حديث خاص يخصنا به هنا الشاعر السوداني المقيم في بريطانيا، حيث مساحات المتاهة والتيه التي أمست تهيمن في الأفق، ليس الغرض هنا الحديث عن الشؤم ولا البحث عن مجازاته، بقدر ما يعبر الشاعر اتجاه دروس وعبر الحياة والتي تقربنا من الأفق، في زمن أمسى يهيمن بسواده.

حدَّثنا الغُرابُ

ابراهيم خالد احمد شوك

 

1

عارضٌ مُمْطِرُنا ساد الأفقْ

ضَرْبٌ من المحال أن ينسلَّ

من نسيجهِ شعاعٌ

فالبياضُ لحظةُ انسرابهِ احترقْ

لبس الكون سواداً

وقُفصنا بين أنيابِ الخرابْ

قابيلُ جمحتْ تكاثرتْ سُلالتُهْ

قميئةٌ مليئةٌ مسالباً وشرْ

تسنّمتْ مفاصلَ الحياةِ

بالزنادِ قابضةٌ على القيادةْ

للنجاةِ لم تفتح طريقاً أو تذرْ

فى يدها مصائرَ البشرْ

تُريدُهُم دُمَاً بلا إرادةْ

وأَشهرتْ سِلاحَها مُسَلَّطٌ على الرِّقابْ

 

2

سقط المِخْيطُ فى عُبِّ العدمْ

أَفْرَط الرَّتقُ تشظَّى نسجُهُ أنهارُ دمْ

نُقِضَ الغزلُ على أنكاثهِ

مابنيناهُ وهبناهُ لويلاتِ العدمْ

ذُهِلَ الرَّاتقُ والفتقُ تقيَّحْ

والجسدْ من وهج الحُمَّى تلظَّى

مَنْ سبَحْ عكس تيَّارِ التَّلاحُمِ ما ربِحْ

لسعيرِ الحقدِ بابٌ من زمانٍ ما فُتِحْ

كى يَرُدَّ الفِتنَ الهوجاءَ أُوصدَ

أضعفُ الإيمانِ أن يبقى مُواربْ

نخرَ السُّوسُ قُواهُ ما دعمناهُ تمايلَ

وعلى الأرضِ انطرحْ

بَعُدَ الدانى وغُمَّ العقلُ من غسقٍ تلبَّدْ

ضَلَّتِ الحِكمةُ والغُبنُ تأبَّدْ

إستشاطَ الرُّشدُ غَضباً إذْ رأى الحكمةَ

ثكلى تتردَّى بين طياتِ السَّرابْ

حَنظلُ الكأسِ مريرٌ كم نهلنا

فيضَ موردْ  وتساقينا رُضابْ

فى ظلامِ اللَّحدِ عِفنا وطنا

إنفرطنا ما غرسنا فِطنا

يُشعِلُ النَّارَ ابتداءً رأسُ عودٍ من ثِقابْ

 

3

لَملمَ النَّملُ شتاتَ الأمرِ دارى ضعفهُ

وتقهقرَ للمساكنْ

وَقْعُ نعلِ الجُّندِ يَحكى

عن سُعارٍ فى ضميرِ الآنَ كامنْ

أنَّ ريحَ الشرِّ قادمْ

رُبَّ مُعتَرَكٍ تهيَّأَ كلُّ من يغشاهُ نادمْ

حلمهُ زبدٌ تسرَّبَ لم ينلْ منهُ نِصابْ

وعدُ عُرقوبِ هباءٌ قَبْضُ رِيحٍ وهِبابْ

 

4

مَكثَ الهدهدُ فى الهمِّ وحيداً

صعدَ الجِّسرَ ليَسلَمَ وتألَّمَ

حين أمعنَ مُطلِقاً بصراً حديداً

شاهِداً فى مسرحِ اللُّؤمِ المُبينْ

غَضَّ مضجَعَهُ فوارُ الصَّدرِ بالنَّبأ اليقينْ

مَحَّصَ الأفكارَ أبحرَ فى تلافيفِ الحِجا

علَّهُ من جُبِّ غضبته نجا

وتلفَّتَ فى ثقةْ

باحثاً عن مكمنِ الخِلِّ الأمينْ

همسَ الأسرارَ فى أذُنِ الغُرابْ

شُلَّ فكرَهْ واعتراهُ طيفُ صمتِ

خائرَ السَّمتِ قبعْ

أيُحدِّثْ ما سمِعْ

أم يواريهِ عميقاً فى متاهاتٍ سحيقةْ

ويُمِتْ جِذرَ الحقيقةْ

أىُّ ضُرٍّ صابَ لو خانَ الأمانةْ

أو لسانُ الصِّدقِ خذلتهُ الإبانةْ

هالهُ الأمرُ تمرجحَ بينَ رَهَبٍ وانتسابْ

للبطولةِ والوطنْ وعُصاراتِ الفِطنْ

ضمَّدَ الحِيرةَ عَجِلاً

فات الحِمَى

لاتِّقاءِ هدفَ السِّهامِ رُبَّما 

مُرفرفاً يدفَعُ ضَعفَ أنفٍ أُرْغِما

من بين أرتالِ السَّحابِ شامةً سما

من هول ما رأى الدّمعُ ساخناً همى

أصابه العمى لسانهُ انعقدْ

رَغَدُ العيشِ ما استباهُ طعمُهُ

انبهمتْ مسالكُ الإيابْ

 

5

الغُثاءُ على شموخِ المُدنِ الثَّكلى طفحْ

الشَّهيدُ غالبَ الأمواجَ بذَّها مُرتفعاً

فوق لُجَّةِ النِّيلِ تمدَّدَ فارعاً

مُكفهرٌ هل تزورُ الوجهَ أفراحٌ

إذا القلبُ انجرحْ

واستبدَّ الحزنُ وازدهرَ المُصابْ؟

السَّاحةُ التى تسربلتْ سرَّاءْ

تفجَّرت دماءْ

سوَّدَ الرَّمادُ مُبهمَ الأشلاءْ

الوجهُ كالحٌ عفَّرهُ التُّرابْ

هَبِلَ الرُّصاصُ هَطَلَ البمبانُ

تكاثفَ الدُّخانُ واللَّهبْ واشتعلَ الغضبْ

وعِزّةُ الجباهِ (رُغمَ الذُلِّ) بائنةٌ

حائرةٌ فى فئةٍ فِعالُها شائنةٌ

الخزىُ عمَّها لازمها فى دمها مُذابْ

 

6

أَبْلَمَ الغرابُ وانطفأ حنينُهُ وزينُهُ

إنكفأ على دواخله يجترُّ ما خبَّأهُ

فى سالفِ الأزمانِ من دماثةِ الأخلاقِ

والصدقِ فى علائقِ الرِّفاقِ والصِّحابْ

طافَ فى الأنحاءِ ناعقاً

صاعقاً أسماعَنا بأفظعِ القَصصْ

بريئةٌ من زُخرُفِ المونتاجِ والمكساجِ

محكمةُ الخيوطِ حبكةٌ ونَصْ

من قَبلِ أن تُطالُها يدُ الرَّقيبِ بالمقصْ

يُجاهدُ المُريبُ للفِّكاكِ من فِّعالهِ

يَملِصُها مُنسرباً

نصاعةُ الدَّليلِ بينَ راحتيهِ شاهَ سمتُها أحالَها يبابْ

أياتُرى من لَّعنةِ التَّاريخِ يستطيعُ هَرباً

تُستنسَخُ الأعمالُ يفجؤنا السُّؤالُ ساعة الحِسابْ

إخترْ صحائفاً مُضيئةً فى هذهِ الحياةِ

مسالكَ النَّجاةِ لا يَطرقُها تبابْ..