ذات صباح ربيعي، في مطلع الألفية الثالثة بقرية كل من ازداد بها يرغب في الموت بعد ساعة من ولادته، قرية لا تغري أبدا بالعيش، واقعها الاجتماعي بئيس، لكن جغرافيتها تسرّ الناظرين، فهي تضم ما تفتقده بقع جغرافية أخرى، فالقرية تطل على السهول والهضاب، وتحيط بها الجبال والوديان.
بهذه القرية ازدان فراش أحد الأسر الفقيرة بمولود ذكر. بعد ثلاثة أيام من ولادته، اجتمع أهله يفكرون في اسم مناسب له، وقد كانت من عادة القبيلة أن الجد من ناحية الأب هو الذي يختار اسم أحفاده من الذكور والإناث، ولا أحد غيره قادر على معارضته، بما في ذلك والدي المولود، فسلطة التقاليد والأعراف تعلو فوق كل رغبات الأمومة والأبوة.
كانت أم المولود، لازالت تعتصر ألما من أثر الولادة، فنساء هذه القرية لازلن خارج التاريخ، ليس لهن الحق في الاستفادة من خدمات الصحة الجنسية والانجابية، فكل ما يملكن من حقوق، هو ارادتهن وشجاعتهن في مواجهة مصيرهن المحتوم، بعضهن ينتصرن بمشقة كبيرة على شبح الموت، وبعضهن الآخر يستسلمن له، فيُمسين في ضيافة التراب بباطن هذه الأرض. وتنتهي قصة الموت بمجرد ما يُلقى التراب على جثمان الهالكة، إنها التقاليد المعطوبة، فلا أحد يهاب حرمة الحدث، بما في ذلك زوج الهالكة الذي يشرع بالبحث عن زوج آخر من بين النساء اللواتي حضرن لتقديم العزاء.
كانت كبد أم المولود تعتصر مرارة من شدة خوفها وهي تشاهد الاجتماع العائلي، الذي يترأسه الجد للحسم في اختيار الاسم للرضيع. فهي امرأة شابة، تهوى الأسماء الجديدة التي تجمع بين الدلالة العميقة وخفة النطق حسب مقاييسها، وكانت تخشى أن يكون لشيخها مقياس آخر.
فجأة خطرت على بالها فكرة المواجهة، وقالت مع نفسها: "ما قيمتي داخل هذا الاجتماع؟
إنه ابني، خرج من رحمي، وأثر الدماء لازالت بين فخذي، والألم لازال يقطع أوصالي.
متى نتجاوز هذه التقاليد البالية والأعراف المعطوبة"؟
كانت ترغب في الصراخ:"ما شأنكم أنتم بالتدخل في اختيار اسم رضيعي؟ أنا من عليها أن تختار له اسم يليق به"؟
لكن ثورتها هذه ظلت حبيسة الذهن، فسلطة التقاليد في المجتمع التقليدي قادرة على تكميم أفواه الرجال قبل النساء.
يجلس الجد بهيبة ووقار، والجميع يبتسم في وجهه مهابة، متشوقين لسماع اسم الرضيع. قالت له ابنته:
- "أبي ما هو الاسم الذي اخترته لحفيدك الأول"؟
اشتدّ الصمت وهم ينتظرون أن ينطق باسم من أسماء "عُبد وحُمد"، كونها أحب الأسماء لقلب شيخ متدين.
استدارت أم الرضيع الى الحائط والدموع تنهمر على وجنتيها مدرارا وبغزارة، شهقت، فالتف الجمع حولها وسألوها عن سبب البكاء، فقالت المسكينة بحياء وخجل كبيرين أنها لم تتحمل الألم الناتج عن الولادة. والحقيقة عكس ذلك، فهي لم تتحمل مغبة اجتماع كهذا يقرر في اختيار اسم لرضيعها.
طلبوا منها أن تتجلد وتصبر، وعادوا ينظرون للجد، لعله سيتحدث، لأنه مسح على عينيه و فمه براحة يده، وكأنه يريد بهذه الحركة أن يدقق الرؤية وإحكام العبارة ثم قال:
- إن التي ولدته، هي من لها الحق أن تسميه. وأضاف، وأنا ما علي إلا أن أتكلف بكل مصاريف حفل العقيقة.
ذهل الجميع، ولم يصدقوا ما سمعوا، ظنوه مازحا فقط، وخاصة أنه معروف بخفة الدم وروح النكتة والسخرية برغم الوقار الظاهر عليه. أما أم الرضيع فنزلت عليها تلك الكلمات كما تنزل قطرة الندى على الوردة الذابلة، لتعيدها الى الحياة، لكنها لم تستطع أن تنبس ببنت شفة خشية أن يغير رأيه. وخاصة أن ابنته احتجت عليه، قائلة:
- "بالله عليك يا أبي، ما الذي تقوله؟ ولماذا تترك الاختيار لهذه...؟ وأنت تعلم أنه لم يسبق أن فعل هذا رجل قبلك في قبيلتنا؟ ماذا سنقول للناس يوم العقيقة؟ وهل يرضيك "الحاج" أن تسمح بهذا فعلا؟
وكأن هذا الشيخ أتى بجرم لا يغتفر، أو غيّر مركزية الكون، أو منع الشمس والأرض من الدوران.
كانت البنت الوحيدة التي لها القدرة في أن تحتج وتعبر عن غضبها في وجه الأب، أما باقي أفراد الأسرة الآخرين ظلوا صامتين وكأن الطير على رأسهم. حاولت هذه البنت أن تحرض باقي أفراد الأسرة ليقفوا في صفها ليضغطوا على "الحاج" أن يتراجع عن قراره. لكن الحاج بكريزما القائد، حسم الأمر، ووجه كلامه بحنان ورقة الى أم الرضيع:
- يا ابنتي أخبريني بالاسم الذي تقترحينه لابنك.
قالت بسرعة وكأنها تخشى أن يتراجع في قراره:
- سأسميه "جميل" أبا سيدي.
فرد عليها:
- فعلا إنه جميل، لكن أنا أسألك عن الاسم الذي تريدين أن تسميه به.
قالت له:
- "با سيدي"، قبل ولادتي بيومين، وقبيل آذان صلاة الفجر، سمعت هاتفا يهتف بي: إن كان ذكرا سميه جميل، وان كانت أنثى سميها تنويرة.
فقال الجد ضاحكا:
- يا بنيتي، ما سمعت بهذين الاسمين قط في حياتي. لكن ما قصصته علينا يدل على أنك زوج مبارك، وذلك صوت الملائكة، ولعل الله هو الذي ارسله، وهو من اختار له هذا الاسم، وإنه لاسم عظيم، بل هو من أجمل صفات الله، فالله جميل يحب الجمال.
فقالت له ضاحكة:
- ولماذا قلت أنك لم تسمع بهذا الاسم وأنت تعرف أنه من أجمل صفات الله؟
وبدهاء القائد الذي لا يرضى لنفسه أن يحرج من طرف الأتباع، حاول الشيخ تغيير مجرى الكلام نهائيا، فقال لها:
- نحن يا ابنتي كما تعلمين أسرة فقيرة، إذا لم نترك لهذا الابن شيئا من الارث، فعلى الأقل نترك له اسما جميلا.
كانت هذه الجملة هي من جعلت بعض أفراد المجلس العائلي ينفجرون بالضحك، قائلين بصوت جماعي: "هذا الجميل اخترنا له اسم جميل".
وكان هذا الاتفاق بالنسبة لأم الرضيع بمثابة بلسم التأمت به كل جروح المخاض الذي استمر ثلاثة أيام في غياب أدنى شروط الرعاية الصحية. فالمخاض في هذه القرية يرتبط أشد الارتباط بذكرى الميلاد أو الوفاة.