فى تجربة بدأتها الكلمة منذ العدد الماضى، وتواصل، بنشر نماذج من إبداعات المبدعبن العرب، مصحوبا فى ذات العدد بقراءة لمُنجز هذا المبدع، بما يشكل تعريفا بالمبدع، والتعرف على تميزه، وإضافته. حيث نتخير فى هذا العدد. الشاعر والناقد دعايدى على جمعة، وتحوله من الشعر إلى القصة القصيرة، على خلاف السائد من التحول من الشعر إلى الرواية.

قصص

عايدى على جمعة

 

الخطوبة

كانت لديه رغبة عارمة فى الزواج، لكنه فى هذه الفترة لم يكن مستقرا على واحدة بعينها يتخذها زوجة له، وحين رأى ثلاث أخوات يسرن على مصرف القرية، وقد بدا من هندامهن أنهن من البندر سأل عنهن فعرف أنهن بنات لابنة عمة أمه، ومقيمات فى المنصورة، وقد جئن لزيارة جدتهن لأمهن.

أبدى لأبيه رغبته فى التقدم لإحداهن، وافق أبوه على الفور، واصطحبه معه لزيارة الجدة، ومفاتحتها فى الأمر.

ارتدى جلبابه الأبيض، وذهب مع أبيه، وكانت أخته الصغرى ذات الأربعة أعوام معهما.

وحينما دخلوا إلى بيت الجدة استقبلتهما بترحاب كعادتها دائما وكانت معها ابنتها أم العروس ففاتحها أبوه فى أمر الخطبة فأبدت ترحابا، ثم دخلت العروس بصينية عليها مشروب، وقد اكتسى وجهها بابتسامة الحياء والخفر!

ثم انتهت المقابلة على أن يجئ الرد بعد ذلك.

وكان عم والدته هو الذى جاء بالرد من عندهم، وكان الرد بعدم الموافقة.

 بعدها بأيام قليلة عادت الفتيات إلى المنصورة.

عنّ للفتى أن يذهب لزيارة أحد أصدقائه فى منية النصر، وفى طريق العودة حين كان سائرا فى أحد شوارع المنصورة كى يستقل الحافلة إلى مركز السنبلاوين ، ومنه إلى ديرب نجم، ثم إلى قريته رأى فتاته فى صحبة رفيقة لها، فعرفها، ولم تعرفه، فاقترب من الفتاتين، دون أن يلفت نظرهما ، حتى إذا كان على بعد أمتار قليلة منهما سمعها تقول لصاحبتها : لقد تقدم لى معيد فى الجامعة، ولديه فدان أرض اشتراها من جدى، لكننى رفضت.

فابتعد عنهما، ولم يرها منذ ذلك اليوم.

 

البنطلون

حين جاءت خالتى من مدينة الإسكندرية إلى قريتنا جلبت لى معها بنطلونا متينا جدا، وكنت دائما أرتدى هذا البنطلون المتين وأتبع أبى إلى حقلنا القريب من القرية، فجأة أقفز على الطريق، ومرة أسير ببطء، وفى مرة أخرى أطارد فراشة، وهكذا.

كنت أسير خلف أبى على حافة المصرف الملئ بأشجار اللبلاب، مستمتعا بجو الصباح الساحر بين الحقول، والنبات الأخضر الذى يمتد لمسافات بعيدة، وقد انتثرت على الطرقات بين الحقول الماشية ذات الصوت المبهج.

وفى إحدى المرات كانت جاموستنا تدور فى الطمبوشة لكى تخرج الماء من الترعة، فيسير فى قناة صغيرة مارا بثلاثة حقول لعم أبى وابن عمه وأحد الجيران حتى يصل إلى أرضنا.

تركنى أبى ألعب حول الطمبوشة، وذهب ليروى أرضنا. أعجبنى جدا منظر الماء وصوته وهو خارج من الطمبوشة مباشرة، فجلست على الحوض الأسمنتى ، وأرسلت قدمىّ الصغيرتين فى الماء ، وأنا أهزهما ، فيتصاعد الماء من ضربات قدمىّ يمينا ويسارا، ثم أنظر إلى الفضاء فأجد قطع السحاب البيضاء، وهى تأخذ أشكالا متنوعة فى عليائها، كانت الجميزة العجوز على حافة الترعة تستقبل أشعة الشمس الهامسة، وتهمس بالحب الناعم لقطرات الندى التى كللتها، وتلقى على جسدى الصغير ظلالها وهمساتها، وتفرج لى عن بعض حزم ضوء الشمس المتفائلة بهذا الصباح.

 وفجأة أمسك رأس مسمار متين من مسامير حلة الطمبوشة فى بنطلونى الشديد المتانة، ودار صراع رهيب بينى وبين دورة حلة الطمبوشة، وأنا أصرخ بصوتى الطفولى ولا يسمعنى أحد، حتى تمزق البنطلون تماما ، وأصيبت ساقى بجراحات بالغة، وجعلت الدماء تتساقط منى وتمضى مع الماء الذى يروى حقلنا.

ذهبت إلى أبى فى الحقل بغير البنطلون المتين، وآثار الدماء على ساقى.

مر الموقف، لكن مازالت آثار تلك الحادثة بارزة فى ساقى حتى الآن.

 

الملعقة

كنت كثير الحركة والتنطيط فى البيت ، وكان أهلى يعاملوننى برفق، ويبالغون فى حبى وتدليلى. فأبى كان الولد الوحيد لجدى، وحينما تزوج أنجب ثلاث بنات تباعا، ماتت الأولى، وبقيت اثنتان ، وكان جدى والأسرة تتمنى أن ينجب والدى ولدا، فجئت أنا، وجاء بعد عام ونصف أخ لى ، ثم جاء بقية الإخوة والأخوات.

وفى مرة من المرات حلبت أمى الجاموسة، ووضعت اللبن أمامى، وفيه بعض الخبز الملدّن ، كان ذلك صباحا فى صالة بيتنا الريفى الواسع، وأعطتنى ملعقة ، جاءت جدتى كى تشاركنى فى طعامى هذا ، رفضت أن تأكل جدتى معى، لكنها أخذت ملعقة ووضعتها فى الطبق، فغضبت غضبا شديدا، ثم رجعت إلى الوراء مسافة مناسبة، وبكل عزيمتى الطفولية صوبت الملعقة إلى وجهها، وضربتها ضربة شديدة، وقعت أسفل عينها، وكانت هناك كتلة ناتئة أسفل عينها تركها الطبيب دون استئصال حينما ذهبت للكشف عليها ، إذ ربما ـ من وجهة نظره ـ يكون فى استئصالها بعض المشاكل الطبية غير المرغوب فيها.

وحينما وقعت الملعقة فى هذه الكتلة انفجر الدم منها مصحوبا بصرخة ألم حادة من جدتى، جعلت قلبى يترجرج من هول ما فعلت.

الموقف مر بسلام، ولم يعاقبنى أحد من أسرتى، لكنى تعرضت لعقاب قاس من ضميرى الذى ظل يؤلمنى بشدة، وكان ذلك بداية خضوع تام لجدتى، وتلبية كل ما تطلبه منى، فكانت تحبنى أكثر من الجميع.

أخبرنى جدى بعد ذلك أن ضربة الملعقة كانت فى مصلحة جدتى لأنها أزالت الكتلة التى كانت أسفل عينيها.

 

الشيخ صالح

كان الشيخ صالح الأخ الأكبر لجدى دائما يأتى هو وأخوه وأخته إلى بيتنا صباحا.

كان منظرهم قادمين فى الشارع ثم فى الحارة الضيقة يسعدنى حقا، فقد كان الشيخ صالح أقرب إلى القصر، ممتد الجبهة، حسن القسمات والملامح، يلبس جلبابا أبيض، وطاقية بيضاء،  وعليه حرام له ألوان جميلة متناسقة وهادئة، كان هذا الحرام يميزه عن أهل القرية جميعا. وقد أعطاه حفظه المتقن للقرآن الكريم وجاهة خاصة بين أهل القرية.

فى أيام الشتاء كانت أمى تعد "المنقد" وتضعه فى وسط الحجرة ، ويضعون عليه القوالح، ويشعلون فيها النار، وكثيرا ما يضعون عليه كتلا من الخشب، فيملأ الدخان جو الحجرة الواسعة، وربما خرج إلى صالة البيت الشديدة الاتساع، وحينما يظهر لهيب النار فى " المنقد "  يمد كل واحد يديه مقتربا منها، فيشعر بالدفء، وكثيرا ما يضعها على وجهه ، وقدميه .  ويضعون علي " المنقد"  براد الشاى، وكانت الأكلة المفضلة هى "العيش الغلّة" الخارج الآن من الفرن مع الملح أبو كمون، وكثيرا ما يكون السريس المجلوب من حقل البرسيم صباحا مع هذا الطعام.

كان بعض أهل القرية يأتى للمشاركة فى الحديث والطعام وشرب الشاى، كانت ملامحهم وأنفاسهم تحمل عبير القرون التى مرت على هذا الوطن.

كانوا يجلسون فى حجرة واسعة مفروشة بشريطين مصنوعين من السمار، وقد وضعت المساند بجانب الجدران.

مازلت أذكر كفى الشيخ صالح، وأصابعه الملتوية، وهو يضع الخبز فى الملح.

مات الشيخ صالح، حزنت عليه كثيرا، وكانت هذه أول مرة أرى الموت يأخذ أحدا ممن تعودت على رؤيته.

وصلت إلى سمعى إشاعة ـ لا أدرى كيف ـ أن الموتى سيبعثون يوم الخميس القادم.

ظللت أنتظر يوم الخميس، وأطيل النظر إلى مقابر القرية التى سيخرج منها الموتى يوم الخميس، ومنهم الشيخ صالح ، وجعلت أمنّى نفسى بعودته مرة أخرى، ومجيئه إلى بيتنا صباحا.

كان الجو شديد الحرارة يوم الخميس، واليوم كان طويلا من أيام الصيف.

حينما انتهى أهل القرية من صلاة العصر، كنت أسير فى شارع القرية الواسع الذى يؤدى إلى المقابر فى انتظار عودة الشيخ صالح، لكنى وجدت نسوة متشحات بالسواد يحملن الرحمة للموتى، ويذهبن إلى المقابر، ولم يبعث الموتى، ولم يرجع لنا الشيخ صالح.