بين البداية والنهاية، لحظتان فارقتان فى عمر الإنسان. ومن وجع فراق الأحبة تخط القاصة رحلتها، بين معاناة الأم حين الولادة، ولحظة فراق الأم. لتتخطى رحلة الفرد إلى رحلة المجتمع. قصتان متكاملتان لتشكلا قصة واحدة.

أنفاس

مرفـت يـس

 

كفها اليمنى تسند  أسفل بطنها  …واليسرى تتحامل عليها …تقف بعد محاولتها الثالثة ، تتسند على الحائط …عدة خطوات بين سريرها والشباك .كلما تحركت خطوة تستشعر بعد المسافة، تقف،  تلتقط أنفاسها، ويدها تقبض على بطنها وأسنانها تعض على شفتها السفلى، تتحرك خطوة أخر، الأصوات تعلو،  تئن أنينا خافتا ،  تقبض على شفتيها بأسنانها ، تفتح الشباك.

تتصاعد أدخنة الشيشة ورائحة الشاي إلى أنفها، وأحاديث تصل بوضوح إلى أذنيها، من رجال جالسين في منتصف الشارع، وشباب ممسكين بعصيهم وأطفال يلهون بجوارهم وعجائز يتسامرون وهم يرتشفون الشاي المعد على نار الأخشاب التي جمعها الصبية الصغار.

يرفع  أحدهم رأسه لأعلى منادياياأم محمد نامي ونيمى العيال سهرانيين لحراستكم للصبح

حطوا  ف بطنكم بطيخة صيفى نوم الهنا ياحاجة.

نوم الهنا ، تحررت شفتها السفلى من قبضة الأسنان لتنفرج عن ابتسامة ،استدارت تتفقد  لفة مركونة على سرير صغير ,تحركت  تجاهها وأنين  خافت يصدر منها

عادت لسريرها،  حملتها ، ألقمتها ثديها مع كل مصة من فم الرضيعة يزداد الألم أسفل بطنها ،

أعادتها للسرير بعد إحكام لفها وشدّت بطانية فوقها ،  تتأمل ملامحها …ودموع تنساب من  عينىها

  • هل يكون هناك أمل ياصغيرتي؟

تعالت الأصوات والهتافات ….رحل؟

  • ثلاثون عاما خلف هذه  الجدران
  • رحل!!!!

تقلصات تحت بطنها تشتد ، فتحت الممرضة الباب وهى تحمل حقنة أفرغتها فى المحلول  وساعدتها للصعود لسريرها

تدثرت بغطائها على إثر رجفة شديدة.

مازالت الصيحات تعلو، رحل….

  مددت  يدها ربتت علي طفلتها …

خدر يسري في جسدها ، تراخت يدها، تتراقص الأشياء حولها ، أطبقت  جفونها ونامت

==============

امرأة وحيدة
صوت المنبه يعلن السادسة صباحا،  أستعد لبداية يوم جديد رائع بصحبتها ، نحن رفاق من  ثلاثين عاما بالضبط، منذأحضرتنى في ذلك اليوم من أحد الباعة  أثناء قيامها بالتسوق.

كانت تتطلع بعينيها لكل ما في الفاترينة، تتأمل مشتملاتها قطعة  قطعة.  كنتُ منزويا  وحيدا  بين أطباق وأكواب ودوراق  وآنية تلفت انتباه العابرين، بلا نظرة واحدة إليّ.   فلا أنا فنجان صغير للقهوة، ولا كبير يناسب عشاق الشاي. في الحقيقة، لست فنجانا ولا كوبا أيضا، غالبا أخطأ  صانعي تشكيلي ، فأصبحت أحمل  شكلا  مغايرا ، طوال الوقت كنت أحلم بعينين تحدقان بي وتبتسم لي، ويد تنتشلني منها، وشفتين تلمساني .

*************

 هذا ما كنت أتوق إليه، وانتظره كل صباح. دفء يدها وهي تملأوني بالماء مع حبات البن السوداء  وتقلب ، دونما أية إضافات ..

تلك كانت مهمتى الأولى في الصباح، تسكب القهوة في فنجانها، وتجذب كرسي أمامي فاتحة نافذة المطبخ …يدخل شعاع شمس خفيف، يترك ظلا على وجهها  يظهر لمعان عينيها العسليتين .

المهمة الثانية :  بعد قيلولة الظهيرة التي تأخذها بعد عودتها من عملها،  تشرب فنجانا آخر، مقربة أنفها مني ، تحاوطها أدخنتي  تتصاعد على وجهها ، تحتضنني  بأصابعها وتميل بوجهها الناعم ، فتنسدل خصلات شعرها فتغطيني  تماما .

تتشمم عبق القهوة مصدرة تنهيدة عميقة، ترفع رأسها تسنده على الكرسى للخلف ، ويدها المفرودة ممسكة بي  على المنضدة أمامها … تشرد  للحظات .. تتلمس شفتيها بما تبقى من  بن في قاعي وتلعقه بلسانها وتمصمص شفتيها الرقيقتين مصدرة تلك التأوهات  التي تصدرها بعد أن تنتهي من سرد يومياتها معي،  تقف متثقالة ، تتسند على الكرسي ، تضعني في حوض الأطباق برفق وتخرج من المطبخ .

في العشر سنوات الأخيرة، تثاقلت حركتها، توقفت عن العمل ، وشاركتنا المنزل ليلا  إحدى الممرضات ، تخلت عن  كل عاداتها بالقراءة ومشاهدة التلفاز، باستثناء طقسها المعتاد معي،   …سمعت  الطبيب يأمرها  بالتوقف عن شرب القهوة ….ابتسمت وهى تخبره   :مافائدة الحياة إذا لم نفعل مانحب ؟!

اليوم صرت وحيدا من جديد ضمن مخلفات  تم التخلص منها بشقتها ….!