يقف في المسافة بين حجرة النوم ، والصالة. لا يكاد يرى ؛ فالظلام يشمل كل شيء، حتى يخاله قد استولى تماما على الأشياء من حوله. المنضدة ، ستائر الأوريجانزا ، الشمعدان الفضي ، النجفة المدلاة من السقف. يتقدم خطوة فيتعثر في طرف سجادة صغيرة ، يعرف إنها وضعت على عتبة حجرته، يكاد لونهاـ في نور ربناـ أن يكون رماديا.
أشد ما يرعبه أن يتسلل برص من نافذة المطبخ ، يصل إليه عند حافة السرير، يتربص به حتى يستولي عليه النوم. يسقط على جسده شبه العاري. يرتجف، يظل يتلوى حتى يحرر ذاته من نعومته اللزجة .
قالت له، وهي تغادر الشقة : لن تستطيع العيش بدوني .
لم يعلق على كلامها حتى لا يفتح مجالا للعتاب، سار خلفها، وأغلق باب الشقة بهدوء، ثم استلقى على الكنبة الفستقية يجتر أحزانه.
شعر أنه بدونها، وبدون الولد الذي ينطق اسمه بصعوبة سيكون أفضل حالا. حقا لقد أخذته معها، ولم يعترض بتاتا، مهما غابت فسوف تقضي وقتا وتعود مطأطأة الرأس تسحب حقائبها خلفها.
تشمله الظلمة ، يضنيه الجوع ، وهو غير قادر على التحرك. بصعوبة أخذ بيضتين من الثلاجة، سلقهما ثم وضعهما في طبق صاج، وإلى جانبهما عليه أن يضع حفنة ملح وفلفل.
لا يمكنه وسط هذا الظلام أن يميز بطرمان الملح من السكر، ربما جرب الملمس، أحس أنه في شبه متاهة. لا أمل في عودة التيار الكهربي، فهناك انفجار في الكشك العمومي مما يتطلب وقتا للإصلاح. سمع صوت خطوات صاعدة على السلم، لن يفتح الباب مهما كان الطارق، فهو في حالة انسحاب تام من هذا العالم القاسي.
لقد تجاوزت الخطوات شقته، صعدت لأعلى، فأحس بارتياح ، لعلها بسمة ابنة الجارة التي يحبها شباب الحي، ولا يتقدم أحد لطلب يدها، خوفا من جمالها الباهر.
يكتفون بإلقاء كلمات الغزل عند مرورها بجوارهم، وحين تبتعد يكملون ذلك بالصفير.
لو صممت زوجته على الطلاق، فسوف يحقق رغبتها، يوقع على الورقة المباركة ثم يصعد السلم كي يجلس مع أمها الوحيدة بعد وفاة زوجها في العراق، يطلب يد بسمة على سنة الله ورسوله.
عليه أن يستعد من الآن بصبغ شاربه وفوديه حتى يضيع الشعر الأشيب في لجة الأسود المنيع.
لن يضربها ، لن يعذبها، لن يمتنع عن الصرف عليها. سيمنحها كل ما تريده شرط أن توافقه على شراء كتب أكثر وأكثر. لولا المعرفة ما كانت الحياة بمثل هذه السهولة: ثلاجة، غسالة، بوتاجاز، تلفزيون 27 بوصة يعمل بالريموت كنترول.
آه من جمال بسمة، إذ تسبقه بثلاث سلمات، يضع عينيه في الأرض ويختلس نظرة عابرة فيحس بزلزال قادم من أعماق القارة الإفريقية حيث تتحرك أشجار الأبنوس والماهوجني.
يبحث بيمناه عن علبة سجائره، تعثر أصابعه على الطفاية، أما العلبة فلا أثر لها. لشد ما يكره هذا الظلام. ماذا يمكنه أن يفعل لو أنه عاد للعصور القديمة ؟
الفكرة تدور في رأسه وتتجسد في الحال. وجد ديناصورا عملاقا يكسر الحائط، يتجه نحوه لابتلاعه.
أليست الكهوف آمنة ؟! لماذا ذهب الرسل في العهود القديمة ليتلقوا رسائلهم هناك ؟
إنه الهدوء والصفاء ومساحة واسعة من الفراغ معلقة على رؤوس البشر المتعبين.
وجد نفسه، وقد قام من عثرته، سار بمنتهى الهدوء، تعثر ثانية بقوة، سقط على وجهه. أين ترى وضع الشموع التي جلبها لزوجته منذ أشهر قليلة؟! وقتها سخر منها لأنها طلبتها لمواجهة أي ظروف طارئة؛ فالولاعات تجب الشموع وتقصيها للهامش.
من الأفضل أن يبقى في هذا الوضع حتى يأتي التيار الكهربي، واضعا قلنسوة فوق رأسه.
عليه أن ينسى موضوع بسمة فهي أصغر منه بعشرين عاما، وربما لا يتمكن من إشباع رغباتها الجسدية فتنحرف، أو تحيل حياته جحيما مقيما.
لابد من تقديم بعض التنازلات ويعيدهاـ الزوجة القديمة إلى بيته بعد تقبيل رأسها، وحمل الولد على ذراعه غير المكسورة. وإعطائه باكو شيكولاتة .
سيسمع تلقيح كلام من أمها المتغطرسة. سيعمل أذنا من طين وأذنا من عجين. لن تجره إلى أرضها المسمومة بل سيسارع إلى الهبوط دون أن تجرح كرامته.
عاد النور فجأة، بجانب جسده الممدد كانت علبة السجائر، لم يجد بدا من التقاط سيجارة وإشعالها، عليه إغلاق الباب بالضبة والمفتاح.
إن عودتها دون اعتذار أمر مستحيل، عليها أن تعرف أن للبيت رجلا يحميه، لا يقبل الضيم، ولا ينام مهزوما.
تناهى إلى سمعه صوت بسمة، كأنها تناديه للصعود. أغلق أذنيه فجاء صوت زوجته تطلب منه أن يتنازل عن نصف كتبه حتى تتسع الصالة لماكينة الخياطة.
فرك يديه ووجد صوته يطلع دون إرادة منه: انتظري مجيئي أيتها المارقة، والصباح رباح؟!!