فيما بقيت أنا عند طرف السرير الأخير بالقُرب من قدميّ أبي مدثراً بغيمة ثقيلة من الذهول وغير قادر علي تصديق مفارقة أبي لي.
هل ذهب أبي حقاً؟!
أيمكن لهذا الرجل الذي ملأ سماء بلدتنا بالحكايات أن تنتهي حكايته؟!
الآن تمر حياتي مع أبي مثل شريط سينمائي أراه بأم عينيّ، أشاهد الفرحة في عينيه وفي قلبه والداية تخرج من غرفة ولادة أمي وتخبره بمجيئي، أراه وهو يضمني بذراعيه إلي صدره ولم أزل حينها قطعة من اللحم مدثرة بالملاءات البيضاء الصغيرة، أراه وهو يلاعبني في الحديقة كأنما طفل في سني ويصطحبني في يده إلي كل مكان يخرج إليه، أي شيء سيدعوني بعد الآن إلي صعود الجبل؟! حتى هذا الفعل الذي عَكَّر صفو حياتنا ولم نجد له منطقاً كنتُ أحبه فيه وأعشق رحلتي اليومية إلي جواره حتى سن الجبل أو حافة السماء، أيمكن لهذه الحياة المفعمة بالمحبة وبالمتناقضات والحكايا أن تنتهي بمثل هذه البساطة؟! ثمة شيء ما يخترق داخلي ويخبرني بعدم انتهاء الأمر، فأدس يدي تحت الغطاء خلسة أهز قدم أبي وأنا أرقب تقاطيع وجهه من خلف ظهر أمي والعم إسماعيل وأتمنى لو يحس أبي بي، أن يتحرك و لو بطيئاً برعشة جفن أو بحفنة من الهواء يدفعها من داخل جسده، لكن شيئاً ما لا يتحرك من جسد أبي، فأظل أهزه ولا أتواني عن محاولاتي الفاشلة، إلي أن طرق الباب علينا من أرسله العم إسماعيل لإحضار ملابس الكفن وقد جاء بها، فبدأوا الاستعداد للغُسل.
أصرت أمي علي أن يكون الغُسل في نفس الغرفة فأزالوا سجادة الأرض وجردوا الكنبة المجاورة من فراشها، وفي المقابل أصر العم إسماعيل علي خروج أمي فخرجتْ، لكنه رضي ببقائي لحضور الغُسل حين أصررتُ عليه، بقينا في الغرفة أنا والعم إسماعيل نرقب عملية الغسل، الرجلان المكلفان بها جردا أبي من ملابسه وحملاه إلي الكنبة، وبدآ في خلط الماء البارد بالساخن كي يصبح الماء فاترا ًومتناسباً مع برودة الوقت التي بدأت زحفها مع دخول الشتاء، كنت والعم إسماعيل لا تكاد عيوننا تفارق جسد أبي العاري وقد بدا فوق الكنبة مثل مصباح منير، فاحتار عقلي. كيف لم يتوقف تدفق الدم في جسد أبي مع الموت بحيث لم يزل محتفظاً بلونه الأبيض المشرب بالحُمرة؟ فلما لم أجد إجابة سكتُّ وجعلت أرقب الموقف وقد توقفت الدموع من عينيّ مرة واحدة، حتى أحسست وكأنني شخص مختلف يرقب الأمر بحياد تام، إلي أن بدأ الرجلان في سكب الماء علي رأس أبي، فخُيَّل إليَّ أن ملامح وجهه قد تحركت أخيراً، أن الجفنين المغمضين علي عينيه قد زاد انقباضهما من رعشة انسكاب الماء، نظرتُ إلي العم فلم يبد عليه شيء يشي بملاحظته لذلك، فكتمته في نفسي ولم أُبده له، وحاولت طرد كل خيال من ذهني قد يؤدي بي إلي عدم تصديق الواقع، لكنني لم أستطع كتم الصوت الذي يزعق داخلي ويخبرني بعدم انتهاء الأمر، حتى لاحظت انقباض الجفنين مرة أخرى بما لا يدع لي مجالاً من الشك في عينيّ، فقررت الاستماع للصوت الزاعق داخلي في محاولة أخيرة لقطع حبل الشك واستلاب الخلاص. تقدمتُ إلي جوار الكنبة وأمسكت قدم أبي محاولاً رفعها إلي أعلي فذهل عقلي، لقد قاوم أبي محاولتي، فزعقت علي العم إسماعيل وأخبرته. توقف الرجلان عن الغُسل وراحا ينظران إليّ بنفس نظرة العم غير المصدقة، وبدأوا جميعاً في مصمصة شفاههم تَصَعُبَاً علي حالي، فكررتُ الخبر علي العم وأكدت عليه، وحين لم يصدقني سحبته من يده ودعوته للتجربة، وحين جرَّبَ آمن بما قلته له، كنا حتى هذه اللحظة غير مصدقين، فلم يكن ثمة ما يدعونا للاعتقاد بعودة الميت، لكن يبدو أن أمل التمني في نفوسنا كان كبيراً، وطموحاً، وذا رغبة جامحة في اختراق الأعراف والعهود، وبالفعل جرينا من ورائه وبدأنا جميعاً في هز جسد أبي والضرب خفيفاً علي وجهه وسكب الماء القليل عليه لمحاولة إفاقته حتى أفاق و بدأ في فتح عينيه مرة أخرى.
بدتْ المفاجأة ضخمة، لذلك فَضَّلَ العم إسماعيل التريث في إعلان الخبر، خرج مسرعاً يأتي بطبيب الوحدة الصحية ويدخل به وسط ذهول الناس في الخارج وزيادة ترقبهم لما يمكن أن تصير إليه الأمور، وقد أُسقط في يد الطبيب وهو يردد:
ـ لا أفهم شيئاً، لقد كان ميتاً بالفعل، وكان قلبه قد توقف.
ولم نَعْنِ كثيراً بتفسير الذي حدث فلم يكن ليهمنا في شيء، فهل استطعنا تفسير عزلته من قبل فوق سن الجبل؟ وهل استطعنا تفسير غيره من الأمور الغريبة التي تحدث كل يوم دونما سبب ظاهر سوى أنه هكذا تسير الأمور؟ إن ما يهمنا الآن ويسعدنا كثيراً هو عودة أبي من الموت، علينا أن نفرح أولاً بها، ثم نري من بعد إن كانت تقبل التفسير، خرجنا نزف النبأ في الخارج فتطايرت أصوات الزغاريد التسبيح والتهليل والتكبير تعلو السماء وتتوحد مع شمس الصبح الطالعة تطل برأسها من فوق سطح بيتنا، حينها وجدتُ داخلي أملاً كبيراً في الحياة ينمو، فتمنيتُ لو تقوم مريم من مرضها مرة أخرى.
أخبار مريم كانت تأتيني عن طريق صديقتها سعاد، وكانت سعاد جارتي تأتي إلي بيتنا تعمل نفسها تزور أمي لمواساتها في مرض أبي مثل جميع النسوة في بلدتنا كلها، وفي غفلة من أمي والنسوة المحيطات بها في صالة البيت ترمي سعاد إليّ بورقة تحمل أخبار مريم، أو تدسها تحت مرتبة الكنبة في الصالة وآخذها حينما أعمل نفسي أبحث عن شيء من شأنه أن يجعلني أرفع المرتبة، أما حين تكون غفلة أمي والنسوة كبيرة فإن سعاد ساعتها تتسرسب إلي الحديقة، وتمشي همساً حثيثاً إلي ركنها المتواري خلف شجرة الكافور العالية التي تفرش أوراقها ـ عبر الغصون المتدلية إلي أسفل ـ علي سماء ركن المكان تكاد تواريه عن العيون، تخبرني سعاد عن حجم المرض الذي أصاب مريم، كيف هزلها، كيف انسحب الدم من جسدها وجري يتوارى داخل أوعيته حتى اصْفَرَّ لونها ومشت خطوات واسعة نحو الذبول، وكيف امتنعت مريم عن تناول الطعام بشكل شبه كلي، وأن اللقيمات القليلة التي يجبرونها علي ابتلاعها كل يوم تتقيؤها في المساء كي تبيت خاوية وحزينة وواهنة، لا تقوي علي شيء سوى زرف الدموع، ولا شيء علي لسانها سوى نداء واحد ينطق باسمي " إسماعيل، يا إسماعيل " بضعف شديد.
ماذا أستطيع أن أفعل لك يا مريم وبيني وبينكِ جبل القبيلة العالي؟! ذلك الجبل الممتدة أطرافه تريد مطاولة السماء، فيما هو راسخ في الأرض وموغل في القِدَم، جذوره امتدتْ من قلب صحراء البدو وانطلقت تشق رمال البوادي لتعتلي طين الوديان وترسخ فوق رءوسنا وكواهلنا أطواداً عظيمة وجاثمة، صخورها تقاليد لا تُقَدُّ، ورمالها عادات لا يجب اختراقها، فكيف السبيل في الوصول إليكِ؟ لو أمتلك فقط مجرد الوصول إليك، إذن لاحتضنتكِ عيناي بدفء العشق، ولأحاطك القلب ودثركِ بعباءة الشفاء وأنت ترشفين منه السعادة ومصل الطمأنينة ومعني الحياة، أحبكِ وأخاف عليكِ وكلما نظرتُ في يديّ لا أجدني أملك شيئاً، قدماي عاجزتان عن الحركة ومعقودتان إلي جوار أبي، أحبكِ وأحبه وأجدني مديناً له بجبال أخري من الواجب والوفاء والعرفان بالجميل، أشعرُ أنني أقف من وراء كل ما يجتاح حياته من غموض، وأن كل ما يقاسيه من شقاء وعزلة من أجلي، لكنني عاجز عن فهم الأمور، أو تعديل مسارها في خط مستقيم تستقيم الحياة له، قد يكون أبي سبباً مباشراً في ذلك، لم يقدم مبرراً، ولم ينزع غطاء الغموض عن شيء، غير أنني مطالب بفك رموز الشفرة، إن انتهت حياة ذلك الرجل دون فهم فإن ذلك لن يعني سوى الخراب واختلال الأمور، أو سقوطها في بئر الحزن والضعف والهوان، الهوان حتى علي أنفسنا، وأن تضيع ساعتها من أمامنا طريق السعادة، وإلي الأبد.
لم يمض وقت طويل علي قيام أبي من الموت، أربعون يوماً فقط قضاها أبي في سريره حبيس الغرفة، ولم يخرج غير مرة واحدة رفض فيها اصطحابي أو اصطحاب العم إسماعيل وذهب وحيداً إلي ديوان عائلة مريم، قابل والدها وكرر عليه طلب خطبة مريم لي، ولم يرجع سوي بجملة:
ـ إن شفاها الله فسوف يكون لنا كلام آخر.
وفي يوم الموت صحا أبى مبكراً بعافية ظاهرة وصحة تبدتْ علي وجهه الذي رُدَّتْ دمويته كاملة بحيث عاد إلي طبيعته التي نعرفه عليها، وجه أبيض مشرب بحُمرة العز والرغد، ومدور ممتلىء باللحم الوثير، وثمة شعيرات صغيرة بيضاء أيضاً تُحدد ذقنه وتظهر واضحة تحت حُمرة الجلد التي تبرق من أثر النور الخارج من عينيه، حتى صوته بدا طيباً تخرج الكلمات منه واضحة ومطمئنة وواثقة، وهو ينده علينا واحداً واحداً كلاً باسمه. أمي وأنا والعم إسماعيل، فنتحلق السرير من حوله وعلي وجوهنا آيات الفرح، جمعنا أبي من حوله حاورنا كما لم يحاورنا منذ زمن طويل، ضحك حتى برزتْ أسنانه وذكر كل أصدقائه القريبين والبعيدين، وودَّ لو يقدر علي الذهاب لزيارتهم، وفي موعد طعام الغداء جلس إليه معنا في البيت، وأكل نَهِماً كأنما يعوض ما فاته من طعام أيام كان يقضيها علي الخواء أو علي ثمرات البلح المبلل، أو لكأنها آخر لقيمات له في الدنيا، وبعد العصر دعاني أبي للصعود معه إلي الجبل، نظرتْ أمي إليه طويلاً كأنها تعاتبه وسألته في خوف وحذر:
ـ مرة أخري يا إبراهيم ؟!
فجاء صوته هادئاً وواثقاً:
ـ بل مرة أخيرة يا هاجر.
ورفض أن تُعِدَّ لنا زجاجة الماء وطبق التمر المبلل، قال:
ـ لا لزوم لهما اليوم.
وطفق يخرج من الباب البرَّانى وأنا في ذيله.
قضينا وقتاً طويلاً للوصول إلي شاطئ النهر، كان كل مَنْ يقابلون أبي في الطريق يوقفونه، يسلمون عليه ويتبادلون معه كلمات الود والفرح، وبدا أبي حريصاً علي أن يُعطي كل واحد منهم وقته الكافي وألا ينصرف من أمامه أولاً، وعند الشاطئ انتظرنا المَعَدِّيَّة طويلاً أيضاً بحيث حين بدأتْ أقدامنا تخطو في ارتفاع الجبل بدأ الليل معها في إسدال ستائره السوداء، وهناك فوق سن الجبل بدأ أبي الدخول في صلاته وتراتيله، كان صوته زاعقاً وجليلاً اهتز له سكون الليل وتحركتْ الصخور من أماكنها التليدة وكادتْ تتفتتْ، لكنه قطع تراتيله فجأة فسكت الكون، انتبهتُ إليه فرأيته يجري علي سن الجبل ناحية الغرب، بدا الفعل مفاجئاً بالنسبة لي ولم أدرِ ماذا ينبغي عليّ أن أفعل، فتسمرت في مكاني، كنت أريد الجري من خلفه لكنني شعرتُ بأن شيئاً ما قوياً وجاثماً يدقني في الأرض فأظل في مكاني، وحين أحس أبي أنه ابتعد عن مكاني بقَدْرٍ كافٍ استدار نحوي، فبدا القمر من خلفه قرصاً منيراً وكبيراً وصافياً، رأيت أبي من أمامه في وضوح تام، جسداً أسود يشق قرص القمر ويرفع ذراعيه عالياً في السماء يصعد إليها أو يُشْفَطُ فيها، كان ينسل من قرص القمر إلي أعلي ويختفي في ظلام الكون مثل سكين حامية في سهولة ويُسر، فيلتحم شِقَّا القمر من تحته ليعود مرة أخرى قرصاً واحداً وكبيراً ومنيراً وكاشفاً، لم تسقط من أبي أمامه سوي دمعة وداع وحيدة وباكية.
ظللنا بعدها لأيام طويلة نفتش ظهر الجبل عن أبي، أو عن جثته إن كان قد مات فلم نجد شيئاً، وكذا فتشنا ماء النهر والزراعات المحيطة دون جدوى، وحين تعبنا جميعاً، واضطرت الشرطة إلي حفظ التحقيق، استسلمنا لفكرة الموت أو الفقد بشكل من الأشكال، فأقمنا له عزاءً كبيراً يليق بمكانته وقيمته في قلوبنا وبين الناس، ثم تذكرناه من بعدها في اليوم الخامس عشر واليوم الأربعين، بعدها خَفَّتْ حواديت الناس عن حكايته، وانتهي جدلهم إلي لا شيء، حول إذا ما كان قد مات أو طفش من البلدة مثلما كانوا يترقبون طوال حياتهم، وعادتْ الحياة من بعد إلي هدوئها وسكينتها، بحيث يصحو الناس في الصباح للذهاب إلي أعمالهم، وينمو الزرع بشكل طبيعي، وتتقافز الأسماك في ماء النهر في انتظار منْ يقدر علي اصطيادها.
مات أبي إذن أو صعد، وارتفعت روحه تحتضن السماء، كما دخلتْ مريم الحلبة تجري في طريق الموت، نظرتُ في يديّ فوجدتهما خاويتين، ولم أقدر علي فعل شيء سوى أن أرفعهما عالياً إلي السماء وأن أجهر بالنداء:
ـ يا هذا العام لا تكن عام الحزن بالنسبة لي.
وهذا نسب أبي.
لما كان السياجي باشا ابن ثلاثين سنة كانت هوجة عرابي، وبعد انتصار الإنجليز واحتلالهم البلاد انضم السياجي إلي زمرة الباشاوات المدافعين عن بلادهم، متخذاً من فصاحة لسانه وقدرته علي الخطابة سلاحاً، ساعده علي ذلك حب الناس والفلاحين له وتجمعهم من حوله، سواء الفلاحين الأجراء في عزبته بأرض الفيوم أو الحرفيين في القاهرة، تزوج السياجي باشا من خديجة هانم بنت متولي باشا ناظر الزراعة آنذاك وأنجبت له إسماعيل وسعدي وفوزية وأحمد، وقد ناضل إلي جوار مصطفي كامل ثم سعد باشا من بعده إلي أن توفي إبان تولي سعد باشا لرئاسة الوزارة في أوائل العشرينات من القرن الفائت، ولما كان أحمد باشا غبن خمس وعشرين سنة تزوج من سعدية هانم ابنة عبد العظيم بك صبري في منتصف العشرينات، وقد امتد العِرق الوطني إليه، فكان لسان حال الطبقات الفقيرة عند حاشية الملك والأغنياء من الناس دونما أن يفقد مكانته بينهم، وقيل أنه مشي علي قدميه في مظاهرات عام 1936 رغم كونه باشا ومن القيادات البارزة بحزب الأحرار الدستوريين، أنجبتْ له سعدية هانم ثلاثة أبناء ذكوراً هم، عبد الله وإبراهيم ويحيي، وقد أُغتيل أحمد باشا السياجي علي يد بعض المتطرفين الذين حملوا علي عاتقهم تطهير البلاد من رموز الوطنيين واليساريين فيها، كان ذلك في أواخر الثلاثينيات، مما اضطر سعدية هانم للرحيل بأبنائها الصغار والعودة إلي صعيد البلاد حيث موطن أهلها في قنا، في منتصف الأربعينيات كان عبد الله ابن عشرين سنة وكان وأخواه قد ذابوا في عائلة أمهم حتى صاروا كياناً واحداً، اجتماعياً وثقافياً ونفسياً واقتصادياً أيضاً فقد كانت عائلة الأم تقطن الجهة الغربية من مدينة قنا، وبعد السيل المدمر وظهور أرض المعني الجديدة في الجهة الشرقية من النهر، عبرتْ العائلة جميعها النهر إلي حيث الأرض الجديدة، وقاموا باستصلاح الكثير من الأراضي، وأقاموا البيوت حتى أصبحوا عائلة مؤسسة في المعني الجديدة، وإن ظل عبد الله معتزاً بنسبه لأبيه فقد كان الابن الأكبر، ولم تنقطع زياراته لأعمامه في القاهرة إلي أن تزوج من صافيناز هانم ابنة مدير المديرية بقنا في سِنِّهِ هذه، ولم تنجب له صافيناز هانم غير أبي إبراهيم في عام 1946، وقد توفي عبد الله بعد انهيار الوحدة الوطنية مع سوريا وهو لم يزل صغيراً ابن خمسين سنة، وهي ذات السن التي مات عليها أبي في منتصف التسعينيات من القرن الفائت.
(7)
طوي الزمان ذكري أبي في سجل نسيانه حتى بات الناس يذكرونه كمجرد اسم يأتي بعد اسمي، العم إسماعيل الذي أكل الحزن كبده وتشققتْ عيناه من كثرة البكاء علي أبي ـ عاد إلي أعماله التجارية، حلق ذقنه وبدأ في الاهتمام بمظهره وشئون بيته وابنه يوسف بحيث لم أعد أراه إلا علي فترات طويلة تُغلفها المناسبات، واعتادتْ أمي ثياب السواد مثل كل نساء البلدة الأرامل وهن لا يكدن يذكرن أيلبسنها حزناً علي الذي مات، أم هي ثياب المرأة العجوز التي تهبها وقاراً وتميزها عن البنات الصغيرات، كما بدأ صوت التليفزيون يدوي في صالة بيتنا، وشيئاً فشيئاً بدأتْ ضحكاتنا تتعالي عند متابعة المسرحيات الهزلية التي يبثها، حتى أنا نفسي غَلَّفني النسيان بأوراقه السوليفان الشفافة ولم أعد أذكر أبي سوى طيفٍ يمر علي خيالي كلما رأيت جنازة تمر في البلدة، أو دعتني الحاجة للذهاب إلي القبور، غير أن باب غرفته ظل مقفلاً ولم أجرؤ أنا أو أمي علي دخولها، كان باب غرفته هو الشيء الوحيد الذي يدعونا إلي تذكره، فصورته الكبيرة المعلقة علي الحائط اعتدنا وجودها مع الوقت، أصبحتْ قطعة من ديكور الصالة مثل دولاب التليفزيون أو قاعدة التليفون أو لوحة الزهور في الحائط المقابل، أو حتى مثل ساعة الحائط وجودها مهم لكنها لا تلفت الأنظار إلا وقت الحاجة إليها، كنا نمر تحت صورته مسرعين أحياناً ومتناسين أحياناً أخرى، وغير عابئين مرات كثيرة، غير أن باب غرفته المغلق ظل الشيء الوحيد الحي الذي لا يمكن أن نمر عليه أو حتى نلمسه من بعيد دونما أن نتذكر أبي، دونما أن نحس بانطباع صورته في قلوبنا، كنا نخاف من اقتحام باب الغرفة، من أن نجده داخلها علي سريره في انتظارنا، حتى تعبتْ النظرات المتبادلة في خوف وحذر بيني وبين أمي فقررتُ اقتحام باب الغرفة والدخول إليها، قررتُ قطع الشك باليقين إن كان ثمة يقين يستطيع قطع حبل الشك أو محوه مثلما تمحو الأستيكة آثار القلم الرصاص.
داخل الغرفة لم أجد أبي كما كنتُ أتوقع وأخاف، فتأكدتُ من موته، لكنني وأنا أعبث في أشيائه لاجترار الذكرى عثرتُ علي الأجندة التي كان يحرص دوماً علي تدوين يومياته بها، فدخلتني الفرحة وكأنني قد عثرتُ عليه من جديد، وكأن طاقة من نور عميق قد فُتِحَتْ من أمام عينيّ فأضاءت ما قد تواري من أشياء داخل الظلمة، وقد تأكدت الآن أن أبي تركها عن عمد، وأنه لم يشأ الرحيل دون أن يقدم مبرراً قوياً لما فعل.
ولعلي كنت محقاً في ذلك، فقد احتوت الأجندة علي يوميات كتبها أبي فقال:
يوم أول.
ما الذي فعله بنا عبد الناصر؟!
كان خطابه السياسي زاعقاً وواثقاً، وكنا نزعق معه وتمتلئ نفوسنا ثقة واطمئناناً كلما سمعنا صوته يأتينا عبر سماعة الميكروفون الكبيرة المثبتة في قمة صارٍ عالٍ نُصِبَ وسط أرض الكتيبة، والتي يُسَلِطَها القائد أمام جهاز الراديو بمكتبه، فينتشر صوت عبد الناصر يملأ الصحراء من حولنا، لم نكن نهتز وحدنا لكلامه، أو تتزلزل أجسادنا فقط بعدما تمتلئ بالقشعريرة وتهتف بالنداء، بل اهتزت أيضاً رمال الصحراء من حولنا، والجبال علي البُعد منا سمعنا صوت تململها فوق سطح الأرض كالرعد في قاع السماء، لكنه علي عكس ذلك بدا الموقف في الجبهة فهل خدعنا إلهنا، أم قَصُرَتْ بصيرتنا عن إدراك حكمته؟! لقد رمانا في الجحيم وأمرنا ألا نحترق، وفي غفلة منا ومن كل شيء وجدنا طائراتنا تحترق وهي رابضة في الأرض لم تزل، ووجدنا أنفسنا عرايا من كل شيء بعدما صوبنا ذخيرتنا في اتجاه الطائرات العالية دونما جدوى، فقد بدت ذخيرتنا ضعيفة في أجسادها وقد حامت الطائرات بعيداً في السماء، ولما اطمأنتْ عادتْ إلينا، إلي عُرْيِنا وقلة حيلتنا، كانت نيرانها تهبط فوق رؤوسنا مثل طير الأبابيل فنحترق ونجرى إلي الوراء، نزاحم بعضنا للوصول إلي شاطئ القناة كي نرمي بأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا إليها، عل ماءها يلطف ولو قليلاً من حرارة الجحيم الذي قذفنا فيه عبد الناصر، ولعل ما بقي فينا من قوة يساعدنا علي السباحة والنكوص إلي الشاطئ الغربي، لم يكن أمامنا سوى أن نترك الأرض ـ وقد تحولتْ إلي صهد خالص ـ محاولين النجاة بأنفسنا، وأن نتجرع مرارة الخديعة، لم يخبرنا أحد أن أوان المعركة قد حان فلم نتوضأ، ظلوا فقط يشحنوننا استعداداً للقتال دونما عُدًّة، يلقموننا الكلمات الجافة التي تنفخ المعدة ولا تأتي بالشبع، حتى أتانا القتال بغتة فوجدنا أيادينا خاوية، كنا ونحن نجرى صوب القناة نبحث عن صوت عبد الناصر في الصحراء من حولنا فلم نجده، نزعق ببقية صوتنا " وا ناصراه " فلا يجيبنا أحد، كانت سماعة الميكرفون الكبيرة فوق النُصُبِ قد دُكَّتْ في الأرض فلم نجد سوى الفراغ والخيبة ومواجهة المصير غير المتكافئ، وحيدين ثم فرادا بعدما تساقط معظمنا أو انسحق تحت النيران الساقطة من السماء. مَنْ قال أن السماء تمطر ماءً فقط ؟! ولم يعد يجرى صوب القناة سوى فردين فقط، أنا وزميل آخر لم أكن أعرفه، جاء يفر من كتيبة أخرى، فتلاحمت يدانا في الجري أو الهروب، لعلنا أردنا الاستناد إلي بعضنا البعض طالما أن أحداً لا يسندنا، ولعلنا أردنا الاختباء في بعضنا، أن يتوارى أحدنا خلف الآخر كي يدفعه إلي الموت وينجو هو إن اكتشفت الطائرات المحلقة موقعنا. كنا نهرب تحت شمس خالصة وبيضاء وفاضحة فوجدتنا الطائرة وجعلت تحوم فوق رأسينا في دوائر, كانت متسعة وشاسعة في بداية الأمر حتى أن الطائرة كانت تغيب عن عيوننا أثناء الدوران، ثم ما لبثتْ الدوائر أن ضاقت من فوقنا فأحسسنا أننا ننكشف، لقد انكشفنا بالفعل فتوارينا خلف تَبَّةِ صغيرة من الرمل، وحفرنا حفرتين رمينا بجسدينا داخلهما فاختفينا حتى المنتصف، بدأت الطائرة تدور في السماء في جنون طفل فقد لعبته الأخيرة وأخذ في البكاء مصراً علي إيجادها مرة أخرى، وأن يلهو بها حتى النهاية، نهاية اللعبة وتكسرها بين يديه إلي نتف صغيرة غير قابلة للتجميع مرة أخرى ولا فائدة منها، لما فقدتنا الطائرة في محيطها الصغير بدأتْ تدك المكان بقنابلها ورصاصها، وبدأتْ القنابل تدوي علي الأرض بالقرب من جسدينا، وتمر الرصاصات إلي جوارنا مباشرة فنسمع لصوتها دوياً قوياً في آذاننا، بدأ في الخفوت رويداً رويداً حتى خُيل إليّ في نهاية الأمر أنني قد فقدتُ القدرة علي السمع وبدأ المشهد يدور أما عينيّ في صمت عميق ومُدهش، قذائف تنزل من السماء، تضرب الأرض فتحترق وتصعد نيران كثيفة تتلاشي في الفضاء، ويخرج منها دخان لا نهاية له يصعد من حولنا يريد مطاولة السماء مرة أخرى حيث منبعه الأصلي، فأنكبُ علي وجهي فوق الرمل الأسود فلا أرى ولا أسمع شيئاً، وليس بداخلي شيء حي سوى تلك الفكرة التي تبحث عن الموت ولا تجده، حتى الشظية التي أصابتْ مؤخرة ظهري المكشوف أحسستها مثل إبرة تدخل الجسد وتُسكب سائلها المخدر ليموت الجسد من بعدها.
نزلتْ الطائرة بعيداً عن المكان، وانتظرتْ حتى انسحب الدخان إلي أعلي كأنما السماء قد شفطته فظهرت ملامح المكان وبدأتُ في رفع رأسي عن الأرض، رفعاً ذليلاً ومنكسراً ومصاباً، نظرتُ فرأيت زميلي مجرد نصف جسد ملقي داخل الحفرة بلا رأس أو صدر، يسبح في بركة من الدم الأحمر الداكن ذابت فيها ملابسه وما تبقي من جسده، ولم تعد منه غير كتله من اللحم المحروق تعلو وتهبط في بركة الدم، ورأيتُ فوق رأسي اثنين، أظنهما مَنْ كانا في الطائرة، وقد جاءا يستطلعان نتيجة لهوهما ويُصران علي إكمال اللعبة، سحباني من يديّ وجرجراني إلي داخل الطائرة بعدما خلعوا بنطالي ولباسي وتركوا نصفي السفلي عارياً لا يغطيه شيء سوى بعض الدماء الداكنة التي انسالت من مكان الشظية، طارا بي كأنما يُفَرِجَاني علي المكان الذي أضحي جحيماً خالصاً، ممتلئة سماؤه بطائراتهم، ومعبأة أرضه بجنودهم ومعداتهم الثقيلة، كنت في حالة من السُكر تشبه إلي حد كبير سَكْرَةُ الموت، لا أعرف هل أنا واعٍ أم أنني أحلم بتلك الضربات الموجعة التي انهال بها الرجل الآخر علي مؤخرتي وظهري وباطن فخذيّ، ضربات قاسية وحارقة ومهينة، فلم تكن ضربات سياط ولا أسياخ حديدية ولا بنادق صلبة، لم يكن جسدي يدمي لها، لكنها أفلحتْ مع ذلك في ترك ثقب كبير وموجع وأكثر شراً من ثقب الشظية.
بعدها زعقا فيّ بلسان واحد:
ـ أنظر جيداً وتذكر ألا تعود إلي هنا مرة أخرى، تلك مهمتك التي ستحيى
من أجلها لتنقلها إلي مَنْ بقي من زملائك.
وفوق سطح مياه القناة بالقُرب من الجانب الغربي هبطا قريباً من سطح الماء وألقياني فيها، وكان سطح الماء وهو يقترب من جسدي ثم يصطدم به هو آخر ما رأت عيناي قبل أن تتزلزل الدنيا من حولي تزلزلاً شديداً ثم تختفي من وراء غابة كثيفة من الظلام تجتاح عينيّ.
أفقتُ بعدها في المستشفي العسكري لأجد إسماعيل إلي جوار رأسي وبصحبته رهط من أقربائي ورجال البلدة، أخبرني إسماعيل أن فترة طويلة قد مرت عليّ هنا وأنا أرفل في الغيبوبة ودونما مقدرة علي تحريك أي عضو من جسدي، ليس سوى جفنيّ أفتحهما علي فترات متباعدة محملقاً في اللاشيء، ومتمتماً بكلمات غير مفهومة، ثم أُغلقهما لأرفل في الغياب مرة أخرى، شهور طويلة مرت علي انقضاء الحرب/الخديعة كان الناس خلالها قد استمرأوا طعم الهزيمة ورضوا بها وقنعوا بحدودهم الجديدة، لم يكن من شيء سوى بعض المظاهرات الطلابية هنا وهناك تطلب الحرب والعودة إلي ساحة الميدان، فلم يكونوا يعلمون أننا لم ندخل ساحة الميدان من قبل، أننا لم نخذلهم، إنما نحن الذين خُذِلْنا وخُدِعْنا ومَسَّنا العار والفضيحة، كان ثمة غيظ شديد يملأ داخلي ولا أستطيع الإفصاح عنه، وبعد تسريحي من الجيش بسبب عجز قدمي كنت أتحاشي النظر إلي إسماعيل، إلي عينيه بالتحديد، فما كنتُ لأقدر علي كتمان الأمر عنه إن نظرتُ فيهما، ماذا أقدر أن أقول له وأنا نفسي لا أعرف ما الذي حدث بالضبط؟ لماذا استل الطيار الآخر بنطالي ولباسي قبل أن يرميني من الطائرة؟!
إحساس عميق بالعار يجرح روحي ويوغل في جرحها بحيث تصعب المداواة من بعد، حتى كلام الرجل الصياد الذي التقطني من مياه القناة من مدينة بورسعيد، والذي أكد أن شيئاً لم يكن علي مؤخرتي سوى بقع الدم الداكن التي نزلت من جرح الشظية، لم يكن كلامه ليشفي الروح التي أُمْتُهِنَتْ وذُلَّتْ وتُرِكَتْ مؤخرتها مكشوفة.
وعندما عدنا إلي البلدة لم أكن أنا مَنْ عاد، كان شخصاً آخر يختلف عني تماماً ، وإن اكتستْ ملامحه بنفس ملامحي، شخصاً آخر غريباً وصامتاً ومنكسراً وحزيناً وأعرجَ ومحباً للعزلة، الطريق الوحيدة التي عرفها هي الطريق إلي سن الجبل هروباً من الأهل والأصدقاء والناس أجمعين، ومن قبل هروباً من النفس التي كلما نظرتُ إلي المرآة لا أجدني فيها، فأظل أُسائل نفسي مَنْ أنت يا الذي تلبس وجهي؟! لقد اخترتُ الجبل بديلاً عن الجنون وانتظاراً لما سوف تُسفر الأمور عنه، تركتُ الناس جميعاً فلم أكن في حاجة إليهم رغم عجزي، لكنني كنت أعرف في قرار معين من روحي أن تلك الروح العاجزة لا يقدر علي إبرائها سوى شخص واحد ولن أسمع لأحد غيره، فتحولتُ إلي مجرد أذنين كبيرتين تحملان الراديو معهما بعد عصر كل يوم، وترتحلان إلي سن الجبل، تتسمعان الأخبار وتتحسسان بغير وعي منهما صوت عبد الناصر.
كيف سمحتُ لأذنيّ أن تسمعا صوت عبد الناصر ثانية؟!
كيف سمحت لنفسي أن أصدقه مرة أخرى وهو يزعق بصوت حزين "ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة " لعله كان الأمل الأخير في التعلق بحبل الحياة، الأمل الأخير في استعادة الإله المفقود، والإمام الضائع، مَنْ وضعنا فوق النُصب وأمام الصفوف، وطَفِقْنا نسير من خلفه فتَرَكَنا في حالة السجود، رؤوسنا إلي الأرض وعيوننا في غيبة عظيمة عما يحدث من حولنا، ولعله كان الأمل الأخير في العودة مرة أخرى للحياة الطبيعية التي يقدر الواحد فيها أن يضحك مع البكاء، وأن يفرح مع الحزن، وأن يري الخير يسير إلي جوار الشر قدماً بقدم، لقد بدا الأمر بالنسبة لي بمثابة المعجزة المنتظرة للخلاص من الجرح/العرج والسير مرة أخري بشكل طبيعي علي قدمين ثابتين، لكن عبد الناصر خدعني للمرة الأخيرة ومات، تركني وحيداً بروح مشروخة وممتهنة، ومؤخرة مكشوفة ومفضوحة، وبرجل عرجاء وغير قادرة علي السير في ثبات مرة ثانية.
فما الذي يمكن أن يبقي لي من بعد؟!
ليس سوى الاستسلام لشيطان العُزلة، والوقوع في بئر الصمت ابتغاء تفتيت الروح والجسد، عقاباً للروح التي قَبِلتْ بالخديعة، وللجسد الذي لم يقاوم، ليس سوى أن أرفل في شوارع البلدة بثياب مهلهلة، أشعثاً وأغبراً وتَعِباً، لا أكاد أرى من أمامي، لكنني أصرخ بعلو صوتي أصرخ في الظلام الضبابي من أمام عينيّ، والذي أحاول إزاحته بيديّ، بحيث أبدو مثل مجنون طليق:
ـ هذا صنيع عبد الناصر بي.
امتلأ فمي بطعم الإجابة المرة، وامتلأ داخلي بجرح عميق حتى ظننتُ أنني فقدت رجولتي، كنتُ كلما هممت بممارسة العادة السرية أرى مؤخرتي مكشوفة ومتسعاً شِقها في وجه ماء القناة المالح اللزج، أحس الهواء البارد يلفحني إبراً من شوك مسنون فأنقلب علي ظهري مخافة أن يلطحني الماء اللزج، هكذا أنكمش في بداية الفعل ولا أستطيع عمل شيء، وهكذا سُيِّج من حولي سياج صلب من الخوف والفزع وعدم الثقة بالنفس، وانكسار ذليل ظل يسبح في عمق الروح العطشانة، ولم يكن من شيء يقدر علي إخراجي منه سوى أن توجد امرأة واحدة وحقيقة، تستطيع وأنا أتكوم فوقها أن تداري مؤخرتي بكفيها، تًبعد عني الهواء والماء، عسي ساعتها أن أشعر برجولتي، لم أكن أعبث مع البنات بقدر ما كنت أبحث عنها فيهن، حتى تعرفتُ علي بنت الشيخ موسي وظننتها تقدر علي أن تعيد إليّ رجولتي المستلبة، غير أنها كانت تبحث عن رجل تداري مصيبتها فيه، لم أكن بحاجة إلي فضيحة جديدة لكن المرء لا يختار معاركه، ولم أملك بعد ازدياد الألم والمرارة والحسرة وموت بنت الشيخ موسي سوى الإنكار والصمت في سكون وعُزلة سلاحاً أرفعه في وجوه الناس والأيام التي تبدوا لي مُصِرَّةً علي عدم الإتيان ببهجة واحدة، ماذا كنتُ أقدر أن أقول للناس؟!أنني عَيِيُّ! لقد رأيت أن فضيحة الإثم أخف وطأة من فضيحة النفس والروح والجسد، فرضيت بها إلي أن أنقذتني الصدفة منها لما فشل قريب الشيخ موسي في قتلي حين استعمل بندقية صدئة.
بعدها قررتُ الاستسلام للعجز والمهانة والعُزلة والتشرد في شوارع البلدة، والتزمتُ عبور النهر عصر كل يوم عسي أن أجد في فعل الأجداد ما يغير من حالي ويكون سبيلاً للخـلاص، ويبدو أن فعل العبور هذا كان كذلك حقاً، فقد رمي النهر إليّ بصفية، سمكة عفية وطازجة، وهدية، وعوضاً عن زمن القهر والخديعة.
كنتُ كلما مررتُ بالبنات علي شاطئ النهر للعبور إلى الجبل تداري كل البنات وجوههن في الناحية الأخرى، ليس كسوفاً ولا خجلاً هذه المرة، بل مخافة من مجذوب حقيقي يخشين حتى مجرد النظر إليه، وكانت صفية الوحيدة التي تتعمد تثبيت عينيها في عينيّ الناظرتين إليهن في غضب، ولقد كانت عيناها آسرتين حقاً وهادئتين، أخذتا عينيّ نحو الطمأنينة رويداً رويداً حتى استكانتْ إليها.
في لقائنا الوحيد عند الساقية وقبل أن أُلقي إليها حتى بالسلام انقذفتْ كلماتها في أُذنيّ مثل صاعقة ثلجية مُحَبَّبَةِ، تطفئ اللهيب والنار المشتعلة داخلي غيظاً وخيبة أمل لا نهاية لهما:
ـ أعرف أَنكَ برئ، إحساسي يخبرني بذلك.
يا الدنيا الظالمة من حولي ثمة بنت في محيطكِ تؤمن ببراءتي ورجولتي دونما معرفة مسبقة، ثمة مَنْ تحس بي في هذا العالم المظلم وتُشعل نفسها من أجلي، وفوق سن الجبل حين تذكرتها أحسستُ برجولتي مشتعلة فعرفتُ أنها هي، هي المرأة الوحيدة والحقيقية، ولأول مرة منذ النكسة/الخديعة أشعر أن مؤخرتي غير مكشوفة، وأن رجولتي واضحة وضوح ذلك القمر الذي يلمع وحيداً في السماء، وأخذتُ علي نفسي عهد الزواج بها رسالةً حملتها علي كتفيّ ورُحت أخرج بها من بيتي ظُهر اليوم التالي، أَمُرُ علي كل بيت من بيوت أهلي وعشيرتي أدعوهم إليّ، حتى إذا تجمعوا من حولي في ديوان العائلة، اعتليتُ إحدى الدكك ووقفتُ علي رءوسهم ألقي عليهم نبأ زواجي من صفية بنت مبارك أحمد المبروك، وأنني أدعوها منذ اليوم "هاجر".
لم تكن تعنيني موافقتهم من عدمها فقد تزوجتها وسكتوا عن الأمر، بل كان يعنيني إبلاغ الرسالة، وفي حضن هاجر لم أكن مستعجلاً إتيان الفعل الجنسي معها فقد كنت واثقاً من أنها ستجعلني أنجح في ذلك، وهو ما حدث من بعد، كنت في البداية أمارس في بطء وأُلقي بداخلها القليل الذي لا يبل الظمأ، وكانت تعرف ما أريد، فقد بدأتْ يداها تزحفان رويداً علي مؤخرتي حتى غطتاها تماماً، وحين تأكدتُ من ذلك دعوتها للخروج إلي سن الجبل، كنتُ أريد أن يكون ذلك هناك في العراء، تحت سماء الفضاء الواسعة، وبلا خوف أو خجل، ووددتُ لو تأتي الطائرة، لو يهبط منها الرجلان، كي أثبت لنفسي ولبنت الشيخ موسى ولكل العالم أن يَدَيْ هاجر كفيلة بستر عورتي في وجه الدنيا كلها، وفوق القمة خلعنا كل ملابسنا وبقينا عريانين تماماً، آدم وحواء جديدين ووحيدين فوق سن جبل عالٍ وقريب من السماء، لمسة اليد فقط بدتْ كفيلة لكي تتحرك رجولتي إلي آخر مدى لها، هذا المدى الذي يؤلم ويوخز الجسد كله بتنميل ودغدغة موجعين، لم يكن من تحتنا فراش أو ملابس لكن الصخرة الحمراء المستوية بدتْ في طراوة مرتبة إسفنجية مرتفعة، كنتُ سريعاً وقوياً في تحركي المندفع نحوها وكانت تئن وتتوجع وتتململ من تحتي، لكنها بدتْ حريصة علي ألا ترتفع كفاها عن مؤخرتي، وحين أحستْ أنني قريب جداً منها أحكمتْ انقباض كفيها عليّ فلم أملك إلا أن أغوص فوقها وفيها، وأن أطفو بجسدي كله تماماً كما تطفو الآن تلك الكرات المائية اللدنة في أعمق أعماقها وتتمنى ألا تستقر.
كانت تجربة مغامرة قاسية، لكنها ممتعة وناجحة إلي حد كبير، إلي حد أنني تركتُ شرودي وتوهاني وعزلتي فوق سن الجبل وعدتُ أمارس عملي في المدرسة، بدأتُ في مخالطة الناس والعيش بينهم بشكل طبيعي. أفرح وأحزن، أضحك وأبكي، وأعرف كيف يكون النوم بالليل، لقد احتوتني هاجر تماماً ونجحتْ معجزتها معي إلي درجة أن ابني الوحيد إسماعيل أتى بعدها بتسعة شهور كاملة، وكان قد مضى قرابة الثلاث سنوات علي موت عبد الناصر، وإلي الأبد.
يـوم آخـر.
إن كانت هاجر قد أنقذتْ جسدي ونفسي وأعادتْ التوازن إليهما، فإن ابني قد أنقذ روحي، جبر كسرها ولضم شروخها إلي جوار بعض حتى عادتْ سوية كما كانت، واستقامتْ في مواجهة الآخر والحياة لدرجة أنني أشعر باعتدال عوج قدمي في سيرها وأنا أعود الآن في آخر الليل إلي البيت قادماً من صلح عقدته بين زوجين كانا علي شفا الطلاق، ابني الذي كبر الآن حتى مبلغ السعي أحبه كثيراً وأخرج به في كل المناسبات بين الناس وفي وحدتي، فهو قبل أن يكون دليل رجولتي في وجوه الناس ـ دليل رجولتي أمام نفسي وروحي التي كادت تضيع مني في كارثة الخديعة، ابني الذي أُمني نفسي الآن أن أصنع منه رجلاً صالحاً تذكرته وأنا أفرح بقدمي الثابتة علي الأرض، فبدتْ الفرحتان علي وجهي بسمة واسعة سرعان ما انتشرتْ من محيط الفم لتشمل العينين فأحس رعشتها في بدني ويدي، وما كادتْ تنزل هابطة إلي القلب كي أضحك وأنا أتلو آيات الحمد والشكر علي النعمة حتى لمحته من بعيد، شيخاً أسود يرفل في عباءة سوداء، يحاول الاختباء خلف سور الحديقة في البيت المقابل، كان البيت مهجوراً أو مطفأً وكان سواد الشيخ أعمق من سواد المكان من حوله، فبدا وهو يختفي خلف سور الحديقة ثم يظهر ليختفي مرة أخرى أشبه بكتلة حجرية صماء تتحرك في محيط لزج وثقيل، لكنه اختفى تماماً في المرة الثالثة خلف السور، استرعى الاختباء والظهور انتباهي فوقفتُ أنتظر ظهوره مرة أخرى فلم يحدث، حتى كدتُ أكذب عينيّ وحاولت طرد طائر الخوف والحذر من بالي وقد جاء يحلق فوق رأسي وفي نفسي، يرسل ذبذباته المتشككة تتسلل في ثنايا الجسد وتكاد تجرح الروح، ولما عدتُ للسير وللفرحة رأيته يظهر أمامي ويضحك في وجهي عالياً وساخراً، ضحكة طويلة وممطوطة ومستهزئة لم تظهر فيها غير أسنانه البيضاء وسط ستائر الليل ووجهه المظلم، بعدها اختفى من أمامي علي البُعد بشكل نهائي، هل جرى مسرعاً أم أنه طار أو صعد أو حتى تبخر في الهواء الأسود من حولنا؟ لا أعرف علي وجه اليقين، لكنه بمجرد أن أنهى ضحكته الساخرة وأغلق فمه حتى اختفى وتركني وحيداً وسط الظلمة، أقاوم الخوف والهذيان وقشعريرة البرد الثلجي وقد بدأتْ تدب في جسدي وفي روحي، أحاول بكل ما أوتيتُ من قوة وإرادة طرد خاطر العُزلة الذي ينقذف الآن داخلي مثل شظية رصاصة حارقة.
لم أدرِ بنفسي إلا وأنا أجري صوب البيت أفتح بابه في توجس وريبة، كانت هاجر تتكئ علي الكنبة وحيدة في صالة البيت، فتوجهتُ ملهوفاً إلي غرفة الولد، وجدته نائماً فاطمأننتُ عليه وقد أتتْ هاجر من خلفي هلعة ومستفسرة، لم أَرد علي سؤالها:
ـ ماذا بك ؟!
لكنني تفوهتُ بصوت خفيض كأنه الهمس وخائف كأنه الــذعر:
ـ دثريني، دثريني، فأنا أشعر بالبرد.
ورأيت دهشتها فقد بدا الجو حاراً، لكنها ألقتْ من فوقي ملاءة خفيفة واندست إلي جواري تحوطني بذراعيها وقد بدأ تنفسها يحتد وقلبها ينبض في قلق وعصبية، دعاني ذلك إلي مراجعة نفسي فوجدتها تخاف علي هاجر، لقد شاهدتُ نظرة الذعر في عينيها، الذعر من أن أعود لسيرتي الانعزالية والتوهان في شوارع البلدة، وحيث لم يكن بين يديّ مبرر مادي للانزعاج رحتُ أطمئن نفسي وأُذهب عنها الروع، ولم يكن مثل مداعبة هاجر شيء يطمئنني، دعوتها فلبت دعائي ملتاعة، وبعد عراك جسدينا الحميم استلقيتُ إلى جوارها وبدأتُ أتنفس في هدوء وعمق، وتمسحُ يدي علي شعرها تُعيد ترتيبه من جديد، أغمضتْ هاجر عينيها واستسلمتْ لهدوء الملاطفة حتى سكنتْ أصابعي فوق خدها ورحتُ أغمض عينيّ كي أطمئنها فظنتْ أنني قد نمت، أنزلتْ يدي إلي جنبي تحت الغطاء وفي هدوء شديد أطفأتْ نور الأباجورة المجاورة للسرير فوق الكوميدينو وبدأتْ تروح في النوم لدرجة تمنيتُ لو أروح معها، لكن النوم جافاني وأرسل إليّ بكابوس حقيقي، شيخ أسود في عباءة سوداء وتتدلى من كتفه حقيبة سوداء أيضاً، لا أعرف لماذا كنت أسير في الشارع، ولا أين أتيتُ، لكنني أعرف جيداً أنني أعود الآن إلي البيت. وراح الشيخ الأسود يظهر لي من خلف سور حديقة البيت المقابل، يتصدر الشارع من أمامي، طويلاً يكاد يصل إلي السماء، وعملاقاً مثل حواديت هرقل التليفزيونية وهي تحكي عن آلهة الإغريق القدماء، غير أنه بدا طيباً وهادئاً وواثقاً من نفسه، لما توجستُ منه خيفة ابتسم في وجهي وأتاني صوته جليلاً وعميقاً ومزلزلاً لكياني كله:
ـ لا تخف لست أنت المقصود الآن.
بالكاد تمالكتُ زمام نفسي وأنا أردد:
ـ المقصود بماذا، والمقصود من مَنْ؟
فرَبَّتَ علي كتفي ثلاثاً ثم هبط من عليائه يجثو بركبتيه أمامي، أنزل حقيبته السوداء من فوق كتفه، فتحها وئيداً وفي ثقة أخرج منها صورة إسماعيل ابني، وسألني:
ـ مَنْ هذا ؟
ـ هذا ابني فما شانه؟!
نظر بين عينيّ طويلاً وردد في حدة:
ـ هو منذور للموت.
ثم أخرج من حقيبته سكيناً وضعها في يديّ.
لن أستطيع ما حييت أن أصف حجم الدهشة والإنكار اللذين ارتسما علي وجهي وهزَّا بدني بقشعريرة عظيمة حتى أصابني الذهول والجنون، ما الذي يطلبه مني ذلك الشيخ الأسود؟! أن أذبح بيديّ، وهل يقدر الواحد أن يجتز روحه بيديه؟! روحه التي وهبتْ له الحياة وأخرجته من براثن الموت والعُزلة، وحملته من زمن الهزيمة والخداع إلي العزة ومعرفة النفس وما يُشبه اليقين، لو أن كل الناس استطاعوا ذلك لما استطعته أنا، ولو حُمِّلْتُ فوق كتفي حجر سيزيف، ابني الذي أنقذ روحي ولضم شروخها، وأصلح اعوجاج قدمي، كيف أُرقده علي الأرض وأَكُبُ وجهه في التراب، ثم أستل سكين الشيخ في هدوء لأجتز رقبته؟! إن ذلك إنما يعني العودة إلي ما كنتُ فيه من هلع وهذيان واستباحة للروح والجسد، فهل يحسبني ذلك الشيخ الأسود أنني كنت سعيداً بذلك؟! لم أنطق إنما راح لساني يردد دونما إرادة مني بذهول كبير:
ـ لا، إن ذلك لن يحدث أبداً.
فانتبهتُ علي صوت الشيخ يدوي في الفضاء:
ـ أتعصي الأمر؟
ـ نعم، إن ابني مني.
ـ إنما أنا رسول.
ـ وإن كنتَ رسولاً، فلن أسمع لقولك ولن أستلم رسالتك.
وقال الشيخ وهو ينسحب إلى أعلى مختفياً أو متوحداً في ظلام الليل:
ـ إن ذلك إنما يعني اللعنة.
ثم سكن الكون كله يغرق في صمت مهيب، وبدأ جسدي يتحرك، كنت أحس كأنني ممدد في فراش وثير ولكنه صلد، وكنت أحاول التخلص منه وأنا أزعق " لن أذبحه، لن أذبحه " فبدوت كمن يتشاجر مع أحدهم، ثم غلبني الصحو، فصحوتُ مفزوعاً وعلي وجهي تجسد الرعب والخوف لأجد نفسي في فراشي وإلي جواري هاجر، نطقتُ الشهادتين كثيراً جداً، وشربتُ زجاجة ماء كاملة لكنها عجزتْ عن إطفاء ما بجسدي من سخونة ورعب، فقمتُ واغتسلتُ بالماء البارد وارتديتُ ثياباً جديدة، فأخذتني هاجر في حضنها وربتتْ علي رأسي وظهري، لم أكن متيقناً إن كان ما رايته حلماً أم حقيقة أم استكمالا لما حدث لي في طريق العودة إلى البيت وأشعرني بالبرد الثلجي، لكنني بدوتُ خائفاً جداً من العودة إلى النوم، وفي سكون حُضْن هاجر وبرودته ودفئه في آنٍ غلبني النوم فنمتُ، حتى مرتْ نفس الفترة من الوقت الذي قضيته في نومي الأول، فبدأتُ الشجار والتمتمة من جديد، صحوتُ مرة أخري أزعق بنفس النداء " لن أذبحه، لن أذبحه " وعلي وجهي وفي روحي نفس الخوف والفزع، ضمتني هاجر في عنف ورحتُ أتشبثُ بها كطفل مرعوب، وبِتُّ علي صدرها مستيقظاً حتى الصباح.
تكرر الحلم في الليلة التالية وفي عدة ليالٍ أخرى من بعد، علي فترات تطول وتقصر، وحالي تتغير وتميل إلي الوحدة والاعتزال مرة أخرى، لقد تأكدتْ روحي من جدية الأمر وأنه ليس فقط مجرد حلم، بل حقيقة وأمر يجب الوفاء به، غير أنى وجدتُ نفسي عاجزاً عن تنفيذه، وكلما هممتُ بالفعل ومصارحة إسماعيل ابني يعجز لساني عن النطق، فأنصرف إلى سيرتي القديمة، وأبدأ في رحلاتي الجبلية تماماً مثل وقت المحنة وبعد الهزيمة، وحيداً أتلو صلاتي وابتهالاتي وأتضرع أن يُقبل عجزي عن تنفيذ الأمر، وظللتُ لفترة طويلة أنتظر الإشارة من السماء، فلما لم تأتِ بدأتُ في اصطحاب ابني معي، ولم أخجل وأنا أرفع يديّ عالياً في السماء وأردد بعلو صوتي في ورع عظيم:
ـ إن ابني مني، وإني عاجز.
خمس سنوات كاملة وطويلة وموجعة من الصعود والهبوط والدعاء والتراتيل والبكاء والحزن العميق والتوهان والعُزلة وليس في السماء إشارة واحدة توحي بالقبول، خمس سنوات كاملة وليس سوى العجز عن التنفيذ وعدم قبول النداء، فلماذا لا تكون الفِدْيَة بديلاً عن الابن؟! هذا ما هداني تفكيري إليه بعد سنوات طوال وعجاف، هذا آخر أمل لي وحائط الصد عن نزول اللعنة.
في صباح يوم رأيته ملبداً بالغيوم، فظننتُ أن السماء قريبة جداً من الأرض، أخذتُ ابني وذهبتُ به إلي السوق، إلي المكان المخصص لبيع البهائم، وانتقيتُ خروفاً في مثل وزنه، وفيراً باللحم والدهن والشعر وذا قرنين مستويين وكاملين، حين ضممته إلى صدري ورفعته أحسستُ نحوه بمشاعر الأبوة واستبشرتُ الخير في ذلك، وبعدما أطعمته وسقيته أخذته ذات مساء ومن خلفي ابني ورحنا في رحلة ظننتها الأخيرة نصعد الجبل ونستوي جميعاً فوق الصخرة الحمراء المستوية، سجيتُ الخروف فوقها، وطلبتُ من إسماعيل أن يقيد أقدامه بيديه ورجليه وأن يُحكم قبضته عليه، فيما رحتُ أنزوي بعيداً علي طرف الصخرة، بالتحديد علي حافتها الحادة التي ليس من شيء بعدها سوى الهاوية والسقوط المريع إلى قاع الجبل، بدأتُ في تلاوة التراتيل وألهبتُ لساني بترديد النداء، وذرفتُ الدموع الكثيرة، حتى ظهر الشيخ الأسود في سماء المكان فوق غمامة بيضاء أضاءت الدنيا من فوقنا، وردد في الفضاء الكوني:
ـ الآن يا إبراهيم.
ـ الآن أيها الرسول.
فأَخرجَ السكين من حقيبته وألقاها نحوي فسقطتْ بين يديّ تماماً، وظل الشيخ يُحلق في السماء فوقنا وأنا أتجه نحو ابني والخروف، جلستُ إلى جوار إسماعيل قريباً من رأس الخروف، نظرتُ إليه ثم نفختُ في نصل السكين فزاد لمعانه وبريقه في الظلام المسيطر علي المكان فوق الصخرة، وتحركتُ بيدي وئيداً منطلقاً من موازاة رقبة إسماعيل في الهواء ومنتهياً إلي رقبة الخروف، قلت لإسماعيل:
ـ أنظر جيداً.
وحين نظر، جززتُ عنق الخروف فاندفع الدم أنهاراً من براكين لا أول لها ولا آخر، بدتْ كأنما كانت في انتظار مَنْ يُفجرها، وجرى الدم فوق الصخرة المستوية متوحداً في حُمرتها، فأبتْ الصخرة أن تتشربه، ولم يجد الدم بديلاً عن أن يسيح من فوقها، فظل يهبط إلى قاع الجبل من نفس طريق صعودنا إليه، ويتجمع عند القاع في مساحة منخفضة صانعاً بحيرة من الدم الأحمر ظلتْ تلمع ويأتينا بريقها في الأعلى حتى سكن الخروف تماماً عن الحركة فتوقف تدفق الدم.
مع آخر قطرة دم سقطتْ في البحيرة السُفلية تحتنا لم أحس الطمأنينة في نفسي، نظرتُ إلي أعلى فلم أجد الشيخ الأسود، كان قد اختفى من سماء المكان فعرفتُ أن فِدْيَتي لم تقبل، وأن اللعنة قادمة لا محالة، قادمة ليس في ذلك من شك.
طأطأتُ رأسي في ظلام الكون وأخذتُ ابني أتوكأ عليه ونحن نهبط الجبل ونعود إلى البيت، أحسست بصهيل اللعنة يدخلني فاقشعر بدني، وفي الصباح أخبرتُ إسماعيل بموافقتي علي خطبته لمريم، فلم يكن رفضي اعتراضا عليها ولا علي أهلها فهم خير الناس، إنما شكاً في نفسي لعل فدائي وفِدْيَتي لا يُقبلان ولعلي أقدر علي تنفيذ الأمر.
أما الآن وأنا في انتظار هبوط اللعنة بعدما عجزتُ عن تلبية الأمر، فلم يعد شيء يهم، هذا مصيري أنا، ولينعم إسماعيل بحياته كما يُحب ويرضى، الآن أُغلق باب غرفتي وأتمدد وحيداً علي السرير في حالة تشبه الانتظار إلى حد كبير ودون عجلة.
يوم أخيـر.
الآن وفي عز الظُهر تهبط اللعنة، حيث قرص الشمس مكتمل وسخن ومتوسط لكبد السماء، واقف فوق رءوس الناس والأشياء بحيث تبدو الرؤية أمام عيونهم واضحة تماماً، وجلية، لا مكان لزوغان بصر أو لسحر يقلب حقيقة الأشياء ويسترهب الناس، تهبط اللعنة ولا شيء يقدر علي إيقافها، أو حتى مجرد التصدي والوقوف في مجرى الهبوط، ومثل كل الناس ـ أنا المقصود منهم ـ أُسقط في يديّ ولم أملك شيئاً سوى نظرة المتأمل وأنا أرقب فعل الهبوط، حتى أصابني الاستسلام أو الرضى بالنصيب، لقد حذرني الشيخ الأسود من سوء العاقبة وأنني سأدفع ثمنها وحدي، حياتي في مقابل العصيان، لكنني عجزتُ عن تنفيذ الرؤيا، فلتكن حياتي فداءً لحياة إسماعيل، وليكن الجزاء إذن، أو علي الأقل الرضى به بديلاً ومحاولة أخيرة للتفكير وجلب المغفرة، دلفتُ غرفتي واستويتُ أتمدد علي سريري في انتظار قدوم اللعنة، وبعد فترة قصيرة حيث لم تمض سوى أيام قليلة علي هبوطي الأخير من فوق سن الجبل هبطتْ اللعنة إلى جسدي واستقرتْ فيه مرضاً خبيثاً لا شفاء منه ولا دواء له، احتار الأطباء حتى في مجرد التشخيص أو محاولة معرفة تلك الأسباب الخفية التي أدت إلى اضطراب البدن وزلزلته ثم هوانه وضعفه من بعد، وأخيراً ذهابه المستمر في غيبوبة من وراء غيبوبة تصحبها سخونة شديدة وتمتمة بكلمات حتى أنا الناطق بها كنت أعجز عن تفسيرها وأسال نفسي في ذهول شديد، ماذا أريد أن أقول؟! أي شيء يبغي ذلك الشيخ المريض الإفصاح عنه؟ أكون منهمكاً في الحديث مع أهلي ثم أشعر فجأة بتلك الذبذبة تنطلق من منطقة البطن ثم تسري بسرعة شدة في كل أجزاء البدن. تصيبه بالتنميل والسخونة التي تعجز قِطَع الثلج والماء البارد عن إنزالها، فيخف وزني وتزداد ضربات القلب بحيث يكاد ينخلع من مكمنه وأشعرُ أن روحي تفر مني، أنها مخطوفة، وأنني مقبل علي حالة من الطيران والتلاشي من أمام الجميع، ثم تغيم الدنيا في وجه عينيّ وتَبْيَضُّ بياضاً شديداً فأُحمل إلى عوام أخرى، تارة أحسها غير حقيقية إذ ليس فيها زوجتي ولا ابني ولا صديقي، وتارة أحسها حقيقية تماماً إذ أعيش فيها كل التفاصيل، أُشارك بحيوية وخِفَّةِ طائر محترف وأعي كل شيء، حتى إحساسي بالزمن وسرعته أو بُطْئِه حسب حالة الأحداث، كنت متيقناً منه يقيني من ذاتي وجسدي الذين أراهما وأنا أتحرك كأنني أنظر في مرآة كبيرة، كبيرة بحجم الدنيا غير اليقينية من حولي.
كنتُ أسير أو أطير في مشيي، أو أن قوة ما خفية أحسها ولا أراها تدفعني للأمام، فأنطلق في طريق طويلة مفروشة بالرخام الأبيض ومُسَوَّرة من جانبيها بحائطين أبيضين أيضاً ومرتفعين إلى السماء تقريباً، يسقفهما في الأعالي السامقة اللون الأزرق الشفاف لامع الزُرقة، أنطلقُ مندفعاً ومسرعاً كأنما أريد الخروج من ذلك الممر الأبيض رغم إحساسي بالراحة والرضى والنعمة داخله ولا أعرف لماذا؟ فيفضي بي في نهاية الأمر إلى باب لا يبين من اندماج بياضه في بياض الأرض والحائطين، إلا ممفتاحه الذهبي الأصفر اللامع، أُدير المفتاح رغم أنني لا أريد ذلك فينفتح الباب علي ما يشبه الجحيم الذي يأتيني فحيح نارها مغتاظاً وملهوفاً كأنما في انتظاري، وقبل أن تدفعني يد خفية فيه أُفيق لأجد أهلي من حولي، فأُمسك يد ابني إسماعيل، أقبض عليها بقوة وأنا أردد السؤال مرة بعد مرة:
ـ أين أنا؟!
كأنني لا أسمع إجاباتهم المتكررة وهم يخبرونني أنني في بيتي وغرفتي وفراشي، فأُغمض عينيّ كأنني لا أصدقهم، وأعود مرة أخرى للانطلاق عبر الممر الأبيض الفضي، أقطعه من بدايته وصولاً إلى باب الجحيم، لكنني في المرة التاسعة في انطلاقي هذا عبر الممر، وقبل أن أصل إلى باب الجحيم رأيت نفسي أتسور حائط الممر حتى أُصبح من فوقه، ثم فجأة من فوق قمة جبل عالٍ أجري وبكل عزمي ثم أُشْفَطُ في السماء، ثمة قوة لا متناهية من الهواء سيجتني في شكل أسطواني وجذبتني إلى أعلي، أحسستُ بها مثلما أحس الآن بجسدي العاري، والماء الذي يُسكب من فوقه، فأحرك أصابع قدميّ بالكاد من القشعريرة، وترتعش جفوني فأصحو لأجدني عارياً وممدداً فوق الكنبة المجاورة لسريري، والمجردة الآن من فرشتها، وثمة رجلان يقفان فوق رأسي ويدلقان الماء عليّ، بينما تمتد يد رجل ثالث تحاول رفع قدمي في المؤخرة، فأعترض وأقاوم بعدم رفع قدمي، ولما شرعتُ في نهرهم جميعاً وجدتُ ابني إسماعيل وصديقي إسماعيل العبراني يتقدمان مني في ذهول كبير، وإسماعيل العبراني يزعق بقوة صوته الجهوري:
ـ عاد إبراهيم.
فتتطاير أصوات الزغاريد والتسبيح والتكبير والتهليل تعلو السماء في الخارج، وتتوحد مع شمس الصبح الطالعة تطل برأسها من فوق سطح بيتنا وتأتى تنظر إليّ، نظرتُ للرجلين الذين أتيا لغُسلي وطلبتُ منهما الانصراف، قلت في هدوء وأنا أناولهما أُجرتهما:
ـ اذهبا فلن أموت اليوم.
كنت قد صدقتُ الرؤيا، وكنت أعرف أنه ليس يوم موتي وأن ذلك سيحدث هناك فوق سن الجبل.
أربعون يوماً قضيتها بين أهلي بعد القيام من الموت، حاولتُ فيها أن أُعَوِّضَ ابني إسماعيل عما فاته من حنان الأبوة في الخمس سنوات الماضية منذ لقائي الأول مع الشيح الأسود، كما حاولتُ أن أخطب له مريم عسى أن يكون في ذلك قَدْرٌ يكفيه من الاعتذار عن تقصيري، ذهبتُ إلى ديوان عائلة مريم وحيداً ومسلحاً بعلاقتي القديمة بوالدها ومكانتي التي يحتفظ الناس لي بها في نفوسهم، ولم يَدُرْ بخلدي أن يرفض والد مريم لي طلباً، لكن الأمر لم يكن بيده، لقد بدا متسامحاً إلى درجة كبيرة، ومتخلياً عن عناده الذي أخبرني ابني به من قبل، بل ومتقبلاً لفكرة زواجها من أي إنسان تختاره، لكن مريم كانت مريضة وغير قابلة لأن يفكر والدها في شيء غير شفائها، أخفض رأسه للأرض وردد يصوت ضعيف وواهن:
ـ إن شفاها الله فسوف يكون لنا كلام آخر.
ولم يكن في وسعي عمل شيء سوى أن أنتظر وعده لي، وأن أنقله بحذافيره إلى ابني كي يتمسك به من بعدي إن أنا أصابتني اللعنة مبكراً وجاءني الشيخ الأسود قبل شفائها بحيث لن أكون موجوداً بينهم، وهو ما سيحدث فعلاً.
ففي اليوم الأربعين من عودتي من الموت سأصحو مبكراً بعافية ظاهرة سأحسها في كل عضو في بدني، حيث سينبض كل عضو فيه برضى حقيقيٍ وإيمان كامل، وبصحة ستبدو علي وجهي بحيث يراه ابني وقد رُدَّتْ دمويته كاملة وعاد إلى طبيعته التي يعرفه الناس والأهل عليها، وجه أبيض مُشرب بحُمرة العز ومدور ممتلئ باللحم الوثير، وثمة شعيرات صغيرة بيضاء تشبه الزغب تُحدِّد ذقني وتظهر واضحة تحت حُمرة الجلد الشفاف، تكاد تضئ من أثر النور الخارج من عينيّ استسلاماً تاماً، وطاعة كاملة لمصير اخترته وصبرتُ عليه، وأتحمل الآن عاقبته سعيداً وبإحساس مكتمل بقدرتي علي أنني قد صنعتُ لابني شيئاً سوف يحمله لي من بعد، حتى صوتي سيبدو طيباً تخرج الكلمات منه واضحة وجلية ومطمئنة وواثقة، لكنني مع كل ذلك سأشعرُ أنه يوم موتي، أنه اليوم الأخير لي ولابد أن أشبع عينيّ برؤية أهلي، لذلك سأنده عليهم واحداً واحداً كلاً باسمه، زوجتي هاجر وابني إسماعيل وصديقي وقريبي إسماعيل العبراني، وحين يجيئون سيتحلقون السرير من حولي وعلي وجوههم آيات الفرح والغبطة بعودتي وبسلامتي وبوجودي بينهم الذي سيظنون أنه يأخذ طريقه نحو الرسوخ والامتداد في الزمن، سأجمعهم من حولي وأُشبع عينيّ برؤيتهم حتى تمتلئان، وقلبي بصورتهم وروائحهم حتى يبشم بالطمأنينة، ويسكن إلى ذلك الإحساس الرائع بِحَمْلِ الأمانة وفِعْلِ الذي عليه، سأحاورهم كما لم أحاورهم منذ زمن طويل، وسأضحكُ حتى تبرز أسناني وأنا أذكر كل أصدقائي وأحكي لهم عنهم، وسأخبرهم بأمنيتي في القدرة علي الذهاب لزيارتهم جميعاً، فسوف تكون رسالة صالحة لطمأنتهم، وآية معجزة لتحقق الفرحة علي وجوههم، وحين يجئ موعد الغداء سأجلسُ وسطهم في صالة البيت آكل نهماً وسعيداً بوجودي الأخير بينهم، لكنني بعد العصر سأدعو ابني إسماعيل للصعود معي إلى سن الجبل، ساعتها ستنظر هاجر إليّ طويلاً كأنها تعاتبني أنني أحطم الآن فرحتها، وستسألني في حذر وخوف شديدين:
ـ مرة أخرى يا إبراهيم؟!
فأبتسمُ في وجهها وأنا أعرف للمرة الأخيرة كم تُحبني هذه المرأة، وأعرف أيضاً أنني لم أخطئ في الارتباط بها وتسميتها هاجر، لذلك سأبعثُ صوتي إليها هادئاً وواثقاً سيطمئنها بعض الشيء قبل أن يخبرها أنه لا عودة لما كان، أن ثمة قَدَراً الآن أكبر مني يُسيرني نحو نهاية لا بأس بها علي الإطلاق، ولطيفة جداً مع حجم الجُرم الذي ارتكبته في حق نفسي وحقها وحق ابني إسماعيل بل وفي حق الناس جميعاً، سأقول:
ـ بل مرة أخيرة يا هاجر.
وسأُقَبِلُها بين عينيها، وأنا أرفضُ أن تُعِدَّ لي طبق التمر الرطب والماء البارد كي تتأكد رسالتي لها، لكن حِرْصَ المرأة داخلها سيمنع ذلك بحيث لن تتأكد الرسالة إلا حين أجهر بها علانية:
ـ لا لزوم لهما، فقط شَرْبَةٌ صغيرة للخروف.
ساعتها ستأخذني هاجر في حضنها طويلاً ولن تأبه لوجود إسماعيل، ستطبع فوق جبيني قبلة طويلة وعميقة، أعرف خلالها أنها تشكرني، أنها سعيدة بالوجود إلى جواري، وأنها تغفر لي، فأطفقُ أخرج من الباب البرَّاني وابني في ذيلي.
سنقضي وقتاً طويلاً في الوصول إلى شاطئ النهر، كل مَنْ يقابلني في الطريق سوق يوقفني يُسلم عليّ ويتبادل معي كلمات الود والفرح لعودتي وسلامتي، وسأكون حريصاً علي أن أُعطي كل واحد منهم وقته الذي يريده معي، وألا أتركه ينصرف من أمامي قبل أن يرغب هو في ذلك، لعلي سأستلذ بوجودي الأخير بين الناس، ذلك الوجود الذي سأفقده إن أنا صعدتُ إلى سن الجبل، ولعلي سأود ساعتها لو أؤخر وقت صعودي قدر الإمكان، وإلا ماذا سيكون سبب فرحتي علي شاطئ النهر بتأخر المَعَدِّيَّة في القدوم، فسوف يدوم انتظارنا لها كثيراً، ولعلها أيضاً تلك الساعة المُحَدَّدة سلفاً لوجودي فوق سن الجبل لن تبغي الاستعجال إليها.
وحين ستبدأ أقدامنا تخطو في جسد الجبل تصعد إليه سيبدأ الليل في نسج خيوطه السوداء إلى جوار بعضها يُشكل ستارة قاتمة وطويلة، حين يفرشها علي المكان من حولنا سيغوص المكان في سواد قاتم، ولن يقدر حتى وجه القمر المكتمل في السماء علي فثئه أو التأثير فيه، وفوق سن الجبل سوف أهمل ابني تماماً فإن دوره ساعتها سيكون قد انتهى بالنسبة لي، حيث أريده آخر ما ترى عيناي من الدنيا، بعدها سأستوي فوق سطح الصخرة الحمراء أدخل في صلاتي الأخيرة وأُرتل بصوت زاعق وجليل، سوف يهتز له سيكون الليل وتتحرك له صخور الجبل تترك أماكنها التليدة حتى تكاد تتفتت، ساعتها سأدرك أن الشيخ الأسود قد سمع النداء، وأنه الآن يأتي يفترش جسد السماء في الأعلى ليبدو واضحاً من أمام قرص القمر، وحيث أن قرص القمر سيكون بعيداً عن موضع صلاتي فوق الصخرة، فسأقطع الصلاة وأجري باتجاهه نحو الغرب، وعندما أكون تحت قرص القمر تماماً سيكون الشيخ الأسود من فوقي، سأفرد ذراعيّ إليه وسيبدأ الشيخ في إنزال يديه من السماء حتى تلتقي أيادينا، سيسلم عليّ أولاً ثم يُحكم قبضته علي يديّ ويبدأ في سحبي / شَفْطِي إلى الأعلى، ساعتها سأرى نفسي في عينَيْ ابني وهو ينظرني من بعيد، شيخاً أسود من أمام قرص القمر المنير، يشقه ويصعد إلي أعلى مختفياً في ظلام الكون، وإلي الأبد.
(8)
بلغني من سعاد أنها قالت:
دخلتْ مريم في مرضها، وقد ظنه الأهل والناس أنه المرض الأخير الذي يسبق الموت، بدتْ شاحبة تماماً كأن الدم قد انسل منها إلى مكان غير معلوم في الجسد بحيث لا يبدو للناظرين، وبحيث تبدو مريم ضعيفة وغير راغبة في الحياة من دونكَ، بعدما رفض أبوها وأهلها خطبتكَ لها وخرجتَ أنت والعم إسماعيل العبراني من ديوانهم منكسة رأساكما وبخيبة أمل لم تعتقد مريم أنكَ شهدتَ مثلها في يوم من الأيام، كانت تطل من فتحة الشباك الموارب في أعلى بيتهم المطل علي الديوان، وحين رفعتَ عينيكَ إليها بنظرة الخيبة والفشل أُسقط في يديها، وسقط جسدها مرتمياً علي الأرض ورائحاً في غيبوبة طويلة، ومثلما فشل الأطباء في تشخيص مرض أبيكَ من قبل فشلوا في تشخيص مرضها، ولم تبدُ من أمامهم سوى بنت فقدتْ رغبتها في الحياة، وتنتظر أن يأتي الموت كي يخلصها من بين أيديهم التي بكل تأكيد سوف تتلطخ بدمائها من بعد، وسوف يعض الأب أنامله من الغيظ والندم علي ما فعله بها، علي عناده الذي ورثه عن الأهل الأقدمين وتمسكَ به إلى آخر قطرة من تناقص روح ابنته العطشانة إلى الحب، والسكون إلى جوار رجل تمنته وقطع أبوها أمنيتها، وكلما أفاقتْ من الغيبوبة كلما تردد النداء علي لسانها.
ـ إسماعيل تعالي يا إسماعيل.
حتى انفطر قلب الأب وتساقطت دموعه نقاطاً من دم غزير تَمَنَّي لو يهبه لابنته كي تسترد عافيتها.
في غرفة مريم بدا السواد ظاهراً، كانوا يُسدلون ستائر الغرفة في وجه الشباك الوحيد المطل علي الدنيا، يكتفون بضوء لمبة المصباح الأصفر الواهن في السقف، وتحوطها النسوة بملابسهن السوداء ووجوههن الكالحة، القابضة علي تكشيرة عظيمة وضيق شديد يجثم علي صدورهن، فلا تسمع من أفواههن سوى كلمات العزاء أحجاراً ثقيلة وموجعة يلقونها في قلب مريم ويحطن بها سريرها، فلا تقدر حتى علي التنفس في هدوء، كانت تجتلب الهواء بصعوبة شديدة كأنها تنحت في الصخر، وتزفره بعد زمن طويل بنفس الصعوبة والحشرجة ونحن نسمع كركرة صدرها في الشهيق والزفير فنظن أنها تلفظ نفسها الأخير، حقها الأخير من الدنيا التي ظلمتها وبخلت عليها بأمنية صغيرة ووحيدة لم تتمن غيرها، أن تسكن إلى جوار رجل تحبه، دونما أن يُغضب ذلك أحد ما، لكن الجميع غضبوا، ونزل غضبهم بها عقاباً بالحبس وبالعنوسة والحرمان حتى من الإطلالة علي الشارع الضيق الذي يسير من أمام بيتهم، لكنها لما سمعتْ بقدومك والعم إسماعيل هربتْ من حوش البيت إلى الأعلى، لم تكن تتمنى في هذه اللحظة أن يوافق الأهل علي الخطبة فقد تضاءلتْ أحلامها وأمانيها ورمتْ الدنيا علي مخيلتها طرحة سوداء داكنة لا ترى من خلالها أي شيء، لقد تمنتْ فقط أن تراكَ وأنتَ تخرج من ديوان عائلتها، أن تُشبع عينيها بكَ قبل أن تفقد رغبتها في الحياة وترتحل إلى عالم آخر، عالم جميل وخالص وخالي من العادات والتقاليد وسلطة القبيلة والقهر، تفتح ذراعيها نحوه وتتمنى لو يأتي مسرعاً فيحتويها بين ذراعيه الحانيتين.
عندما إعترضتها أمها في الصعود إلى الطابق العلوي مخافة الأب، ركعتْ مريم تحت قدميها وتوسلتْ بكلمات كثيرة ودموع لا آخر لها، لا أعرف من أين أتت بها مريم، لكنها أفلحتْ في ترقيق قلب الأم عليها وأن تسمح لها بالصعود، لقد أخبرتني مريم قبل أن يرتمي جسدها في الأرض أنها الآن فرحانة وغير محتاجة لشيء علي الإطلاق، أنها حتى لو كانت نظرتكَ نحوها نظرة الظافر المنتصر فإنها لم تكن لتتحملها أيضاً، ولاهتز لها جسدها نفس الاهتزازة المرتعشة، ولزاغتْ عيناها نفس الزوغان الحارق، ولأصابها نفس الدوار الذي تأرجح بالدنيا من حولها ثم سترها بغمامة بيضاء لا تكشف عن شيء قبل أن يطرحها أرضاً، إلى جوار مريم فقدنا الإحساس بالزمن فلم نَعُدْ نَعُدُّ أيام غيبوبتها، فقط ندعو ونبتهل ونَسِحُّ دموعنا مطراً غزيراً أن يظل قلبها ينبض طالما نحن من حولها ننتظر المعجزة، أية معجزة، وعلي يد أي أحد، طالما أنها سوف تُعيد إلينا مريم، هكذا كان نصل المرض في جسد مريم، وهكذا لم يبق منها سوى قلب يدق، وأظنه يدق من أجلكَ.
لما سكتت سعاد رأيتُ قميصي قد ابتل تماماً بالدموع، لم أقل شيئاً ولم أعِ شيئاً سوى أن قدميّ تسيران بخفة طائر جريح وترسوان في مواجهة والد مريم بديوان العائلة، هكذا وقفتُ في مواجهة أبيها منهكَ القوى، زائغ العينين، أشعث الشعر، ومبتلاً قميصي بدموع عينيّ التي رجوتها أن تنداح في وجهه علّها تكون رسولاً بيننا يرق لها قلبه. لكنني مفعم بالعشق وبالمحبة وبالجنون، لقد تعلمتُ الدرس جيداً الآن، العشق في مقابل الفضيحة، وليرى هذا الرجل إن كان يحب أن يجعل مني مجنوناً، ومن ابنته ليلي جديدة، هاهو يواجهني بسؤاله الغبي الذي لا أعرف بغيته منه، هل يسخر الرجل مني بسؤالي عما أريده منه؟ وماذا يمكن أن أريد من رجل مثله سوى مريم، لا شيء يربطني به في هذه الحياة سوى أنه يمتلك بنتاً امتلكتْ مني الروح والعقل ولا أعرف كيف تكون الحياة في غيابها، كان صوته منكسراً ومبللاً بالدموع وكانت إجابتي زاعقة رغم تلاحق أنفاسي من الجري إليه:
ـ أما منكَ فلا أريد شيئاً، إنني فقط أطلب خطبة مريم.
لما ذكرتُ مريم تراختْ أوصال الرجل وبدأ يكسوه هدوء عميق، أو لعله استسلام للأمر الواقع الذي أحوطه الآن به وأنا أُغلق الدنيا من أمام عينيه علي خيارين لا ثالث لهما، إما خطبة مريم وإما الفضيحة في البلدة كلها، وعندما استكان جسده مرتمياً علي الدكة من خلفه وناظراً إلى غور الديوان العميق، هناك حيث يرسو رسم البيت في البعيد، عرفتُ أنه لا يقدر علي احتمال الفضيحة فطلبتُ منه إعلان الخطبة وأن يسمح لي بالوجود إلي جوارها في غرفة المرض.
في غرفة مريم بدا السواد كما أخبرتني سعاد عنه، لكنها فشلتْ في وصف ما يمتاز به من ثقل رهيب وجاثم يكفي وحده لأن تزهق به أرواح كل الذين يحيطون سريرها في حزن وهلع، لما دخلتُ غرفة مريم فتحتْ مريم عينيها ونظرتني باسمه لكنها لم تقو علي تحريك يدها لتسلم عليّ، فجريتُ نحوها آخذ كفها الصغيرة بين يديّ وأصنع علي كل إصبع فيها قُبلة خفيفة، علَّها تُخفف من وطأة الموت الذي يحوم بالمكان، أخبرتها بموافقة والدها علي الخطبة وبموت أبي وبأنني لن أتركها تموت أيضاً، ورجوتها كثيراً أن تساعدني في ذلك، ألا تدعني وحيداً في هذه الحياة بلا قلب، أجابتني بابتسامة واهنة ثم أغمضتْ عينيها في الغيبوبة، وضعتُ كفها إلي جوارها وربَّتُ عليها وئيداً ثم توجهتُ إلي الشباك أُزيل ستائره وأفتحه، فتدخل الشمس ضاحكة بضوئها وحرارتها، وتغرق الغرفة في نور عظيم لم يكن ينقصه سوى أن تقوم مريم من فراش الموت لترفل في أنهاره المتدفقة، وأن تخيط من أشعته ثوباً يصلح للزفاف، لكنها لم تقو علي عمل شيء وظلتْ ممددة في فراشها وهائمة في غيبوبتها كأنها لا تدرى بما يدور من حولها، فهل لم تقدر مريم علي تَلَمُّسِ وجودي إلي جوارها؟! ألم تشم في هواء شهيقها عبق رائحتي؟! وهل زال من فوق شفتيها طعم القبلة الأولى؟
وعلي مدار أيام طويلة مرت ببطء شديد كان الناس يزورونها، أقرباؤنا وأصحابنا وجيراننا، يجلسون فوق المقاعد الخشبية التي أصرتْ مريم في المرة الوحيدة التي أفاقتْ فيها أن تحوط سريرها بها، مُشَكِلَةً ما يُشبه حدوة الحصان أمام عينيها وهي ممددة في مواجهتهم، يجلسون صامتين حيث يصير الصمت عباءة سوداء تلفنا جميعاً ولا يفثأها غير همهمات واهنة وكُحات ضعيفة ورتيبة يحاول أصحابها كبتها إلي أقصى حد ممكن كي لا تزعج مريم، وبعض الدمعات الرقيقة التي تمتلئ عيونهم بها حزناً علي مريم الجميلة وهي تسير نحو نهايتها في طريق الموت، وعلي فترات طويلة كانت بعض الكلمات تخرج منهم تحاول المواساة والأخذ بيدي وبيد مريم الساكنة نحو الثبات ومواصلة القوة في الصمود في وجه المرض الذي كانوا يعرفونه جيداً أن أحداً لا يستطيع مواجهته، ورغم أنني قد تعبتُ من سماع تلك الكلمات التي لا تُقدم ولا تُؤخر شيئاً، وتعبتُ أكثر من نظرات الشفقة التي تطل من عيونهم وتدغدغ جسدي مثل إبر حادة أو شوك مسنون، إلا أنني كنتُ أُكِنُّ لهم كل التقدير والاحترام والحب، فأنا أعرف جيداً أنهم يحبونني ويحبون مريم، كما أنهم جميعاً كانوا مهذبين جداً، غاية في الأدب والذوق والهدوء، فجميعهم استأذنوا قبل الدخول علي مريم إلا الموت، فقد أتى مثل ريح غبية وعاتية تريد أخذ كل شيء في اتجاه واحد، وتتسرسب داخل البيوت عبر الفتحات الصغيرة الواهنة لشقوق الأبواب والشبابيك، لقد سمعتُ لانفتاح باب غرفة مريم أزيزاً وقرقعة إذ يندس شيخ الموت خائفاً إلي الداخل في سرية وكتمان بحيث لا يكاد أحد يشعر بوجوده بينهم، فهل يبغي الآن أن يقبض روح مريم؟! هكذا في هدوء تام وبمنتهى السهولة واليسر ودونما أن يراه أحد، لكنني لمحتُ البريق في عينيّ مريم متجهاً صوب الباب فتبعُته، وفي ركن الباب الموارب رأيت الموت مدثراً في عباءته السوداء وقلنسوته القاتمة، واقفاً في وجوم يفتح حقيبته وبيده مقبض الموت.
لقد عرفته فقد كان غريباً عنا، ولمحته جيداً علي ضوء بريق عينَيْ مريم، ولم أكن بأي حال لأدعه يقبض روحها بحيث تروح مريم مني وإلي الأبد، ولتكن محاولتي الأخيرة إما أن يدعها وشأنها أو يأخذني معها، اتجهتُ نحوه في قوة وكأني أنسل من نفسي، فقد رأيت جسدي يتحرك من مكاني الواقف فيه إلي حيث يرتكن شيخ الموت إلي جوار الباب الموارب في انتظار أن تحين لحظة أداء المهمة، بدا كل شيء في الغرفة ساكناً، وكانت صورة جسدي هي الوحيدة التي تتحرك في مشهد سينمائي بطئ ومُصِرٍ علي اكتشاف التفاصيل الصغيرة، هاهي صورة جسدي تشتبك الآن مع شيخ الموت في معركة حقيقية وتنقض بسرعة هائلة علي مقبض الموت في يده، تريد انتزاعه منه، وشيخ الموت يقاوم عساه يُثني صورة جسدي عن الفعل، لكن الصورة تُصر على دخول المعركة، وكان ثمة قوة ما / إرادة ما / عزيمة ما تدفعها نحو الإصرار على الفعل حتى نجحتْ صورة جسدي في اقتناص مقبض الموت من الشيخ، وهي تتجه به الآن نحو نافذة الغرفة المفتوحة في وجه الشمس ترميه إلى الخارج بعِزْمِ ذراعها ورغبتها في اجتلاب الحياة لمريم، فيطوح مقبض الموت هناك في البعيد، عابراً النهر ومرتمياً عند سفح الجبل في الجانب الغربي، يصطدم ببركة الدم الأحمر الصلدة التي صنعتها دماء الخروف، فيحترق المقبض ويختفي شيخ الموت من الغرفة. فهل آن لمريم أن تصحو الآن من غيبوبتها؟!
كأني أسمع أصوات الزغاريد تعلو حتى تطاول السماء، وثمة صورة جميلة وبهية لمريم تتشكل أمام عينيّ، وهي ترتدي ثوبها الأبيض المغزول من أشعة ضوء الشمس، فأخطو نحوها وأستكين إلى جوارها كي تغمرها معاً أصوات الغناء، وكي أغرق أنا وحيداً في بحور عينيها النجلاوين، فألمس بأصابعي معنى السعادة.
(9)
إنه اليوم الأول في بقية عمري، وليس في ذلك أي قدر من التشاؤم، إنها الحقيقة فقط، فكل الأيام الفائتة قد انقضتْ من عمري وخُصمتْ من حساباته، ويأتي هذا اليوم الجديد كيوم أول في بقية عمري، أعيشه كحقيقة وواقع لا مهرب منه، أحكي فيه أسطورتي القديمة وقد مضتْ مع الأيام الفائتة، أحكيها لأتخلص منها فأشعر بطعم اليوم الجديد، عسى أن أعرف كيف تكون الحياة.
مات أبي إذن أو صعد إلي مكان تراتيله وصلواته فالأمر سيان، كلاهما إنما يعني أنه لم يعد موجوداً في هذه الحياة الحقيقية الباقية علي الأرض، لم يعد محور الأحداث ولا حتى مجرد مشارك فيها، إنه الآن مجرد ذكرى نحزن عليها أحياناً، ونفرح بها أحياناً أخرى، لكنها لا تؤثر في حاضرنا ولا في لحظتنا القادمة، إنها مجرد ذكرى عابرة قد لا تخص أحداً في هذه الحياة غيري.
صحيح أن أحداً لم يكن يعرف الجبل مثل أبى، لكنني الآن أعتقد أنني أعرفه بطريقة مختلفة، لقد ظل الجبل يقوم علي رأس البلدة من جهة الغرب منذ أمد بعيد، لا أعرف مداه ولا يعنيني في شيء حساب تاريخيته جيداً، كيف هو ممتد في زمن، فالأزمان السابقة ملك أصحابها فقط، أولئك الذين عايشوا أحداثها وطعموا حلوها ومرها، ملك الجبل وحده، من فترة التكوين وصولاً إلي ما ساعد به في إرساء قواعد الأرض، وما حمل من فوقه من طير وحيوان وبشر وأسرار، أما أنا فليس لي من التاريخ سوى تلك السنوات التي أعايش الآن أحداثها، وقد جالت ذاكرتي فيها مثل حصان جامح في الأرض البراح، لا شيء يَحُدَّه، وليس من قوة قَدَرَتْ علي إيقافه أو توجيهه صوب ما هو محدد سلفاً واستقر الرأي عليه، لم يكن سوي الركض قَدَراً لا يفارقني ولا أبرحه وأنا في مكاني هذا، لقد لهثتُ حتى أحسست الوجع في قدميّ، وجع يشبه إلي حد كبير وجع الركض لآلاف الكيلومترات بغير انقطاع، لكنني الآن وقد هدأتْ نفسي بعدما تخلصتُ من أسطورتي القديمة أعرف جيداً مَنْ أنا، مَنْ أكون، وأين أقف علي وجه اليقين.
أنا الآن فوق قمة جبل عالٍ وتليد، أطأ بقدميّ صخرته الحمراء المستوية، دماء الكبش الذبيح لم تزل حاضرة تعلق به، حية وسخنة كأنما أُسيلتْ بالأمس القريب، تبدو الصخرة بها قوية وصلبة ومتماسكة، لكنني حينما أضربها بقدميّ تتفتتْ وتتساقط نتفاً صغيرة أخذتْ في التدحرج إلى أسفل من نفس مكان صعودي حتى إذا قاربتْ على ملامسة الأرض، نفختُ فيها من علٍ فطيرها الهواء في الفضاء كتلاً تشبه الأحجار الصغيرة، يقف الهواء بها فوق بركة الدم أسفل الجبل ثم يتركها، فتتساقط في البركة حجراً إلى جوار حجر، مُشَكِلَة دوائر دموية صغيرة في قلب البركة، سرعان ما تنمو إلى جوار بعضها فتتصادم وتتفتتْ ثم تتلاشى تماماً، وتتلاشى معها بركة الدم رويداً رويداً إلى أن تصفو الأرض من تحتها ويبين ترابها بشكل واضح، أرض مستوية تصلح لأن أسير من فوقها دونما أن تتلطخ قدماي بالدم، وبمعرفة حقيقية تُخبرني بأن كل الأشياء التي كانت راسخة من قبل لم تعد الآن كذلك.
أراني الآن أسير صوب بيوت البلدة بخطى واثقة، لا أحتاج لأي سبب كي أغضب من قدري. فقد اتخذتُ مكاني في المدرسة، صحيح أنه لن يكون بديلاً عن مكان أبي، وأنا لا أريده كذلك، لكنني سأحاول أن أعلم الأولاد شيئاً جديداً، شيئاً يبدأ من هناك حيث أغوار التاريخ الممتدة في الزمن، والتي تطولنا أياديها مخالب تنهش في اللحم وفي العظام ونحن نظنها بعيدة ـ غير أنه بكل تأكيد شيء مختلف ومُنْبَتُ الصلة تماماً بما فات، ليس سوى الامتداد والتطور، إنه وليد لحظتنا الراهنة، فالنظر إلى التاريخ لا يجب أن يعني بالضرورة النظر إلى الوراء، طالما أن الحياة تسير بشكل صحيح ولا تقف عند حد الدهشة، أو إجتلاب الذكري، أو الوقوف للغناء فوق الأطلال.
لقد أراد أبي أن يصنع مني رجلاً يحافظ عليه، أما الآن فأنا أصنع رجلاً من نفسي، أراني الآن يتحلق الأولاد من حولي في فناء واسع وكبير ومُظلل بأوراق أشجار كثيفة زرعتها بيدي، وأرى مريم تُقبل نحونا من بعيد، في يدها ورقة بيضاء، ناصع بياضها، وقلم بكر لم يَخُطُّ شيئاً من قبل، وحين تنضم إلينا نبدأ جميعاً في مراجعة الدرس.
كان ياما كان ..............
وهذا نسبي.
أنا هو أنا