يتقصى هذا البحث تاريخ البدو في شبه الجزيرة العربية – لا من المصادر العربية القديمة التي تناولته – ولكن من المصادر الغربية التي تتبعته، منذ ذكر هيرودوت لهم مرورا بالكثير من الرحالة الغربيين، وصولا إلى دراسة وضعهم الراهن، بعد توطيد بنية الدولة الحديثة، وما جره الاقتصاد النفطي الريعي من تغيّرات جذرية.

البدو في شبه جزيرة العرب

ازدهار تراث قديم واضمحلاله

منير (مونرو) مراد

ترجمة: عبدالله آل تويّه

 

في بدايات القرن العشرين كان معظم سكان شبه الجزيرة العربية من البدو. لكنَّ تراث البداوة اليوم أخذ يتلاشى بسبب انخراط البدو في بحبوحة الحياة التي أحدثتها ثروة النفط في المنطقة. ومع أن البداوة، بوصفها نظام حياة، أصبحت ظاهرة آخذة في الانحسار، ما زالت القبيلة هي الخصيصة الغالبة على النظام الاجتماعي البدوي. ومع وجود علامات على استجابة بدو شبه الجزيرة العربية للتغيير الاقتصادي الحاصل، ظل اندماجهم في المجتمع الحديث بطيئاً.

لمحة تاريخية:
"في تلك الصحارى يقطن أناس نسميهم العرب، أو البدو. إنهم قوم يتصفون بمختلف أنواع الشرور " The Voyage and Travels of Sir John Mandeville (c1356). أول ذكر لشبه جزيرة العرب في التاريخ المكتوب ورد في تاريخ هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد). وطبقاً لبعض النسخ من تاريخ هيرودوت، اشتهرت الجزيرة العربية بالأساطير، مثل "طائر الفينيق" والعطور الغريبة والثعابين المجنحة. بعد ذلك، قدم المستكشف الإغريقي سترابو، (ولد عام 63 ق.م)، وصفاً أوفى للمنطقة في كتاب له عن الجغرافيا. وقد أبدى ملاحظة مهمة مقتضاها أن سكان شبه جزيرة العرب كانوا يحرثون الأرض ويربون أنواعاً شتى من قطعان الحيوانات، ولا سيما الجمال. (Strabo, published 1961)

في الإنجيل إحالات متعددة إلى صحراء العرب. صورة قاطني صحراء العرب في الإنجيل هي سمة موجودة أيضاً في الرؤى المعاصرة عنهم. وفي الجيرمية 3:2 (إنجيل القدس) نعثر على النص الآتي:

ارفع عينيك صوب الهضاب وانظر

هل هناك مكان واحد لا تجد فيه جسدك؟

كنت تنتظر العملاء على حافة الطريق

مثل عربي في الصحراء.

لقد لوَّثتَ البلاد بعهرك ورذائلك: لهذا حُبِسَتِ المياهُ من السماء ولم يأت المطر المتأخر.

وفي القرون اللاحقة صور القرآن البدو على الشاكلة نفسها: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" (السورة التاسعة -"التوبة"- الآية 97).

في شهر مايو عام 1503 تقريباً، زار المغامر الإيطالي لودوفيكو دي فارثيما Ludovico Di Varthema شبه جزيرة العرب متنكراً في زي حاج. وقد وصف بدو شبه الجزيرة العربية بأنهم "يسكنون الجبال، وينزلون منها في أوقات عبور القوافل إلى مكة، لكي يكمنوا في الطرق بهدف نهب تلك القوافل. يحمل البدو نساءهم وأبناءهم وأمتعتهم كلها وأيضاً بيوتهم –التي تشبه خيام الجنود المصنوعة من الصوف الأسود ولها مظهر حزين- على ظهور الجمال. (Di Varthema, published 1928:13)

ربما كان دي فارثيما أول كاتب غربي يصف سكان شبه الجزيرة العربية بـ"البدو". وطوال قرون خلت، كان بدو شبه الجزيرة العربية معزولين عن بقية العالم؛ لكن ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي غيَّر حالة العزلة هذه. وفي العقود التي أعقبت ظهور الإسلام توسعت الإمبراطورية الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، فتغيرت حظوظ كثير من القبائل البدوية التي جُنِّدت لنشر الإسلام ودخول دار الحرب. من المرجح أن يكون تجنيد رجال القبائل في الجيش الإسلامي أول عملية كبرى انتُهجت في تاريخ شبه الجزيرة العربية لتفكيك النظام القبلي. لكن مع بداية تفكك الإمبراطورية الإسلامية، وفقدانها جبروتها الاقتصادي، أصبح جزء كبير من شبه جزيرة العرب مرة أخرى في حالة من التراجع.

لقد استمرت تلك العزلة حتى مجيء الإحيائي المسلم محمد بن عبد الوهاب (1703-1792م)، الذي حول قادة أقوى عشائر شبه الجزيرة العربية - آل سعود - إلى حركته الدينية. ونشأت الوهابية بوصفها حركة إصلاحية متزمتة تؤكد تراث الإسلام المحافظ. بعد ذلك أصبحت شعاراً سياسياً جامعاً لآل سعود. ومع نهاية القرن الثامن عشر اكتسحت الحركة الوهابية جزءاً كبيراً من شبه الجزيرة العربية، محققة تحالفات قبلية؛ إما بتحويل القبائل طواعية إلى الوهابية، وإما بالسيف. إن التفسير المتزمت للإسلام الذي شدَّدته الوهابية وجد قاعدة ملائمة له في حياة الصحراء القاسية، وسرعان ما اعتنق كثير من القبائل البدوية الأيديولوجيا الجديدة. بحلول عام 1932 أصبحت السعودية دولة ذات سيادة تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود (المعروف بابن سعود).

وعلى الرغم من أهمية منطقة شبه الجزيرة العربية التاريخية، قلَّما حظيت بأي ذكر في الأدبيات الغربية المعاصرة. كان هناك قطعاً بعض الاستثناءات، ففي قصيدة "ملكة الجن" للشاعر إدموند سبنسر (1552- 1599) Edmond Spencer - وهو شاعر ينتمي إلى عصر الملكة إليزابيث الأولى – ذكر لشبه الجزيرة العربية، في سياق الكتاب الأول "أسطورة فارس الصليب الأحمر" (booke I, canto vi:xxxv)، يُصوِّرها بيئةً غير مضيافة:

رجلٌ أحمقُ في ملابس مهترئة

يكسوها غبارُ الطريق الجاف البعيد

خُفَّاهُ ممزقان من السفر الطويل المضني

وجهه مُسْمَرٌّ من أشعة الشمس اللَّاهبة

سافر طويلاً في أيام الصيف، عابراً الرِّمالَ العربية والهندية الحارقةَ

في يده عصا يعقوب متوكِّئاً عليها بعظامه المتهالكة وضنك حياته

على ظهره علق مصيدته وجرابه الذي يحمل حاجاته 

وفي مثال آخر عبَّر لورد بايرون (1787 -1874م) Lord Byron عن مظهر آخر من صحراء العرب. في قصيدته الملحمية "دون جوان" كتب مادحاً:

يبدو كرضيع حين يحدق إلى النور 

كطفل لحظةَ يَجِفُّ الثدي

كمحب حين يسمو المُضَيِّفُ في الأفق

كعربي مع غريب يكرمه

كبحَّار حين تلوح الجائزة في الأفق

كبخيل يملأ صدرَه المكتنزَ

يشعر بالانتعاش، ولكنه لا يجني فرحاً حقيقياً

لأنه من أولئك الذين يحلمون بما يحبون وهم نائمون

وفي نظرة رومانسية أخرى سجلها الشاعر الأمريكي لونج فيللو (1807-1882) Longfellow في إحدى قصائده:

والليل سيزخر بالموسيقى

والهموم التي تغزو النهار

ستطوي خيامها كما يفعل العرب

وستندثر بصمت

إن معظم الكتاب الغربيين في تقييمهم للحياة في المنطقة كانوا مدفوعين بالأفكار النمطية، وغالباً ما كانوا يخلطون بين أنماط الحياة المختلفة والمعتقدات المتنوعة في المنطقة. كانوا أيضاً متحمسين لإثارة "قدر كبير من الفضول في أذهان تواقة للحكايات الغريبة المطعمة بما هو أجنبي" (Rodinson 1987:18). وقد لاحظ جون جلوب John Glubb أن "الرسام الكاريكاتوري الإنكليزي جعلنا نعتاد تصوُّرَ العربي باعتباره فرداً نحيلاً بلحية سوداء طويلة ممتطياً جملاً فوق سهل لا نهاية له تتوسطه نخلة واحدة. بل إن حتى أكثر هؤلاء مبادرة لا يزال يميل إلى الاعتقاد بأن نسبة كبيرة من العرق العربي تتكون من البدو الرحل الذين يعيشون في الخيام" (Glubb 1948:6-7). إن ملاحظات جلوب ذات صلة خاصة بالوقت الحاضر حيث انخفضت نسبة البداوة في شبه الجزيرة العربية انخفاضاً حاداً. قبل عقود قليلة خلت كان معظم سكان الجزيرة العربية من البدو. أما الآن، فإن شريحة سكان البدو تتضاءل على نحو ثابت بعد أن أصبحوا مشاركين في الثروة التي ولَّدتها ثروة النفط في المنطقة.

أعداد سكان البدو في انخفاض:
"إن أعداد هؤلاء العرب حقاً هائلة ولا يمكن حصرها". لودوفيكو دي فارثيما (1503م)
يشكل المجتمع البدوي مُكوِّنًا ديموغرافيّاً مهمّاً من مُكوِّنات سكان الجزيرة العربية، على الرغم من أن المتفق عليه على نطاق واسع أن هذه الشريحة من السكان في انخفاض متسارع. ولكن من الصعوبة بمكان إعطاء انطباع دقيق عن المكون القبلي للمنطقة والنسبة المئوية للسكان الرحل. غالبًا ما تكون البيانات الديموغرافية التي تقدمها الجهات المحلية عَرَضِية أكثر من كونها إحصائية، إضافة إلى أن هناك إحجاماً واضحاً من المسؤولين الحكوميين عن إعطاء تقديرات سكانية قد يكون من شأنها المساومة على الصورة الحديثة لبلدانهم. منشور سعودي حديث عن الحداثة والتراث تضمن جملة واحدة فحسب عن سكان البلد الرُحّل، ذاكراً فقط أنه "ربما نحو خمسة بالمئة من سكان السعودية اليوم هم من البدو"
(Al-Farsy 1990:203)

 

الشكل 1 يقدم تقييماً للتوزيع الإقليمي لبدو الجزيرة العربية بناء على مصادر مستقلة وعلى تقديرات كاتب هذه الدراسة. ويعتقد أن البدو يشكلون ما نسبته 5-10% من مجموع سكان شبه الجزيرة العربية، هذا على الرغم من أنهم يقطنون تقريباً في ما نسبته 60-70% من مجموع مساحة المنطقة. هناك اختلافات إقليمية كبيرة بين البدو، وتقع أعلى كثافة سكانية بدوية (أكثر من 20%) في شمال السعودية باتجاه الحدود مع العراق والأردن، ويوجدون أيضاً في وسط الجزيرة العربية، بين العاصمة الرياض وتربة الواقعة شرقي مكة.

ينتمي سكان البدو في الجزيرة العربية إلى بنية قبلية تماماً، وتعتبر قبيلتا العنزة والشمري من التحالفات القبلية ذات الأغلبية العظمى التي تهيمن على شمال الجزيرة العربية وشمالها الشرقي. قبيلة العنزة أم لمعظم العائلات الحاكمة في الجزيرة العربية؛ فآل الصباح في الكويت وآل سعود في السعودية وآل خليفة في البحرين كلها يعتقد أنها تتحدَّر من قبيلة العنزة. وتشمل القبائل الرئيسة الأخرى في الجزيرة العربية كلاً من مطير وآل مرة وبني خالد والعوازم وبني هاجر والقواسم وتميم وعجمان والدواسر التي تقطن شرق الجزيرة العربية، وقبائل مثل الرولة والشرارات وبني عطية والحويطات وحرب وجهينة وقحطان والسهول وشهران ويام تقطن غرب الجزيرة العربية، في حين تعيش قبيلتا العتيبة وقحطان في جنوب الجزيرة العربية.

إضافة إلى المجموعات القبلية التقليدية في المنطقة، هناك عدد من المجتمعات البدوية الصغيرة التي لا يبدو أنها تنتمي إلى أنساب قبلية واضحة، وهي عادة تعيش مع قبائل أخرى، ويعتقد أن العديد من هؤلاء الناس هم من نسل العبيد (المعروفين بالأخدام) الذين قدموا من أجزاء أخرى من الشرق الأوسط ومن أفريقيا. ويعد الصُّلُوبة (حرفياً حامل الصليب) أهم هذه المجتمعات التي تتناثر في المناطق الشمالية الشرقية من شبه الجزيرة العربية. بحسب الاعتقادات فإن الصُّلُوبة يتحدرون من نسل الصليبيين الذي بقوا في المنطقة بعد الحروب الصليبية. عادةً، كان الصلوبة يعملون أقناناً للقبائل الأخرى، وغالباً ما كانوا يعملون كحرفيين ماهرين في حرف مثل جَبْر العظام، تزيين الأسنان، حفر الآبار، النَّسْج، والنجارة.

الاقتصاد البدوي
على الرغم من شظف الحياة الصحراوية الواضح، عادة ما يشارك معظم البدو في نشاط اقتصادي أو آخر، بالإضافة إلى تربية الماشية. أما الرعي، وهو النشاط المهيمن على الرعاة الرُّحَّل في الجزيرة العربية، ففي كثير من الأحيان يصاحبه مقدار معين من الزراعة التي تساعد على العيش. وقد كان الصيد في يوم من الأيام يشكل جانباً مهماً في الحياة البدوية، ولكنه أصبح معدوماً اليوم، وذلك لأن جزءاً ضئيلاً من الحياة البرية استطاع أن ينجو من الأسلحة النارية الحديثة والسيارات السريعة.

بالنسبة إلى الإنتاج الزراعي والرعي فهما مقيدان بإمدادات المياه المحدودة في المنطقة، وكذلك بالتربة الصحراوية الهشة وحالات المناخ المتطرفة. وباستثناء المساحات الصغيرة في المنطقة الشرقية وفي الجنوب الغربي فإن النسبة الساحقة من مجموع مساحة السعودية غير مزروعة. (Helms 1981:44) هطول الأمطار السنوي نادراً ما يتجاوز معدل 100 ملم، وتعوق التربة الرقيقة في البلاد الزراعة على نحو مكثف. وفي المناطق التي يُروَى فيها من آبار المياه العميقة، غالبًا ما تكون الملوحة مشكلة بسبب المستويات القصوى من التبخر وارتفاع نسبة الملوحة في مياه التَّروية. فضلاً على ذلك، تختلف الظروف المناخية في شبه الجزيرة العربية اختلافاً كبيراً من موسم إلى آخر، وهناك تباين حاد بين درجات الحرارة ليلاً ونهاراً. وتنتشر العواصف الرملية أيضًا في معظم الأجزاء، وكثيراً ما تؤدي إلى إتلاف المحاصيل الزراعية.

لقد تكيفت البداوة الرعوية في شبه الجزيرة العربية البدوية مع الموارد المحدودة للبيئة الصحراوية. إن قروناً من الخبرة في إدارة الموارد الهامشية للصحراء، زودت البدو الرحل ليس فقط بمهارات فريدة في التعايش مع الصحراء ولكن أيضاً بشعور بالالتزام تجاه بيئة هشة. ومن ثم، فإن البدو يسعون جاهدين إلى ضمان وجود إمدادات كافية من المراعي والوقود والمياه للموسم المقبل، على الأقل في أراضيهم القبلية التي يسيطرون عليها سيطرة مباشرة. إضافة إلى نشاط الرعي، فإن معظم البدو ينخرطون في الزراعة الموسمية، ولا سيما زراعة القمح المعتمدة على مياه الأمطار.

ويمكننا أن نجد عند جونسون (Johnson 1969:3)  وصفاً لفعالية العلاقة بين البدوي الراعي والمزارع: "إن التركيز في الأنشطة الرعوية لم يؤد إلى إنهاء حاجة الرعاة إلى المنتجات الزراعية، ولم يكن هذا يعني أن البداوة كانت عملية تطورِ ذات اتجاه واحد يكون تحسين الحياة فيها منفصلاً عن الحياة الزراعية المستقرة. لقد ظل الراعي والمزارع المستقر دائماً على اتصال، وأحياناً كان هذا التفاعل يتخذ شكل غزو البدو للمزارعين. علاوة على ذلك، يمكن للمقيمين فقط زيادة قطعانهم إلى الحد الذي يمكنهم عنده الانتقال إلى الهوامش القاحلة والتحول إلى بدو، وكذلك يمكن أن يُجبر البدو في المستوى الأدنى من المجتمع البدوي، بسبب خسائر القطيع، على التوقف عن هجرتهم والاستقرار".

إن معاملة جميع البدو كمجموعة واحدة أمر مضلل. ويمكن تقسيم المجتمع البدوي إلى فئتين فرعيتين رئيستين: البدو شبه المستقرين والبدو الرحل مسافاتٍ طويلة. تتكون المجموعة الأولى من بدو منخرطين في قدر ما من زراعة الكفاف ويحتفظون بعدد قليل من الإبل. وعلى النقيض من ذلك، فإن البدو المرتحلين مسافاتٍ بعيدةً أقلُّ اعتماداً على الزراعة، وعادة ما يحتفظون بعدد أكبر من الجمال التي يحتاجون إليها للتنقل بحثاً عن المراعي.

وفي عصر شبه الجزيرة العربية الحديث، لم يعد الرعي وزراعة الكفاف مصدري الدخل الوحيدين للسكان البدو؛ فمعظمهم، على نحو أو آخر، يتلقى إعانات حكومية، ويُشجَّعون على التَّجنُّد في القوات المسلحة لبلدانهم. في المملكة العربية السعودية – على سبيل المثال- يشكل رجال القبائل البدو أغلبية الحرس الوطني للبلاد (القوة شبه العسكرية الرئيسة في البلاد). وفي أغلب الأحيان يُنظر إلى القبائل البدوية على أنها الحليف الطبيعي للسلالات الحاكمة في الجزيرة العربية، حيث تشكل هذه القبائل البدوية ثقلاً موازناً للطبقات الحضرية الوسطى الناشئة.

سؤال التوطين:
حتى وقت اكتشاف النفط في المنطقة في القرن العشرين، كانت البداوة الرعوية تهيمن على اقتصاد شبه الجزيرة العربية. وعلى الرغم من أن إقليم الحجاز في غرب الجزيرة العربية كان يتلقى إيراداته من الحج، لم تستفد أجزاء أخرى من البلاد من الازدهار النسبي للحجاز؛ فقد عاش معظم البدو في دولة فقيرة، معتمدين على موارد الصحراء الشحيحة كمصدر دخل وحيد لهم.

كانت أول محاولة لتوطين القبائل البدوية في القرن العشرين قد قام بها مؤسس المملكة السعودية، ابن سعود، في نحو عام 1912م. كانت عملية التوطين تهدف إلى تعزيز الولاء للحركة السعودية أكثر من القضاء نهائياً على البداوة الرعوية. ثم أُسِّست المعسكرات البدوية (المعروفة بالهجار) التي استقطبت العديد من مؤيدي آل سعود (المعروفين بالإخوان) المدفوعين بامتيازات الأراضي والحوافز الأخرى.

وقد تمت عملية توطين بدو الجزيرة العربية في عشرينيات القرن العشرين بمساعدة الإيرادات الضخمة التي تنامت بفعل الارتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية. ومع ذلك، كما لاحظ كثير من الخبراء المستقلين، فإن البدو أنفسهم لم تكن لهم يد في تطور سياسة التوطين. ومع أن الأغلبية العظمى من سكان البدو كان يُعتقَد أنها تميل إلى التوطين، راودها الخوف من أن يعرقل التوطين نظامها الاقتصادي والاجتماعي والعقائدي. بالنسبة إلى معظم البدو، فإن التوطين استلزم التخلي عن تقليد قديم اختُبِر من أجل مستقبل غير مؤكد (Ibrahim and Cole 1978:99-102).

إن مسألة توطين البدو موضوع يُناقَش باستمرار. وقد سلط باحثون كثر الضوء على الحاجة إلى تقييم متواصل من جانب صناع السياسات في ضوء التجارب السابقة. ودعا ناقدو مخططات التوطين السابقة إلى تطبيق منهج متكامل لا يركز فقط في الجدوى التقنية والتجارية للتوطين وإنما أيضاً في القضايا الاجتماعية والسيكولوجية ذات الصلة. وحَسَبَ خبير سعودي (Hajrah 1982:58-62): "إن الدرس الأهم والأصعب تطبيقاً هو التركيز في جانب أحادي – وهو هنا توطين البدو الرحل – ومن ثم فإن التركيز في الجدوى التقنية والتجارية لا يكفي بأي حال من الأحوال. علينا أن نقدر أنه من السهل تشييد المباني، وتمهيد الطرق، وإجراء التحسينات التكنولوجية، وتوليد الكهرباء، وإنشاء جميع المرافق التي يمكن أن تجعلها الأموال ممكنة، لكن من الصعوبة بمكان تغيير عقول الناس وخلق معتقدات جديدة لهم. التنمية ... يجب أن تكون عملية متكاملة تتضمن تغييرات متصلة يتفاعل بعضها مع بعضها الآخر".

صور من التقاليد البدوية:
تحتفظ كل أسرة بدوية بخيمة واحدة على الأقل لاستخدامها في رحلات الرعي. عادة ما تكون الخيمة مصنوعة من شعر الماعز ومقسمة إلى قسمين. تقسيم الخيمة هذا مُعَدٌّ لعزل النساء خصوصاً في حضور الضيوف، والتقسيمات الفرعية الأخرى غير شائعة، وبوجه عام لا توجد مراحيض أو مناطق للاستحمام داخل الخيمة. وتقليدياً، تحتفظ معظم الأسر البدوية بكلب (في العادة كلب سلوقي) للحماية.  ولكن تماشياً مع التقاليد الإسلامية فإنه غير مسموح للكلاب بالدخول إلى بيت البدوي لأنها تعتبر نجسة.

عادة ما تكون وجبات البدوي بسيطة جداً، وتتكون بشكل أساسي من الخبز والحليب والتمر. عموماً تقوم النساء بإعداد الطعام مع أن الرجال عادة ما يقومون بالمساعدة في التحضير للطهي أثناء الاحتفالات الكبيرة، ومن حين إلى آخر تذبح الأغنام وتطهى لإعداد الولائم للضيوف. وتقلل النفايات إلى الحدود الدنيا وذلك باستهلاك اللحوم ومخلفاتها في الغذاء، وبالنسبة إلى الجلود فإنها تستخدم لنسج الملابس والخيام في حين تعطى العظام للكلاب.

أما طب البداوة فهو بسيط جدّاً، وتعالج معظم حالات الصداع الشديدة وآلام الصدر وآلام المعدة بسحب الدم أو بالكيّ. وتعالج لدغة الثعبان والعقرب بربطة حول منطقة اللدغ - وذلك للتحكم في حركة الدم-  وفرك بقعة النزيف بالملح أو الرماد الساخن. وفيما يتعلق بعضة الكلاب المسعورة فإنها تعالج بشرب قطرات من دم يتبرع به رجال قبيلة معروفون بتقواهم وقدراتهم على الشفاء. وقد استخدموا بول الإبل كمطهر لعلاج الجروح والدمامل وقمل الرأس. وفي مقابل ذلك، في الفولكلور البدوي، لا يمكن أن تُعزى جميع الأمراض إلى أسباب طبيعية؛ فبعض الأمراض قد تصيب ضحايا "العين الشريرة"، ولا يمكن علاج هؤلاء الضحايا إلا باللجوء إلى السحر أو الخضوع لطقوس دينية خاصة. (Dickson 1949)

يعيش البدو بصفة عامة في منطقة الديرة التابعة لقبيلتهم، وفي كل قبيلة تُمنح رتبة ومكانة للأفراد بحكم نسبهم ويتحدر الشيوخ عموماً من عائلات بارزة ذات أصل مُثبَت. ويتوقع من شيخ البدو أن يكون شجاعاً ومؤثراً ومباركاً بالحظ، وهو يقوم بتمثيل وجهات نظر قبيلته ومصالحها، ويتوسط في النزاعات الداخلية في نطاق القبيلة. كما يتوقع من شيوخ القبيلة أيضاً توفير بيت للضيافة للمحافظة على تقاليد البداوة الخالدة في الضيافة.

البدو أناس فخورون بأنفسهم ويهتمون كثيراً بكرامتهم وشرفهم وعرضهم. يتم الزواج والطلاق بتفاوض والدي الزوجين، وقد يشمل ذلك التفاوض شيخ القبيلة، وتقوم معظم الزيجات بين أبناء العمومة من الدرجة الأولى أو الثانية. تتكون الأسرة البدوية النموذجية من الوالدين والأبناء، وفي أغلب الأحيان من والدي الزوج. ويعد الطلاق نادراً جداً، ولكن يحق للمرأة أن تترك زوجها وتعيش مع إخوتها أو والديها أيَّ مدة شاءت. ويعتبر من المعيب أن يجبر البدوي زوجته المبعدة على العودة إلى بيت الأسرة، وعادة ما تتزوج النساء المطلقات مرة أخرى. كما أن الزيجات المتعددة غير شائعة، والعلاقات خارج نطاق الزواج محظورة.

كانت ممارسة البدو القديمة للغزو نتيجة متطرفة لحقيقة أن الصحراء نادراً ما كان فيها ما يكفي ليتقاسمه جميع سكانها. وعلى النقيض من بعض الآراء، نادراً ما كان الغزو دموياً، وكان يتم في العادة بروح "لله ما أخذ وله ما أعطى". وقد وصف المستعرب جون جلوب الغزو John Glubb (1897-1987) "كتقاطع الفروسية الآرثرية وأقاليم الكريكيت"، وقد كان الغزو تقليداً متقناً. وعادة يعمل الغزاة ليلاً، حيث يزحفون بعناية وهدوء كي لا يثيروا جمال من يغزونهم، ثم ينسحبون بالطريقة نفسها من العناية والهدوء. وفي حالة الإمساك بهم فإنه يُتعامَل معهم أولاً في خيمة الشيخ المحلي، ومن ثم يطردون وهم يحملون سلاحاً واحداً فقط من الأسلحة التي جاؤوا بها Lacey 1981: 27-28)).

خاتمة
زمناً طويلاً كان البدو ضحايا سوء الفهم والقوالب النمطية. إن الصورة المرسومة عن البدو في الأدب الغربي لم تكن خاطئة تماماً، لكنها كانت تجنح إلى المبالغة والانغماس في التعميم. وكما بين إيمانويل ماركس (1978:42) Emanuel Marx ذات مرة فإن بعض الكتاب الغربيين "حاولوا وصف البدو لكنهم لم يظهروا اهتماماً بوصف الواقع الصعب للبداوة، وقد كانوا عموماً يفضلون تقديم الجوانب الأغرب لحياة البداوة من أجل إمتاع قرائهم".

إن البداوة تراث يضمحل، وإبَّان عقود قليلة خلت كان معظم سكان شبه الجزيرة العربية من البدو؛ أما اليوم فإن أقل من 10 في المائة من سكان المنطقة يميلون إلى حياة البداوة. مع ذلك فإن عملية التوطين لم تكن ناجحة في إحداث تحول سريع في البنى الاجتماعية لحياة البدو. فما زالت القبلية هي الخصيصة المهيمنة على النظام الاجتماعي في المنطقة. إن القيم التقليدية القوية لمجتمع بدو شبه الجزيرة العربية هي إلى حد كبير خارج سيطرة القوى الاقتصادية؛ فلا يزال البدو يحتفظون على نحو عميق بنظام متأصل من القيم الاجتماعية التي توجد بمعزل عن التحول الاقتصادي القائم. وعلى الرغم من وجود دلائل على أن بنية القيم في المجتمع البدوي تستجيب للتغيير الاقتصادي، فإن اندماج البدو في المجتمع الحديث كان عملية بطيئة. ومع ذلك فإن هناك أسباباً سياسية مقنعة لحكومات المنطقة لتسريع عملية تفكيك القبيلة واستقرار البدو، وذلك على الأخص في أعقاب حرب الخليج. إن عملية تحويل البدو في الجزيرة العربية إلى مواطنين معاصرين أصبحت تكتسب إلحاحاً كبيراً، وذلك بالنظر إلى أن القوات المسلحة في المنطقة تتكون إلى حد بعيد من البدو المجندين الذين يُشجَّعون على التكيف مع الانضباط العسكري والتكنولوجيا الحديثة.

 

* منير (منرو) مراد أستاذ وباحث جامعي. عمل أستاذاً في عدة جامعات مرموقة في بريطانيا. كتب منير هذه الدراسة في عام 1994، وقد نشرت في عدد أكتوبر في مجلة الجغرافيا النيوزيلاندية حين كان أستاذاً في قسم الجغرافيا في جامعة ويكاتو Waikato النيوزيلاندية. حصل منير على الدكتوراه من جامعة لندن في عام 1986 في مجال تقييم الأراضي، وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة ويلز في بريطانيا. بين عامي 1998 و2006 عمل منير محاضراً أساسياً في جامعة كنجستون Kingston في بريطانيا في مجال نظم المعلومات الجغرافية وعلوم الأرض. كما شغل منصب رئيس قسم التطوير التربوي في جامعة لندن ساوث بانك إلى جانب كونه أستاذاً في القسم نفسه بين عامي 2006 و2011. وعمل أستاذاً ونائباً لعميد كلية العلوم والتكنولوجيا في جامعة أنجليا روسكن Anglia Ruskin بين عامي 2011 و2014. وبين عامي 2015 و2021 عمل منير أستاذاً زائراً وباحثاً في الجامعة الملكية للزراعة. لمنير العديد من الاهتمامات بالإضافة إلى تخصصاته العلمية ومهنة التدريس الجامعي، ومن بينها الأدب والشعر والتصوف والفكر.

 

المراجع

Al-Farsy, F., 1990: Modernity and Tradition: The Saudi Equation. Paul Kegan International, London.

Dickson, H. R. P. 1949: TheAraboftheDesert:A Glimpse Into BadawinLife in Kuwait and SaudiArabia. Allen & Unwin, London. Note: this book is probably the most comprehensive and detailed on Bedouin traditions in Arabia.

Glubb, J. B. 1948: The Story ofthe Arab Legion. Hodder & Stoughton, London.

Godolphin, F. R. B. (ed) 1942: The complete and unabridged historical Works ofHerodotus. Random House Publications, New York. Note: This title has appeared in various versions and imprints.

Hajrah, H. H. 1982: Public LandDistribution in Saudi Arabia. Longman, London.

Helms, C, 1981: The Cohesion ofSaudi Arabia. Croom Helms, London.

Ibrahim, S.E. and Cole, D. P. 1978: Saudi Arabia's Bedouins - An Assessment of their Needs. The American University, Cairo.

Johnson, D. L. 1969: The Nature ofNomadism. The University of Chicago, Chicago.

Lacey, R. 1981: The Kingdom. Hutchinson, Fontana, London.

Rodinson, M. 1987: Europe and the Mystique ofIslam. University of Washington Press, Washington, Seattle.

Strabo 1961: The Geography ofStrabo.. Heinemann, London. Note: This version is based on an unfinished translation by the classist John Robert Sitlington Sterret (1851-1914).

Varthema, L. Di 1928: The itineraty ofLudovico di Varthema ofBolognafrom 1502 to 1508. Argonaut Press, London. Note: translated from the original Italian edition of 1510, by John Winter Jones, in 1863 for the Hakluyt Society , with a n essay on Varthema and his travels in Southern Asia, by Sir Richard Carnac Temp