يكشف الكاتب المصري هنا عن كيفية نخر التنظيمات الدينية في بنية الدولة المصرية منذ أيام مؤسس مصر الحديثة محمد علي وحتى اليوم. وكيف أن إدماج بعض عناصر تيارات الإسلامجية المختلفة في الجمهورية الجديدة كان خطأ يدعو إلى ضرورة تصحيحه كي يتوقف النخر في بنية الدولة وفي أي مشروع للتقدم فيها.

ماذا يحدث فى مصر؟

عيد اسطفانوس

 

وربما يعتقد البعض أننا سنتناول حادثة هنا أو حادثه هناك بالشرح والتحليل والتعليق بغرض مناكفة أو مكايده السلطه أو ممالئة رأى عام أو تقمص دور بطولة زائف، لكن ماسنطرحه هنا هو شرح ما نعتقد أنه صورة طازجه لمسقط أفقى للساحة المصرية، ومن يتمعن في تفاصيلها للوهلة الأولى ــ وخصوصا لو كان عابر أو طارئ ــ  لن يجد ما هو غريب أو مريب، لكن الحقيقة أن الظاهر على السطح لا يشى أبدا بما يجرى تحت السطح أو أعمق قليلا. فهناك صراع غريب محتدم بين قوتين، وغرابة هذا الصراع انه صراع استاتيكى لايظهر للعيان، صراع ارادات خفي وكامن بين خصمين رئيسين، أو على الأصح عدوين لدودين. الأول هو دولة وكيانها المؤسساتى والثانى هو شريحة عريضة مستترة ومموهة، ليس من السهل تبيانها أو اكتشافها لكنها فاعلة فعلا مؤثرا وقويا، وأحيانا مؤلما للنظام ومؤيديه. وهذا التيار هو طبقة رسوبية تشكلت كأجسام مضادة للإرهاصات الأولى لمحاولات الباشا الكبير لتكوين دولة حديثة والخروج من عباءة الدولة البدوية. وقد ساعد على تسريع تشكيل هذه الطبقة وتراكمها ونموها عوامل تاريخية بدأت منذ حالة الإحباط التى أعقبت السقوط  الدراماتيكى لآل عثمان، باعتبارهم ورثة الخلافة الإسلامية، مع الصعود المتسارع لمشروع تحالف آل سعود وابن عبد الوهاب في شبه جزيرة العرب وتصديرهم للعالم الإسلامي ككيان بديل لآل عثمان فى احياء دولة الخلافه.

ونظرا لضآلة الحجم الجغرافي والديموغرافي للحركة الوليدة اتجهت انظارهم أولا الى مصر في محاولة لاستقطابها بالطبع مع جغرافيات أخرى مماثلة. لكن كانت مصر هي المطمع الأول والأهم لأسباب كثيرة، ومن هنا بدأ استهدافها استهدافا منظما، بدءا من استقدام رشيد رضا لتحييد محمد عبده وأنصاره، وايقاف مد التيار الصوفي وهو تيار الاسلام الهادئ المسالم المتعايش؛ وتحجيم تيار التجديد ودعاة الليبرالية الجديدة الذى بدا وقتها أنه يتصاعد بقوه. وتلى ذلك  انشاء جمعية أنصار السنه، والسيطرة على الجمعية الشرعية ثم انشاء الشبان المسلمين ثم تشكيل كيان الاخوان المسلمين، ومع ظهور هذا الاخير بدأت أيديولوجيا جديدة تبرز ملامحها. وتتلخص هذه الايديولوجيا في تعميق جذور الكراهية الازلية لرباعي الجيش والشرطة والمسيحيين والقضاء. وترسيخ نظرية العمل الكامن تحت السطح أو تحت الأرض امتدادا لمبادئ التنظيم السرى للإخوان الذى أسسه حسن البنا الذى نظن أنه قائم حتى اليوم، بفضل وسائله وخبراته التي اكتسبها طيلة القرن الماضي. خبراته فى اكتساب واجتذاب كوادر من كل الطبقات والاعمار، وقد يفاجئ القارئ عندما أقول وكل الأديان (كان رفيق صموئيل حبيب البروتستانتى ابن رئيس الطائفة الانجيلية هو نائب رئيس حزب الاخوان المسلمين فى مصر الحرية والعدالة).

ولعل القارئ يظن أن ما سبق هو مقدمة أو تمهيد للإجابة عن السؤال المطروح كعنوان للطرح، لكن الحقيقة أن ما سبق هو اجابة السؤال، هذا هو الوضع على الساحة صراع عميق بين قوتين، قد يظهر أحدهما أنه الأقوى وهو كذلك فعلا. لكن في المقابل هناك تحت السطح شريحة عريضة متماسكة، توقف نموها الفكري على معطيات ثابته مفادها أن هذه الدولة كافرة، وهذا الجيش جيش طواغيت، وان قتال هذه الدولة وجيشها ومؤسساتها هو واجب شرعي لكنه مؤجل لحين التمكين. وقد لاحت لهم الفرصة واقتنصوها بغباء منقطع النظير وهب المصريون وأزاحوهم. وحتى تحين فرصة ثانية لابأس من النخر في عظام الدولة نخر مستمر ومستتر ومموه باستعمال طرق التقية الخبيثة التي يجيدونها بلا منازع.

مع استمرار السيطرة على عقول الاتباع. ولابأس من استعمال وسائل الميديا الحديثة والتسلل بخفة ونعومة الى مفاصل الدولة الرئيسة وخصوصا المؤسسة الدينية والمحليات، فهم يعلمون تماما أن هيكلهم الرئيس وعمودهم الفقرى هم هؤلاء البسطاء المطحونين وأنصاف المتعلمين، جمهور الزوايا فى الاطراف التوابع والنجوع والقرى، وفى الحادثتين الاخيرتين حادثة القطار وجنوح الباخرة ظهر جليا حجم ما يختزن في صدور هؤلاء من كراهية وتحريض وشماته وتمنيات مستميته بالفشل والسقوط، لكن وحتى اللحظة لازالت الدولة ومؤيديها متماسكين، وحتى اللحظة أيضا لازال أعداؤها متماسكين فالإرادة السياسية لحسم المعركة مؤجلة، أو ربما هناك أهداف مستترة  لإبقاء الوضع على ما هو عليه، هذا مايحدث فى مصر تحت السطح.

جمهورية جديدة .. وخطأ قديم:
رأيى أن اشراك مؤسسات  أو تيارات دينية في خطة اقصاء الاخوان عن الحكم في مصر  كان خطأ فادحا. خطأ تدفع السلطة الآن ثمنه  كل يوم، فقد تغول الازهر والسلفيون واعتبروا أنفسهم شركاء حكم. وحتى الكنيسة يعتقد البعض أيضا انها ابتزت السلطة وضغطت لاستصدار مئات القرارات بتقنين أوضاع كنائس ومقرات أنشطه دينية. وفى رأيي أيضا أنه اعتقاد مغلوط، وقد كان لهذا الخطأ ــ خطأ اشراك المؤسسة أو التيارات الدينية ــ تبعاته فقد غلت يد السلطة في محاولات تحجيمهم لاسيما وقد نجحوا بالتعاون مع خلايا الاخوان الكامنة والمموهة في تجييش الكثيرين ضد الدولة وتوجهاتها، وخصوصا توجه ارساء أركان دولة مواطنه مدنية يتساوى فيها الناس حقوقا وواجبات.

فقد بات واضحا للعيان أن هناك صداما معلنا حينا ومستترا أحيانا بين القيادة السياسية والازهر بالذات، والازهر يستند الى شعبية شيخه باعتباره المدافع الأول عن الدين ــ أو هكذا يعتقدون ــ بالاضافة الى الإخوان والسلفيين، الإخوان يناصرون الشيخ ليس حبا في الشيخ فقد سبق وسبوه ولعنوه في فترة حكمهم، ولكن نكاية في الرئيس وبمبدأ عدو عدوى صديقي. والسلفيون يناصرون الأزهر كعباءة ينضوون تحتها مؤقتا، لأسباب لوجستية بحته حيث لم يعد لكيانهم الرئيس ــ الشرعية وأنصار السنه ــ نفس الحضور والتأثير اللتان كانتا تتمعان به في السابق ، ساعد على ذلك أيضا سياسة تصادمية غير مبرره اتبعتها القيادة السياسية مع تيارات كانت هي المقاوم الرئيس لأفكار وتوجهات التيارات الدينية في عنفوان قوتها وهم من كانوا المحرك الاول للإرهاصات الاولى لثورة يناير. وعلى سبيل المثال كفاية و6 أبريل ونشطاء كثر غيرهم فرادى ومجموعات لم يتخذوا العنف وسيله وغير منضوين  تحت أي كيانات ايديولوجية.

هؤلاء انسحبوا من الحياه السياسية، أو انضموا للتيار الرئيس المناوئ للسلطة وبالطبع هو التيار الديني المتمثل في خلايا الإخوان الكامنة في كل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة الدينية الرسمية. بالإضافة للسلفيين الذين يتبعون الآن مبدأ التقية مع السلطة (لحين التمكين). والغريب أنه سيناريو قديم متكرر منذ قيام ثورة  يوليو أو الجمهورية الاولى. حيث أشرك تنظيم الضباط الاحرار بزعامة جمال عبد الناصر تنظيم الإخوان في إزاحة الملك، ثم قذف بهم في غياهب السجون. وبقية المشهد الهزلى معروف، ونفس الخطأ وبنفس السيناريو استدعى السادات الإخوان من منافيهم وأخرجهم من السجون لإشراكهم فى ازاحة الناصريين، ثم قذف بهم في السجون وبقية المشهد الدموي لازال عالقا بالأذهان، وجاء مبارك وأخرجهم أيضا من السجون، وأطلق لهم العنان مقابل صفقة توريث فاشله.

وان كان الاول قد نجا منهم وتغذى بهم قبل أن يتعشوا به، الا أن الثاني وقد تركهم يتوغلوا ويتغولوا فلم يستطع كبح جماحهم الدموي فقتلوه شر قتله. أما الثالث فقد حاولوا قتله مرارا، ولكنه نجا بأعجوبة. وعندما دانت لهم السلطة أهانوه في المحاكم محمولا على نقالة، أما الأخير ــ وقد حاولوا قتله أيضا ــ فالواقع على الساحة الآن يعزز موقفه ويكبح جماح أعداؤه ــ ولو مؤقتا ــ بهذا الكم المبهر من المشاريع وخصوصا مشاريع البنى التحتية ، كما وأن التحركات الذكية والكاريزما التى يتمتع بها حشدت له رصيدا لابأس به من القبول في المجتمع الدولي وأعضائه المؤثرين ناهيك عن شعبية نالها بأسلوبه العاطفي المتفرد.

ولهذه الاسباب وغيرها أرى أن الجمهورية الجديدة  كان يمكن أن تنطلق أسرع لو لم يرتكب الخطأ القديم وكان يمكن للجيش أن يتخلص من هؤلاء منفردا وقد كانت معه ارادة شعبية جارفة، ولم يكن بحاجه الى دعم من مؤسسات أو تيارات دينية أو غير دينية، ويقيني أن ٌقرار تصحيح هذا الخطأ أي اخراج أي تيارات أو شخصيات منضوية تحت لواء الدين وابعاد أي تأثير لها من منظومة بناء مصر حديثة أو جمهورية جديدة، نقول أن هذا القرار سيحتاج الى فكر حصيف ودراسة متأنية، لأن مصر في حاجة للانطلاق الى المستقبل بفكر جديد. فكر دولة المواطنة والقانون والدستور الذى يسوى بين كل البشر، بغض النظر عن أديانهم أو أعراقهم أو الوانهم أو أجناسهم.