من العلامات المميزة للقصة القصيرة عند يوسف إدريس، إلتقاطه لحادثة أو واقعة بسيطة أو عادية، ويجعل منها نقطة ارتكاز في حياة الإنسان، فيصبح لها قيمة. وهكذا تصنع بثينة الأسوانية فى قصتها «أوراق».

أوراق

بثينة أبو بكر

 

- ما كل هذه الصناديق؟

- أوراق مهمة.

وسريعا غادر شقته الصغيرة للحاق بالبقية.

هذه المرة الأولى لـ "أ" التي يزور فيها "هـ" بشقته. تلاحقت بعدها الزيارات، ولاحظ "أ" خلال زياراته التي امتدت لأعوام تزايد عدد الصناديق. أراد أكثر من مرة  أن يتحدث مع صديقه "هـ" عن الصناديق وما بها، لكن صديقه ينهي الحديث بسرعة "أوراق مهمة".

وفي العمل كان "أ" ينتهز فرصة غياب صديقه ليسأل الزملاء الأقدم عن الصناديق. قال أحدهم: "بها مقتنيات تخص عائلته. رحلوا جميعا مبكرا". قال ثان: "ألا تعرف أنه جامع تحف؟ خسارة، ليس هناك من يرثه!". قال ثالث: "بها حلي وألعاب لعلاقاته العاطفية السادية". وقال رابع: "لا يجدر بك أن تسألنا. أنت صديقه رغم أنك آخر من التحق بالعمل هنا".

توقف عن سؤال الآخرين وبدأ يفكر عما يمكن أن تحويه تلك الصناديق. ربما هي الكتب، فقد قال من قبل إنها أوراق مهمة، لكن إذا كانت أوراق أو كتب ما كان ليخفي الأمر. أو ربما هو جامع من نوع خاص. جامعو التحف أو طوابع البريد لا يخجلون من هوايتهم. ربما هو يجمع أشياء غريبة من عينة جماجم بشرية وعظام حيوانات، ويخشى سخرية الآخرين.

حتى في أحلام "أ" تشغل صناديق "هـ" حيزا كبيرا. بالتأكيد ليست نقودا، فهو لا يخشى من وجود الصناديق في شقته على مرأى من يزوره. إذن لماذا لا يخبر "هـ" صديقه بالحقيقة، هو ليس غبيا ويلاحظ فضول "أ"؟!

مرت سنوات وسنوات. وفي يوم وصلوا جميعا إلى العمل إلا "هـ"! الدهشة تغلفهم جميعا، فلم يتغيب عن العمل يوما. اتصلوا به. جرس لا ينقطع، لا صوت يجيب من الجهة الأخرى.

اعتذر "أ" للمدير ليتغيب عن العمل ساعتين. ذهب إلى شقة صديقه، طرق الباب، لا أحد يستجيب. استدعى أمن المجمع السكني ليجدوا حلا. أبلغوا الشرطة، وبعد ساعة فتحوا الباب.

وجدوا "هـ" ميتا في سريره. ولا تبدو على وجهه ملامح معاناة ما، كما لا ترتسم على وجهه ابتسامة. مات كما يموت أي كائن؛ جسد هامد وبارد.

لن يلتقي "أ" و "هـ" مرة أخرى في العمل، لن يقضيا ساعة أو ساعتين في ذلك المقهى، لن تحضر لهما زوجة "أ" العشاء بعد أن ينهيا حكيهما على المقهى. لن ولن ولن ...

الفضول حقا شيطان، لم يهمل "أ" أن يحزن على فراق صديقه. للحظة تسللت إلى صدره فرحة خبيثة، أخيرا يمكنه أن يفتح الصناديق ويعرف ما بها. الفضول ينتاب كل الحاضرين؛ الشرطيين وموظف الأمن بالمجمع السكني ومن قبلهم "أ".

قال موظف الأمن: "لا أصدق أن هناك حمقى يجمعون مثل هذه التفاهات. تذاكر المواصلات العامة مجرد قصاصات. لماذا قد يجمعها أحدهم؟"، ورد عليه أحد الشرطيين: "هناك صندوق يحوي فواتير الكهرباء والغاز والهاتف. يا لبؤس هذا الرجل!". راحوا يفتشون الصندوق تلو الآخر على أمل أن يجدوا شيئا ذا قيمة تحت قصاصات الأوراق. خجل "أ" من نفسه ومن فضوله. تذكر أن صديقه ما يزال في سريره ويحتاج أن يذهب إلى قبره، فحث الثلاثة المهرجين على إنهاء فقرة السيرك.

في يوم تأبين "هـ" تحلقوا جميعا حول "أ" وسألوه عما يوجد في الصناديق، فرد عليهم بجدية: "أوراق مهمة".