لوحة نعبيرية عن الوحدة والفراغ، الذى يعانيهما الإنسان فى الكبر، ولم يعد له غير الذكريات، والعيش فى الأوهام. لم يتدخل الكاتب ليقنع القارئ، بل ترك الحالة تعرض يوما من حياتها، المحملة بالذكريات، والكوابيس ، والموت. حيث تتبدى الشاعرية فى إخراج الباطن، والبوح الشفاف.

رسائل متفق عليها

محمد حسني عليوة

 

- 1980

الإسكندرية.

إلى صديقي الرائد نصيف.

وأنا أحاول كتابة هذه الرسالة إليك، كانت ليلة أمس قاسية جداً، اجتاحتني فيها الكوابيس بشكل بشع.

في الصباح حدث الشيء المزعج الذي توقعته، اليوم فحسب. أردت أن أتوقف عن روتين عهدي معك؛ ليس لمؤشر صحتي الهابط، أو التزاماً بعدم بذل مجهود مضاعف في الفترة الحالية، إنما صدرت أوامر صارمة، خلال زيارة الطبيب الأخيرة والذي استمر في الكشف عليّ لفترة طويلة، بالتوقف فوراً عن مزاولة أفعالي الصبيانية.

"منذ جلستُ بصحبة الجدران ونصائح الأطباء تجهض أي مشروع أفكر فيه"

الإدارة هنا سمحت لي بالاحتفاظ بألبوم صوري الخاص، دفاتر تدوين صغيرة خاصة بك، دونت فيها الكثير من أشعارك الرائعة، رسمتَ فيها خططك وأحلامك، فبعد نهاية الحرب ستتزوج من "ماري" الفتاة الجميلة التي كانت تراسلك عبر صديق مشترك لنا يعمل مراسلاً. (على فكرة لا زلت أحتفظ بصورتها التي أخذتها من جيب بنطالك وأنت تلفظ أنفاسك الأخيرة) وتبث أشواقها لك في رسائل غرامية ملتهبة، رغم تحفّظ أهلها في معاملتها لك بهذا الشكل "المتحرر"! لأن والدها –كما أشرتَ لي- يعمل في خدمة الكنيسة، ويفضل أن تكون العلاقة أمام الرب تتسم بالنقاء، فمن ناحيته ليس لديه مانع في قبولك زوجاً لها، لكن ريثما تنتهي الحرب وتقف البلاد على قدميها مجدداً، وتتاح لك فرصة النزول ليتم زواجكما. وأنت لم يكن لديك ثقة في أي شيء يتعلق بزوال قوائم الجثث المدرجة في كل مكان تهبط به قذيفة أو تتحرك فوقه مجنزرة، أنت تكره رائحة الدم، تكره الموت، تكره مسميات لا تدخل قاموسك. وأنا كنتُ أحب فيك ذلك. يذهلني تمردك، مراهقتك المرعبة، ولم يفصلني عنك سوى تلك الشظية اللئيمة التي اقتحمت صدرك المشحون بعبثية البشرية وفوضاها العارمة.

منذ دخولي دار المسنين، والناس هنا، يا صديقي، ملتزمون على قدر كبير بالعناية بي، متسامحون، بكثير من الحرص، في أن يتركوني أقطع عدة أمتار تفصل سور الدار عن الشاطئ الرملي المتاخم للبحر، أمتار قليلة هي كل معرفتي بالعالم الخارجي.. أترك خلفي غرفتي الخاصة –لا أنصحك فيما لو زرتني أن تجلس بها لفترة طويلة، طلاء جدرانها ليس به رؤية جمالية؛ فالطيور مرسومة بغرابة؛ الشجرتان النادرتان في طبيعة المكان جفافهما يفسر لمَ نفقتْ الطيور حولهما- لذا أرن الجرس الخاص بالمرافق أكثر من مرة وأطلبه ليساعدني في النزوح بعيداً عن هذا الطقس.

كم هي الدنيا غريبة يا صديقي، لم يُكتب لنا أن نعيش معا لفترة أطول! ربما تتساءل كيف أتعايش في كوكب البؤس وحدي؟ وأخاف بشدة أن أترك كل شيء يخصني إلى "لا أحد".

وكما تعلم ليس لدي عائلة، أخي الأصغر مات من 20 عاماً، أختي تزوجتْ وسافرت مع زوجها إلى العراق. ولا أخفي عليك أنني لا أجيد شيئاً غير كتابة الرسائل إليك.

أحيانا تخونني بعض الكلمات، لكني أحاول أن أكون نافعاً فيما تبقى لي من العمر. أكرر اسمك في الورقة على الوجهين عشرات المرات، مئات، بل آلاف المرات -تفهّم معضلة رجل لم يكن شاعراً ثورياً مثلك- وأطويها طيتين متساويتين بالطول أو بالعرض، أربع طيات إن أمكن، أجرب قسوتي على الورقة فأحاول طيّها لمربعات صغيرة، ترتعش يدي، تهتز بعنف! يترك انفعالي نظرة أسى على وجه مرافقي الشاب، شاب في مثل ما كنتَ عليه أيام الحرب.. أخبرني أنه لم يدخل الجندية لعائق تفصيلي يتكتم عليه، لكنني أخبرته عن جنديتك الرائعة، أخبرته عن قصة إنقاذك لي من الغرق في بداية التحاقي بالبحرية، وطبيعة التمرينات الشاقة التي لم أحبها في بداية الأمر.. أنت أول من مدّ يده إليّ والتقط روحي من الجحيم.

من بعدها عرفت أشياء ممتعة في حب الرجال للرجال، أشياء رائعة لم أجدها في طفولتي مع أخي الذي سبقني بالوفاة ولا أختي التي تكبرني بخمس سنوات، لا يمكن تسويقها في متاجر البقالة أو تمريرها في صفحات الكتب.

النهار مشمس هذا الصباح، البحر مستكين في وداعة، والشاب يتكفل بي حين لا أقف بمفردي على عكازي، أو أرتمي فجأة على المقعد الذي يحضره لي معه. أنا أرى فيه ملامحك الشهوانية للحياة، النزِقة للطبيعة، للحب، للخير، وللجمال.. أشار إليّ أن أخبرك بامتنانه لك عن صداقتك لي وعدم انقطاعك عن مراسلتي طيلة هذه الفترة، لكن يسألك لماذا لم تأت يوماً لزيارتي في الدار؟

لعلمك يا صديقي، كان هناك مرافق لي قبل هذا الشاب توفى منذ 7 أيام، وكان يحفظ سرّي الصغير، فكان يجلب لي الزجاجات الفارغة من مطبخ الدار، ويساعدني في وضع الرسالة بداخل واحدة منها، ثم يُحكم عليها سدادة الفِّل، ويمضي بها في المياه إلى مسافة تغطي نصفه السفلي ويريني أنه يرسلها عبر الأمواج.

بعدها بأربعة أيام يحضر لي الزجاجة التي تحمل رسالتك، محملة بعبق اليود وزفارة الأسماك ونزق الأميال وعطش الحياة وطموح الأمل. رسالتك الأكثر بهجة لي في هذه الحياة، والتي يقرؤها عليّ كما لو يستحضر روحك أمامي، يشكلّ تفاصيلك كلها، أصدق أنك من أرسلها، وأنت أيضاً من يقرأها!

دعني أخبرك بالأمر المزعج وأريدك أن تتفهم لماذا أعيد عليك سؤال المرافق الشاب في هذه الرسالة، لكن بصيغة أخرى، فقد صرت منزعجاً جداً؛ لأنه لم تصلني رسالتك في موعدها المعتاد!