للقاص تجربة متفردة مع عوالم بورخس وقصصه، وفي هذه القصة نستفيق مع "العجوز الكفيف بورخس" فمن هو بورخس؟ هل هو القاص الأرجنتيني؟ أم هو أحد ابطال قصص بورخس، أم هو الإنسان المجروح بسبب ما، والكفيف إزاء الوجود، لكنه يتلمس المعرفة في الكتاب!

كائناتُ بورخس المنسيّة

قـيـس عـمـر

 

يحدث أن يستفيق العجوز الكفيف بورخس كلَّ صباح بعد أن واصل السباحة طوال الليل في ظلام مركّب، الأول هو العمى الذي أصيب به وتوارثه عن أسلافه، والعمى الثاني هو الدخول إلى النوم والغرق في ظلام ثانٍ، فيكون متعباً ومنهكاً، ذلك أنّ ساعات النوم بالنسبة له تعني الغرق في بحر من الظلام، إنه يردد دائماً: إنّ أسوأ ما يحدث للإنسان، هو أن يموت في لغة لا يتقنها، والظلامُ بالنسبة لبورخس لغةٌ يعجز عن فهمها على الرغم من مهارته اللغوية في إتقان كثير من اللغات بوقت قياسيّ، في كلّ ليلة يأوي فيها إلى الفراش يستعدّ للسباحة الطويلة والمرهقة داخل النوم، وفي كل صباح يبدو رجلاً آخر، وبمجرد أن يفتح عينيه يكون قد عاد من عالم غريب لا يمكن إتقان لغته، وهذا كان كفيلاً بمنح العجوز بورخس أملاً جديداً في الحياة.

ينهض كما صبيّ يستقبل عيداً بعيداً منقطعاً عن العالم، كان الصباح بالنسبة إليه الدخول في حياة جديدة، وحلم جديد كأنه بعد معاناته الليلية اليومية يرجع مبصراً كما كان سابقاً، يتقن ممارسة كلّ شيء، يبدأ صباحه بتلمس رفوف الكتب، مارّاً عليها متفحّصاً إبصاره المجازيّ، ومتحدياً الذاكرة وتعب الغرق في ظلام الليل، يتلمس حواف الكتب وأماكنها، كان يكرر هذا الطقس كلّ صباح، وحين يصل إلى كتاب حياة النّمور يتوقّف طويلاً متحسّساً الكتاب ونتوءات الكلمات على الغلاف، يتحسّس صورة النمر ويتنهّد: آه لو كنت نمراً يجوب الغابات الحزينة، وتنبعث منه رائحة أحلام فرائسه الأخيرة قبل أن تتوارى في أحلامه. النمور بالنسبة إليه كائنات لا تنتمي إلى عالم الحيوان، إنّما كائنات تعيش خارج التصنيف المتعارف عليه، النمور كائنات تهبط ليلاً من حياة الأحلام إلى الأرض، تمارس ضرباً من الحياة العظيمة ثمّ ترجع صاعدةً نحو ليل الأحلام. كان العجوز بورخس في كلّ ليلة أثناء سباحته في الظلام يشاهد نموراً فتيّة تعبر صحبته أنهاراً من الظلام الحالك، وفي كلّ ليلة حين يصل منتصف الطريق وهو يسبح، تواجهه لحظة تعبٍ عميقة ومؤلمة، تجعله يترك جسده الواهن يواجه مصيره بالغرق، لكنْ يحدث أن يلتفت أحد النمور إليه ويحدّق فيه بعمق وعنف كبيرين، فينتبه إلى غرقه محاولاً الرجوع إلى السّباحة خارج لغة لا يفهمها، فهو لا يريد الموت داخل لغات لا يتقنها، ولا يفهمها، لم تكن النّمور بالنسبة لبورخس مجرّد اشارة أسطورية نازلة من ليل الأحلام، إنّما كائنات تمتلك حكمة العيش، متنقلة بخفّة كبيرة بين عالمين متعاكسين.

بعد أن يُنهي بورخس تلمُّسَ الكتب ينتهي إلى كتاب حياة النّمور، يستغرق وقتاً طويلاً في تلمُّس ذلك الكتاب، بعد ذلك ينتهي طقسُه الصباحيُّ، فيُرجِع الكتابَ إلى مكانه برقّة وخفةٍ تاركاً النّمور تواصل سباحتها في نومه.

في إحدى المرات التي خلد فيها بورخس إلى النوم وهو يستعدّ للسباحة كما في كلّ ليلة كي ينجو من الغرق في لغة لا يتقنها، وما إن غطس جسمُه مع أوّل نزول إلى بحر السّواد، وصار يسبح محاولاً تعويم نفسه كالعادة شعر أنّ هنالك شيئاً مختلفاً، فالنمور في كلّ ليلة كانت تصاحبه مع أوّل خطوة له في البحر، رفع رأسه باحثاً عنها فوجدها متأخّرة قليلاً عنه – تسبح خلفه من جهة اليمين – كانت تبذل جهداً ليس عادياً للحاق به، وما إن قطع مسافة قصيرة حتّى شعرَ أنّ يديه تخذلانه، وأنّ جسده صار يثقل. ويثقل، ويغطس رويداً... رويداً...، يحاول بورخس أن يكون طافياً على الماء لكن دون جدوى، ولأوّل مرة شعرَ أنّ النمور تحدّق فيه، وتكتفي بالسباحة غير مكترثة لغرقه، نزل أكثر.. وأكثر إلى قعر بحر الظلام حتّى خُيِّل إليه أنه سيواصل نزوله دون أن يكون هناك قعر يلمسه بأقدامه، ومع نزوله في العمق السّحيق أحسّ أنّه يدخل إلى النوم ويترك جسده ينعم بالنعاس والراحة العظيمة، شعرَ أنه يرى نفسه يدخل مياهَ النوم الحقيقية.

في الأعماق الغائرة في بحر السّواد شاهد قطعاناً من النّمور المرقّطة تجوب مياه الأحلام والنّوم، كانت النّمور تفتح له مخيّلتها ليدخل رحِمَ أحلامها البعيدة، شعر وهو نائم أنّه يدخل في مخيّلة أحد النّمور التي كانت تصاحبه في سباحته كلّ ليلة، كان يعرفه جيداً عن طريق الرّقوش التي تميّز فراءَ النّمور وعن طريق بريق عينيه أيضاً،  فقد كان هذا النّمر يمتلك بريقاً ساحراً في تحديقه إلى بورخس كلّ ليلة، يدخل بورخس إلى مخيلة النمر متخلّصاً من السباحة والسقوط المتواصل الذي شعر به وهو يغرق في بحر السّواد، شعر أنّ أقدامه تلمس اليابسة، لكنها يابسة مخيلة النّمر وليست يابسة أرضيّة صلبة، يابسة طرية ولزجة قليلاً، شاهد بشراً يجيئون ويذهبون، ونموراً نصفها الأعلى مرآةٌ، ونصفها الأسفل جسدُ نمر، وأسواقاً تبيع كائنات حلميّة وأخرى كابوسيّة لا يمكن رؤيتها إلّا في ليل الوجع العظيم: (القهيقران، ملائكة سويندنبرغ، البانشي، البهموت، ملتهم الظّلال)، كائنات بأشكال، ولغات غريبة، تنبعث منها أصوات لم تدخل حيّز اللغات والمعاجم. واصل بورخس تجواله في أصقاع المخيلة مقتفياً آثار النمور وحكايتها الغامضة، إنه يبلغ الآن الشّرفات الدّائرية لمخيلة النّمر، وما إن وصل إلى الشّرفة التي تتيح له  مشهداً كبيراً ومحيطاً، وما إن أطلّ من شرفة النّمر الدّائرية، لاحظ غباراً يتصاعد، وسمع خفق أقدام وأصوات ترتفع، شاهد الكائنات الكابوسيّة ترتفع وتلتحم مع بعضها مُشكّلةً حلقة دائرية تحيط بمملكة الإنسان والنّمر، ارتفعت الكائنات الكابوسية صانعةً طوقاً غير نهائيّ يحيط بالمملكة التي صار يتصاعد منها الدخان والأصوات الحادّة، كان الإنسان يهرول تجاه النّهر تتبعه النّمور بأنصاف المرايا مهرولةً خلفه، حدث أن تعالت الأصوات، وتداخلت، وبورخس يطلّ من شرفة النّمر الدّائرية، غيّر بورخس مكانه أكثر من مرّة ولم يفهم ما الذي يحدث عند النهر الوحيد، ولكنه كان واثقاً أنه شاهد الإنسان والنمور بأنصافها المرآتيّة تدخل النهر أسراباً... أسراباً وتختفي جميعاً، وبعد مدة ليست طويلة ولا قصيرة، بحسب مخيلة النمر، خرجت أسرابُ الإنسان من النهر وهي تحمل طفلاً تعرّض للكثير من النّهش، كان الإنسان يخرج من النّهر ويطلق كلمات تشقّ صدر الفضاء، بينما النمور في الخلف تسير حزينة ومنكسرة وهي تنوء بمرايا أجسادها، تابعت الحشودُ السّيرَ حتى بلغت أسفل الشّرفة التي يقف فيها بورخس، ثم انقسمت إلى قسمين عظيمين: الإنسان في جانب، والنّمور في جانب آخر، وسُمِع صوتٌ أجشّ حزينٌ ومنكسرٌ كأنه صوت جيوش من الغرقى تتحشرج تحت الماء، يقول: لقد خانتنا النمورُ والتهمتْ طفلاً إنسياً صغيراً أسفل مياه الأحلام، سيكون على الإنسان أن يعيش على اليابسة فقط بعد اليوم، متخلّياً عن السباحة في أرواح الأنهار وكائناتها، سيكون عليه اليوم أن يكون مملكة لوحده، وأن يعيش جماعات لوحده، وعلى النّمور أن تعيش في عالمين منفصلين في المياه واليابسة، لها أن تعيش بعيداً عن مملكة البشر خائفة متوجّسة من أن يطلب الانسانُ ثأره منها، وعليها أن تتخلّى عن المرايا وتتركها للانسان يبصر فيها نفسه، ستكون الأحلام والكوابيس، وسيكون الخوف العظيم في مرآة الإنسان ملازماً له إلى الأبد، ستعكس مرايا الإنسان حشرجات قادمة من أعماق المياه، وفي كلّ مرة سيشاهد الإنسان كابوساً، ستخرج الكائنات الوهميّة المخيفة من المرايا وتستقرّ على بطنه، غاب الصوت وانقطع ومعه تحطّمت المرايا التي تشكّل أنصاف أجساد النمور، وتفرقت النمور بعيداً عن مملكة الإنسان لتعيش في عالمين معاً بينما تُركت اليابسة للإنسان، ستدخل النمور إلى الغابات البعيدة البكر مواصلةً حياتها هناك، وكلّما شعرت بالخوف من أن يطلب الانسان ثأره منها؛ سيكون عليها النزول إلى البحار والأنهار مختفية عن العيون الكفيفة والمجهدة للإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص من العراق، صدرت له: (جذامير) مجموعة قصصية، فازت بالجائزة الثالثة في مسابقة الشارقة للإبداع العربي، الدورة 21.

(لا ظلال لنمور بورخس) مجموعة قصصية فازت بالجائزة الثالثة بجائزة الطيب صالح، الدورة 11.