الفصل الأول: الولادة
في ارض الرز والتين والرمان، ارض الإنس والجان، ولدت (ضوية) في ارض الزعفران، الطفلة الوحيدة لأبيها (فرحان) وأمها (نورهان)، كانت في غاية الحسن والجمال، أطلت على الحياة فجر يوم ممطر غائم انقشعت غيومه وأشرقت شمسه وغردت أطياره حالما لامست قدميها أرضية بيت (فرحان).
تنبه العديد من النساء والرجال والأطفال إلى غرابة ما حصل وفرادته وتزامنه مع انطلاق الصرخة الأولى لهذه المولودة، التي لم تخرج إلى النور إلاّ بعد ان انصرمت عشرة أيام من الشهر العاشر، لاحظ اهل الدار ان العتمة والظلمة كانتا تنحسران ليحل محلهما النور والضوء في البيت بقدر ما يظهر من جسمها خارج رحم أمها، حتى بدا البيت مضاءً كشمس الصيف في رابعة النهار مع صرختها الأولى، مما أدهش الجدة وبقية النساء في الدار، لذلك سميت ب(ضوية) من قبل قابلتها ووالديها.
- الا تلاحظ يا (فرحان) ان ابنتنا أخذت تفهم معنى الكلام وهي لم تبلغ يومها السابع بعد ؟؟!!
- والله يا(نورهان) ان أمر هذه الطفلة لعجيب، يبدو انها مبروكة ومباركة.
اخذ عود الطفلة يشتد وتشتد معه غرابة سلوكها وتصرفاتها، حتى إنها أخذت تمشي وهي في الشهر الخامس من عمرها، دون ان تمر بمرحلة الحبو. العصافير والبلابل والحمائم تحف بها وهي تلعب في باحة الدار، كانت تكلم هذه الطيور التي تحوم حولها مغردة تصفق بأجنحتها، كأن لها معهم لغة مشتركة.
ذات يوم، جلب لها والدها صندوقا صغيرا جميلا من الخشب المنقوش عند عودته من سوق المدينة، ليكون حافظة لملابسها وبقية أشياءها، بمناسبة عام ولادتها السابع، وهو اليوم والشهر والعام الذي أصبح يؤرخ لما بعده وما قبله من أحداث وولادات ووفيات في ارض (الزعفران)، فيقال كذا يوم او شهر او سنة قبل او بعد ولادة (ضوية)!!
استقبلت والدها مطوقة رقبته بذراعيها الناعمتين زارعة قبلاتها على وجنتيه وصدره وكفيه ممتنة فرحة بما جلب لها من هدايا، حيث احتوى الصندوق على (خزامه) و (ورده) و(خلخال) فضي جميل.
ولكنها نحّت كل ذلك جانبا، جاذبة والدها من يده، وقد تبعته أمها وبعض من كان موجودا من أهل (الزعفران) في ديوانية أبيها، طالبة منهم مرافقتها لجلب هدية مخبأة لها بالقرب من القرية.
سارت أمامهم حتى بلغت (الايشان) المطل على ارض (الزعفران) من جهة الشرق، المسكون من الجان، بعد ان كان مسكونا من قبل ملك ذلك الزمان، قامت بتحديد منطقة صغيرة مشيرة عليهم حفرها.
وقف (فرحان) صامتا متأملا مستغربا مستفهما عن المكان والهدية المخبأة لها في (الايشان)، وهل من خبأها من الإنس أم الجان.
وكيف سلم الجميع قيادهم لطفلة صغيرة لم تبلغ الحلم بعد.
التفت إليهم أبو ضويه وقد لحظ عليهم الفتور، قائلا:
- لا اظن ان ابنتي تعبث بنا. مشمرا عن ذراعيه مبتدئاً بنبش التراب في المكان الذي أشرته لهم، مطالبا الحاضرين مشاركته فيما يفعل.
الفصل الثاني –الصندوق
فما ان غرس الرجال معاولهم في التربة الرمادية، التي كانت تتخللها قطع من حجر قديم، حتى ارتطمت بشيء صلب، فارتخت قبضات أيديهم من على قضبان المعاول، ليزيلوا برفق التربة المتكسرة من فوق الجسم الصلب، ظهر لهم فجأة صندوق أذهلهم شكله، مرصع غطاءه وجوانبه ببلورات ملونة لها بريق كأنها نجوم متلألئة في سماء صافية، حاول الرجال سحبه خارجا فلم يفلحوا رغم حشدهم الكبير، فتقدمت منه (ضوية) لترفعه من التراب بيد واحدة وسط دهشة الجميع. حاول بعض الرجال -بدافع الفضول -فتحه فلم يفلحوا وخاب مسعاهم، فاتجهت أبصارهم صوب ضوية التي بدت واثقة من عجزهم عن فتح الصندوق والاطلاع على مكنوناته، خاطبتهم قائلة:
- اتركوا الصندوق، فلو اجتمع كل رجال ونساء القرية سيعجزون عن فتح غطاءه او الاطلاع على مكنوناته، فلا يمكن ان يفتح الغطاء إلا بأمري وأمر شخص آخر في علم الغيب حاليا، احملوه الآن ولنذهب للدار وكفوا عني أسئلتكم واستفساراتكم فما يضمه الصندوق لا يمكن فهمه ولا إدراكه من قبلكم، عصي على الفهم على أمثالكم وقد يصاب البعض بمس من جنون لو اطلع على ما فيه فيغير ثوابته، ويلعن ماضيه وحاضره.
سارت أمامهم والصندوق محمولا على رؤوس أربعة رجال، فبدا وكأنه كوكبة من النجوم تسير صوب دار (فرحان) الكائنة في مقدمة ارض الزعفران على ضفة نهر (الخيزران).
وضع الرجال الصندوق في غرفتها. فقد اصبحت لها غرفة خاصة نظرا لكثرة زوارها ممن يطلبون منها قضاء حاجة او شفاء مريض او كشف طالع.
على الرغم من كونها لم تبلغ الحلم بعد، فقد أصبحت اليد التي لا تخيب في تسهيل وضع النساء معسرات الولادة في قريتهم وما حولها، حتى ذاع صيتها شرقا وغربا وفي الشمال والجنوب.
ما من زواج يتم إلا بمباركتها فمن تقره يصبح نافذاً ومن لا تقره يصبح باطلا. كانت موضع أسرار فتيات القرية ورغباتهن.
أصبح (نيشان) العذرية للعرائس يودع عند (ضوية)، التي كانت تغدق عليهن الهدايا والعطايا وأنواعا مبهرة من الملابس والعطور، تقول انها من مقتنيات حور العين.
لم ترد طلبا لأحد، تمد يدها داخل الصندوق واضعة في كفه ما أراد دون قيد او شرط، وكأن الصندوق خزينة لا تنضب.
مرت سنوات تلو أخرى، بلغت ربيع الشباب فأذهلت شباب وشابات ارض الزعفران وما حولها بجمالها وكمالها وطيبتها وحكمتها وغزارة علمها، شباب المدينة لا يجرؤون حتى على التفكير في طلب يدها، فهذا الأمر حتى ابعد من الحلم، فمن يمتلك الجرأة والشرف والمكانة والرفعة ليكون مؤهلا للاقتران ب(ضوية) أم الكرامات، كما اخذ الناس يسمونها.
ذات ليلة ليلاء مرعدة مربده مزبدة، مطرها مدرارا ينهمر كماء القرب المسكوب، نادت ضوية والدها فرحان:
- أبي..أبي إني اسمع صهيل حصان في باب دارنا، واسمع واشم رائحة رجل في (المضيف)، أفلا تنهض يا والدي لترى من هو؟
- بنيتي هل أنت تحلمين؟ من يقدم علينا في هذا الليل المدلهم الممطر، ثم إني لا اسمع نباح الكلاب، فكيف يقترب من الدار غريب دون ان تحسه او تراه كلابنا اليقظة دوما ويحسب لها اللصوص ألف حساب!!؟؟
- أبتي انه قد يكون .... ثم سكتت، وأعادت الطلب من والدها لاستطلاع الأمر.
نهض (فرحان) من فراشه، وقد استل سيفه متأهبا للقتال، فقد يكون هناك لص يحاول سرقة الدار.
- من؟ ... من هذا؟ ... من أنت؟ لا تتحرك وإلا قطعت راسك.
الفصل الثالث -الغريــــب
مهلا مهلا يا فرحان، فانا صديق، ضيف، ضيف لديكم !!!
- انه يعرف اسمي. هكذا ردد فرحان مع نفسه، فادخل بعض الاطمئنان إلى نفسه، أعاد السيف الى غمده ورحب بالضيف
- أهلا بالضيف .. ضيف خير في يوم الخير إن شاء الله.
تناول الفانوس من يد (ضوية) ودخل الديوان، فرأى رجلا مهيبا يشع جبينه بنور عجيب وعلى متنه بردة مهيبة، جدائله معلقة في حزامه لطولها، والغريب ان الضيف لم يكن مبتلا، لا هو ولا فرسه، وكأنه كان يسير تحت الأرض وليس تحت وابل المطر الغزير وفي هذا البرد الزمهرير ولا يخوض في الطين والوحل المحيط بالدار !!!
أقبلت في كامل حشمتها، مرحبة بالضيف، وكأنها على معرفة به او من بعض أقاربها، وقد أسمته باسمه الشيخ (إدريس) !!
فنهض مرحبا بها
- أهلا ومرحبا بك يا ابنة العم (ضوية) العزيزة، والله لقد فاق حسنك وكمالك الوصف، أتمنى أنك قد استوعبتِ مضمون الرسالة ؟؟!!!
فأجابته وهي تلمح حيرة وذهول والدها لما يجري.
- لقد كنت في انتظار قدومك يا ابن العم، حتى ان طعام عشائك لم يبرد بعد، فاسترح لحين إحضاره، نورت دارنا بقدومك.
اشتبكت وتدافعت الأسئلة في رأس أبيها، وهو يحاول جاهدا ان لا يخرج زمام سيطرتها لتجري سيلا جارفا صوب الديوان، وهذا يخالف عادات وتقاليد الضيافة، أوثق كيس أسئلته منتظرا الوقت المناسب، وهو يحدق في وجه (إدريس) متأملا ملامحه وتقاسيم وجهه وهيبته وسلطانه لعله يتذكر هل هو معرفة سابقة او هل سبق له رؤيته، فلا يظهر له إلا شبح او خيال قد رآه في أحلامه.
- .... لا عليك يا عم، وكن مطمئنا مستريح البال، ستطلع على كل شيء، وتحصل على الإجابات الممكنة لأسئلتك واستفساراتك
بدى فرحان كمن اُمسك به متلبسا بجرم، ضيفه استطاع ان يقرأ ما في نفسه مما زاده حيرة وارتباكا، وقد خلصه من ورطته حضور طبق الطعام على يد (ضوية)، تناوله ووضعه أمام الضيف داعيا إياه لتناول عشائه، هذا العشاء الذي لا يعلم متى وكيف ولماذا أعدته ابنته، وهل يمكن ان تكون ضويه محل شك وعلاقة غير شرعية بهذا الضيف؟
مرت ثلاثة أيام على وجوده في مضيف فرحان، وكانت تدار القهوة يوميا، وتقام مأدبة الطعام على شرفه بحضور جمع من أهل (الزعفران) الذين احتاروا في أمر هذا الرجل، هل هو من الجن او من الإنس؟ هل هو من بني البشر أم من الملائكة؟ فقد كان غزير العلم والمعرفة، يكشف مكنون الصدور، ويسمي كل منهم باسمه ويسال عن أفراد عائلته فردا فردا، مطلع على ماضيهم وتفاصيل حاضر، ونسب كل منهم، كمن عاش معهم منذ مئات السنين.
عند صباح اليوم الرابع، وقبل ان يتناول فطوره، وقد جلس فرحان قبالته يشاركه فطوره من الخبز الحار والحليب والقيمر والشاي، نظر إلى أبي ضوية قائلا:
- يا عم، لقد مرت أيام الضيافة، وقد منحتموني محبتكم ورعايتكم وكرمكم وطيبتكم، يا عم أتمنى عليك ان لا تسألني عن موطني، فموطني ارض الله ألواسعة، ولا تسألني عن حسبي ونسبي فانا ابن ادم وحواء.
الفصل الرابع – الزفاف والازدهار
.. يا عم لقد قادتني إلى دارك فرسي وكأنها مأموره، أتيت لأطلب يد كريمتك التي عرفتها دون ان أراها، وعرفتني دون ان تراني او تعرف مكاني. فان وافقت أفطرت، وان رفضت فسأشد راحلتي وارحل واترك لك الأمر.
اطرق (فرحان) نحو الأرض حائرا، ماذا يقول؟ وبماذا يجيب؟ وهل يمكن ان يرفض طلب مثل هذا الرجل؟ استأذن من الضيف ودخل الدار مشاورا أم ضوية وضوية في الأمر، وماذا يجيب الرجل؟
فقالت ضوية:
- يا والدي، ان من مثلي خلق لمن مثله ومن مثله خلق لمثلي، صدّق، إني قد رايته ووعدت به قبل ان أراه، وعرفت اسمه واصله وموطنه دون ان اسأله، فتوكل على الله، هذا ما أقول، وأمرك مطاع فيما ترى!!!
- ماذا يسعني ان أقول، بعد كل ما سمعت ورأيت، غير ان أبارك لكما هذا الزواج الموعود، ولكن يجب ان أشاور الأهل والأقارب في الأمر.
ثم اقبل عليها وضمها لصدره، وقد تناثرت دموعه على وجنتيها الساحرتين.
عاد إلى الضيف، وأخبره بالأمر طالبا منه ان يسمع رأي أقاربه وأبناء عمومته، فلهم عليه حق المشورة، فوافقه (إدريس) على طلبه.
وما ان حل المساء، حتى أضرم النار في موقد المضيف، وسمع كل سكان ارض (الزعفران) صوت (الهاون) الرنان وهو يدعوهم ان هلموا لديوان فرحان، فان هناك أمراً هاماً وشخصا من الكرام قد حل ضيفا على القرية وأهلها.
تقاطر الرجال كبارا وصغارا، وتسللت النساء إلى بيت فرحان بذريعة بذل العون والمساعدة لضوية وأمها من اجل توفير الخدمة والطعام للرجال في المضيف.
امتلأ المضيف بعد ان اخذ كل منهم مكانه بما يناسب مقامه في (الديوان)، وقد علقت الفوانيس في سقف (المضيف) وفي مقدمته وانعكست أنوارها على صفحة مياه (نهر الخيزران) مشاركة نجوم السماء ترقبها للحدث الهام.
(تنحنح) أبو ضوية، في إشارة منه للإنصات والسكوت، ليقول كلمته، فران الصمت على الجميع وكلهم شوق ولهفة لسماع ما يقوله (فرحان).
- يا ابناء عمومتي، تعلمون كيف حل (إدريس) ضيفا على أرضكم من خلال ضيافته لدار أخيكم فرحان، والآن يعرض عليكم طلب يد ابنتكم وأخت أبنائكم (ضوية) زوجة له، فما ترون؟
سيطرت الحيرة على الجميع، وراح بعضهم يحدق في عيون بعض محملا بعلامات الاستفهام والاستغراب، فهيبة الرجل وغرابة أطواره وكراماته التي تشبه الأساطير أقفلت بوجوههم أسئلتهم التقليدية، مثل: من أي قبائل أنت؟ والى أي نسب تنتسب؟ وماذا يملك؟ ومن دله على بيت فرحان؟ ولماذا لم يجلب معه أعمامه وعزوته وو..و؟؟؟ وغيرها من الأسئلة المباشرة والمراوغة المغلفة بالتورية والقابلة للتأويل.
وللتخلص من هذه الورطة الكبيرة القوا بحملهم على كبيرهم الحاج(ريسان) ليتكلم عوضا عنهم.
وعلى الرغم من كون الحاج لم يفاجأ تماما بطلب أبناء القرية الذين غالبا ما يهرعون لاستشارته وطلب معونته حين وقوعهم في مأزق ما، ولكنه بدا مرتبكا هذه المرة، فكر بحل يرضي الأطراف جميعا فتوجه لإدريس قائلا:
- إننا لا نرى مانعا من تلبية طلبك، ولكننا نطالب ان تكون لك دارُ تؤويك وتؤوي عروسك، فهل أنت قادر على تلبية هذا الطلب؟
فأيد الجميع هذا الطلب والذي يبدو تعجيزيا وصعب التحقيق على رجل غريب مثل (إدريس)، فتهامس الحضور مشيدين بدهاء وحكمة وقدرة الحاج (ريسان) وطريقته الذكية في رفض الطلب!!
فما كان من (إدريس) إلا ان توجه إلى فرحان قائلا:
- يا عم، ان أعطيتني قطعة من الأرض المجاورة لداركم ومقابل ثمن أنت تحدده وليس أنا، فسيكون جميع أهل القرية ضيوفي يوم غد في داري والتي ستكون دار (ضوية) في المستقبل!!!
بلغ بالسامعين العجب أشده، إذ كيف يمكن ان تكون له دار غدا، وهو لا يملك حتى خربة في ارض الزعفران، وليس معه أحد يعينه على البناء، وليس لديه مواد عمل!!!
قال (سرحان):
- إما بالنسبة للأرض فهي هدية خالصة منى لك، اقتطع ما يكفيك منها.
- اذن على بركة الله. هذا ما قاله (ادريس).
فقال الحاج (ريسان):
- إذن ستكون كلمتنا في مضيفك الموعود غدا إن شاء الله، والآن نودعكم وتصبحون على خير.
وبعد ان انفض المجلس، امتطى إدريس فرسه متوجها إلى جهة مجهولة، قائلا: سيكون موعدنا صباحا.
ظل فرحان وزوجه يتداولون الأمر، اذ كيف سيلبي (إدريس) طلب أبناء عمومته، غدا صباحا انه لأمر عجب!!؟؟
كانت (ضوية) على ثقة كاملة بان الصباح سيسفر عن دار لإدريس ليس لها مثيل في ارض (الزعفران) ولا غيرها، مجيبة على حيرة وتساؤل والديها:
- نعم، إني واثقة من ذلك، وكأني أرى الدار أمام عيني الآن، يمكنني ان أصف لكم كافة تفاصيل بناءها: المضيف، وغرف النوم، والايوان، وباحة الدار، والحديقة الملحقة، وعدد وأنواع أشجارها، حيث ستشاهدون شجرة النخيل بجانب شجرة الجوز واللوز، وشجرة الموز بجانب شجيرة الحناء، وانواعا واشكالا والوانا لزهور وورود لم تخطر لكم ببال ... ونوعية الاثاث والأفرشة في كل غرفة من غرف الدار.
استمع والداها لكلامها غير مصدقين ما تقول، ولولا إنها (ضوية) المباركة لقالوا إنها مجنونة.
مع الخيط الأول لفجر اليوم التالي، بانت معالم الدار الموعودة وهي بأبهى مظهر وأجمل شكل، تحاذيها حديقة غناء مسكونة بأنواع الطيور، تنوء أغصان أشجارها بثمارها الغزيرة وبأنواع الزهور والرياحين، فبدت في منظر رائع يخطف الألباب ويسحر ويبهر ويسر الناظرين وكأنها روضة من رياض الجنة، كما يصفها لهم (الروزخون)*.
وما ان حل الصباح حتى سُمِعَ صوت هاون مضيف (إدريس) بصوته الرنان في كل أرجاء ارض الزعفران، وملأت الجو رائحة قهوة الصباح، فتقاطر الرجال استجابة لداعية (إدريس).
امتلأ المضيف الواسع المفروش بأبهى أنواع السجاد والبسط رائعة الجمال، المزركشة بألوانها الزاهية، ووسائد الحرير المطرزة بخيوط الذهب والفضة، بشيوخ القرية وشبابها وصبيانها، بهرهم منظر (دلال القهوة) ذات البريق الاخاذ والمنقوشة بأبهى الزخارف والصور، يشرف على اعدادها وادامة نارها -التي لا يرى لها دخان -رجل اسمر لم يتعرف سكان القرية عليه سابقا.
نهض (سعدان) بأمر (إدريس) حاملا فناجين القهوة الذهبية المرصعة بالياقوت وكأنها مصابيح تبدد ظلام يد ساقيها، أدار على الجميع فناجين القهوة المطعمة بالهيل، ثم دار عليهم بفناجين الزعفران، وإدريس يأمره بالمزيد وهو متكئ على مساند من حرير مرتديا حلة بالغة الأناقة والجمال، يفوح من مجلسه شذى طيب أخاذ مصحوبا ببهاء نور وجهه الوضاء كأنه البدر المنير، فاختلط على الجميع الانبهار والحيرة بالفرح والمرح، وكأنهم يعيشون في الفردوس الموعود، وقد أنعشهم نسيم عليل مشبع بشذى عطر مبهر مسكر يفتح الصدور ويزرع السرور.
بادر الحاج (ريسان) ونهض مباركا ل(إدريس)، فقد صدق وعده وأوفى بعهده، ثم تبعه كل رجال القرية، وكان إدريس يشكر لهم فضلهم وكرمهم وقبولهم له زوجا لابنتهم (ضوية).
خرجت من دار (إدريس) بعد سماع نبا المباركة ثلة من النساء المزغردات وهن يحملن صناديق مملوءة بالطيب والحلي والديباج والحرير والجواهر النفيسة من اللؤلؤ والمرجان كهدية من العريس إلى عروسه، بالإضافة إلى كسوة كاملة لكل سكان (الزعفران) من الرجال والنساء والأطفال، كل وفق مقاسه ووفق ذوقه!!!.
حينما فتحت الصناديق أمام ضوية وجمهرة من النساء أبهرت الناظرين، لم تشهد مثلها نساء الأولين ولا الآخرين في ارض الزعفران وما جاورها، كانت تفوق وصف العجائز لكنوز الملوك وحلي نساءهم وبناتهم في قصص الملوك والجان (في كان يا ما كان في سالف العصر والزمان).
هم الحاج (ريسان) بالخروج وتوديع (إدريس) بعد مباركته، هو وأهل (الزعفران)، فصده إدريس بلطف معلنا إنهم ضيوفه اليوم وكما وعد، مشيرا إلى عدد من قدور الطهي في باحة الدار والتي تفوح منها رائحة وأبخرة الأطعمة الشهية، يقف على اعداد الأكل رجال ونساء بمختلف الأشكال واللغات واللباس، ليختص كل منهم بأنواع معينة من الأكل والشراب.
جلس الحاج (ريسان) ومعه قومه تلبية لطلب (إدريس)، كان مذهولا مما رأى، وقد تزاحمت في رأسه مئات الأسئلة والاستفسارات التي لا يجد لها جواباً او تفسيراً لما يرى من عجائب وغرائب مذ حل هذا الإنسان الغريب ضيفا على بيت فرحان. غير متناسين طبعا ما شهدته من حوادث خارقة وغرائب مترافقة مع ولادة (ضوية) ولحين التاريخ. منها طفح (نهر الخيزران) الذي يشطر ارض الزعفران إلى شطرين، وضاقت ضفافه ب (بالدهلة الحميره)، وأعطت السنبلة الواحدة سبعة أضعافها، وناء النخيل بحمل عذوقه من أنواع التمور وقد أثمرت من كانت لا تثمر، ملأت النهر أطيب انواع الأسماك، وغص الهور بأنواع الطيور، توردت خدود الأطفال والنساء والعافية والقوة الرجال: فحملت العاقر، وشفي العليل، وعم البشر والسعادة والنماء كل الأرجاء وذاع صيت ارض الزعفران في كل مكان.
مدت (سفرة) الطعام وسط الديوان، وامتلأت بما لذ وطاب من الطعام والشراب، يفوق تصور وأحلام سكان أرض الزعفران، وضعت إمامهم كل أنواع أكلات العرب وأهل الصين والهند والسند والفرس والفرنجة.
عاشت ارض الزعفران كرنفالا للفرح حتى بلغت ذروتها يوم الزفاف. كان اهتمام ضوية منصبا على الصندوق، فأشرفت على نقله الى دار عريسها، وضعته في أحد أركان غرفتها مع مباركة واهتمام (إدريس) الذي لم يكن اقل اهتماما من (ضوية) بهذا الصندوق العجيب.
مساء يوم الزفاف زينت الدور بالزهور والرايات الملونة ، وغطت الحناء كل الأبواب ، وملأت رائحة البخور والمسك كل الإرجاء ، فبدت الأشجار والأطيار والأزهار فرحة مرحة راقصة ، عند الغروب امتلأ النهر بأعداد هائلة من الشموع الطافية على ألواح من الخشب وهي تتهادى وتتمايل مع رقصات أمواج النهر التي كانت تعانق مئات الزوارق المزدانة بالرايات الملونة ومجاميع النساء والرجال حملة الدفوف والطبول مرافقة أصوات والحان المطربات والمطربين الشجية وبكل اللغات وهي تحف بالعروس ، التي بدت كأنها ليست من بني الإنسان بل من الحور الحسان ، تبهر بجمالها الأبصار مرتدية بدلة العرس المزدانة باللؤلؤ والياقوت والمرجان .
الفصل الخامس –الاندثار
بمرور الأيام والأشهر، أصبحت ارض الزعفران محط أنظار واسفار القاصي والداني، انها موطن الحكمة والحب والخير والسعد والعمل، وقد أصبح (ديوان) إدريس ملتقى للحكماء وأهل العلم والأدب ومكانا لحسم المشاكل والخلافات بين الناس من مختلف الأمكنة والأجناس، لم يقصد الديوان أحدا إلا عاد ظافرا وطلبه مجابا ومكتسبا قوة في البصر والبصيرة.
أخذت تقصد ارض الزعفران مجاميع الدراويش والمتسولين والمتسولات والفتيات الفاتنات وكاشفات الفأل والساحرات من مشارق الأرض ومغاربها، ظهرت البيوت والحوانيت والمقاهي ذات الأبواب المثقلة بالإقفال، الذي لم يتعرف عليها سكان القرية من قبل، فسميت هذه القرية (بقرية الأقفال) !!!
أخذت ترد الديوان أخبار عن سرقات وخيانة أمانات وقصص غدر وهجر ونكث عهود وغش في البيع والشراء، فأخذوا يحررون العهود على ورق يكتب من قبل أناس في حارة الأقفال، اخذ التجهم وعلامات القلق تظهر على وجه (إدريس) وتزداد يوما بعد يوم بقدر تمكن العث من نخر جسد الصندوق. لاحظ أهل الزعفران باستغراب تغير طباع (إدريس) غير مدركين السبب !!!
بعد مرور سنوات، تفاجأ من استمر من أهل الزعفران على حضور ديوان (إدريس) ممن لم تجتذبه مغريات (قرية الأقفال)، خمود نيران موقد القهوة واختفاء رنين الفنجان الذي تشظي ذات يوم بيد الساقي (سعدان) دون سبب ظاهر، رافق تشظيه صرخة مدوية من قبل (إدريس)، وكأن الذي تشظي قلبه وليس الفنجان، ذهب للدار لجلب بديلا للفنجان المشظى، ولكنه ما ان يمسك بأحد الفناجين حتى يتحول في يده إلى هشيم حال إخراجه من الصندوق وملامسته الهواء، اصيبت (ضوية) بالهلع، مدركة ان هناك حدث خطير وشر مستطير قد حل بأرض الزعفران.
عاد إلى الديوان وهو في غاية الحزن والألم، فوجد الحضور قد أصابهم الخوف والفزع حينما شاهدوا انطفاء نار الموقد وانقلاب دلال القهوة متقيأة ما فيها بحركة مفاجئة متدحرجة أغطيتها وكأنها رؤوس طيور ذبيحة.
أصاب المجلس الوجوم، وظهرت على الوجوه غيوم الحيرة والخوف والترقب منتظرة من (إدريس) تفسير ما جرى وما سيحدث، فقد كان إدريس مكشوف الرأس، وقد بان رفيف شعيرات شواربه بشكل غريب مما يدل على حدث عظيم وخبر اليم !!!
(ضوية) أحست بقرب المصيبة من خلال مراقبتها لمجريات الأحداث، اخذت الأنهار تجف، والطيور تهاجر، وزهور الزعفران تذبل، والثمار تصاب بالعفن، والحيوانات تموت بالعشرات مصابة بأمراض غير معروفه. هالها أخيرا مشاهدتها العث وقد اخذ ينخر الصندوق من كل الجهات ويتسع يوما بعد يوم بسرعة مذهلة.
ذات ليلة، سمع السكان صوتا هائلا اهتزت له أركان ديار ارض الزعفران مبعثه دار (إدريس)، فهرعوا مذعورين صوب الدار، فلم يجدوا سوى كوم من نشارة خشب وعث ملأ الفضاء وهو يقطر دما في حين لم يعثروا على أثر ل(ضوية) او (إدريس) ولا أثر لدارهما او حديقتهم الغناء، كأن بيتهم وحديقتهم قد ابتلعتها الأرض او تلقفتها السماء !!!
*كاتب من العراق