يصور القاص العراقي الأثار المدمرة التي يخلفها فقدان الابن إعداماً بسبب مواقفه السياسية على الأب، برسم حدث القتل الذي يعقبه حالة إحباط تام تصيب رفاق القتيل في حملة اعتقالات وتسقيط سياسي طالت اليسار العراقي.

الدخول إلى الجحيم

سلام إبراهيم

 

إلى رفيق الطفولة والصبا الشهيد حامد خضير*

 

سقطتُ في حفرةٍ عميقة ملساء الجدران، تسمرتُ بمكاني أتطلع إلى فتحتها العالية وبقعةٍ صغيرةٍ من ماء السماء الداكن الزرقة، أتطلعُ بعيني المكسورتين وأخجلُ محاولاً الاختباء بجلدي، ويا لفداحة هذا! بقينا، بقيتُ أنتظر من يُدلي لي حبلاً ويسحبني.

عدتُ مذعوراً دوماً، أرتبكُ حينما ألمح شرطياً في الشارع، متحاشياُ التقاء نظراتنا قدر مستطاعي.

لقد جففوا أفواه الناس الغاضبة.

أخرج عند السادسة صباحاً في طريقي إلى العمل، ثمة دكان يقع بركن الشارع مظللٌ بأغصانِ شجرةِ سدر وارفة، الشارع خاوٍ إلا من بعض المارة، العصافير تستقبل النهار بزقزقتها، ارتبكت وأنا أقترب منه، كيف لي المرور أمامه؟ أبطأتُ خطواتي وأطللتُ على خواء روحي، كدتُ أنهار لاطماً على وجهي، فوجدتها، وجدتُ نفسي أصغر من احتمال أي شيء، إذ تعلمنا الخوف وأجدناه وتفننا بهِ، انتبهت كنتُ على مبعدة خمسة عشر متراً منه، استدرتُ يميناً وقطعت الشارع عابراً الحديقة الوسطية إلى الرصيف المقابل، وأسرعت بخطوي شاعراً بهشاشتي وبظهري يحترق، كنتُ أنظر أماما متوتر الرقبة كأنني أهرب من نفسي، لكنني شعرتُ أن العينين اللتين تتابعان خطواتي تصيح بجسدي فالتفتُ للحظة وعدت أحدق بامتداد الشارع، ويا لهول ما رأيت!، من بين أغصان شجرة السدر كان يجلس في عتمة الدكان، على رأسه كوفية مرقطة ملفوفة دون عناية يتتبعني بعينيه الحزينتين الشاردتين، ألم الشجر، ألم الماء، وأحزان العراق تركض ورائي قادمةً من عمق عينيه وتصيح بيّ وبالناس بصمت:

- لماذا خذلتم أبني، لماذا، لماذا؟ غادر الدنيا وما فيها لأجلكم، لماذا؟

يومها قبل عشرة شهور قصدنا بيتهم، استقبلنا على العتبة راجفاً باكياً يبحث عن ابنه في وجوهنا، ضمني إلى صدره الناحل وأشبعني قبلاً، لم يزل طعم شفتيه المحبتين طرياً حياً أرى موضعها كلما تطلعت إلى وجهي في المرآة، قبلات تهزأ بيّ، تلعنني فأهرب من وجهي والمرآة، كان البيت مكتظا بالمعزين وهو يحضن القادمين واحدا.. واحداً وَيُقَبلّهم بحرارة المنكوب، قلنا له:

- حامد كُتِبَ في التاريخ.

انهمرت عيناه بدمعها وتشبثَ بنا قائلاً بصوتٍ مرتجفٍ:

- ذهب.. قتلوه، ما راح أشوفه بعد، ولا راح يوقف على جنازتي، هو طفل أش وكت كبر أش وكت، بعدني أشوفه يصعد على كتفي ويضحك.. ويضحك.. ويضحك، ليش يقتلون طفل.. ليش؟

وأهتز كسعفةٍ بريحٍ عاتية ونهرٍ مضطربٍ من بكاء وهو يقترب مني، إذ كنت أتردد منذ الطفولة على بيتهم الفسيح لألعب مع حامد، ضمّ رأسه تحت إبطي وراح يشمني كأنه يبحث عن رائحة ولده، لحظتها رأيته تلميذا مشاكساً يجلس جنبي على المقعد نفسه في مدرسة الثقافة الابتدائية بالديوانية، يعاند المعلم ويمازح التلاميذ ولا يهدأ لحظةً، وبحضوره يضج الصف، كان شعلة من الحركة والنشاط واللعب، إذا رغبَ في شيء فلابد أن يحصل عليه، لكنهُ كان غير راغبٍ في الدراسة، فترك المدرسة ليعمل فافترقنا وما عدنا نلتقي إلا صدفة، أو نلتقي في المقهى المقابلة لبيتهم في أماسي الصيف إلى أن سمعتُ باعتقاله أثناء أدائه الخدمة العسكرية الإلزامية، دخلنا غرفة الضيوف فصافحنا "أحمد" أخوه الكبير شاداً على أكفنا بقوة، جلسنا على الفراش الممدود قرب جداران الغرفة الكبيرة العارية صامتين، فرحلتُ بوجوه المعزين باحثاً عن شيءٍ ما حقيقي، بالنافذة الكبيرة التي يظهر منها مصباح الشارع، تسلقتُ إلى أعلاها فألمتْ بجسدي رجفة خفيفة، كان هناك يطل على جلستنا من خلف زجاج الإطار الذهبي الموشح بشريطٍ أسود، يحملق بنا بعينين باسمتين كما لو كان حياً، أقبل "أحمد" وجلس جواري، كانا معاً في أول اعتقال قبل خمس سنوات، حينما شكلنا تنظيماً جديدا، عُذبنا وقضينا أكثر من شهرين في الزنازين إلى أن أطلقونا قبيل إعلان الجبهة الوطنية 1973، بالرغم من حزنه القاتم كان وجهه يموج بالغضب والكبرياء، كان فخوراً بأخيه الصغير وموقفه، قدم لي سيجارة قائلاً:

- كان بطلا يقابل الجلاد بالشتم والسخرية، فيضربوه إلى أن يغمى عليه.

أنصت متخيلاً جسامة المشهد، وبين جملة وأخرى تسحبني صورة الشهيد المعلقة:

- نقلوهم إلى أبو غريب بعد صدور حكم الإعدام، كنت أزوره بانتظام كل أسبوعين.

قاطعته معتذراً:

- لم يكن بوسعي زيارته يا أحمد!

كنت أخدم العسكرية بدوري.

- اعرف، معذور كان فيها خطراً على حياتك!

وأردف تفاصيل أخرى:

- في المواجهات حدثني عن ليالي وأيام التعذيب، كانوا يلقون بهم في أقبية تحت الأرض مغمورة بالمياه الآسنة التي تغمرهم حتى الركبتين حيث لا نوم ولا جلوس وبردٍ قارص يجعل الجسد ينتفض، يأتون بعد منتصف الليل سكارى ويطلقون أصواتٍ غريبة ممزوجة بشتائم وفشار بذيء، فينشدون نشيد الأممية ويهتفون بحياة الشعب والطبقة العاملة، فيصاب رجال الأمن بالهستيريا.

صمت وشردت عيناه بعيداً كأنه يرى شيئا لا نراه وأردف:

- كان ذلك يثير عجبي فمن أين جاءته القوة والصلابة، هو إنسان بسيط ترك المدرسة من الصف السادس الابتدائي، قلت إحدى الزيارات: خوية ليش ما تتنازل فيطلق سراحك، أنت صغير والحياة أمامك، كان المطلوب منهم فقط توقيع تعهد والانضمام لحزب البعث فيتم العفو عنهم، فرد: لا.. لا.. يا أخي لا أقبل منك أنت بالذات هذا الكلام، أن في إعدامي حياتي، وفي تنازلي موتي، تعلمت منك، من كلامك، من تخفيك عن رجال الأمن، من اعتقالك المتكرر، فأنت من علمني الصمود والتضحية، قلتُ مع نفسي: ألدّي أخٌ بطلٌ وما أدري؟

ظللتُ ألهث ووجه الأب الشارد الحزين يحجب عني الصباح والمارة، جلست على مقعد سيارة الأجرة في طريقي إلى مكان عملي، من بين أجساد الركاب رميتُ بصري، كان يجلس وسط الدكان ساكناً تحيط به رفوف خشبية قديمة فارغة مغطاة بالغبار.. وقليلا.. قليلاً غبتُ عن لغطِ الركاب وضجيج المحرك الرتيب ورأيته يدخل من باب الغرفة المفتوحة على باحة البيت، ينقل قدميه بعناء وبطء نحو كرسي قريب مقابل جلستنا، لم تكف عيناه الشاردتان المذهولتان عن الإبحار في وجوهنا إلى أن تكور على المقعد الخشبي فصغرت كتلته الذابلة وبقيت عيناه تحملقان بنا برجاء وألم ينبتُ في القلب موجعاً، تشاورت مع صاحبيَّ لمغادرة المكان، إذ عدت لا أحتمل المشهد، نهضنا واقفين فقز نحونا مردداً بصوتٍ خافت النبرة مكسوراً:

- وين رايحينْ وينْ؟ راح ابني لكنني أحس كلكم أبنائي!

حينما أتذكر ذلك الآن أشعر بطعنة تغور في أحشائي.

اعتذرنا بعيونٍ دامعةٍ وقرب عتبة باب البيت تشبث بنا وطبعّ بشفتيه وجوهنا قبل أن يختم العناق قائلا:

- أريد منكم شيئاً بسيطًا؟

نبّ صاحبي:

- أنتَ تأمر يا عم!

- لا تخونوا عهد ولديّ!

وتداعى باكياً وهو يتشبث بإطار الباب، فأحسست بأحشائي تتمزق.

طوال الطريق لم يغادرني وجهه الحزين فانفصلتُ عن الركاب، أفكر في الأمر، وأحاول إيجاد تبرير للانهيار الجماعي لرفاق "حامد"، وتوقيع أغلبهم تعهدات بعدم العمل السياسي في الحملة الشاملة التي أعقبت إعدامه بعام، ثَقل رأسي، اشتعلت، كدتْ أصرخ وسط السيارة بوجوه الموظفين غير العابئة، بوجوه بليدة في بلدٍ تحولت فيه القلوب النابضة إلى قلوب من حجر سقيم لا تحس بعذاب البشر.

في اليوم التالي بكّرتُ إلى عملي، وعلى بعد عشرة أمتار عبرت إلى الرصيف المقابل، ومن بين أغصان الشجرة رأيته يجلس بالمكان نفسه وسط عتمة الدكان والرفوف المغبرة بوجنتين بارزتين، وعينين ساهيتين، وبمرور الأيام أيقنتُ أنه أنفصل عن الواقع متنقلاً إلى عالم الخيال والرؤيا، فعاد يرى المارة مثل أخيلة من ضباب أو ظلال بشرٍ، كتلٍ فاقدة المعنى، فينفرد مع "حامد" يحضنه يشمه ينادمه، ما أراه كل صباح زادَ ألمي فظللتُ أتلمس جدار الحفرة الملساء حالما بالفضاء محملقاً بقطعة السماء العالية المطلة من فوهتها البعيدة.

                                 *     *     *    

البارحة استيقظتُ متأخراً، ارتديت ملابسي على عجل، هرعتُ دونَ فطورٍ كي ألحق بالسيارة الوحيدة التي تحمل الموظفين كل صباح إلى ريف البدير البعيد، هرولتُ للوصول في الوقت المناسب، انتبهتُ وإذا بيّ أمام الدكان تماماً، ارتبكت ووجدني أقف مذهولا وأنظر نحوه، كان ساكناً في ألمه يحملق بيّ بذهول، رفعتُ ذراعي بالتحية قائلاً بصوتٍ وجلٍ مرتعش:

- صباح الخير عمي!

اتسعت دهشته وتردد، رفع ذراعه ببطء نصف المسافة وسقطت في حضنه، رفعها ثانية وهو يتفحصني بعينيه المستيقظتين من الشرود، كدت أرتطم بغصنٍ متدلٍ، وودت الهرب، حاولت الابتعاد، سمعتهُ يناديني بصوتٍ خافتٍ لكنه مسموع وباسمي، فالتفتُ مرة أخرى، رأيته يقف كقطعة ضوء وسط عتمة الدكان ينوء بجسده بالرغم من هزاله، ويؤشر لي كي أقترب منه، أردت أن أجهش باكياً، أضرب رأسي بإسفلت الشارع، أركض هارباً من المكان والعالم، لكن ثقلًا هائلًا حطَّ على قدميّ وقوة مجهولة أدارت جسدي صوبه، اقتربتُ وخواء روحي يصيح بيّ، اقتربتُ كنخلةٍ محروقةٍ، حاولت رسم ابتسامة، لكن هيهات فجلد وجهي تحجر، وقفتُ عارياً بيننا خشب الحاجز، اجتاحني الألم فأطرقتُ رأسي وتمنيت لو تبتلعني الأرض، سمعته ينشج مهضوماً، نظرت نحوه، كان ينتفض ألماً ويصّبُ دمعاً مردداً بصوتٍ ضعيف لكنه واضح:

- ابني في الجنة. الشهداء يدخلون الجنة

انحلت قواي فتداعت إلى الرصيف وهو يردد جملة واحدة:

- أنتم في الجحيم.. أبني في الجنة!

ثم سقطَ على كرسيه مغطياً عينيه براحته، غارقاً بالنحيب، لا أدري كيف وصلت إلى البيت.

ظلَّ يلاحقني بوقفته المنهكة، وجملته عن الجنة والجحيم فعدتُ أراه في الجدران يصيح، في السوق يصيح، في السماء يصيح، في الحلم يصيح، في أشجار الأرض وبشرها يصيح، في الليل والنهار ووجهي:

- ابني في الجنة.. الشهداء يدخلون الجنة!

عندها أدركتُ موتي، وعرفت معنى الجحيم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* من مجموعة "قبلة الصباح" ستصدر عن دار الدراويش

* الشهيد حامد خضير 1954-1977 كان في خدمة الاحتياط أعتقل بتهمة النشاط السياسي في الجيش وأعدم مع كوكبة من رفاقه أيار 1977