إلى العالم الجامعي تنتسب روايات ثلاث لشكري المبخوت. وفي أحدثها ترتسم شخصية العميد في الجامعة غالبًا، وفي حياته الشخصية لَمَمًا. إنه الوضعي الذي لا يؤمن بالماورائيات، ويزعم أنه عقلاني. وهو الصارم الواقعي المستقل، من عادته العناد وحب التحدي، ويرفض القمع وفساد المعلم (أي الرئيس بن علي).

توحيد السيرتين الذاتية والمجتمعية

في رواية شكري المبخوت «السيد العميد في قلعته»

نبيل سليمان


سماها الطلبة الذين مروا بها قلعة الأحرار، لكنها لم تكن كالقلاع.. بهذه الكلمات تنفتح رواية شكري المبخوت (السيد العميد في قلعته). وأسلوبية المفتتح تحت عنوان (القلعة) تضارع أسلوبية روايات القلاع، التاريخية والكلاسيكية. قلعة المبخوت بوصفه هو: حقيرة وتافهة. إنها دليل على فقر الحس والمعنى في الوطن الذي سيعلن اسمه: تونس. وساكنة القلعة/ أهلوها منصرفون في عزلتهم إلى كتب غامضة. وإذا كانت قوات النظام تحاصرها أحيانًا فقد ظلت عصية على الاختراق. أما الراوي فيعدنا بأن يروي شيئًا من السر المحير للقلعة، وبعضًا من حياة ساكنتها.

يشيد الكاتب روايته في ستة أقسام تستوفي عتبات القلعة، أبوابها، مداخلها، أروقتها، أسوارها، والخيانات داخلها. وسرعان ما يتبين أن القلعة ليست إلا كلية الآداب في جامعة، سوف تعين سيرة الكاتب على معرفتها: جامعة منوبة التي تولى الكاتب رئاستها (2011 – 2017) بعد أن تولّى عمادة كلية الآداب والفنون والإنسانيات فيها لدورتين انتخابيتين من 2005 – 2011. تبدأ الرواية باستلام (بطلها) الذي لا يسميه السارد لمنصب نائب العميد سنة 2004. وتستوفي الرواية الدورة الانتخابية 2005 – 2008 التي صار النائب فيها عميدًا، وتنتهي الرواية على عتبة الدورة الثانية، مضمرةً الوعد برواية أو أكثر لهذه الدورة، وربما لرئاسة الجامعة في دورتين.

قبل المضي في هذا العالم الروائي الجامعي، تحسن العودة إلى باكورة شكري المبخوت الروائية (الطلياني – 2014) حيث بطلها عبد الناصر وزوجته (السرية) زينة، طالبان جامعيان في نهاية عهد الحبيب بورقيبة وبداية عهد زين العابدين بن علي، وحيث عالم الطلبة والحرم الجامعي والتنظيمات السياسية والفساد. كما تحسن العودة إلى رواية المبخوت (السيرة العطرة للزعيم – 2020) حيث الزعيم (العيفه بن عبد الله) قائد طلابي في عالم الجامعة: اتحاد الطلبة والانتخابات والامتحانات والمجلس العلمي... ولا ننسَ هنا أن للمبخوت كتابه (الزعيم وظلاله.. السيرة الذاتية في تونس – 2017).

إلى العالم الجامعي إذًا تنتسب روايات ثلاث لشكري المبخوت. وفي أحدثها ترتسم شخصية العميد في الجامعة غالبًا، وفي حياته الشخصية لَمَمًا. إنه الوضعي الذي لا يؤمن بالماورائيات، ويزعم أنه عقلاني. وهو الصارم الواقعي المستقل، من عادته العناد وحب التحدي، ويرفض القمع وفساد المعلم (أي الرئيس بن علي).

حياة العميد مضبوطة كعقارب الساعة. وله من السحر نصيب يمتص به غضب الآخر بالمزايدة على الساخط في السخط "ورفع سقف الانتظارات، والتردد والمراوحة بين الغضب المثير للعواطف، والسكون الدال على الحكمة والتعقل. خلطة غريبة كان يتقن تحديد مقاديرها حتى لا تنقلب ضده".

بهذه الصفات يسوس العميد الكلية، ولكن كما يشخّص صديقه فتحي الملولي: أصبح إصلاحيًا وقد انطلق ثوريًا، وتلك "هي المسافة بين الثورة والدولة". ومن علامات سياسة العميد دعوته: "لنتخّل عن مثاليتنا". وفي مواجهة سياسة النظام التي تُضعف المؤسسات الكبرى، ومنها الجامعات، يرى العميد أنْ ما من حل مع الرئيس (بن علي) إلا تحصين تلك المؤسسات وحمايتها. والعميد يعتقد أن دوره ليس منع الطلبة من التعبير عن آرائهم، وإن بدت أحيانًا محنطة أو خشبية، فبالإتاحة للشباب أن يخطئ في التعبير، وأن يفرط في الحماسة، سيتعلمون التوازن في معترك الحياة.

تتعدد أشكال حضور السياسة في الرواية، من الشخصيات (أساتذة وطلبة ووزارة) إلى الأحداث، وبخاصة الانتخابات والإضرابات. ففي سياسة العميد أن الاحتجاج السياسي مسموح للطلبة، ما لم يصل إلى العنف. والعميد مع حق الطلاب في الإضراب، ولكن مع الحق في الدرس أيضًا، فلكلٍ ما يشاء. والعميد موزع بين معجب بشجاعة الطلاب وحماستهم، وبين شكوكه التي يؤيدها – مثلًا – الطالب القومي المنزع الذي يهدد بمهاجمة المركز الأمني في الجامعة، وإذا به موقوف سابقًا بسرقة. أما الحدث السياسي الأبرز فهو مؤتمر القمة العالمية لمجتمع المعلومات الذي بدأ الإعداد له قبل شهور. فالرئيس بن علي يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون إلى القمة، والطلبة يضربون في يوم الأرض ويتهجمون على الرئيس وعلى زوجته. ومن الأساتذة من هو داعية للتطبيع مثل نائب العميد فريد الأرناؤوط الذي درّس تاريخ اليهود في تونس تحت يافطة الأقليات، ودأب على أخذ الطلاب إلى معبد الغريبة اليهودي كموقع أثري روحي يعبر عن تجذر اليهود في التاريخ التونسي.

ويدهش العميد أن الأرناؤوط اختار التطبيع وهو المعارض السابق الذي بات يسترضي الأجهزة بالتعاون معها. وفي سياق الإعداد لتكريم البروفسور كوهين الذي أوصى بإهداء الكلية جزءًا من مكتبته، حبًا بوطنه تونس الذي غادره بعد هزيمة 1967؛ في هذا السياق يستقبل الأرناؤوط في الكلية أستاذين يحملان الجنسيتين الفرنسية والإسرائيلية، مما يثير غضب العميد واحتجاج الطلبة الذين واجهوا القمة العالمية لمجتمع المعلومات بالإضراب، فعلق أحدهم على صدره صورة للرئيس كتب أسفلها وعلى ظهرها (أنا حمار صهيوني)، وعلّق آخر صورة لزوجة الرئيس، مكتوب عليها (أنا الحلاقة زوجة الحمار).

وكان رد العميد على من طلبوا منه إيقاف الطلبة أن لا سلطة له عليهم "تصرفوا أنتم". وحين اعتدى الأمنيون على الطلبة بالعصي، تصدى لهم العميد الذي نقرأ أنه تعلم في تجربته القصيرة ألا يثق بالأساتذة الشيوعيين والتجمعيين – من حزب التجمع – الذين أفسدتهم السياسة والطموحات الفردية.
يبدو هذا الحضور للسياسة في الرواية تحديًا لروائيتها، مثله مثل يوميات العميد في الكلية وما يتصل بها، من الامتحانات والغش فيها، إلى الفساد في الوزارة المعنية وفي الكلية، إلى إضراب نقابة الأساتذة وكسر العظم بينها وبين الوزارة. ويضاعف من التحدي لروائية الرواية ما يتخلل ذلك من التأرخة التونسية، ومنها ما هو متصل أيضًا بالسياسة. غير أن التألق الروائي لشكري المبخوت كما تجلى منذ روايته (الطلياني)، جعل السياسة والتأرخة واليوميات في خدمة روائية الروائية. وربما كان أكبر من ذلك في بناء الشخصية، أيًا يكن موقفها: مع العميد أو ضده، وأيًا يكن دورها: عابر أم مركزي، ولأن لكل شخصية قصتها، تناسلت القصص، وتقاطعت أو اشتبكت أو تفارقت جذابةً ودفّاقة.  

هذا عم خميس الحارس في الكلية، الممثل النقابي للعمالة، ورئيس شعبة الحزب الحاكم، والذاكرة الحقيقية للكلية منذ التأسيس، وكل ذلك رغم أنه أمي. وهذا هو الأستاذ في قسم الجغرافية عبد السلام الشماخي الذي يحرض ضد النظام، والتروتسكي الذي ورث الثورية من جده، وأوقف مرارًا، لكنه يستعبد المزارعين في أراضيه. وفي مواجهة العميد له، برر بما له من سلطة علمية رفضه خلط الشماخي العلم بالسياسة. وثمة أيضًا من يدعوه العميد بزعيم عصابة الشيوعيين في الكلية، وهو أوفى أصدقاء عدو العميد ونائبه: فريد الأرناؤوط الذي لا يتنفس إلا في حبك المؤامرات باسم المبادئ السامية، وخدمة للكلية، كما يصف السارد الذي يتقنّع به العميد. وعلى هذا النحو تمور الرواية بعشرات الشخصيات. أما ذروة التألق في بناء الشخصية فتأتي فيما أفسحت الرواية لحياة العميد خارج الجامعة: الوالدة التي تُتوفى في معمعة إدارة العميد للكلية، عيشوشة الحنانة التي يلقبها السارد وكالة أنباء الحي، دقّازة الحي منيرة التي تقرأ للعميد طالعه. أما الشخصية التي لا تفتأ تتقد وتؤكد محوريتها على الرغم من تأخّر ظهورها ومن محدوديته، فهي ربيعة. في باريس التقى العاشقان الطالبان: العميد وربيعة، وفي استعادة السرد لهذه العلاقة تنسرب نشأتهما، وينسرب بخاصة وعي العميد للآخر عبر الجامعة وباريس وشخصية لاورا الرومانية التي يميل إليها عن ربيعة. كما يستعيد السرد تاريخ سوء التفاهم والحظ العاثر بين العميد وربيعة التي أرادته زوجًا، فالتفت عنها، فتزوجت، ثم طلقت، وتعيش مع ابنتيها عند والديها. وها هي ترفض عرض العميد للزواج خوفًا من أن تخرج ربيعة التي تكرهه لأنه رفضها في باريس. وتكشف العلاقة مع ربيعة الغلالة الذكورية عن العميد، فربيعة الصديقة المؤنس والحبيبة والخليلة والأم أحيانًا، هي "مرفأ يستريح فيه من عنت الحياة، والانكباب على البحث ليخرج أحيانًا من عزلته الخانقة حين يأخذ الإرهاق منه كل مأخذ". وليس غريبًا إذًا أن ينزلق العميد إلى حضن العاشقة المجهولة التي تندّي لغة رسائلها قبل أن تسفر من لغة السارد، مثلما تندّيها لغة العاشقين: ربيعة والعميد.

لقد بكّرت الرواية العربية إلى عالم الجامعة، طلبةً وأساتذة. ومن البدايات الهامة ما قدمه مطاع صفدي وهاني الراهب ونجيب محفوظ الذي حظيت شخصية الأستاذ الجامعي في رواياته بكتاب مصطفى بيومي (أستاذ الجامعة في عالم نجيب محفوظ). وقد توالى هذا اللون من الرواية العربية – تذكروا رواية رضوى عاشور: أطياف – إلى أن كاد أن ينفرد بروايات شكري المبخوت، وبخاصة في (السيد العميد في قلعته) التي أكدت الإنجاز الروائي البديع لصاحبها، وهو من وضع خبراته كناقد ومفكر وباحث وإداري في خدمة الفن الروائي، فكانت لهذا الفن، بذلك، خصوصيته وتميزه.

 

الضفة الثالثة