(1) رَوحيّة

في زمنٍ بعيد، ناءٍ وغائم..

كنتُ لم أُحرَم ثدي أمي سوى من أربع سنوات فحسب، وكان طعم الصبّار المر، الذي وضعته على حلمتيّها لفطامي، لم يزل طازجًا في فمي، كان لا يزال عالقًا بطرف شفتيّ حين ترك أبي باب دكانه مفتوحًا على مصراعيه، وذهب لمدرسة طولون الابتدائية الجديدة، بجوار سور الجامع، من طلعة الدحضيرة.

 راح الأسطى فرج مسرعًا للهدف الجلل كما هو، ببنطلونه الكاكي القديم والصديري البلدي، المبقع بالغراء الناشف، فوق القميص الكاروهات المُشمَّر حتى الكوعين، هرّول نحو المدرسة والقلم الكوبيا على أذنه اليمنى، والدوسيه الورقي تحت إبطه، اجتاز باب المدرسة الحديدي، ودخل للإدارة مباشرة، وقدَّم للأستاذ نصر، سكرتير المدرسة، الأوراق المطلوبة كاملة: ملف به شهادة ميلادي، وست صور، أربعة في ستة، وخمسة طوابع معونة الشتاء بخمسين قرشًا، وعاد للبيت في الظهيرة، على غير العادة، مبسوطًا، ومزهوًا بما فعل.

 سخرتْ أمي: "فتحت عكا يا خيّ".

 صُدِم أبي فيها، انقلب وجهه المبتهج، وتغيرت سحنته، وكشَّر في وجهها المبتسم ابتسامة خفيفة، لا تكاد تُرى، حين عبرها ليجلس. قعد في موقعه المفضل، وسط الكنبة البلدية، وأراح ظهره للمسند القطني الطويل خلفه، وفرد يديه على المسنديْن الآخرين، رفع رأسه وعينيه السوداوين الضيقتين لسقف الحجرة الخشبي، وراح يحدق هناك، كان يتأمل، ويحدق في السقف كأنه يرى أشخاصًا، وزمنًا آتٍ، ورسومًا على السقف، لا نراها، فألجمتْ أمي لسانها، وعبستْ واجمة.

 سقط صمت طويل علينا، وفي الهواء، وعلى بلاط الغرفة.

 كنا واقفيْن بين يديه خاشعيْن، نتبادل أنا وأمي نظرات قلقة، ومضطربة.

 أمي يداها معقودتان على بطنها المكوَّر، الذي خرجتُ منه منذ سنوات قليلة، وعابسة، وأنا بحذاء قدمها واقف في أدب مصطنع، وترقب شغوف، يداي معقودتان على بطني كأمي، ووجهي في بلاط الحجرة.

 ببطءٍ وهدوء، عاد أبي من عليائه، وهبط من تأملاته، وتحديقه في السقف، وأخرج علبة السجائر ومشط الكبريت من جيب الصديري، وأشعل سيجارة كيلوباترا، وجذب أنفاسها باستمتاع ورضا، شاردًا كأنه لا يرانا أمامه.

 بعد سكون، وصمت أثقل، وتململ من أمي ومني، نقّل نظراته بيننا، فخفضنا أبصارنا؛ خشية نظرته الثابتة في عيوننا. نظرة تعرينا وتكشف ما بنا وفينا. نفث عمود دخان طويل من بين شفتيه الغليظتين تحت شاربه الأسود الكثيف، وأخيرًا صرح، بسُلطة ولهجة رئيس حيّ الخليفة، بأنه للذهاب للمدرسة لا بد من مريلة وشنطة: مريلة بنيّة من تِيل "نادية" اللميع، وبحزام من القماش يُلف حول الخصر ويُرْبَط، أما الحقيبة فتجاهل وصفها .

 الفرح جعلني أنط وأتقافز مكاني، وأنسى نفسي وأبي وأمي، وأصفق بكل قوة كفيّ، وأصيح "هيه..هيه". كنتُ مبسوطًا جدًا لأنني سأرتدي زيّا رسميًا خاصًا بتلاميذ المدرسة الابتدائية، سأصبح تلميذًا كحلمي، وعبد الظاهر، ولطفي. سأصير كالأولاد الكبار الذين يعيرونني ويقولون "عيّل صغير" ويبعدونني عنهم "امشي العب بعيد" عندما يلعبون "الأولى" أو "تريك تراك" أو كرة القدم في ميدان طولون. كثيرًا ما يصيح في وجهي الولد عبد الظاهر، ابن فوزي البقال، الأكبر مني بعامين، والذي يشبهني كأننا توأمان، ويقلب شفتيه الممصوصتين، ويزعق فيّ باحتقار " لسه بدري عليك يا لَه" فأطأطئ رأسي، وأمشي مبتعدًا عنهم، لأقصى ما توصلني إليه قدماي، كنت أشعر بالخوف وبالوحدة، وبالحنق عليهم جميعًا، فأجر رجلي وأمشي وأنا أحاول كظم غيظي وغضبي على الجميع، وبالذات على البنت سلوى بنت عبده القمَّاش، التي تسكت، ولا تدافع عني.

الفرح جعلني أتنطط، كقرد، في مكاني، وأصفق بيديّ "هيه..هيه".

 لم ينهرني أبي، نظر إليّ بلطف وسماحة، ولمحتُ انفراج شفتيه، وطيف ابتسامة سعيدة ترتسم على وجهه الأبيض، وأنا أتقافز أمامه، وأصفق متماديًا، غير مبالٍ بأن يغضب ويشخط فيّ، وأمي اقتربت منه، مالت عليه، ووضعت يدها على كتفه، وانفرجت أساريرها مبتسمة، وقالت له "أحضر الغدا يا أبو سيد؟" فهز رأسه موافقًا، وعاد لشروده، وللتحديق في السقف باسمًا.

 ونزلت أنا للشارع بجلبابي الأزرق المخطط وبوت أبيض بلاستيك في قدمي، يسبقني حصاني الخشبي. حصاني خشبة طويلة منحنية على شكل قوس، ولها رأس فرس ضاحكة بعينين واسعتين وأذنين كبيرتين، وشعر أسود ناعم، عملها لي أبي في الورشة، ودهنها الأسطى طارق "أُسْطُر" على لونها الطبيعي، فرسي بُنيّة وجميلة تبرق بلمعان، وناعمة تحتي. حصاني القوي بين رجليّ يجري بي على تراب الشارع، وأنا فوقه ماسك فيه بيديّ الاثنتين، وأحاول الصهيل مثله، أقلد الصوت الذي يخرج منه، والذي أسمعه عاليًا في أذنيّ فأزيد سرعتي وأصهل عاليًا بسعادة. فوق حصاني الخشبي جريت شارعنا بطوله وعرضه، ولففت ودرت، وتوقفت أمام كل بيت فيه، تكلمت مع صبيان وبنات، مع عيال يسيرون، يلعبون، يتشاجرون، واقفين على عتبات البيوت، وماشين في حالهم، ومتحركين كعفاريت سريعة الجري، وأجبت على أسئلة أمهات وجدات: "هاه.. فيه إيه يا واد يا سيد يا ابن بطة؟"

 تكلمت مبسوطًا ومختالاً مع الجميع، وزففت إليهم النبأ السعيد، قلت لهم، وأنا راكب على حصاني، لأفرحهم، وأبهجهم، وألاعبهم، ولأغيظ العيال الوِحْشِين مثل عبد الظاهر وسلوى.

 قلتُ لهم فانطلقت من نساء زغاريد طويلة، كزغاريد الأفراح في شارعنا، ورأيت وجوهًا فرحة، وأخرى تمصمص الشفاه، ومغتاظة.

 صرتُ كبيرًا جدًا، على الرغم من إنني لم أكن طويلاً بما يكفي. سأمشي وحدي في الحارات والشوارع لأذهب للمدرسة، وسيكون لديّ أقلام رصاص، وأقلام جاف زرقاء، وكراسات، وكتب مدرسية، بدلاً من اللوح الأسود، وقلم الغاب والمحبرة، وسألعب مع العيال الكبار في الميدان قدام الجامع، وبعيدًا عن دكان أبي؛ بفضل امتياز التلميذ الذي كبر، ولم يعد يذهب لكُتَّاب الشيخ "أبوعريفة" بعد أن قضى فيه عامين، وحفظ خمسة أجزاء كاملة من القرآن عن ظهر قلب. حفظها ورددها مئات المرات ولم يفهم منها سوى أن "الله واحد، كبير، يسكن السماء" لكنه كان يحب الأصوات، والنغم في التلاوة، وتمايل الشيخ أبي عريفة حين يتلو، فكان الطفل يقلده، يتمايل ويهتز، وهو يقرأ الآيات، ويرددها بانبساط ورهبة، ومحبة لكلام السماء.

 اشترت أمي ثلاثة أمتار من تِيل نادية لخياطة مريلتين وبنطلونين، من دكان "أبوجبة" للأقمشة والمفروشات، بشارع الصليبة. كان عبده القمّاش "حِنَيّن" في السعر كما قالت أمي، وسألني عن أبي، وهو يضحك ضحكة رنانة بلا مناسبة، ربت على ظهري، وقال لي "سلم لي عليه" فرفعت وجهي إليه، وقلدتُ ضحكته الحلقية، وقهقهت وقلتُ له "أبويه كويس يا عم عبده، وبيقولك خلي بالك مني!" فخبط كفيه ببعضهما متعجبًا، وقال لأمي:

- "واد لِمض زي أبوه، ربنا يَخلِي".

ثم ابتسم، وقال لي:

- "ابقى تعالى العب مع سلوى".

قلت له: "مش جاي .. ومش لاعب معاها تاني أبدًا".

 ذهبنا، أنا وأمي، في طريق عودتنا لجارتنا روحية الخيّاطة لتأخذ مقاساتي، وتخيط المريلتين. يدي في يد أمي، يدها طويلة وغليظة الأصابع، وناشفة. وقبضة أمي على كفي قوية، ومؤلمة قليلاً.

 في كل طريق نمشي فيه معًا تثرثر فوق أذني بما أعرف، وبما لا أعرف، وبما لا أفهم، تكلمني كأنني واحدة من صاحباتها. أمي تحب أن تحكي للآخرين، وبالتفصيل المُسلِي، كل ما جرى ويجري!

 في الطريق إلى روحية مالت عليّ برقبتها القصيرة، ووجهها الأسمر الوردي، وفتحت شفتيها الحمراوين، وفاض نهر كلامها اللذيذ في أذني.

قالت أمي..

 خالتكَ روحية مقطوعة من شجرة، تسكن وحدها في غرفة واسعة بالدور الثاني من بيت عليمي الفكهاني، قبل بيتنا بأربعة بيوت، وغرفتها سكن ومحل. روحية بيضاء، طويلة، تكبرني كثيرًا، تجاوزتْ الأربعين دون زواج، ورغم ذلك تلمع بشرة يديها وذراعيها كمرآة، وتبرق رقبتها الطويلة كرقبة زرافة حديقة الحيوانات، ويكاد نهداها الكبيران يندلقان من فتحة صدر جلابيتها. جلابية، نصف كم، ساتان صفراء، فاقعة، بأشجار خضراء، وورود حمراء.

"مَرَه حلوة، ومعجبانية".

 وأمي تتعجب من أن روحية تلبس دائمًا "ع الموضة" في البيت، وفي الشارع، وحتى في يوم خروجها الأسبوعي الوحيد، لزيارة مقام السيدة سكينة، بشارع الخليفة. كل جمعة، تخرج عندما يصل لشارعنا، عبر الميكروفون، صوت الشيخ عبد النبي يتلو قرآن الجمعة في جامع السيدة سكينة، فيتداخل مع تلاوة الشيخ أبي عريفة لسورة "الكهف" في جامع طولون.

 سيدنا يتلو آيات الله، متربعًا على دكة فخمة من الأرابيسك والصدف، ومزهوًا بعلوه على المصلين، وجلوسهم تحته، رغم أنه لا يراهم، ولا يبصر شيئًا. أصوات الناس حوله ومدحهم له يزيده غرورًا وتعاليًا، ويزيد قسوته معنا حين نأتيه من العصر للمغرب، ونتحلق حوله في دائرة وهو جالس على نفس الدكة المرتفعة، ليحفظنا القرآن.

 كان يحفظني، ويُسمّع لي مقابل قروش يأخذها من أمي عصر كل خميس.

 "الحمد لله، كبرت خلاص وهروح المدرسة، وهبطل الشيخ أبوعريفة".

 لمّا أسرح منها تردني أمي إليها بخبطة على كتفي، وتواصل كلامها الذي لم ينقطع، في طريقنا لبيت روحية..

 خالتكَ روحية تظهر في الحارات والشوارع، وفي ميدان طولون نفسه، بفستان أبيض"مِكَسّم" من صنع يديها، يلمع بالخرز الفضي والذهبي، وعلى رأسها طرحة بيضاء طرزتْ عليها أوراق شجر خضراء وعصافير ملوّنة صغيرة، تفيض منها جدائل شعرها الطويل، وفي قدميها حذاء أحمر بكعب عال. منظر روحية في شوارع طولون "فضايح" يا سيد، لكنها فضائح ضرورية، روحية نفسها إعلان متحرك عن مهارتها الفريدة في حرفتها.

 بلفظ أمي: "روحية باترون على مانيكان".

 صباح كل جمعة تخرج خالتك روحيّة من بيتها رافعة ذيل فستانها الأبيض بيدها اليمنى، ويسراها على غطاء الحلة الكبيرة، المستقرة فوق رأسها. حلة ألومونيوم ضخمة، ثقيلة، ملآنة لحافتها بالفول النابت ومائه البني، وحلقات البصل الصغيرة. على باب المقام تنزل حلتها بمساعدة شعبان المجذوب، وتجلس على العتبة خلفها، وتبدأ إعداد ما ستوزّعه على الناس مع ابتساماتها، بعناية تضع روحية الفول في شقق الأرغفة الساخنة، التي أتي بها شعبان من فرن السُني، وتصب ماء الفول والبصل في كيزان صفيح، وحولها الناس منتظرين يدها التي ستمتد بالرغيف الساخن. في دقائق قليلة تكون روحية قد وزّعت جميع ما معها على حبايب ستنا سكينة، وتركت حلتها لشعبان.

 شعبان، خادم السيدة سكينة، له وجه مدوّر صبوح، يفيض برونق الشباب ونضارته، وعينان واسعتان سوداوان، وشعره طويل، أسود وناعم تحت طاقيته البيضاء، ودائمًا لا يأكل إلا بعد انتهاء الآخرين وشبعهم، وبعد أن يبوسوا أيديهم وجهًا وظهرًا، ويهمسون "الحمد لله".

 يأكل شعبان الفتات الذي بقى في حلة الفول بهدوء ورضا، وبنظرات شكر، وامتنان. آخر الآكلين، يقوم من قعدته إلى جوار روحية، ويمسح يديه في منديل أبيض نظيف يخرجه من جيب جلبابه الأخضر، ويعدل طاقتيه البيضاء، المطرزة بخيوط ذهبية، صُنع يدي روحية، على رأسه الكبير، ويضبط جسده في اتجاه القبلة، اتجاه المقام، ويرفع ذراعيه، مفتوحتي الكفين، عاليًا، ويدعو لروحية بالدعوات المخلصة، المعتادة كل جمعة.

بصوت رقيق رقة جسده النحيل يدعو شعبان.

"ربنا يوسّع رزقك، ويهبك الرجل التمام، وبركة ستنا سكينة".

 ثم يتركها، ويمضي وحيدًا نحو المقابر، بعد أن أثلج صدرها بالدعاء المقبول، إن شاء الله، وهو يتمتم "مسكينة مسكينة.. مسكينة".

 وروحية تقوم من مكانها مبتهجة، تنفض مقعدتها، وتسند الحلة الخاوية إلي جدار الجامع في الخارج، تخلع حذاءها، تنفضه وتضعه تحت إبطها، وتخطو العتبة وتدخل المقام المبروك. تسلم على السيدة سكينة التي في الثرى، أسفل هذا المكعب الأخضر القطيفة زاهي الألوان، الذي له رأس خضراء ملفوفة بالحرير الأحمر. ستنا التي تنظرنا بعين الرحمة من خلف هذا المقام الحديدي المشغول، الحديد الذي سكب فوقه أهل طولون، وغيرهم، دموعهم الغزيرة، وأودعوه أشواقهم، والأسرار.

 هذا مقام الحبيبة، حيث ترقد ستنا سكينة يا سيد.

 في المقام تقف روحية بخشوع، صامتة، يدها اليمنى فوق اليسرى، على منتصف صدرها، تقف ساكنة هكذا لوقت طويل، حين تتعب تركع على ركبتيها وتسند يديها على حديد المقام وتستمر في تعليق نظرها بالمكعب الأخضر، حين تتعب أكثر تجلس متربعة على السجادة العجمية الخضراء بحذاء المقام، راكنة ظهرها على الحديد، مغمضة العينين. يحسبها من ينظر إليها وجهًا صامتًا وشفتين مقفولتين فحسب، وهي بروحها تتكلم، تناجي السيدة سكينة، الرحيمة بالنساء. خاشعة، راجية العفو والمغفرة، تدعو روحية الله بما لا يعرفه أحد، لا أمي ولا غيرها. آخر المناجاة الطويلة الصامتة، تنزل من عيني روحية دموع غزيرة، تصفي روحها كما تقول أمي، وتخرج كمن اغتسل، وأحرم، وحج، تخرج من المقام بعد صلاة العشاء بوجه مطمئن مشرق، وتمشي في شارع الخليفة كأنها امرأة أخرى، ألطف كثيرًا مما كانت، امرأة فرحة تلقي السلامات والتحيات على كل من تلقي من حريم، ورجال الحيّ.

 تعود روحية لبيتها الذي تركته طيلة اليوم، متوردة الوجه، مبتهجة، تتأرجح الحلة فارغة في يدها اليمنى، متوافقة مع مشيتها الخفيفة، وفستانها الأبيض.

 أما نهار الليلة الكبيرة لمولد السيدة سكينة فستكون روحية مشغولة منذ الفجر، وموجودة أمام المقام، خارجه، أمامها خمسة، ستة، بوابير جاز نحاسية عملاقة، مشتعلة تحت حلل ألمونيوم ضخمة. مع روحية امرأتان: بطة أمي وزبيدة بنت أم شفيق. روحية تتلقى ما يجود به المحسنون من لحم وفلوس، وتطبخ مع أمي وزبيدة وتشرف على التوزيع وعلى كل شيء طيلة اليوم والليلة. هذا الثلاثي المرح، أمام المقام، سيمد ست أيادٍ لمن سأل، ولمن لم يسأل، وسيعطي اللحم والأرز والمرق لمن يمد إليهن اليد.

 تطبخ روحية في ذلك اليوم ما يكفي ألف زائر ومريد للسيدة سكينة، تُحْيي بأرزها ولحمها ومرقها اليوم والليلة الكبيرة، فتجعله عيدًا للناس في طولون والخليفة والصليبة، وعيدًا لأهل الله وأهل الخدمة والغلابة والمساكين. وفي بقية العام، وفي كل الأحوال، ستأتي روحية بالطعام كل جمعة، وسيأكله الناس، وإن كان فولاً نابتًا وبصلاً.

 وروحية، أيضًا، هي أشيك امرأة رأيتها في طفولتي، وصباي.

 تنفرج أسارير أمي، وتنصح، بلا تفكير، أم العروس التي تجهز لابنتها:

"روحي لأبلة روحية يا أم العروسة.. روحية الخيّاطة أشطر خياطة في طولون، والخليفة، والسيدة، والله يا آختي".

 حين فتحت لنا بابها، لم تكن تعصب شعرها بأَشَارب ملوّن، كأمي. شعرها حر طويل مفروق من النصف، لامع بالفازلين، والخصلات التي تحيط بوجهها، وتنساب فوق كتفيها وحتى صدرها، رمادية وبيضاء. كان لها وجه رائق صبوح بلا كحل، أو أحمر خدود، وجهها المدوّر، كطبق صيني، أثار أناملي كي ألمسه وأتحسسه، لكن ابتسامتها الحزينة أرهبتني قليلًا حين انحنتْ نحوي.

 - "اسم الله عليك يا حبيبي.."

 لم أقل شيئًا، أخجلتني قبلاتها الطويلة، ذات الصوت، على خدي.

 كان لروحية رائحة قماش التيل، والدمور والبفتة، حين مالت عليّ. وهي تقبل خدي الآخر مددتُ يدي اليمنى، وعبثتُ بالمتر البلاستيك الأبيض، الذي يتدلى من رقبتها على صدرها، فمست أصابعي مفرق ثدييها الناعم، ضحكتْ وقرصت أذني اليمنى برقة.."أي أي" توجعت.

 تركتني، واحتضنت أمي "أزيك يا بت يا بطة" وتبادلتا قبلات طويلة على الخدين، لها صوت.

 معظم ما في غرفة روحية أبيض ونظيف، ولامع: الحيطان، السقف الخشبي العالي، الحبال والأثاث. الدولاب مدهون لاكيه أبيض، بثلاثة ضلف، الضلفة الوسطى مرآة بطول الدولاب، والسرير الإيديال الصغير مفروش فوقه ملاءات بيضاء بزهور حمراء، والحصيرة المفروشة فوق البلاط بلاستيك أبيض، بخطوط سوداء وعلى الحائط لوحة تقويم السنة: "الله جلّ جلاله" بالذهبي والخلفية بيضاء.

 في أية "قعدة حريم" على عتبة باب بيتنا، حين تشكو واحدة من نسوان الحيّ من روحية، مدعية غلوّ أجرتها، تخبط أمي بظهر يدها على صدر الشاكية، وتصيح بقرف: "نصيبة تاخدِك، ما تجيش إلا على روحية" وتقسم بالنعمة الشريفة، كأنها شقت عن صدر روحية، إن قلب روحية أبيض: "أبيض، وكتاب الله، كالبفتة البيضاء"، وإنها: "ترضى بقليله".

- "كبرت وهتروح المدرسة يا سيد؟!"

جلستْ على ركبتيها أمامي.

- "يا سلام.. زمن! زي ما يكون أتولدت أمبارح .."

 لفت مترها حول خصري، وهي تسأل أمي عن الشنطة، الحقيبة التي سأضع فيها الكتب والكراسات والأقلام والألوان.

 سكتت أمي التي كانت قد اشترت لي حذاء أسود جديدًا من محل "باتا" وكاوتش للرياضة، وكراستين، وقلمين رصاص.

 ربما سألت أمي نفسها كيف نَسِيت الشنطة، أو لعلها تناست.

 تكلمت روحية، وهى تدوّن مقاساتي في نوتة صغيرة، خضراء الغلاف، أخرجتها من فتحة صدرها، عن حقائب من البلاستيك المقوى، وأخرى من الجلد، وثالثة من الاسكاى، قالت يوجد أنواع عديدة منها في دكان عدلي الجزمجي.

روحية تكتب وتقرأ، ليست كأمي.

 خجلتْ أمي، وكانت نظراتها مسلطة على فساتين ملونة، وعباءات سوداء فاخرة، معلقة في شماعات خشبية على حبل، بطول الحائط، خلف ماكينة الخياطة، وكرسي عمل روحية، الذي يشبه كراسي قهوة عطا الله .

- "اليد قصيرة" قالت أمي شاردة .

مسحت روحية على رأسي، وقبلتني مرة أخرى، بلا مناسبة .

- "ولا يهمك يا بطل، هعملك بإيدي أحلى شنطة".

 كنت أرى في عينيها حنانًا، كالذي أراه في عيني أمي أحيانًا، حين تمسح بيدها على شعري، وتبتسم معجبة بالولد الوحيد الذي خرج من رحمها، وتسرح شاخصة ببصرها، ناظرة إلى الفراغ أمامها. كثيرًا ما تنسى يدها فوق رأسي، وتنساني، وتحدق أمامها في المجهول، أو تغوص في أعماق ذاتها.

 هل كانت تشعر بي كشيء تملكه، مثل عباءتها السوداء العزيزة، التي ترتديها فوق جلابية البيت حين تخرج، أو تراني كمشطها الأسود الوحيد، أو وابور الجاز في ركن طبخها؟

 كنت أفهم فقط أنها تحب أن تنظر إليّ، وتبتسم، دون أن تقبلني، نادرًا ما قبلتني، كانت جهمة، وعابسة معي، لا تصفو ولا تروق إلا عندما تحتاج لأذن تسمعها ولا تفهم جيدًا، أذنيّ أنا.

احتجت أمي: "خلينا في المريلتين والبنطلونين الأول".

أزاحتها روحية بيدها ناهرة: "هُس..ما لكيش دعوة أنتِ".

 بمقص طويل يتحرك برشاقة بين أصابعها الحريفة قصت القماش السميك على شكل مستطيل، وباستخدام مكنة "السِنْجِر" القديمة، صار القماش البني جرابًا مفتوحًا من أعلى، وبداخله خاطت جيبين في كل جانب؛ لتوضع فيهما الأقلام .

 في النهاية صنعت روحية حزامًا عريضًا طويلًا، وخاطته في جانبي الجراب فتحول ليد طويلة لشنطة حقيقية، أدخلتها روحية حول رأسي وبشكل متعاكس على كتفي، فاستقرتْ الشنطة فوق صدري.

 - "إيه رأيك كده يا بطل؟"

 وضعتُ كف يدي فوق الشنطة، وأخذتُ ألف حول نفسي.

 كانت"مخلة" كبيرة وطويلة تصل إلى ركبتي إذا وضعتها على صدري من الأمام، وإذا حملتها على ظهري كانت تخبط في ركبتي من الخلف!

 قالت أمي غير مقتنعة "حلوة" وأضافت إن حلاوتها ستظهر أكثر عندما أرتدي المريلة، وألف الشنطة حول عنقي .

 جلستْ روحية إلى الماكينة القديمة، وفردت القماش، وأخذت تعلّم فيه علامات بالماركة البيضاء، كالطباشير، وأنا مندهش من حركة العجلة السوداء، التي تدور كلما مستها كف روحية، فتقفز الإبرة الرفيعة الطويلة تخيط القماش تحتها.

 روحية تدير العجلة، وتدفع بالقماش تحت الإبرة في انتباه واستغراق من نسى ما حوله، تعمل بكل حواسها، مكونة مع مقعدها وماكينتها كتلة واحدة، شيئًا واحدًا، مخلوقًا ضخمًا، تجسّد أمام عيني، ليس له مثال، أو نظير في الدنيا. روحية تخبط بأطراف أصابع قدميها، العارية، دوَّاسة الماكينة برقة وانتظام، فتدور العجلة وتتقافز الإبرة مخيّطة القماش، عينا روحية على القماش، وحضورها كله غاب، وحدها تخيط غائبة عنا، لا تسمعنا ولا ترانا.

 نسيتنا أنا وأمي، ولم يعد في وجودها وعينيها شيء سوى العجلة، والإبرة، والقماش. يداها وقدماها تتحركان بآلية، وحدهما، وعيناها الواسعتان، المنطفئتان قليلاً من كثرة لضم الإبر، والتحديق في الغرز والعراوي والقماش، عيناها الواسعتان مسلطتان على حركة الإبرة، ومرور القماش تحتها.

 كنت أحدق فيها بإعجاب مشدوهًا، وكنت أود أن أدير العجلة. منعت يدي من أن تمتد وتعبث بالعجلة بصعوبة، فصرت أهرش بها في جلدة دماغي، وشعري الحليق.

 كان المقص الكبير على حافة منضدة الماكينة.

 عندما طبقت روحية القماش وقع المقص على الحصيرة البلاستيك.

 مالت روحية وهبطت لأسفل بنصف جسدها لتلتقط المقص فضربتها أمي ضربة خفيفة على مؤخرتها، وضحكت.

بصوت رقيق فرح، فُزعتْ روحية الخياطة:

- "يخيبك يا بطة..فيه إيه يا بت؟"

- "يا ألف خسارة يا أبلة روحية!"

- "نصيب..قسمة ونصيب يا آختي".

- "والنعمة الشريفة ما حد هيجوِّزك غيري".

تورّد وجه روحية، وقد عادت للانشغال بقص القماش خجلة.

- "اشتغلتي خاطبة يا بنت مسعود الفران؟! الله يرحم والدك!"

بإخلاص ومحبة حقيقية قالت أمي: "وما له يا آختي..عشانك أنتِ وبس، خاطبة خصوصي".

قالت روحية هازئة: "تسلمي وتعيشي.. أجهز نفسي يعني؟"

- "الله !! ما أنت جاهزة أهوه! والنعمة الشريفة زي القمر.."

 بأصابع طويلة عدلت روحية خصلات شعرها البيضاء، وابتسمت ابتسامة فاترة حزينة، وصمتت ساكنة في جلستها، التي تبدو أبدية.

غيّرت أمي الموضوع:

- "فساتين مين دول يا روحية؟"

وأشارت للفساتين المعلقة على الحبل.

ممتعضة، وحانقة قالت روحية:

- "فساتين ريري".

- "بنت فوزي البقال؟"

 أنا قلت بسرعة الصاروخ "ريري أخت عبد الظاهر".

كلمت روحية أمي:

- "أيوه يا آختي..ريري بنت فوزي البقال".

باستنكار عظيم احتدت أمي:

- "لا يا شيخة؟! دي ما نزلتش عليها دورة لسه!"

- "لا يا آختي نزلت الأسبوع اللي فات! وهتتجوز أول اللي هيهل! هتدخل أول الشهر يا آختي، ترد ما تنزل الميه في زورها..هي وأمها.. قادر يا كريم".

ضحكت أمي، وكانت روحية حانقة.

- "عالم غُلب..عايزين يعيشوا بلاش ف بلاش، قال خمسة جنيه كتير على خمس فساتين، وأربع قمصان نوم، وتلت أطقم بيتي!!"

وهى تعني العكس، مندهشة ومستكثرة الفلوس، قالت أمي:

- "لأ.. مش كتير والله.."

قلبت روحية شفتيها وقالت:

- "عالم جِلدَة، ياكلوا مال النبي.. ولا بيطلعوا مليم زكا، ولا يعرفوا الصدقة!!"

 اقتربت أمي من الحبل، وأمسكت بدلة رقص حمراء مطرزة بالترتر، تأملتها بإعجاب وحسرة:

- "ودي بتاعة ريري برضو؟!"

- "لأه..مش بتاعة ريري".

- "بتاعة مين أُمال؟"

بحزم من لا يريد سؤالاً، أو مناكفة قالت روحية:

- "مش شغلك يا بطة..اسكتي يا آختي".

لم تسكت أمي، وقررت:

- "تبقى بتاعت البت أُنس الرقاصة".

روحية شخطت في أمي: "بطة؟؟"

- "آه.. طيب" قالت أمي متناصحة، وعقدت يديها فوق بطنها، وسكتت.

 بدلة أُنس الرقاصة على الشماعة في ركن الحجرة، حمراء وتلمع بترتر وخرز، حلوة، تحفة.

 تركت أمي الكلام عن بدلة الرقص، وهي ستموت عليها، وتحولت عيناها عن البدلة، واقتربت من أذن روحية، وكلمتها هامسة، وهي خجلانة.

 همست أمي في أذن روحية ما يقرب من عشر دقائق، حكاية طويلة عريضة وروحية ساكتة، على وجهها ترقب وانتظار، في نهاية كلام أمي علت ملامح الجد وجه روحية للحظات، وهي ترفع رأسها التي أخفضتها لسماع همس أمي، ومصمصت شفتيها.

 بعد لحظات من الصمت، والنظر إلى وجهي المبتسم المرفوع نحوها، قامت وعبثت قليلاً تحت مرتبة سريرها الإيديال الصغير، ووضعت في يد أمي شيئًا.

"أكيد فلوس يا أسطى!"

 فرحةً قبلتها أمي على خديها، قبلات امتنان طويلة، لها صوت وضجيج.

 - "نفسي أفرح بيكي يا روحية بأة".

 وجمت روحية، وهي تحدق في قمصان نوم قصيرة حمراء، وصفراء، وخضراء.. قمصان ريري أخت عبد الظاهر الذي لا أحبه.

غمزت أمي بعينها، وزغدتها في جنبها زغدة خفيفة.

- "شكري السواق عيبه إيه يا روحية؟"

- "قطيعة تقطعه هو وأمه..أنا ناقصة يا آختي؟"

- "بس الجدع.."

غمزت بعينها، وهمست ضاحكة "لسه شديد وشاري بقاله زمن!"

- "ما ليش في العك واللبط يا آختي..كل يوم والتاني يحبسوه، أنا عليه بإيه! أنا كده ملكة".

- "والنبي غلبان، وشاريكي".

كان وجهها كله حزين حين همست: "الله يسهل له".

- "بقاله سنين بيقول عليكي.. طيب وابن حلال، وكسيّب".

بحدة مباغتة واشمئزاز زفرت روحية:

- "سد سد، أنتِ ما تعرفيش حاجة، الله يسهل له بعيد عني".

- "أبدًا.. أنتِ اللي في دماغك حاجة يا روحية".

- "حاجة إيه يا بت؟!"

- "أنتِ لسه غاوية الحرامي؟!"

- "حرامي مين يا بطة؟"

- "شفيق بن أم شفيق".

فزت روحية من مكانها واقفة وصاحت غاضبة:

- "قومي روّحِي يا بطة.. بالسلامة يا آختي".

قامت أمي مكسوفة وأخذتني في يدها.

 يدي في يد أمي، نازلين على السلم الحجري لبيت عليمي، تسبقني أمي بدرجة وتسحبني خلفها، متحسسة موضع قدميها على الدرج المظلم.

 ونحن في منتصف السلم، فُتح باب روحية وسمعنا وقع خطوتها، وصوتها. كأنها نسيت أن تخبرنا بشيء أخير، قالت بصوت خفيض: "حقك عليه يا بت يا بطة.. ما تغيبيش عليّه يا آختي..أجرة المريلتين مني لسيد يا حبيبتي..أبقى تعالي يا سيد عصرية الخميس، خد المريلتين والشنطة يا حبيبي".

 

(2)  زبيدة  
 كنا راجعين من عند روحية، في طريقنا للبيت، حين ظهرتْ زبيدة بنت أم شفيق الدَلاّلة، على عتبة باب بيتهم، بيتهم قبل بيتنا بخمسة بيوت على نفس الصف. شارعنا، في المغربية، شبه خالٍ وهادئ، وترابه خامد تحت خطوات أقدامنا، وتحت صندلي البلاستيك الأبيض، الذي يعلوه جلبابي الكستور، الأزرق المخطط بالأبيض، وأمي تقبض على يدي اليمنى بالقوة المعتادة حتى لا أفلت منها، وأجرى نحو زبيدة.

 زبيدة على بعد أمتار منا، كانت تقف ساكنة كتمثال فريد، أعلى ظهرها مركون على حلق بابهم الخشبي الكبير، باب عال قديم، من ضلفة واحدة، يعلوها قوس حديد مشغول، صدأ، وكانت رقبتها للخلف، ووجهها للسماء، وجهها الحلو، جميل التقاطيع، مرفوع في اتجاه الشمس الغاربة، خلف مئذنة طولون، وسلالمها الخارجية العالية التي تؤدي للسماء.

 زبيدة، في وقفتها المعتادة أمام الباب، تثني ركبتها اليمنى، وتعلق كعب قدمها المُحنى بالحنة الحمراء على حلق الباب فتبرز كرة ركبتها للأمام، ويرتفع ثوبها كاشفًا ربلة ساقها الجميلة، ويتدلى الشبشب الأخضر بوردته البيضاء من قدمها. زبيدة ترفع رقبتها الطويلة، وتُقلِّب وجهها في السماء فتتطلع قمتا نهداها الكمثريين لفوق، ترفع رأسها، وتسبلْ عينيها، وتحرك شفتيها ببطء وتمهل، فتُدِهش عيني، تسحرني، وتسحبني نحوها، كمغناطيس بحجم جسمها.

 زبيدة تستعرض بلا خجل، كالعادة، أمام عيون كل الناس، جسمها الفارع، وجمالها الفريد في حينا.

 أصابع يدها اليسرى تعبث بخصلات شعر كثيفة تنزل على جبهتها الضيقة، وتعدل الطرحة فوق رأسها، ويدها اليمنى مبسوطة ومفرودة على فخذها اليمنى، واللبانة تخرج من بين شفتيها، تنتفخ ببطء تدريجيًا حتى تصبح كرة صغيرة، خارج فمها مرة، وتظهر وتختفي كقرص رقيق بين شفتيها الحمراوين، الممتلئتين مرات أخرى.

 يومها، وأنا راجع من عند روحية مع أمي، بدت زبيدة في عيني طويلة جدًا ورشيقة، كشجرة السرو الوحيدة في حوش مدرستنا. شجرة لها وجه زبيدة. وجه زبيدة نضر، أسمر ووردي، وعيناها سوداوان واسعتان، وفوق شعرها الأسود أشارب أخضر، يلمع به كثير من الترتر الفضي، والخرز الأزرق.

 حين اقتربنا منها أنزلتْ قدمها المسنودة خلفها على الباب، واستقامت واقفة لحظات، وهي تنظر إليّ وإلى أمي، ثم تحركت خطوتين فصارت في مواجهتنا، نزلت برقبتها وجذعها في اتجاه وجهي، ووضعت يدها على جلدة رأسي خفيفة الشعر، فرفعت وجهي إليها، كان وجهها كله منور كأنه لمبة فلوريسنت تبعث ضياء لطيفًا، وحمرة شفافة رقراقة، وكانت عيناها الواسعتان شديدتي السواد والألق، وإنسانا عينيها شديدي السواد كليلٍ، وبياض عينيها رائق، صفو.

 نزلتْ على ركبتيها، ووضعت يديها فوق كتفي، فصار وجهها في وجهي.

زبيدة قالت نفس الكلمات التي تقولها عندما تغازلني، وتعاكسني.

زبيدة قالت: "عيونكَ حلوة.. رموشك طويلة، ما تخفش م المَيّه.. ولا الدموع".

 تقلد زبيدة الإعلان التليفزيوني الشهير، وتتدلع، وتدلعني عندما تكون مبسوطة،

 أو حين تريد مني شيئًا. كانت تبدو لعينيّ أجمل من الممثلات، وفتيات الإعلانات، زبيدة كانت لي أجمل فتاة رأيتها، ولمستها، وشممت رائحتها، وطربت لسماع صوتها الرنان، العجيب.

 كانت تلبس جلابية بيت باطيستا مشجرة، مفتوحة الصدر، تشف برقة وخفاء، عن قميص نوم أبيض تحتها، وتُجسّم جسدها الرشيق كله: صدرها بازغ كمدفعيْن جديديْن مصوبين، وخصرها نحيل، ووركاها مدوّرين في جلستها هذه أمامي، وجهها في وجهي، ويداها على كتفي، ورائحتها الطازجة بلا عطر تلفحني كلي، تتسرب لجسدي كله، جسدي الضئيل الواقف بين يديها.

 من شهور قليلة لم تعد زبيدة ترتدي القميص الأبيض، والجونلة الكحلي، وتحتضن حقيبة المدرسة الجلدية على صدرها، بعد أن رسبت في آخر امتحان لشهادة الإعدادية، سقطت ثلاث مرات في ثلاث سنوات متتالية، ومنذ قعدت في البيت، تكنس وتطبخ وتمسح، صارت ترتدي الشفتشي، والألوان، والمحزق.

 وزبيدة، كما قالت لي أمي، ذات مرة، في أحد مشاويرنا معًا، تغيرتْ ولم تعد "زى الأول" منذ تركت المدرسة. ومن يوم أن طفش شفيق، هجر طولون واختفى، صارت ترفع صوتها على أمها، وتتشاجر مع أختيها، وتطلع وتدخل دون أن تقول لأحد "رايحة فين، وجايه منين"، أو تستأذن أمها.

 وأمي قالت لي إن بيت أم شفيق صار معرضًا للقيل والقال، والشائعات، بعد أن طفش أخوها شفيق الحرامي، رجل البيت الوحيد. اختفى شفيق من الحيّ دون قضية أو حبس معروف، ولا يعرف أحد إذا ما كان مقبوضًا عليه أم لا، ولكن الجميع يعرف أنه لم يعد ببيت أم شفيق رجل.

 زبيدة دخلتْ فيّ شمال، كالعادة، احتضنتني برقة، وقبلت خدي ومنتصف جبهتي بعذوبة بالغة، وراحت تحملق في وجهي بنظرات حالمة، وهيمانة وتنهدت، ثم رددت مقلدة غنج هند رستم في فيلم"ابن حميدو":

- "سيد، سيد حبيبي..حبيبي الوحيد!"

 ثم وقفتْ فصار رأسي عند خصرها، أسندته إلى بطنها عن طيب خاطر، وراحت تداعب خديّ بأصابع طويلة رشيقة، وهي تقول لأمي:

- "سيبي لي سيد شوية".

 امتعضتْ أمي، ولوت بوزها.

 طبعت زبيدة قبلة على خد أمي.

- "والنبي يا بطوطة..الله يخليكي سيبي لي سيد".

قالت أمي ساخطة: "هفك الشوق عليه قوى؟!"

سرحت زبيدة وهامت، وكـأنها تكلم نفسها همست:

- "آه..آه والله، بقالي جمعتين ما شوفتوش!"

تخابثت أمي بسرعة "مين؟!..سيد؟!"

أمسكتْ بكتفي وصدري، وأدارتني إليها، احتضنتني وألصقت رأسي بها، وهي تهمس:

- "آه..سيد..سيد حبيبي الوحيد!" فطوقتها بذراعيّ، ورفعتُ رأسي أنظر لأمي بابتسامة واسعة، لئيمة.

 حملقت أمي في عينيّ زبيدة متحدية كمن يعرف عنها كل شيء، نظرت أمي إليها وحدقت فيها، نظرة وتحديقة من يعرف المستور، والمفضوح.

 قالت لها أمي: " يا بت اطلعي من دول".

طأطأت زبيدة رأسها، وازدادت لي احتضانًا، وتشبثت بجسدي الضئيل أكثر.

سكتت أمي لحظات، عاقدة يديها على بطنها، كأنها تفكر بأمر مستعصٍ عليها حله، وبدت حائرة، ساكتة، للحظات طويلة.

 بعد وقت ابتسمت أمي في وجه زبيدة مشفقة.

 رضخت أمي أمام زبيدة وهي مبسوطة، وتركتني لأحضان زبيدة.

 ثم تظارفت وهي تعبرنا، وصاحت بصوت عال لطيف:

- "طب ما تأخريش الواد.. يا خالية الوسادة!"

 أخذتني زبيدة فرحة باستخلاصي من يد أمي.

 زبيدة لها اسم دلع أحبه. دلعها زوزو، معظم نسوان حينا ينادونها زوزو، أمها وأختاها لا ينادونها سوى بزبيدة، زوزو المحبوبة من معظم رجالة وحريم الحيّ، شدتني من يدي، وأدخلتني بيتهم الذي دخلته كثيرًا من قبل.

 بيت زوزو من حجر أبيض قديم، دور واحد، بحوش واسع، يسرح فيه الدجاج والبط والإوز، تربية أم شفيق، وفي وسط البيت طرمبة ماء حمراء جميلة وحوضها الأسمنتي نظيف دائمًا، كنت أحب الشرب من ماء هذه الطرمبة، ماؤها أحلى من الطرمبة العمومية وطرمبات قليل من الأهالي في البيوت. أحيانًا نادرة تأتي أمي لتملأ طست الألمونيوم والجردل البلاستيك من هنا، فقط عندما تتزنق، وتجد زحمة كبيرة عند الطرمبة الكبيرة الخضراء، في مطلع الدحضيرة.

 حوش بيت أم شفيق يحفه من ثلاث جهات، ثلاثة أبواب خشبية خضراء، لثلاث حجرات: واحدة مخزن سلع أم شفيق، سكر ودقيق وأرز وغيره من خيرات الجمعية الاستهلاكية، وطوابيرها المزدحمة موت، وأخرى لنوم أم شفيق واستقبال زبائنها من ربات بيوت حينا، وثالثة لزوزو، وأختيها الدميمتين: شفيعة، وسكينة.

 وفي الحوش كنبة شفيق التي صنعها أبي له قابلاً تعدي اختصاصه الأساسي. أبي نجار موبيليا وليس نجار كنب ومع ذلك صنعها لشفيق، متينة وكبيرة ولها سحارة واسعة في منتصفها تصلح لإخفاء أدوات شفيق السرية، وحفظ أي شيء. كنبة شفيق مسنودة لحائط حجرة البنات، وخاوية. فوقها كان شفيق يلعب الورق مع شلته، ويثرثر، يدخن الجوزة والحجرين وينسطل وهو مضطجع لمسندها، يأكل ويشرب وهو جالس عليها، ويغفو في الظهيرة، وينطلق لجولاته وأعماله الليلية من فوق هذه الكنبة التي ملأها التراب الآن، وصارت منسية في الحوش، ومن أهل البيت.

 شفيق كان لصًا أسطوريًا في طولون، تُروَى عنه الحكايات الغريبة على عتبات البيوت وفي قهوة عطا الله، وشخصًا جذابًا، شديد الغموض، في عينيّ. وكان آخر ما سمعته عنه هو حكاية سرقته لدكان فوزي البقال وخروجه على عرفنا، كما قال أبي فرج النجار: "الحرامي ما يسرقش أهل حيّه".

 كل الحيّ عرف إن شفيق قشّط دكان فوزي ومخزنه وجعلهما على البلاط، وأبي قال إن فوزي البقال لن يسكت.

 لما دخلنا رأيتُ أم شفيق تلبس جلبابًا أسود أجرب، وتعصب دماغها الكبير بأشارب أسود أيضًا، الأشارب مربوط ومعقود كنجمة على جبهتها، وهي قاعدة على عتبة باب حجرتها تزغط دكر بط، محشور تحت فخذها السمين، لما مررنا بها رفعت رأسها نحونا، وتوقفت يداها عن تزغيط الدكر الأسود المرقط بالأخضر، ونظرت إلينا بوجه عريض، كجسدها الضخم. رفعت وجهها الحزين الشقي نحونا، وحدقتْ في زبيدة للحظات بعينين ممتعضتين ساخطتين، فخفضت زبيدة بصرها، وازدادت قوة قبضها على كفي. عادت أم شفيق لتزغيط الدكر، وزوزو بعد توتر واضطراب قصير جذبتني من يدي، وشدتني خلفها لحجرتها.

لم تقل أم شفيق شيئًا أو تبتسم ليّ مرحبة، نادرًا ما تكلمني أنا أو أمي، لا أعرف لماذا، وكنت أخافها مثلما تخشاها زوزو وأختيها.

 أدخلتني زوزو حجرتها، هي وأختيها، حجرة واسعة عالية، بسقف من عروق الشجر، وخشب الورقة الخفيف، الحجرة فيها سرير واحد كبير للثلاثة بنات، ودولاب، وتسريحة قديمة ببرواز كبير، أعرف أن كل ما في الحجرة من صُنع يدي أبي، أشهر، وأمهر، نجار في طولون.

 أجلستني زوزو على حرف السرير، وعبثت في أدراج التسريحة، وعادت أصابعها الرشيقة بقالب شيكولاته جيرسي ومدته نحوي، فسال لعابي، أخذته بيدي الاثنتين، فضضته لمنتصفه، وبدأت أتذوق طعم الشيكولاته ببطء، كنت آكل الشيكولاته استحلابًا دون أن أكسر القالب..هههههه.

وكان مسجل شفيق الكبير، وارد ليبيا، فوق التسريحة، يرسل صوت العندليب: "أهواك..وأتمنى لو أنساك".

 منذ غاب شفيق، والمسجل في هذه الحجرة يرسل للشارع، بصوت عال، صاخب، الأغاني العاطفية لمطربين كثيرين، لا أعرف أسماءهم جيدًا، باستثناء عبد الحليم، ونجاة الصغيرة. وأم شفيق، التي لم يشكو إليها أحد انزعاجه من الأغاني، لا تستطيع أن تفعل شيئًا مع زوزو، وشفيعة، وسكينة، لا تستطيع سوى النهر والزجر، والصراخ في وجوههن، أحيانًا يتفرج شارع صرغتمش كله بابتهاج، على المشاجرات العائلية، حامية الوطيس، بين أم شفيق وبناتها الثلاث.

 نظرت زوزو إليّ بابتسامة عذبة، تتأملني مندهشة قليلاً مني، وأنا أستحلب الشيكولاته باستمتاع ولذة، وأهز رأسي طربًا بموسيقى"أهواك". لا أعرف ما طرأ على دماغها لحظتها، ولكنني أحسست أنها رأت فيّ شيئًا غريبًا، أو نادرًا، عند طفل في سني.

 بعد صمت قصير سألتني عمّا كنا نعمل عند روحية:

- "أمك بتفصل جلابية بيت أو عباية جديدة والا حاجة؟".

قلت أغيظها، قلت لها: "أبدًا، بتفصل فستان".

قالت لي غير مصدقة: "اطلع من دول".

نفضت رأسي يمينًا ويسارًا، فاقتربت بوجهها مني: "قول الحقيقة".

لم أقل شئيًا، وواصلت استحلاب الشيكولاته في فمي، وهز رأسي وجسمي مع الأغنية.

- "كنتوا بتعملوا إيه عند روحية يا سَ يْ د؟"

 قالت سيد بطريقتها الفريدة، وبدلع لا مثيل له، فاهتززت، واستسلمت على الفور، رددت عليها بإسهاب، مأخوذًا بصوتها الساحر، واعترفت بالحقيقة.

قلت لها إننا رحنا لروحية من أجلي أنا، لا من أجل أمي، وإن روحية ستخيط لي مريلة المدرسة، و"الشنطة كمان".

 تهلل وجهها، وافتعلت زغرودة خافتة الصوت، خشية أن تسمعها أمها، وأخذتني في حضنها مرات عديدة، فرحة كمن لقي لقية، أو كنز.

- "مبروك يا أبو السيد، يا سَ يْ د.."، وقبَّلت خديّ بعذوبة شفتيها وروحها.

جسد زبيدة، مفاتنها، وصوتها، ودلعها،"مصيبة زرقا".

 أبي يصف كل بنت، في شارعنا، بالغة الجمال والأنوثة، وتجئ بالمشاكل لأهلها بأنها"مصيبة زرقا"، يقول لنا هذا وهو يضحك خابطًا كفه بناصيته العريضة، ومحدقًا في البنت في نفس الوقت. مصائب شارعنا الزرق يطمئنون إلى أبي، ويبادلنه المداعبات الشفوية البريئة، ويعرفن إنه "رجل" وشهم.

أبي يقول لأمي "البت زوزو دي مصيبة زرقا، زرقا قوي..خالص".

- "حبيبي.. عايزاك أشطر تلميذ في الدنيا".

 بعد لحظات تحول وجهها، وهي تحذرني بحزن:

- "أوعى تخيب أبدًا يا سيد".

هززت رقبتي موافقًا، مواصلاً التهام الشيكولاته.

 رفعتْ مرتبة السرير من جهة الحائط حيث موضع نومها، أعرف إن شفيعة الشريرة تنام في منتصف السرير بين أختيها، وسكينة الطيبة على الحرف. ودست زوزو يدها على لوح الموله الخشبي، والتقطت ظرفًا أزرق، ومدته نحوي. ظرف أزرق فاتح، عليه رسوم عصافير ملونة صغيرة، وقلوب حمراء، ويفيض برائحة عطرة، وضعته زوزو أمام وجهي، وابتسمت بخبث.

- "سيد!".

تشاغلت بأكل الشيكولاته، والتحديق في عصافير الظرف، وقلوبه.

- "عمك طارق على قهوة عطا الله، تديله الظرف دا، وتجيني بالرد هوا...

هَوَى يا سيد".

 كان بعد المغرب، والأسطى طارق الأُسطُرجي، يلعب الطاولة، ويشرب الشاي، والشيشة هناك، في مثل هذا الوقت، كل يوم.

- "لا يا ستي".

- "سيد؟؟"

- "أبويه هيشوفني".

- "سَ يْ د؟"

- "لسه فاتح الدكان، عنده سهرة الليلة".

حازمة نهرتني:

- "دكان أبوك بعيد عن القهوة".

- "لا يا آختي أخاف".

 غيّرت نغمة صوتها، ونهنهت، وهمست وهي تداعب شحمة أذنيّ بأصابعها الطويلة: "كده يا سَ يْ د، أهون عليك!"

 انفلتُ منها، وابتعدت عنها، أعطيتها ظهري، وأنا أهم بالخروج قلت لها"أبويه هيضربني لو شافني".

في ثانية واحدة أعطتني هي أيضًا ظهرها، وافتعلتْ البكاء، بصوت عال.

أحب وجهها، تحركتُ ولففت لها.

 نظرتْ في عيني متوسلة، وهي تهبط ببطء، تضع ركبتيها على الحصيرة الملونة بأرض الحجرة، ركعت، ووضعت يديها على كتفي، وهمست بعتاب: "ما بتحبش زوزو يا سيد؟!"

انفلت منها، وفررت لعتبة الباب.

- "سَ يْ د؟!"

وضعت إصبع سبابتي اليمني في فمي أفكر.

- "سى ي د".

 رجعتُ إليها من على عتبة الباب، وأدرت وجهي فيها، فرأيت عينيها الجميلتين قد بدأتا ذرف الدموع، الحقيقية هذه المرة، كأنها ضغطت يد طرمبة فانساب الماء على وجهها.

قلتُ مسلمًا: "بحبك".

- "قد إيه؟"

فتحتُ يدي، وذراعي لآخرهما في دائرة واسعة.

- "قد الدنيا دي كلها".

مسحت دموعها وابتسمت فرحة بي، وبمن يحبها.

وضعتْ الظرف في جيب بنطلوني، بوجه رائق كأنه اغتسل.

- "أوعى حد يشوفك يا سيد، هوا وتعالى لي بالرد".

راق وجهها أكثر، وأنا أومئ برقبتي موافقًا.

طبعتْ قبلتيْن على خديّ.

 خرجت من عندها أجري، والظرف في جيبي.

 وجدت عم طارق في مكانه المعتاد على قهوة عطا الله، في ركن منزوٍ يطل على الميدان، وسور جامع طولون.

كان عم طارق مندمجًا في لعب الطاولة مع مرزوق، المنجد الإفرنجي، فوقفت قريبًا منهما ساكتًا.

 حين لمحني، ابتسم لي، ونادى عليّ، ولم يتوقف عن رمي الزهر:

- " قرب يا سيد..تعالى".

 رحت له وأنا خجلان ومكسوف.

- "أزيك يا سيد، وازي أمك؟"

 - "الحمد لله" وسكتُ.

 عم طارق أُسطُرجي شاطر، ووسيم، وفيه شبه من عبد الحليم حافظ، أسمر ورقيق ونحيل، ويفرق شعره الناعم الكثيف على جنب، عم طارق فخور بحكاية شبهه

 بعبد الحليم رغم أنه يفضل عليه عبد المطلب.

 عم طارق لما وجدني أطبق يدي على جيب البنطلون، وأنظر للأرض وساكتًا، ابتسم ابتسامة واسعة فاهمة، واستأذن دقيقة من مرزوق المنجد، وأخذني من يدي، ومشينا بعيدًا حتى وصلنا لمطلع الدحضيرة، شبه المظلم، والخالي من المارة.

ربت على كتفي، وقال لي:

- "هات يا أبو السِيد".

 أعطيته الظرف كمن يمنحه سرًا عزيزًا، فدسه في جيب بنطلونه بسرعة، وهو يتلفت حوله، وقال لي في أذني:

 - "قول لها الأسطى طارق بيقولك بكرة، حفلة ستة، سيما وهبي".

 سينما وهبي في ظهر سبيل أم عباس، وغدًا ثلاثاء، والسينما رائقة، وقليلة الرواد في حفلتي ستة، وتسعة.

طأطأت رأسي موافقًا، ومتواطأ.

 وضع في جيبي ربع جنية بحاله، فقفزت جريًا إليها، أتنطط مبسوطًا طول الطريق.

 لما دخلت عليها وجدتها أمام المرآة، جالسة على كرسي التسريحة الصغير الأزرق، ووجهها للمرآة الدائرية الكبيرة أمامها، شعرها حر طليق، طويل وجميل يغطي ظهرها، وينساب حتى ردفيها. شعرها في المرآة يحوط وجهها المدور كقمر. لمست شعرها الناعم بكفيّ يدي، وأخذت أسرحه بأصابعي برقة، مبتهجًا.

أدارت وجهها إليّ، وهي تبتسم بوجه بريء حالم "ها يا حبيبي؟".

قلتُ بفخر من جاب الديب من ديله: "بيقولك بكرة، سيما الشرق، حفلة ستة".

 قامت من فوق كرسي التسريحة المدور بلا ظهر أو مسند، وقفت، وأخذت يديّ، حركت قدميها الحافيتين بخفة، وراحت تراقصني على موسيقى أغنية العندليب "أقول أحبك، وأعيش أحبك" المنبعثة من إذاعة أم كلثوم.

 كنت فرحًا بالربع جنيه، ومفتونًا بجمال زوزو وصباها، فرقصت معها بهمة ونشاط، وأنا أمسك خصريها بقوة، فكادت تموت من الضحك، وهي ترقص بخفة، ووسطها يتموج بين يدي.

 بعد ذلك بشهور، وأنا في طريقي للمدرسة، ومخلة روحية على صدري، رأيت زوزو واقفة في وسط الشارع، تصوّت وتولول وتشد طرحتها المفرودة بين يديها نائحة:

- "يا حبيبي..يا حبيبي..".

- "يا لهوى..يا لهوى عليك ..يا خرابي".

 كان المارة القلائل يعبرونها، وهم يشوّحون بأيديهم حانقين ومنزعجين، غير عابئين بصراخها، وولولتها التي تمزق القلوب، على عكس عادة أهل حيينا الذين يجمعون بين الشهامة والحشرية!

لا أحد سألها عن شيء، لم يتوقف أحد على الإطلاق ليعرف سبب صواتها، وولولتها الحارّة.

ربما همس بعضهم: "كلب وراح".

 لما تعبتْ من النواح واقفة افترشت تراب الشارع.

 وهي تزم رأسها بالطرحة السوداء، وتجلس مربعة على الأرض، راحت تصرخ صراخًا مريعًا، كأم مكلومة في ضناها، صِواتها يصل لآخر الشارع، يطير مع الهواء لميدان طولون، ولا أحد تحرك من مكانه حيث كان.

 لم يهرع إلى زوزو مُنجد أو مغيث، ولا حتى صبايا ونساء الحيّ المحبات للولولة، والنحيب، والندب، ومنْ فتح شباكًا، وأطل منه مصمص شفتيه في امتعاض، وعاد لغلقه.

 كانت زبيدة وحدها تمامًا في ذلك الصباح الباكر، مفترشة تراب الشارع، فتاة وحيدة تمامًا على الأرض، تبكي حبيبها، رجلها، زوجها الذي فقدته.

 خرجت من بيتنا على صوتها الذي أميزه من بين مئات الأصوات، تخطيت عتبة البيت ووقفت أنظر إليها، كنت أراها صبية بالغة الجمال تلطخ وجهها، سحرها، بالتراب، فتدفقت دموعي من عيني، غزيرة بلا صوت.

وأنا أقترب منها بخطوات بطيئة كان استمرار نبض قلبي، ودقاته، معلق بانتشال زوزو من بكائها، وصراخها، وصواتها المريع.

 - "زوزو، مالك يا زوزو.. فيه إيه؟"

 انتبهتْ إليّ، ورفعت وجهها نحوي، فرأتني أمامها جسدًا صغيرًا، حزينًا.

 رفعتْ رأسها إليّ، وأمسكتني بين يديها، فرأيت دموعًا، دموعًا حارة، وساخنة. وجهها كله دمع، همست بصوت واهن مبحوح، وهى تحتضنني، واضعة رأسها على كتفي الصغير، همست "شفيق مات" ثم صرخت: "شفيق راح يا سيد".

أخذت زوزو في حضني واحتويتها، وأنا أعدل خصلات شعرها الثائرة، كأني أبيها الحنون.

 ظللت أحتضن زوزو حتى ظهرت خالتي روحية خارجة من باب بيتها في ملاءة سوداء، تجري نحونا، تضرب صدرها، وهي تصوّت وتولول"يا لهوي يا لهوي". انتشلت خالتي روحية زوزو من افتراشها التراب، ومني، أوقفتها على قدميها وأخذتها في أحضانها، وهي تصيح: "فوزي الكلب يا أبله روحية.. فوزي الكلب".

 وراحتا تبكيان بحرقة تمزق قلوب الصخر، وأنا واقف معهما أتشبث بجسد زوزو وأبكي.

 كنت أعرف أن شفيق حرامي، وبلطجي غريب الأطوار، ومكروه من ناس ومحبوب من قلة، وعداواته كثيرة. الآن مات شفيق، ولن يعود باستطاعته سرقة أحد، أو البلطجة، أو ضرب ضعاف الشباب في الحي، وكنت أعرف أيضًا أن شفيق الذي مات هو الشقيق الحنون لزوزو، وهو رجل النساء الأربع اللاتي يقطن ببيت أم شفيق الدلالة، وهو أيضًا الذي جعل روحية تنتحب وتولول، وتصرخ: "يا حبيبي..يا حبيبي".

 

(3)  كريمة
 كان المغرب في شارعنا مظلمًا، وكابيًا، ونحن نحجل على التراب، كأشباح صغيرة، شقية، ومبسوطة باحتلال الشارع، واختفاء الكبار، وبهجة الظلام.

 اختفى قرص الشمس مبكرًا، مع أذان المغرب وتلاشي صوت رافع الأذان، الشيخ أبوعريفة، وهبطت خيوط الظلمة، تدريجيًا، علينا ونحن نلعب، حتى صرنا لا نرى جيدًا ما تحت أقدامنا، ولا "القالب" الحجر، الذي نشوطه بأقدامنا، حاجلين داخل مربع "الأولى" الكبير، ومربعاته التسعة الصغيرة. كنت لا أكاد أميّز خطوط الطباشير البيضاء التي رسمناها على الأرض، وحددنا بها مربع اللعب. وكان مَنْ عليه الدور يحجل داخل الأولى على رجل واحدة، ويشوط القالب، والآخرون الملتفون حول مربع الحاجلة، قاعدين على قرافيصهم، يحدقون في حركة اللاعب والقالب، وينتظرون، بفروغ صبر، سقوطه، وخسارته؛ حتى يأخذوا دورهم، ويحلوا مكانه.

 إذا لمست قدم اللاعب خط الجير، أو شاط القالب، خارج الأولى كلها أو خارج المربع الصغير، الهدف، سيخسر ويصيح، وربما سيبكي، وسينط مكانه واحد آخر، متأهب للعب. أول من يكتشف خطأ الحاجل، ويسرع بالنط داخل مربع الحاجلة هو منْ سيلعب، هو من عليه الدور. كنا جميعًا، اللاعب والمتفرجون، نحدق بكل ما في عيوننا من قوة في خطوط الطباشير، والقالب الزلط، وقدم اللاعب. واللاعب يحدق أمام قدميه صامتًا ويحجل. المتسابقون، نحن، يراقبون الجسد الصغير الذي يحجل برجل واحدة داخل المربع هادئين، لا يتبادلون الكلمات، يتبادلون المواقع فقط. كنا مأخوذين بسحر اللعب في شبه ظلام، لا نشعر بما حولنا، ولا ندري، وكانت أمهاتنا، نسوان الحيّ، معتادات الجلوس في حلقات على عتبات البيوت، قد توقفن عن الرغي، ومسك سيرة الناس، والضحك على التعليقات الساخرة، والنكت اللاذعة والقفشات، وقامت كل واحدة منهن من قعدتها، تنفض التراب عن مؤخرة جلابيتها، وقالت كل واحدة منهن للأخرى "تتمسوا بالخير" ودخلن البيوت.

 غادرت أمهاتنا عتبات البيوت، وتركن ونس اللمة وأنس الكلام، والودودة، ودخلن البيوت طلبًا للدفء، والضوء، ولتحضير عشاء الأزواج، الذين سيعودون للبيوت بعد صلاة العشاء.

 أمهاتنا يحببن البيوت أكثر من الشارع والخارج، ويقضين داخلها معظم ساعات اليوم والليلة، وليس لهن غير هذه الجلسة المرحة على عتبة الباب، لساعة أو اثنتين كل مساء، ونحن نحب الشارع، وميدان طولون، أكثر من البيوت، ونحب اللعب في العتمة، والجري في الليل.

 كنا ما زلنا نلعب بالشارع فرحيْن بغياب الأمهات، وبلذة اللعب، ومستمتعين بنسمات ليل أكتوبر، سنة 79، حين انفض جمعنا. تعب عيال وبنات، وملوا من التنطيط على الأرض، من مربع لآخر وسئم آخرون ومشوا. ذهب بعضهم، وراحوا لبيوتهم أشباحًا صغيرة اختفت الواحد بعد الآخر، بلطف، ونعومة، واختفى آخرون فجأة، بسرعة خاطفة كأن لم يكونوا هنا منذ لحظات.

 أنا وحلمي أدركنا في النهاية أن العيال قد ذهبوا جميعًا، ولم يبق سوى نحن الثلاثة: أنا وحلمي، والجسد الصغير الحاجل.

أنا وحلمي قاعدين على قرافيصنا، متواجهيْن، خارج مربع الأولى، نراقب الجسد رشيق الحجل، داخل مربعات الأولى، والجسد الصغير الماهر في اللعب، الفائز الأخير، كان كريمة بنت لوزة الفكهانية.

قال حلمي سعيدًا: "هيه هيه..صفصفت علينا".

وصفق، وهو يردد بصره بين وجهي، وقدم كريمة داخل المربع.

 كريمة تحجل بحيوية ونشاط وبلا تعب أو ملل، تنتقل من مربع إلى آخر بخفة ورشاقة راقصة باليه، لم تلمس خطوط الجير البيضاء، ولم تشط القالب خارج المربع، لم تخطيء أبدًا، ويبدو أننا سنظل متفرجين للأبد. كنا مغتاظين منها، نتفرج عليها في حسرة البلداء، ومتحفزين لخطئها، وسقوطها، وهي تلعب بلا مبالاة بنا، غائبة عنا، وعن الدنيا حولنا، وهبوط العتمة فوق خطوط الطباشير.

 هزمتنا كريمة، وهزمت كل العيال، أدوارًا عديدة، ولم نعد نرى خطوط الطباشير البيضاء، ولا القالب، وهي ترى وتنط وتحجل كعفريتة. أخيرًا زهقت كريمة فتوقفت عن الحجل، وشاطت القالب في خارج المربع منهية اللعبة، وقالت آسفة كأنها لم تشبع من اللعب والفوز بعد: "كفاية كده عليكم".

 سكتت لحظات واضعة إصبع سبابتها الصغير في فمها تفكر، ثم اقترحت علي حلمي أن نتسلل لحجرة أبيها، فوق سطوح بيتهم، لنلعب هناك ألعابًا جديدة، وقالت إن أباها وأمها"سارحين" بالفاكهة، ولن يعودا إلا بعد العشاء بكثير.

 خلف كريمة التي تتقافز حاجلة في الشارع مشى حلمي، بوقار الولد الكبير، بينما تلكعت أنا قليلاً، وفقًا للاتفاق الثلاثي. انتظرتُ بعيدًا عنهما حتى رأيتهما يدخلان بيت عليمي، فأخذت أتمشى قليلاً في الطريق المعاكس لهما مستكشفًا من بقى من نسوة، على أعتاب البيوت، كان الشارع خاويًا تمامًا من الناس، وشبه مظلم بلمبة واحدة مضاءة في عمود النور الخشبي على ناصية الشارع. بعد دقائق من التجول، دخلتُ بيت كريمة، وصعدتُ درج البيت الحجري كلص صغير، كاد قلبي يقع من صدري حين عبرتُ باب روحية المفتوح. لمحتها منكبه فوق المكنة، وعيناها مرشوقة بالقماش، وأذناها مفتوحتان لكلام أم شفيق التي كانت قاعدة على الكرسي قدامها. بعد أن تجاوزت الباب، وأنا أمشي على أطراف أصابعي، أحسست بقشعريرة خوف تجتاح جسمي كله، ممزوجة بلذة المغامرة والتسلل.

 كان باب حجرة السطوح، الخشبي الخفيف، مواربًا، دفعته بهدوء، ودخلت الحجرة.

 وكان حلمي واقفًا يستعرض مهارته في رمي ثلاث برتقالات لأعلى والتقاطها، وكريمة جالسة على الحصيرة تتابعه بشغف، وانبهار. بمجرد دخولي الغرفة، الواسعة، عالية السقف، هبت عليّ رائحة منعشة وثقيلة، تختلط فيها روائح الفاسد بالطازج، رائحة مدوخة، وثقيلة، وجاذبة كمغناطيس بحجم الحجرة.

 حجرة السطح في بيت عليمي الفكهاني واسعة، يتناثر في أركانها، وعلى أرضيتها الخشبية أقفاص فاكهة فارغة، بقايا حصير من القش بال، وممزق، بقايا فاكهة فاسدة، وتحت غطاء سيارة قديم، سميك، عدد من أقفاص البضاعة الجديدة: برتقال بصُرَة، وسكري، ويوسفي.

 وفي الركن الأيمن، تحت الشباك الوحيد بالحجرة جوزة، برطمانها من الزجاج، وغابتها رفيعة وطويلة، ومنقد فخار فيه بقايا فحم، ورصة أحجار من الفخار في لوح خشبي، وبقايا ورقة معسّل سلّوم. وقفت أمام الجوزة منبهرًا، ثم نزلت لها فأمسكتها بين يدي، قاعدًا على ركبتي، وكنت أنظر إلي حلمي الذي ما زال يطوح، ويلقف البرتقالات الثلاث بحماس، كنت أريد أن أقول له جملة مما أسمع. أسمع عمي طارق يقول لأبي "إيه رأيك ف حجرين يا واد يا فرج". كنت أريد أن أقول لحلمي "إيه رأيك في حجرين يا واد يا حلمي" ولكنني لم أقل شيئًا، واكتفيت بالتشبث بالجوزة بين يدي.

 لما رأتني كريمة أمسك بالجوزة، بلعاب سائل، ولهفة للاستكشاف، حذرتني بصوت رفيع حاد:

- "حط الجوزة مكانها، وإياك تقرب منها تاني..أبويه يدبحني".

وعملت يدها اليمنى كسيف في طريقه لقطع رقبتها.

 وضعتُ الجوزة في مكانها، على الأرض، فوق الحصيرة، آسفًا.

 الحصيرة من القش، ومحترقة في أجزاء كثيرة منها، والشلت الجلدية في الأركان قديمة، وبعضها قطنية وممزقة. على هذه الحصيرة، وفوق هذه الشلت، وبرفقة الجوزة الصغيرة، وشرائط الدوم تك، وعفريت الطبلة، وشرائط رقص سهير زكي، المرصوصة تحت الشباك، جنب المسجل ذي السماعتين الكبيرتين، يسهر عليمي وشلة الجوزة كل خميس. كل خميس بانتظام، ودقة، يسهر عليمي مع شلته، التي ليس من بينها أبي. كل واحد في حينا يعرف، ويقولون أيضًا إن شلة عليمي تشرب الجوزة، والكينا، والبيرة، وتضحك على الآخر حتى تشعشع، وتصل للأعالي، وعند بلوغ السهرة لذروتها يقوم عليمي الفكهاني من مكانه ويقف، وبرشاقة يحزّم نفسه من وسطه بتلفيعته البنية، ويرقص في جلبابه البلدي وطاقيته، أفضل مما ترقص سهير زكي.

في الركن عربة يد خشبية صغيرة مما يستخدمه عليمي فى جولاته، ولكنها معطوبة، وعجلاتها الحديدية مفكوكة منها.

 تسللنا، ثلاثتنا، أنا وكريمة بنت عليمي، وابن خالها حلمي، لهذه الحجرة الغريبة عليّ لنلعب. نلعب بأشياء عليمي الثمينة، بجوزته وعربته المعطوبة، وبضاعته، ولنتخيل ما يفعلون هنا في سهرة كل خميس، ولأننا أنا وحلمي نحب أن نلعب مع كريمة أية لعبة.

 الحمد لله لم يرني أحد وأنا أصعد الدرج الحجري، وكان باب شقة عليمي في الدور الأرضي مغلقًا بالقفل الكبير، لم يعد عليمى ولوزة بعد من السوق، ولم ترني خالتي روحية التي تقبع فى الطابق الثاني، ولا أم شفيق الجالسة عندها. بالغرفة شباك وحيد يطل على الشارع، ومنه يأتي ذلك الضوء الخافت الذي أنار لنا ألعابنا. بعد دقائق طويلة مل حلمي من قذف البرتقالات في الهواء والتقاطها، وأنا مللت من مشاهدته، فدحرجنا البرتقال على الأرض نصوبه لرجل العربة، ثم لعبنا بأغطية الكوكاكولا، وبعفش الفاكهة، وأقفاص الجريد حتى زهقنا، وجلسنا ساكنين، ساكتين.

 حماسة ورغبة كريمة في اللعب لا تخبو ولا تنفد، وألعاب حلمي لا تنتهي.

 حلمي أكبر مني، في فصل ستة أول، وأنا وكريمة في نفس الفصل، ثالثة أول.

- "هاه..عايزين لعبة جديدة بقى".

قالت كريمة.

 حلمي استمع لكلام كريمة ثم وقف، وفكر قليلاً مع نفسه، وهو يدور حولها وحولي، ثم تحرك نحو عربة الفاكهة المعطوبة، وفرش فوقها جوال خيش قديم، وسواه جيدًا، ثم ربط حبل ليف طويل، بغطاء زجاجة كوكاكولا، ولفه حول رقبته، وقال لكريمة بجدية:

 "يظهر إنك محتاجة تكشفي".-

 كريمة، الفاهمة، أعطتنا ظهرها، ومالت على شلته قطنية صغيرة في ركن الحجرة، ودستها تحت جلابيتها، وجاءت تمشي ببطء واضعة يدها على خصرها، ومبرزة بطنها المنتفخة، التي لم تكن كذلك من دقيقة، وتأوهت، وقالت ليّ:

 "نفسي في الفسيخ يا سيد". -

 قلت لها:

- "بكرة أجيب لك فسيخ من عند الهَلُوتِي".

قالت: "لا لا هتجيب ولا هتعمل، كل يوم تقول كدا".

 قلت غاضبًا كأبي حين يغضب:

- "اخرسي يا بت".

تركتني، وقالت لحلمي:

- "تعبانه..الحمل تاعبني يا دكتور".

ساعدنا أنا وحلمي، كريمة، على الصعود للعربة.

 - "اطلعي.. مددي هنا..بسيطة، بسيطة إن شاء الله".

تمددت كريمة على ظهرها فوق الجوال، فانحسر ذيل فستانها وارتفع قليلاً حتى ركبتيها.

مددها حلمي على السرير:

- "ارتاحي ..ارتاحي".

 وضبط الحبل حول رقبته وغطا الكوكاكولا في طرفه.

 أراحت كريمة جسدها الضئيل على الجوال فوق عربة الفاكهة المعطوبة، وراحت تتأوه:

- "الواد بيخبط في بطني يا دكتور".

ابتسم حلمي:

- "عادي عادي ما تخافيش".

 كان بطنها مرتفعًا، ومكورًا كريري بنت فوزي البقال، الحامل هذه الأيام، صدرها وبطنها كتلة واحدة حتى سوتها.

 وبدأ حلمي كشفه الطبي فيما كنت أنا واقفًا عند رأسها وقلقًا، أمسك بيدها كما يحدث فى الأفلام بالضبط، وأهدأها بنبرة حكيمة: - "ما تخافيش يا كرماله، ما تخافيش..أنا جنبك". نظرت إلى بعيون حالمة كأنها امرأة حقيقية تعاني ألم الحمل.

 وضع حلمي سماعته على بطنها القطن المصنوعة، وراح ينصت لصوت غطا الكوكاكولا في أذنيه.

- "خدي نفس .."

 تأخذ كريمة.

- "لا خدي نفس أطول".

 بقدر حجم رئتيها الصغيرتين تأخذ كريمة نفسًا آخر.

 قولي: "آه".

 تقول كريمة:

- "آه.. آه.."

 في نهاية الكشف قرر حلمي إن الوضع صعب، وإنه لا بد أن يفحصها بعناية، ودقة حتى يكون التشخيص مضبوطًا.

 رفع حلمي فستانها من أسفل بجدية فبان لنا كيلوتها الأبيض، كان ساقاها رفيعين وركبتاها ممتلئتين، ولم يكن لها أفخاذ مدورة، كفخذي زوزو بعد. تحت الجلابية كانت شلته القطن مكورة، ككرة كبيرة من رقبتها حتى سِوتها، نظر إليها حلمي بجد واهتمام، وقال:

- "بطنك فى الارتفاع العادي!"

وأنا قلت:

- "ما تخافيش يا كرماله".

 هبط إليها حلمي بالسماعة وراح يحرك رأسه ويتسمع لأصوات بطنها.

ثم خلع السماعة، وراح يضع أذنيه فوق بطنها.

بعد وقت قال: "برضو مش سامع كويس.. مش سامع حاجة". قلت له:

- "خلينى أجرب أنا".

 فأفسح لي. هبطت بأذني فوق البطن المكورة، وأنصتُ دقيقة فلم أسمع سوى حفيف القماش، وارتطامه بأذني.

 قرر حلمي أننا يجب أن نبدأ الكشف النهائي، الدقيق.

 برفق نزع حلمي الشلته القطنية المكورة عن بطن كريمة.

 بطنها سمراء سمرة رائقة، ومتوردة، وجلدها نضر، ولامع.

 أخذ حلمي يمرر يده على بطنها، ويتحسسها وقد بدأ ريقه يجري، وكريمة أغلقت عينيها. أخذ حلمي يتحسسها بكلتا يديه، وقد تغير وجهه.

واصلنا الكشف الدقيق حتى صارت كريمة تحت أيدينا عارية إلا من كيلوتها الأبيض النظيف.

 جسد كريمة، الضئيل، المنمنم، هو أول ما رأيت من العري الناقص.

 في مكانها فوق عربة الفاكهة اليدوية، نامت كريمة مبتسمة، بوجه رائق، شبع من اللعب أخيرًا، فغطيناها أنا وحلمي ببطانية جيش قديمة وجدناها على الحصيرة، ونزلت وتركت حلمي بجوارها.

 نزلتُ درجات السلم الحجرية ببطء وهدوء، لا مباليًا بأن يضبطني أحد، كنتُ خفيفًا، ولدي سر جديد، لا أعرف كنهه، وكان باب روحية مغلق، وشقتها ينبعث منها ضوء خافت، خلف زجاج شراعة الباب.

 

(4)  بطة

 شتاءٌ نادر، بارد، وممطر..

 خرجتُ من باب بيتنا، في السادسة والنصف صباحًا، في برد يناير القارص. يداي في جيبي، وشنطة المدرسة،"مخلة روحية"، التي عمرها ست سنوات، مكتظة بالكتب والكراسات، معلقة بكتفي، ومستقرة فوق صدري. مخلة روحية التي في حضني الآن، ما زالت متينة، ليس بها خرق واحد، وروحية ما زالتْ تخيط كل شيء بمهارة، وإتقان.

 كنتُ أسير وأنا أدعك كفي العاريتين، الواحدة بالأخرى، أنفخ فيهما، منحنيًا قليلاً للأمام. لا أكاد أرى تحت قدمي، ينساب من فتحتي أنفي بخار أبيض، أمام عيني شبورة بيضاء، كألواح زجاج شفاف، بالكاد تظهر خلفها أشباح بيضاء ورمادية للمرئيات، أمشي ببطء مسحورًا. فوق رأسي، حين أرفعها، شبورة أخرى أكثف، كقطع قطن هائلة، عائمة في الهواء، تُلقي البياض على كل شيء تحتها، وتطمس عن عيني معالم الطريق، والبيوت، والناس. فوق شارعنا، حينا كله، سقف أبيض واطئ، أكاد ألمسه إذا قفزت لفوق، ورفعت يدي لآخرها.

 كنت أنقل قدمي للأمام، واحدة بعد أخرى. الأرض تحت قدمي بيضاء، السماء التي فوقي بيضاء، أينما أحرك رقبتي، وأنظر لا أرى سوى البياض. وسط الضباب كنت أتحرك خفيفًا كطائر صغير، كملاكٍ طفل يهبط الأرض للمرة الأولى، فلا يرى سوى صفاء البياض، وسحر صباح الشتاء.

 كنت في الشهادة الابتدائية، وكان على جسدي الضئيل بلوفر زيتي، فيه ثلاثة خروق، فوق مريلتي البنّية، وفي رجلي بنطلون المدرسة، البني الواسع، يسرب إليّ هواء باردًا، وصقيعًا. أضع يدي في جيبي لخطوات، ثم أعود أنفخ في يدي المضمومتين في قبضتين تارة، ومفتوحتي الكفين تارة أخرى. مراتٍ أنقل خطواتي، وأحجل تحت البلكونات مستندًا لحيطان البيوت، ومراتٍ أخرى أقفز عابرًا برك المطر، والطين.

 في طريقي، كان رذاذ المطر خفيفًا بعد ليلة غزيرة الأمطار، سمعنا برقها، ورعدها، طيلة نومنا، وخلفت الكثير من الأوحال، وبرك الماء في كل مكان، المارة القلائل، الذين لمحت أطيافهم أمامي، الذين يسبقونني بخطوات قليلة، كانوا يشمرون عن ثيابهم حين يعبرون من مكان لآخر، ويبرطمون بكلمات آسفين لخروجهم في مثل هذا الجو، معظمهم اختفوا عن نظري في شبورة البياض إلا حسن عوالم.

صاح حسن عَوالِم القهوجي، "المبَرشِم" دائمًا أبدًا، والذي كان الصديق الصدوق لشفيق الحرامي، صاح وهو يقفز بجسده الضئيل عابرًا بركة صغيرة، محدثًا نفسه:

- "نطلع من ليلة كوبيه ندخل في يوم أسود".

 كان ساخطًا كعادته، وهو في طريقه للقهوة، لوردية الصباح.

 معظم مَنْ لم يضطروا للخروج في ذلك الصباح شديد البرودة، قبعوا في بيوتهم، لم يذهبوا لأعمالهم، ولم يفتحوا دكاكينهم، كأبي.

 أبي تركته خلفي يستمتع بالنوم للظهيرة، وذهبت أنا للمدرسة رضوخًا لإلحاح وغلاسة أمي المعتادة في إيقاظي من أحلى نومة، بصيحة "المدرسة..المدرسة يا بايظ".

 وصلتُ لباب المدرسة، وعبرته، فلم أجد طابور الصباح، الحوش شبه فارغ، ولا يقف عند مدخل الإدارة سوى الكابتن عبد الخالق مدرس الألعاب الرياضية. أشار إليّ بخيزرانته الرفيعة الطويلة حين حاولت التسلل، وعبور الفناء لفصلي، بمنظر من لم يره، هز خيزرانته في يده وضرب بها الأرض كأنه يُسخّنها، وصاح فيّ:

- "تعالى هنا.. جي متأخر ليه يا ولد؟"

- "معلهش، والله ..أأأ .. أصل... وحياة النبي يا كابتن..و.."

لم يرض الكابتن بسوى فتح يدي، ورزعني خمس خيزارنات حمراء:

- "عشان ما تتأخرش تاني يا سيد".

أتنطط في مكاني متألمًا وساخطًا، وناظرًا إليه بحقد.

 ذِكر اسمي على لسانه ترضية لخاطري، وتبريد لكفي الملتهبتين، وغضبي المكتوم.

 الكابتن عبد الخالق كهل ضخم الجسد، برأس كبير مستطيل، كنا نسميه "أبو راسين"، وشعره كله أبيض، وكان لاعب مصارعة في شبابه، ورجل "لاسع" من زمن كما يقول شباب الحيّ الأكبر منا، ونحن، تلاميذ المدرسة، في كل إجازة صيف نلقي على بيته الطوب، والزلط، ونهرب قبل أن يخرج إلينا بخيزرانته الغاب الطويلة، التي ينقعها في الزيت لأيام طويلة حتى تلسع أكثر. نقذف بيته بالطوب ونجري قبل أن يخرج بجسده الضخم، وخيزرانته، للشرفة العالية في بيته الحجري الكبير.

 حين دخلت الفصل، كان العيال الحاضرين لا يزيدون عن عشرة، وكلهم يزيدون كفوفهم التهابًا بالنفخ فيها. "عبخالق" لسّوع جميع تلاميذ المدرسة بخيزرانته وأبكاهم ذلك الصباح، كانتقام لأحجار الصيف الماضي، وترويعًا للصيف القادم.

 لم يهتم من حضر من المدرسين بشرح الدروس، في الحصص الثلاث الأولى.

 في الفسحة قرر العيال إيذاء الكابتن الذي يحل محل الناظر عند غيابه، بالهروب الجماعي الكبير، وليكن ما يكون.

 تسلقنا السور الحجري العالي واحدًا بعد الآخر، وقفزنا للخارج، وعدونا نحونا ساحة طولون الواسعة، أقمنا مرميين بأربعة أحجار، قسمنا أنفسا لفريقين، ولعبنا المباراة على الأرض الموحلة، وتحت المطر، بابتهاج، وفرح، واستمتاع.

 الحمد لله دكان أبي، على بعد خطوات، مغلق، و"جايب ضلفه". ضلفتا الباب الخشبيتين الكبيرتين مغلقتين بالحديدة الخضراء، الطويلة المائلة. أبي في إجازة شتوية، وإن كانت متقطعة، حسب الشغل، ولا يفتح دكانه كل يوم كبقية شهور السنة، يناير عند أبي هو شهر"يا نايم" لا زبائن، ولا أحد يجهز لعروس، ولا أفراح، كله مؤجل للصيف.

 عندما كانت المباراة حامية جدًا، هطلت الأمطار بغزارة فوقنا، فلم نتوقف لحظة

واحدة، توقفنا فقط حين لمحنا عبد الخالق وأمي قادمين في اتجاهنا. أشار عبد الخالق لأمي نحونا وهو يهز خيزرانته في الهواء، وصاح فيها: "أتصرفي معاه أنتِ..عندك أهوه." وأعطاها ظهره "واد بايظ ابن كلب"، وتركها ورجع نحو المدرسة دون أن يطاردنا. الكابتن عبد الخالق سيحاسبنا جميعا غدًا، في طابور الصباح.

 خفت من أمي.

 أمي غاضبة، كامرأة ركبها ستين عفريتا. منظرها جهم، في عباءتها السوداء، ووجهها الساخط يرسل الشرر أمامها، عيونها الحمراء ترسل الخوف في قلوب العيال. ارتجف بعضهم من منظرها، وخاف بعضهم من يدها التي يمكن أن تضربهم، ومن لسانها الذي يمكن أن يشي بهم لأمهاتهم. بعض العيال بمجرد رؤيتهم لها توقفوا عن مطاردة الكرة "الكَفَر" البيضاء، وصاحوا وصرخوا مفاجئين، وجروا في كل اتجاه، هرب عيال التقطوا حقائبهم بسرعة، وفر آخرون تاركين خلفهم كل شيء، تعثر أطفال وسقطوا في الطين، وثبتُ أنا في مكاني، أمام مرمى الخصم، أنا "الفِرود"، والهداف.

 أمي لم تعر كل العيال التفاتًا، ولم تفعل شيئًا للعيال الهاربين من وجهها، لم تزعق فيهم، أو تطاردهم، أو تضربهم. كانت تبحث بعينيها عني وحدي، وهي تقتحم الملعب صامتة، متلفتة حولها.

 لما رأتني واقفًا في مكاني لا أجرى منها هرولت نحوي، ارتعشت ركبتاي قليلاً حين حدقت فيّ، لكني ثبت في مكاني ولم أتحرك.

 قبضت عليّ من ياقة المريلة فلم أقاومها، وساقتني من الملعب، ومن ساحة طولون، في طريقنا للبيت بضرباتها المتقطعة على ظهري، التي لا يبدو لها نهاية. قبضات يدها قاسية ومؤلمة على كتفي، ومنتصف ظهري، وتحت قفاي. تقبض بيسراها على كف يميني، وتلف خصرها للخلف، وتنزل بقبضة يدها اليمنى على ظهري كأنها تدق مسمار نار في لحمي، فأندفع للأمام، وأكاد أسقط على الأرض الموحلة. تشدني بقوة لأنتصب في وقفتي وأقوم من انحنائي، تتريث لحظات تلتقط فيها أنفاسها، وتسبني صارخة:

- "عيّل بايظ..فلتان".

 وهي تدفعني للأمام، أكاد أنكفأ على وجهي لكن قبضتها على يميني تمنعني من السقوط في برك الماء والطين. المطر يتساقط على طرحتها ووجهها وعباءتها السوداء، وعلى شعري المبلول، ووجهي ومريلتي وشنطتي على صدري، وهي لا تبالي. نخوض، أنا وهي، في وحل الحارات والعطوف المؤدية لشارعنا، وهي تعاود ضربي، بنفس الطريقة تعيد الكَرّة، بقوة أعنف وضربات أقوى.

"أع أع..آه" تخرج من بين أسناني رغم أنني أزم فمي بقوة، وقسوة.

 لم أبكْ، دموعي تسيل وحدها.

 مسكة كفها لكفي، وقبْضُها على أصابعي حديد. قبضتها، وأصابعها الخشنة من الغسل والمسح والكنس، وقشف الشتاء، حديد، وجهها الغاضب بلا شفقة أو إشفاق على وحيدها حديد.

 هي تواصل ضربي وسبي وشتمي، وأنا لا أبكي، أتوجع فحسب، ويتصلب وجهي، أزم شفتي حتى لا تخرج "آه" واحدة، ولا أقول لها كلمة.

 طيلة المسافة من ملعبنا، ساحة الدحضيرة، خلف الجامع، وحتى بيتنا بشارع صرغتمش، كانت تسحبني مهرولة، تحت زخات المطر المتصاعدة، بوشيش متصل، وكانت السماء ملبدة بالغيوم، وترعد رعدًا أزرق مخيفًا.

 كنا نجتاز الأوحال وبرك الماء مهرولين، أمي تستغيث بالله من غضب السماء" يا ساتر استر يا رب" تطلب رحمة الله ولا ترحمني. تسحبني وتواصل ضربي، وشتمي وسبي. شنطتي القماش القديمة، حول عنقي، وعلى صدري، تشربت بالماء كأنها مغسولة للتو تحتاج للنشر، كتبي وكراساتي داخلها ابتلت، مريلتي مبلولة، وأطراف بنطلوني تنضح بالماء، وكاوتشي الأبيض صار أسود بالوحل.

 لم أكن أبالي بالرعد والبرق، وضربها لي فقد كان الخزي من أقراني يملأني ويؤلمني أكثر. صاحت فيّ وسبتني مرارًا وتكرارًا "واد بايظ فلتان" وجرتني أمامهم جميعًا، وضربتني على رأسي، وظهري، كأنني لم أعد في الثانية عشرة، ولست رائد فصلي، وأول المدرسة، ومذيع إذاعتها المدرسية، وكأن ليس فوق شفتي شارب أخضر قد خط.

 لما صعدنا للبيت، هدأتْ قليلاً، ألقتني في ركن الغرفة كمن يدفع مجرمًا، وقعدت على الأرض متربعة على الحصيرة، أسندت ظهرها للسرير، سريرها وأبي، وأراحت كوع يمينها على ملاءة المرتبة، وأعطت وجهها لأبي الجالس على طرف السرير دون أن تقول له "العواف". أمي يدها على خدها وطرحتها مبلولة، ساكنة عند قدمي أبي وصامتة، وهو نظر إليها، وعرف منها دون أن تتكلم.

"يومي أسود".

 وجهها ما زال حانقًا وغاضبًا، وهي تنظر إليّ في ركني، تنظر إليّ في عيني. أرسلت من عينيها كثيرًا من اللوم والعتاب وخيبة الأمل. أخفضت رأسي، وبصري، وثبتُ عيني على جوربيها الأسودين، فيهما خرق كثيرة متناثرة في قماشهما الصوف.

 أمسح العرق عن وجهي، وأكظم دموعي المتحجرة بعيني.

 في بصري كانت الحجرة واسعة، وغائمة في سحاب رمادي، دخان شفاف يتصاعد من منقد الفخار الكبير أمام السرير، يظهر لي خلف الدخان وجه أبي عابسًا ومحزونا في جلسته، نصفه الأعلى مستريح على حافة السرير، يداه مفرودتان وكفاه مفتوحتان فوق المنقد، وقدماه ثابتتان فوق الحصيرة القش. أبي ساكن، بلا حركة، بلا صوت، كتمثال. يحدق في الفراغ أمامه، ثابت النظر كأنه لا يراني منزوٍ في الركن، خلف الباب المغلق، زري الهيئة، بوحلي، وحقيبتي وبللي.

 حولتُ عيني عنه لما رأيته لا ينظر إليّ، مشغولاً بذاته، وبتحديقه في الفراغ، ناسيًا يديه فوق نار المنقد.

 كأني أرى بيتنا للمرة الأولى، الحيطان حولي جرداء مطلية بالجير الأزرق وعالية، والشباك الواسع المطل على الشارع، ينقر زجاج ضلفتيه مطر متواصل. السقف الخشبي بارز العروق، مرتفع كسماء رمادية، وبعيد جدًا. اللمبة الحمراء المعلقة بسلك طويل، مسود من براز الناموس، بوسط السقف، ترسل ضوءًا خافتًا وواهنًا، يصنع دائرة فوق أطباق عدس ساخن يتصاعد منه البخار، وضعتها أختي مُنى على الطبلية، في منتصف الحجرة، وذهبت للوزة، جارتنا، لما أشاح لها أبي بيده أن تغور الآن.

 أطأطأ رأسي، جائعًا، أشعر بأني ضئيل، وتافه، وعاجز.

 تجمد أبي في جلسته على السرير، جلبابه الصوفي بني، يداه مفرودة فوق موقد النار، جمرات الخشب حمراء، وترسل دفئًا. وأمي مازالت جالسة عند قدميه على وضعها، وهيئتها صامتة.

أبى ساكت وواجم.

 مر الزمن بطيئًا جدًا، كأنه دهر طويل. وما زلت منكمشًا في ركني، ضئيلاً ومتكورًا على نفسي، كالكرة الصغيرة، التي كنت ألعب بها منذ نصف ساعة.

 قلبي يكاد يتوقف من الخوف والفزع، صمتهما وسكونهما موحش وغريب.

كنت أترقب شيئًا رهيبًا.

 كلما كنت أنظر إلى وجه أبي كنت أراه جامدًا بلا تعبير، يتابع مد يديه فوق النار، ويقلب في المنقد شيئًا لا أتبينه، ولا ينبس بكلمة.

 لم يكن من خصالي أن أبدو خاسئًا، جبانًا على هذه الصورة، كنت أقود العيال، أتسلق سور المدرسة برشاقة وسرعة، ولا يلحق بي أحد، حتى الكابتن عبد الخالق، مدرس الألعاب.

 واليوم أحرزت هدفين فى مرمى فريق الولد عبد الظاهر أمام كل الناس، عبد الظاهر أكبر منا وساقط سنتين، ولاعب رِخم، فزت عليه للمرة الأولى، رغمًا عن أنفه ونباح كلبه الأسود الشرس الذي يصحبه معه في كل مكان، ورغمًا عن الأمطار الغزيرة التي سقطت أثناء اللعب، وحولت الملعب لبركة موحلة. كانت المباراة ستستمر إلى الأبد، وسأتمكن من إحراز أهداف أخرى لولا أن جاءت أمي؛ لتكسفني قدام أقراني، وأصدقائي.

 اللمبة المعلقة في سلك طويل بوسط السقف الخشبي ترسل ضوءًا أحمر خافت، ودخان المنقد يضفي على الغرفة جوًا غريبًا، وصمت أبي وأمي رهيب، مخيف.

 ينتابني فزع مريع، أريد أن أصرخ، أن يخرج من فمي، من بين شفتي أية كلمة، ولكن الكلمات تتحجر على لساني فلا أجد ما أصرخ به، ماذا يريد أن يفعل بي هذا الرجل.

 في الدخان المتصاعد من المنقد رأيت أمي تفتح كفيها، وتفرد ذراعيها فوق جمرات النار، وأبي يقوم من جلسته على السرير بوجهه الجامد، يركع على ركبتيه ويعبث بالمنقد، يستخرج شيئًا منه، ثم يخبأه خلف ظهره، ويقوم ببطء، يتقدم نحوي كشبح طويل، من البلاط للسقف، في جلبابه البُني الواسع، الأسود في عيني، ويده خلف ظهره.

 أطأطأ رأسي، وألصق عيني بالكاوتش الموحل في قدمي، وبالبلاط العاري.

 الصبي، الذي كنته يومًا ما، رأى أباه يتقدم نحوه بخطوات بطيئة، ويصل إليه بوجه جامد، وعينين شاردتين كأنما لا تريناه، فرأى الرعب مجسدًا.

 أبوه صامتًا يتقدم نحوه. أمه جالسة في اطمئنان تدفأ نفسها بحرارة النار، أمه لا تنظر إليه، لا تنظر في عينيه، أمه امرأة غريبة لا يهمها سوى الدفء الآن، أبوه زعيم عصابة يتقدم نحوه بقلب جلف، أبوه شيطان ملعون له هذا الوجه المفزع، هذه الأسنان الحادة السوداء، وجهه قبيح غير محدد الملامح، عيناه تبرقان في دخان الغرفة، وجه الأب الشيطان يقترب أكثر وأكثر، وجسد الصبي صغير، يداه قصيرتان، يشعر بفزع هائل يجتاحه، يرتعش من رأسه حتى قدميه، يرتعش ويبكي ويولول صارخًا، لا يعرف ما الذي سيحدث، لا يعرف ما الذي سيصيبه.

 لم أر أبي أبدًا على هذه الصورة، النجار الطيب لا يمكن أن يكون هو هذا الوحش الذي يتقدم إليّ، مخبئًا خلف ظهره شيئًا لا أراه.

 اقترب مني بوجه كالصخر، لم يقل شيئًا، صرخت وأنا لا أعرف، ماذا ينوي، ماذا يريد مني، ماذا سيفعل بي.

 أمسك بيدي اليمني، وأخرج من خلف ظهره سيخًا حديديًا طويلاً يتوهج بالاحمرار، قبض على كفي اليمنى، ومدها، قلبها على ظهرها، صرخت، وضع السيخ الأحمر فوق يدي، كان الألم لا يطاق، صرخت، وصرخت. كان ألم حرق جلد أصابعي يتصاعد، وأنا أحدق فيه بوجه مصعوق متوسل، وجه الطفل البريء الذي صدمه أبوه، وأراد قتله.

 أبي أتقتلني؟ من أجل ماذا؟

 أنا أتعذب، أتألم، ظهر يدي احترق، إصبعي السبابة والإبهام احترقا، عاهة مستديمة لن يمحوها الزمن، يدي يا أبي، أصابعي، لم أفعل شيئًا، كنت أود فقط أن ألعب وأراوغ وأتفوق، وأن أفوز على عبد الظاهر وفريقه، أبي أنا ألعب الكرة بمهارة، أنا شاطر، سأجعلك تفخر بي، أبى أنا أتألم، أبكي، جلد يدي يحترق، قلبي الصغير يحترق.

 أمي صامتة تحدق فينا، فيّ وفي أبي، وبلا نظرة شفقة أو رحمة، ابن من أنا، هل التقطاني من الشارع ذات فجر؟! هل أنا ابن زنا، ابن الخطيئة والحرام؟!

 جلدي يحترق، وأبي ينزع سيخه أخيرًا بعد أن تركه يحرق ظهر أصابعي، بعد أن سمع صرخاتي وتأوهاتي، وتضرعاتي. الرعب الذي أورثني إياه لا يثمن ولا يقارن، الخوف الذي زرعه فيّ لا يحصى ولا يعد، الألم الذي أذاقني إياه لا مثيل له، لا نظير له، ليذهب إلى جحيم أكبر، إلى هاوية أفدح، ذلك الذي نقش على يدي دليل تعذيبي، وذلي.

لكنها بطة أيضًا، بطة لا تحبني، تكرهني.

 كنتُ قد فقدت الإحساس بالألم، وصارت رائحة الحريق في أنفي ثقيلة وجاثمة، كنت أبكي وأصرخ، حين فتح أبي شفتيه، ونطق حزينًا:

- "اللي عنده شهادة ما يهربش من المدرسة".

 وخرج بسرعة من الحجرة، ومن البيت كله، في المطر الغزير.

 

(5) إيمان
 كنت ما زلت متماسكًا في وقفتي حين شل ألم هائل يدي، وذراعي، وكتفي.

 سقطتُ على مؤخرتي في ركن الغرفة على البلاط العاري، وأمسكت بيدي اليسرى معصم اليمنى المحترقة، وأخذت أضغط عليه بقسوة، وأنا أصر على أسناني من الألم، وأكتم صرخاتي، كفي حمراء، وأصابعي المحترقة ترتعش، تنزل دموعي على خدي بلا إرادة مني، وبقية جسدي الضئيل مشدود، متصلب في انحنائه لأسفل، يراقب احتراق جزء منه.

 قامت أمي من قعدتها، وجاءت إليّ، وضربت على يدي اليسرى الميتة فوق اليمنى، وأبعدتها بغلظة، وراحت تحدق فيها. تلدغني حيّات في جلد ولحم أصابع يدي، وتمد ألسنتها الطويلة ماصة الدم بجشع، الحيّات الرقطاء تمص ببطء، بهوس واستمتاع.

"آه..آه" يئن جلدي، ولحمي، وعظامي.

 نظرتْ إلى أصابعي المحترقة عابسة، وبلا عاطفة، وعقدت يديها فوق بطنها بحركتها المعتادة صامتة. بعد وقت أدارت لي ظهرها وتحركت مبتعدة عني، فأظلمتْ عيناي.

 أرى ظهرها أسود، وجسدها بلا حدود تجسّم شخصها.

 ذهبتْ للحجرة الأخرى التي تطبخ فيها، وأنام بها وأختي مُنى، وعادت بحلة ألمونيوم كبيرة ممتلئة لحافتها، وضعتْ يدي المحترقة على سطح الماء، وأخذت تضغط على معصمي, وأنا أمانع يدها من الألم. لم أقاومها أكثر واستسلمت لضغطها حتى غاصت يدي وذراعي لقاع الحلة. كان لوضع يدي في الماء البارد صوت وشيش متصاعد، ورائحة إطفاء حريق.

كـأني رأيت دخانًا أسود يتصاعد من يدي، والحلة.

 ببطء، هدأ الألم الحارق قليلاً، وزفرتُ من فمي براحة، ممتنا لمعجزة الماء.

نملت يدي وتخدرت أصابعي، وصارت أكثر بياضًا وبرودة، كقطعة ثلج.

 دون أن تقول شيئًا أو تنظر إليّ، تركتني وذهبت لتطبخ، وكان أبي قد خرج لدكانه دون أن يعير عذابي أي اهتمام، أو يلقي نظرة على ما صنع بي. تجمدتُ في مكاني على البلاط كتمثال قاعد، تاركًا ألمي واحتراق يدي لرحمة الماء، مرت دقائق قليلة قبل أن أرفع يدي من الماء فأرى أصابعي يملأها الهواء ببطء أمام عيني، فتنتفخ بالتدريج إصبعًا بعد آخر.. تنتفخ وتكبر تدريجيًا مثل بالونات صغيرة ينفخها عيّل صغير الواحدة بعد الأخرى، يدفع الهواء فيها بنفس ضعيف، وبخدين منفوخين، فتنتفخ وتكبر كفي كلها، تنتفخ أصابعي وكفي وتكبر... حدقت فيها مصدومًا، ولم أستطع أن أحبس صرخة خرجت مني. كنت خائفًا، ومرعوبًا من أصابع الفيل التي نبتت ليّ.

 جاءت أمي مرة أخرى على صرختي، نظرت لأصابع يدي، ونهرتني بنظرات زاجرة، فعدت للتجمد في مكاني، لا مباليًا بشيء، حتى بيدي الحمراء المنتفخة وأصابعها البالونات التي وضعتها في الماء مرة أخرى وذهبتْ لركن طبخها، وعادت بزجاجة زيت التموين، وأمرتني أن أرفع يدي من الماء، رفعتُها مرغمًا، أصابعي ترتعش والماء ينقط منها قطرة بعد قطرة. بهدوء وبطء، راحت تصب الزيت على أصابعي، ما إن تهبط نقطة على جلدي حتى أصرخ من الألم، وأعافر للإفلات من قبضتها، كفرخ يُذبَح.

 فوق أصابعي ويدي سكبتْ نحو نصف الزجاجة، تمسك يدي بيد وتصب بالأخرى، حتى صارت أصابعي المنتفخة مدهونة بالزيت، لامعة كأصابع حلوى، ممسوحة بزيت التموين، مسيح ممسوح بالزيت عُمّد من يده اليمنى وأصابعه، بيد من أخرجته من رحمها!

 كان ألمي قد بلغ أقصى ذروة ممكنة، وأذل كبريائي، فتخليت أخيرًا عن عنادي وصلفي، وتركت العنان لنفسي، صرت أصرخ، وأصرخ، وأبكي كرضيع في اللفة.

 ضربتْ رأسي، وهي تلف كفي في قطعة قماش بالية. التصق القماش بأصابعي، صرخت فيها أن تقطع يدي، بكل ما أوتيت من عذاب صرخت "اقطيعها بالسكينة". وكنت قد صرت أتمني أن تبتر أمي هذه اليد كلها، وتريحني من ألمي. انقلبت على جنبي رافعًا ذراعي، ومحاولاً تكوير يدي المحترقة في قبضة، بلا جدوى، وأنا أصرخ فيها صرخات مريعة، ناظرًا إليها متوسلاً أن تخلصني من محنتي. وجهي دموع مالحة، ومخاط ينزل من أنفي.

 لمّا التقت عيناها بعيني، ونظرت إليّ بان على وجهها أنها تشعر بالخطر للمرة الأولى!

قالت خائفة بصوت خفيض:

- "خليك مكانك، زي ما أنت..أوعى تتحرك على ما آجى". أسندت رأسي للحائط خلفي، وفردت قدمي رافعًا يدي المحترقة في الهواء، وأغمضت عيني، وحاولت أن أغني لأنسى ألمي، فخرجت مني أنات وأصوات مبهمة، لا معنى لها، كانت يدي، وذراعي اليمنى كلها قد صارت غير موجودة، غير موصولة بكتفي، فقدت الإحساس بها نهائيًا، فقط ألم حار مستمر، ورتيب. كنت أنهنه، وأموء كقطة صغيرة خبطها ولد بطوبة في رأسها، وكنت قد ذهبت في ظلمة تامة، غبت عن الوعي، وصرت لا أرى سوى ظلمة رأسي.

 حين فتحتُ عيني كانت إيمان الممرضة تنحني فوقي، بوجه أسمر طويل، وأنف صغير، وملامح منمنمة كعروسة مولد من السكر والحلاوة، كانت قصيرة، أطول مني قليلاً، أقرب إلى قزمة أنيقة، وشديدة النظافة والاعتناء بمظهرها. فوق فستانها الأصفر القصير بالطو أبيض، ناصع البياض، وفوق أرنبة أنفها نظارة طبية رقيقة العدسات، وشعرها الأسود الطويل منساب خلفها حتى أسفل ظهرها. ابتسمتْ لي ابتسامة واسعة كشفت عن أسنانها الصغيرة ناصعة البياض، وقالت كلامًا كثيرًا عن جزاء الولد الشاطر الذي يلعب بالكبريت وبمنقد النار الفخار حتى يحرق يده هكذا. فتحت حقيبتها المعدنية مربعة الشكل، كثيرة الجيوب، وأخرجت من بين المشارط والملاقط والأدوات الطبية مشرطًا صغيرًا، ورفعته في وجهي مبتسمة، ومكملة كلامها عن الولد الشقي. رفعتْ يدي المصابة، وراحت برقة، وأنامل دقيقة تفك القماش الذي لفت أمي يدي فيه. كانت تبتسم لي طيلة الوقت وتقول" كده يا سيد يا حبيبي تحرق نفسك، لا.. لا كده ما ينفعش يا بطل". فكت القماش الملتصق بجلد يدي، بخفة يد، ولطف، ودون أن تؤلمني، ورفعت يدي وأصابعي المنتفخة المتورمة، المدهونة بالزيت أمام نظارتها، وحدقت فيها لحظات طويلة فارتاعت من المنظر، تغير وجهها، وكشّرت في وجه أمي ساخطة: - "يا لهوي.. من إيه دا يا بطة؟! دا مش لعب بالكبريت، ولا أيده جت في منقد النار..دا مصيبة سودا".

 صمتت أمي، ونظرها معلق بيديّ إيمان.

- "وكمان زيت على الحرق، ومية يا جاهلة!"

استشاطت الحكيمة غضبًا، وهي تسب الجميع:

- "الله يخرب بيوتكم، الواد أيده هيصيبها غرغرينا .. "

 عقدت أمي يديها على بطنها، ومصمصت شفتيها باستهانة:

- "بسيطة يا آختي، هدي نفسك!"

زاد غضب إيمان الحكيمة، وراحت تسب كأنها تكلم نفسها "جهلة..أغبيا ..".

حين تطلعت أمي نحوها، نظرت إليها شذرًا، وزعقت، وهي تقلد طريقة وكلام أمي:

- "هه!! بسيطة يا آختي!!".

وزفرت حانقة وهو تفك الخرقة برقة عن يدي:

- "يبقى بأيد مقطوعة وبسيطة!! بسيطة يا آختي".

 أخيرًا فهمت أمي المصيبة فخبطت على صدرها كمن أذهلها الخبر، وفرت الدموع من عينيها، وتوسلت للحكيمة:

- "اعملي أي حاجة يا إيمان يا آختي، الله يخليكي". رفعتْ رأسها، وقالت بجدية طبيب مستشفى الحوض المرصود، والصليب الذهبي الكبير يتأرجح فوق صدرها:

- "ومين الحمار اللي عمل في الواد كده؟!"

صمتت أمي مبهوتة.

- "أنت عارفة العملة دي تودي فين؟!"

أطرقت أمي للأرض في خزي عميق.

- "تودي السجن يا فالحة، أنتِ وأبوه، واللي عملها".

 انهارت أمي، وسقطت على البلاط، أسندت ظهرها للحائط، وأخذت تبكي بحرقة. زغرت لها إيمان، وقالت:

- "موكوسة طول عمرك..الواد الحيلة عايزه تعملي له عاهة؟"

صوتت أمي من القهر، ولطمت خديها:

- "يا لهوي يا لهوي.. يا خرابك يا بطة..يا همك يا بطة..يا..".

 أخرستها إيمان بحركة متوعدة من يدها، فوضعت أمي يدها على فمها، وتطلعت لإيمان بضراعة وتوسل، صامتة.

 راحت إيمان تداعب خدي برقة بأصابعها القصيرة، وهي تهمس في أذني: "أجمد يا بطل، ما تخليش المَرَة الخايبة دي تستعيلك!! أنت راجل مش كده؟!" أومأت برأسي موافقًا، والخوف يقتلني.

 أعطتني حقنة بنج صغيرة لم أشعر بها، وراحت الحكيمة تفتح أصابعي الخمسة المنتفخة واحدًا وراء الآخر، وتطهر جروحي بالميكروكروم والتوتيا، وكنت قد فقدت وعيّ بالألم، وأغمضت عيني، وصرت في غابة ساحرة، أشجارها خضراء وحمراء وزرقاء، وأوراقها ملونة، وطيورها بيضاء وخضراء وبألوان كثيرة، وفي السماء عرائس، حوريات طائرة، ذات أشكال فريدة وألوان لا مثيل لها، ومن حولي عصافير تزقزق وتطير فوق رأسي وأمامي وخلفي، أسير مسحورًا في مروج وجبال ووديان يخترقها نهر أبيض، وأنا سكران، منتشٍ، أجري وأجري ثم أطير كعصفور، وأغرد في سماء الغابة.

 استيقظت بعدها بساعات، أو أيام، لا أدري، حين صحوت كنت في سرير أبي وأمي، يدي مربوطة بشاش أبيض أنيق، وإلى جواري على الكوميدينو طبق فيه مرقه، وورك فرخة.

 رحت آكل بنهم مستمتعًا بطعم اللحم، ودفء الشوربة، وبهجة التخلص من يوم دراسي ممل، لكنني لم أكن شاكرًا لليد التي حرقتني، واليد التي وضعتني في سرير ناشف المرتبة، كنت أنتظر يد إيمان لتغير على جرحي، وتداويني بأصابعها الرقيقة، وتبتسم لي بملامحها المنمنة، اللطيفة.

 لأسبوع كامل، سبعة أيام، عصر كل يوم تأتي لبيتنا، تضمد جراحي، تغيّر على الجرح في يدي، تلاطفني، تلاعبني وتهزر معي وتضاحكني بقدر انتهائها من كوب الشاي، وتروح لمريض آخر، في بيت آخر، مودعة بدعوات أمي. إيمان مرقص الحكيمة التي ترتدي جيبه فوق الركبة، وتلمع ركبتيها الجميلتين الصغيرتين، تعطى الحقن لأهل الحيّ، وهي تسبهم وتشتمهم، وما زالت في العشرينات من عمرها، عذراء مثل القديسة مريم، تشفي الجراح، ورثت الصنعة عن أبيها عم مرقص الذي أوصي الجميع عليها قبل أن يتنيح، وكانت محبوبة مثل اللبان الدكر عند نساء حينا، وملاك المرضى، ومحبوبة في عيون رجال حينا على الرغم من قصرها ونحافة جسدها، محبوبة ربما أكثر من صبايا حينا الجميلات، ولها معزة خاصة، وعبارات امتنان وهزار وغزل جارية على ألسنة أسطوات، ومعلمين طولون.

 في الأجازة الصيفية التي أعقبت حصولي على الشهادة الابتدائية بتفوق ونبوغ، جاء ابن عمها من الصعيد وزُفت إليه في فرح كبير، حضره صعايدة السيدة والخليفة، ووجه قبلي كله، وسهرت فيه طولون برجالها ونسائها وأطفالها للصباح. بعد الزفاف أخذها العريس وذهب لأسيوط، ولم يعد بحينا ممرضة تضمد الحروق وتعطي الحقن، وتنهر النساء والرجال، وتصمهم بالجهل والإهمال.

كم أحببتها.

 ذهبت الحكيمة إيمان لأسيوط عروسًا منمنة، صغيرة الجسم، واختفت خطواتها القصيرة من شوارع حينا، وكنت أعد أنا نفسي للإعدادية. زي مدرسي جديد، وداعًا للمريلة البنية، وأهلاً بالبنطلون والقميص، وداعًا ل"مخلة روحية"، وأهلاً بالحقيبة المدرسية الجديدة. الحقيبة "السامسونيت" التي اشتراها لي أبي، بنفسه، كمكافأة نجاح وتفوق. أخذني من يدي للعتبة، وتركني أختارها بمزاجي، ودفع فيها ثلاثة جنيهات كاملة، سعيدًا وفرحًا: "ما تغلاش عليك يا سيد".

 حقيبتي التي اخترتها أخيرًا بنفسي، الحقيبة المعدنية السوداء، ذات القفل والأرقام السرِّية، والتي سترافقني في الإعدادي والثانوي، الحقيبة السامسونيت التي تشبه إلى حد ما حقيبة تمريض إيمان.. إيمان الحكيمة.

 

(6) أُنْس
 وأنا في ثانية إعدادي حدث أن دخلت بيت أُنس، لأول مرة في حياتي.

 كان بعد العصر حين خرجت من الدكان، وأنا قابض على "شنطة العِدة" في يدي اليمنى، يبرز من الفراغ البسيط بين ضلفتيها المقفولتين "السِّراق" المشرشر، الطويل. حقيبة مستطيلة، تحفة ثمينة، صنعها أبي كلها من الخشب الرفيع، الغالي: عظمها من خشب الزان، وجسدها من الأبلاكاش وخشب الأرّو، وجيوبها الخشبية في الداخل فورومايكا بنية لامعة، ولكل صنف من عدة النجارة جيب مخصوص. ويد الشنطة، اليد التي أقبض عليها، ناعمة تحت أصابعي وزان درجة أولى، خرطها الأسطى حسن الخرَّاط بحرفنة غير معهودة، والثلاث مفصلات التي تمسك جزئي الشنطة من نحاس يبرق لامعًا، خاطفًا الأبصار. شنطة عدة الأسطى فرج، في يدي، تشبه حقيبة سفر ثمينة وفاخرة، ولها قفل نحاسي صغير، و"حاجة تشرف بجد" كنت أزهو وأتعاجب بها وأنا في طريقي لبيت أُنس. داخل الشنطة كل الأدوات التي طلبها أبي، داخل الشنطة المتينة شاكوش وكماشة ومرزبة، والمنشار الصغير، والفارة، والأزميل. قبل أن أخرج من الورشة تممت على العدة كلها، وتأكدت أنني لم أنسْ شيئًا كما أوصاني أبي. خرجت من الدكان وأنا أقول لنفسي "الشنطة تمام يا أسطى سيد..تمام، الحمد لله ما نستش حاجة". كله تمام إلا منظري الذي لا يسرني. كنت أرتدي القميص والبنطلون الملطخين ببقع ملونة هنا وهناك كيفما اتفق، لبس شغلي الذي يفضح أنني ما زلت صبي أُسطُرجي، وبقايا الشَرُوز الأحمر لونتْ معظم الكفين والأصابع في يدي اليمنى، وبعض راحة اليسرى.

 خرجت بيدي حمراوين هكذا، لأنني تركت شروزة الكوميدينو، ولم أغسل يدي، فقط مسحتهما في خرقة، حين قال لي الأسطى فرج:

 - "خد شنطة العدة، واسبقني قوام على بيت أُنس".

- "فين يا أسطى بيت أنس ده؟"

خرج بي من الدكان ومشي معي ثلاث خطوات، وأشار إلي ناحية شارع الخضيري، وقال:

- "العمارة القديمة اللي لازقة في سبيل أم عباس".

 عدت أنا للدكان وهو وقف يتكلم مع لوزة الفاكهانية عند عربتها الخشبية، أبي دائمًا ينادي لوزة ب"يا لوزة يا آختي".

 أعددت شنطة العدة بسرعة، وآخر تمام، وأنا مبسوط بالخروج من حبسة الورشة وشقاها، وبالذهاب لبيت جديد لم أدخله من قبل، خرجت كأني ذاهب لسينما وهبي، حفلة ستة. وها أنا، وحدي، في طريقي لبيت أنس، ومعي كل العدة اللازمة، محفوظة تمام في حقيبة فاخرة، ليس لها مثيل.

 رغم غروب الشمس تقريبًا إلا إن الدنيا ما زالت نهارًا، الجو حار، وأنا حران وعرقان، أمشي ولا ظل لي يمشي خلفي على أسفلت الشارع. كان معي عشرة صاغ في جيبي، في جيبي ثمن كوب عصير مثلج، يا جماله، على البركة قررت بعد تردد، وخوف من أن أتأخر فيسبقني أبي لبيت أُنس وتبقى مصيبة على دماغي. بقلب جامد دخلت محل "عصير السعادة" لصاحبه المعلم فارح، في مواجهة مدرسة صرغتمش، بشارع الخضيري.

 وضعت الشنطة، بكل أَيَامه، على بلاط الدكان، ورفعت كوب العصير اللذيذ إلى شفتي، وشربت بهدوء على شفطات قصيرة بينها وقت، هكذا أستمتع أكثر بحلاوة السكر.

 شربت العصير بتلذذ، وأنا أتفرج على المعلم فارح، وأنا مستغرب من شكله وملابسه. المعلم الكهل، الجالس على كرسي الحساب أمام البنك القصير،"أبو قُرصَة" نصف دائرية، كان يرتدي عباءة كمونية فاخرة، وعلى كتفيه كوفيه حمراء فاقعة. شعره المجعد كثيف، أسود ولامع، وشاربه العريض بطرفيه العريضين ينزل لأسفل، "نازل يشرب..هه"، وجه المعلم سمين ومفلطح وخدوده تنضح بالاحمرار، كوجهه كله. كانت كل شعرة في رأس المعلم وشاربه مصبوغة بصبغة سوداء. ومن الحر والعرق، كانت الصبغة السوداء الكثيفة في شعر وشارب المعلم تسيل ببطء ورقة. ورائحة السبرتو في الصبغة المغشوشة تسربت لأنفي، فابتسمت وحاولت ألا أضحك. لم أستطع كتم الضحكات في صدري، وضعت كوب العصير الفارغ على الرخامة قدامي، وضحكت بصوت عالٍ، وخبطت يدي في جبهتي، بنفس حركة أبي حين يندهش، ويتعجب.

 لدقيقتين لم يلاحظني المعلم الذي كان مشغولاً بتلقي النقود، وإرجاع الباقي لرجل عجوز واقف قدامه، ولكن ضحكي كان قد زاد عن حده، فسمعني، و نظر إلىّ. من مكانه صاح بي بخشونة:

- "فيه إيه يا ولد؟"

اهتززت قليلاً، ولكني تقدمت نحوه، وقلت له، وأنا أشير لشعر رأسه:

 - "الصبغة دي مغشوشة، بايظة يا معلم فارح".

 سكت لحظات، وهو يتفرس في وجهي، كان يعرفني ويعرف أبي.

 نظر إليّ، إلى الصبي، سيد ابن فرج النجار، الذي يقف أمامه باهتمام، وقلب شفتيه الغليظين تحت شاربه، مغشوش الصبغة، ووزني بعينيه وزنة أهانت صباي، وأغضبتني.

 قال باستهانة وسخرية:

- "هه.. وعرفت إزاي يا أسطى سيد؟"

 لم أنبسط من سخريته لكني انبسطت جدًا، على كل حال، لأنه ناداني بكلمة "أسطى". أنا ما زلت، بصفة أساسية، "صبي" أُسطورجي، صبي الأسطى طارق، وبصفة احتياطية صبي الورشة وأبي النجار. لم أبلغ بعد مرتبة الأسطى المبتدئ، يجب أن يراجع العمل ورائي أسطى كبير، بعد ثمانية أعوام، ثماني إجازات صيفية في الورشة ما زلت صبيًا. أنا لا أُفنِش أية قطعة أثاث بعد، دولاب أو سرير أو حتى كومودينو، فقط أقوم بالأعمال الثانوية كبطانة "العفشة" الصغيرة، المكونة من الفوّاطة والأجزخانة، وبرواز التسريحة وكرسيها، ودهان القلب والعظم، ودهان أي تجويف فارغ لشيء مقفول.. أنا أبطن عظم قطعة الموبيليا والفراغ..الفراغ الذي تراه وأنت تفتح ضلفتي الدولاب، أو الشوفنير، أو التسريحة، أو وأنت تشد الأدراج المغلقة لتفتحها.

 قلت للمعلم بلهجة الأسطى الكبير: - "بقولك الصبغة مغشوشة، وبتسييل على دقنك".

مسح شاربه وقال ملدوغًا:

- "أبدًا..مافيش حاجة يا ولد".

قلت له بصوت واثق:

- "مغشوشة، وريحة السبرتو طايرة منها لخمسة متر!!"

 ضحك عبده العامل خلف الرخامة الكبيرة البيضاء، فنظر المعلم فارح نحوه بغيظ فانكتم، وواصل دفع أعواد القصب لمكنة العصر.

- "الصبغة دي مغشوشة، وشكلها معمولة م الفحم!!"

وقف المعلم في مكانه، ووضع راحتيه الاثنتين على شعره، وأخذ يمسحه للأمام.

سالت خيوط الصبغة على جبهته، وعادت إليه يداه البيضاوان سوداوين، بكل سوء.

صرخ المعلم غاضبًا: "الواد ابن القحبة..ابن الزانية".

واستمعت إلى وصلة لعن المعلم فارح ل"عزيز مونة بتاع الدهانات"، وأنا فخور بعلمي، واختصاصي في أعمال الدهانات والصبغ.

- "كده تستغفلني يا عزيز في صبغة مضروبة، وجلال الله ل...".

 تحرك المعلم خطوتين فصار خارج عتبة المحل وما زال يسب "عزيز مونة".

أخيرًا نفث دعاءه الأخير"الخلاصة، ربنا يخرب بيته" وتكرم عليّ بكوب عصير مجاني:

- "اشرب يا سيد شوب تاني كبير على حسابي".

 شربت الشوب الثاني سعيدًا ومرتويًا، وأنا أتابع المعلم يعبر الشارع للجهة الأخرى، في طريقه لجامع طولون؛ كي يغسل رأسه وشاربه، ليتخلص من الصبغة المغشوشة وليرى لون شعر رأسه الطبيعي، على لونه الحقيقي. خطى المعلم ليصعد السلالم الكثيرة لمدخل الجامع حين خرجت من فمي "تكريعة" بعد آخر جرعة من عصير قصب السكر.

 "يا مسهل".-

قلت كما يقول أبي وأنا في طريقي لسبيل أم العباس.

 البيت الملتصق بسبيل "أم عباس" بيت جميل وسكانه ناس أغنياء، "من منظره كده يعني" له ضلفتان خشبيتان ضخمتان، وفي غاية المتانة، باب بقى له مائة سنة متين ومهيب. وفوق الباب عليّة على شكل قوس، لها أسياخ حديدية جديدة، هي، أكيد، من شغل"عنتر الحداد"، وجاءت من ورشته منذ وقت قصير، أسبوعين مثلاً، على ما أعتقد!

دفعت الباب، ودخلت بثقة ابن الحيّ.

 يبدو أن الدور الأرضي لا يسكنه أحد، بابا الشقتين المتقابلتين فيه علاهما التراب وانطفأ لمعان ورنيش الفلوت عليهما، والشراعتان الزجاجيتان، واحدة انطفأ جمال الرسم على زجاجها والأخرى بلا زجاج من أصله، فقط خشب أبلاكاش قديم. لم يصادفني أحد أمام البيت، وأبي كان قد قال لي" بيت أنس في الدور الثاني".

الدور الأرضي شبه مظلم، قليل الضوء، وله رائحة عتيقة، مكمكة. تحسست طريقي قابضًا على شنطة العدة في يدي حتى وصلت للسلم. صعدت السلالم الرخامية للدور الثاني يغمرني حب استطلاع لشقة ناس أغنياء. باب شقة أنس مدهون حديثًا، والورنيش الجديد عليه، يهبه لمعانًا وزهوة، هذا شغل الأسطى طارق، لا بد إنه عمله وحده من غير صبيه، من غيري لأنني كنت في المدرسة، ولم أنزل الورشة بعد في الإجازة. وضعت شنطة العدة على الأرض، ومددت يدي اليمني وضغطت على مفتاح الجرس العالي فزقزق بصوت بلبل، وانتظرت أمام الباب أنظر لموضع قدمي مرة ولباب الشقة مرة أخرى.

 فتحت لي امرأة شبه سوداء، بصدر كبير وثديين متماسكين، مفرق نهديها عميق، لامع ومكشوف، وجهها ممتلئ، عيناها مشروطتان ومذججة الحاجبين، وشفتاها مطليتان بأحمر، دم الغزال، وشعرها مجعد طويل، أسود وبه خصلات قليلة بيضاء.

 حين فتحت لي كان وجهها جادًا، وفي يدها سيجارة مشتعلة.

 نظرت لشنطة العدة إلى جانب قدمي، وقبل أن أفتح فمي بكلمة، وضعت يدها الطرية، ببساطة ورقة، على شعر مؤخرة رأسي وقفاي، ونظرت إليّ باسمة: - "سيد ابن فرج النجار؟"

 المرأة أطول مني بنحو عشرين سنتيمتر، وكعب جزمتها الحمراء مثلث وعال، وفستانها الأحمر، مفتوح الصدر، قصير وفوق ركبتيها الجميلتين بكثير.

 رفعتُ وجهي إليها، وأومأت برأسي، وأنا أنظر لعينيها المشروطتين، رموشها طويلة جدًا وسوداء، وعيناها مكحلتان، وساهيتان.

وهى تنفث دخان سيجارتها الرفيعة الطويلة في وجهي، مداعبةً، دفعتني برفق من قفاي للداخل.

- "ادخل يا حبيبي..ادخل".

صوتها مغوي وخشن قليلاً.

 أول ما وقع عليه بصري حين دخلت لصالون بيت أنس، ترابيزة زان فاخرة على أربع أرجل مخروطين، خرطة بطن العروسة، لها رخامة بيضاوية فاخرة ولامعة، وكنبة وأربعة كراس مذهبة منجدة تنجيد إفرنجي بيد مرزوق المنجد، ومدهونة لاكية أبيض. على الترابيزة زجاجات بيرة، وفي الوسط زجاجة خمر لا أعرف اسمها، وعلى الكنبة ثلاثة رجال: واحد، لوحده على الكنبة، فارق شعره على جنب وحليق الشارب والذقن، واثنان على كرسيين، الرجال الثلاثة يرتدون قمصان مشجرة موضة، وبناطيل فاتحة "رجل فيل"، وفي سن أبي تقريبًا، في نحو الأربعين وما فوقها.

 وهي تعود لتجلس في ركن الكنبة على بعد متر من الرجل، الذي فرق شعره على جنب، قالت لي:

- "ادخل لوداد المطبخ يا سيد.. وهي هتقولك على اللي هتعملوه".

وأشارت بيدها لطرقة طويلة.

الطرقة طويلة، ومغطاة بسجادة حمراء قطيفة، والضوء فيها خافت وأحمر.

 وأنا في طريقي للمطبخ مررت بأربع حجرات متقابلة، أربع أبواب مغلقة، وسمعت منها أصوات ضحك نساء، وطرقعات قبلات، وصرخات، وآهات خافتة. وقفت في منتصف الطرقة للحظات مبهوتًا وشنطة العدة في يدي، استغربت ثم ابتسمت، وضحكت وضربت جبهتي بيدي، بالحركة التي أعملها حين أكون مندهشًا وفرحًا، ولم يجل بخاطري حقيقة ما يحدث خلف هذه الأبواب المغلقة. كانت وداد، التي أرسلتني المرأة إليها، واقفة في المطبخ أمام البوتاجاز أربعة شعلة الفخيم، الذي لم يدخل بيوت طولون بعد.على البوتاجاز حلة ألمونيوم كبيرة يتصاعد منها بخار كثيف، البخار يتصاعد لوجه وداد وهي منهمكة في التقليب بمغرفة كبيرة، شعرها الطويل ملفوف في ضفيرة طويلة واحدة خلف ظهرها، ونازلة حتى مؤخرتها الكبيرة.

 سمعتْ صوت وضعي لشنطة العدة على بلاط المطبخ، وأحست بدخولي فاستدارات بهدوء ونظرت نحوي ثم للشنطة.ابتسمت لي، تركت المغرفة وفتحت الثلاجة الإيديال ذات البابين، وعادت يدها بتفاحة أمركاني كبيرة، ناولتها لي وهو تقول برقة: "أمسك يا حبيبي".

أمسكتها في يدي أتأملها وأزنها، كانت كبيرة، مدورة وحمراء وتسيل اللعاب لكنني خجلت أن أرفعها لفمي على طول.

- "لحظة يا أبو السيد.."

فرحت لأنها تعرف اسمي.

 أضافت بعض الملح فتصاعدت رائحة الفراخ المسلوقة من الحلة، غمست إصبع السبابة في المرق وتذوقت الطعم، وقالت"أوم" ووضعت الغطا الكبير فوق الحلة. وأنا كنت أحاول أن أرفع بصري حتى لا أحدق في ظهرها، ومؤخرتها الكبيرة، وساقيها العاريين.

 ركنتْ جسدها على باب الثلاجة، ونظرت إلي بوجه أبيض مثل القشدة، ووضعت يدها في وسطها، وقالت لي بتودد، وبصوت جميل:

-"ها..وأبوك جاي امتى يا سي سيد؟"

قلت لها:

 - "قال لي جاى وراك على طول".

قدمت لي كرسيًا مثل كراسي القهوة، وقالت:

- "طب اقعد ..استناه".

قعدت مكسوفًا قليلاً.

 كنت في إجازة النقل إلى السنة الثالثة، الشهادة الإعدادية، ولم ندرس بعد فصل الجهاز التناسلي في مادة العلوم، في الصف الثالث.

قالت لي: "أنا اسمي وداد يا ابن بطة، سلم لي عليها".

قلت لها:"حاضر..يوصل".

 جاء أبي وهو يلبس القميص الكاروهات الأزرق، النظيف والمكوي جيدًا، والذي يرتديه عندما يخرج من الدكان لمشوار مهم، والبنطلون العادي بتاع الشغل، الزيتي الذي يشبه بناطيل الجيش.

سلم على وداد كمن يعرفها من زمن:

- "ازيك يا وداد؟"

-"ازيك يا أسطى فرج، وحشتنا يا ذوق".

حدق أبي فيها لحظات مضطربًا لوجودي بجواره.

قال لها أبي:

- "عشتي عشتي يا وداد".

قالت له وهي ترفع غطا الحلة:

- "اتعشي أنت وسيد الأول، دقيقة وتاكل أحلى فراخ بالهنا والشفا".

قال لها أبي:"عشتي عشتي يا بنت الناس".

حاولت أن تلح لكن أبي أصر، وأنا ريقي سال على الفراخ.

تبسم أبي لها وهم بالخروج، وقال لي:

-" تعالى ورايه".

قالت وداد:

- "طب ابقى خلينا نشوفك يا أسطى".

غادرنا مطبخ وداد شهي الروائح، والألوان، وخرجنا.

حملت شنطة العدة وخرجت خلف أبي من المطبخ إلى الطرقة.

كانت المرأة السوداء قد فتحت إحدى الحجرات ووقفت على بابها:

"اتفضل يا أسطى فرج".

 دخل الأسطى وأنا خلفه.

 في الحجرة دولاب زان أربعة ضلفة. ضلفتان مهما واقعتان ومركونتان داخل قلبه الفارغ من الملابس، وفي وسط الغرفة سرير كبير بلا مرتبة، الشباك الكبير استيريو بأدراج مكتبة، ومنجد وسطه بقماش حريري أحمر، شغل مرزوق المنجد، والشباك الصغير قصير بصرة حمراء في وسطه. وكانت المُولة واقعة، وفخذا السرير مقلقلين، في ربطهما بالمسمار الرباط في موضعيهما من الشباك الكبير.

قالت السيدة السوداء، وهي تضع يدها على كتف أبي راكنة عليه:

- "الدولاب والسرير زي ما أنت شايف!"

أمسك بأحد ضلف الدولاب وألقى عليها نظرة، ونظر للسرير وقال:

- "تمام، الأوضة التانية فيها إيه؟"

قالت له ونحن خارجين من الحجرة للطرقة الطويلة:

- "نفس النظام!"

في الطرقة سمعنا شهقة طويلة، وآهات خافتة، وصِوات خفيف من حجرة مغلقة إلى جوار حجرة أخرى مفتوحة.

ضحك أبي للمرأة.

- "وداه من إيه يا ست أُنس؟"

الست أنس قالت له:

- "وردية المساء يا أسطى".

قال لها أبي، وهو يعدل القلم الكوبيا على أذنه:

"طب ووردية السهرة بتفتح الساعة كام؟" -

 ضحكت السيدة أنس، واهتزت يدها ذات السيجارة الوالعة دائمًا، وضربت كف يدها الأخرى بكف أبي، كانا فرحين وسعيدين جدًا بتبادل القفشة.

تركها أبي في الطرقة، وعدنا للغرفة الأولى وبدأنا العمل، وذهبت هي في اتجاه الصالون.

 في نحو الساعة كان أبي قد أصلح ضلف الدولابين، وأربعة أفخاذ سراير، وأربعة شبابيك، وعلقنا الضلف في الدولابين، وفردنا ملة السريرين.

الأسطى قال لي، وهو يعلق آخر ضلفة سعيدًا:

- "روح نادي الست أُنس تتفرج".

هززت رأسي، وقلت:

- "حاضر يا أسطى".

- "هتلاقيها في الصالة، قاعدة على الكنبة".

 خرجت من الغرفة، ومشيت في الطرقة الطويلة، وقد أصبح صوت الشهقات والآهات الخافتة معتادًا لأذني.

 كان الحوار في الصالة صاخبًا حين وصلت. كانت الست أنس تنكت، نكاتًا سريعة مضحكة جدًا ومكشوفة، والثلاثة الذين رأيتهم حين جئت للشقة، في أماكنهم يضحكون وبأيديهم كؤوس جميلة من الزجاج، فيها خمرة، ذات لون بني محمر. أشارت لى بيديها، وقالت لي:

- "روح نادي أبوك".

رجعت بسرعة للأسطى وقلت له.

جاء أبي معي.

قالت له: "اقعد يا فرج".

قال لها: "تعالى شوفي كده".

قلت له: "أشوف إيه يا حبيبي ما أنا شفت كتير".

ضحك الأربعة رجال والمرأة.

قال لها أبي: "أنا قصدي الدولاب، والس...."

قاطعته أنس بسرعة:"وإيه يا أسطى ؟.. والسرير، أديك أنت اللي قلت!"

حاولت الضحك مع الجميع مع إني لم أفهم الكلام جيدًا.

قال أبي:" لا.. أنا بكلم جد".

قالت: "وهو يعني أنا اللي بهزر!"

- " يا وليه أنا قصدي تشوفي الشغل".

- "آه ما أنا عايزه أشوف الشغل بجد".

- "يا ست أنتِ ما لكيش حل؟"

- "والله العظيم ولا ربط!"

ضحكوا جميعًا طويلاً، وأنا أهبل في زفة. قامت الست أنس أخذت أبي في يدها "أنجاشيه"، وقالت للآخرين "بعد أذنكم دقايق أنا هروح مع الأسطى يوريني الشغل".

قال واحد من الجالس:" روحي ..شوفي الشغل، واطمني على السرير كويس".

قالت له:" أنا بقول أجربه الأول وأشوف قبل ما ادفع للأسطى".

هرش أبي في رأسه وقال: "خلي عنك خالص".

قالت له: "ما أنا هخلي خالص..خالص خالص..على آخري".

الضحك حلو ومبهج.

قال لها أبي:

- " لا ..أنت من ساعة ما بطلتي رقص دمك خف!".

 وأنا نازل السلالم خلف أبي كنت مبتسمًا، وفرحان ليس بسبب ربع الجنيه البقشيش الذي وضعته الست أنس في جيب قميصي، لكني كنت مبسوطًا أكثر بهذه المرأة شبه السوداء التي تضحك، وتُضحك الرجال الكبار ببراعة، الست التي لا تتكلم إلا بالقفشات، والنكت والدلع، تبسط الرجال، وتقودهم من أياديهم لجلجة الضحكات وانفراج الوجوه، والله نكتها مضحكة أكثر من نكت حمادة سلطان، وسيد الملاح . والست أنس كما قال لي أبي اسمها الحقيقي ليس أنس، قال لي أبي إنه يعرف اسمها القديم الذي نسيه الجميع، قال لي إن اسمها "رابحة"، وإنها نغشة، وبنت حرام من يومها، وربنا لا يحوجنا لها.

قال لي ذلك وهو يضحك، يضحك من صميم قلبه.

 بيت أنس، وكل بيت أنس، ارتبط عندي بعد ذلك بالفرفشة، وبالضحك، لكنه ارتبط معي أيضًا بالرجال. الرجال الوحيدون الذين يذهبون إليها، رجال شكلهم نظيف سعداء ويضحكون، يشربون، وينتظرون أن تفتح لهم امرأة ما، أي امرأة، باباً، هم معهم النقود والبنات في الداخل معهن مفتاحان: مفتاح السعادة، ومفتاح آخر يدعى التعاسة.

 آه..هذه البيوت ارتبطت عندي أيضًا بشيء آخر، ارتبطت بالصبغة، الصبغة المغشوشة التي صبغ بها المعلم فارح شعره، وشاربه الكثيف.

 

(7) لوزة
 لوزة زوجة عليمي الفاكهاني، لوزة أم كريمة، لوزة فعلاً..

كانت تخرج من بيتها في شارعنا "محمّلة" مرتين: واحدة بعد الفجر بساعة، وثانية قبل صلاة المغرب بقليل. ترفع رجلها وتعبر عتبة الباب العالية، وعلى رأسها ثلاثة، أربعة، خمسة، أقفاص فاكهة، بعضها فوق بعض، تستلم الشارع، وتسير رافعة طرف جلبابها بيسراها، ويدها اليمنى تمسك بآخر قفص فوق رأسها. لا تسير ببطء ولا بسرعة، تتهادى في مشيتها كأنها ترقص رقصة حاملة الفواكه الخاصة بها، لوزة لا تمشي كامرأة رازحة تحت ثقل بغيض، كمشية أمي ومعظم الحريم في مثل سنها. لوزة لا تسير كما تخطو بقية نساء طولون، وجسدها ليس كأجساد كل النساء، لوزة فرس أصيلة، تمرق بخطى رشيقة ناشرة حولها عبير اليوسفي والمانجو والجوافة والحرنكش، في طريقها نحو عربتها الثابتة، بجوار دكان فرج النجار، بميدان طولون.

 لوزة، بحِمل أو دون أحمال، تختال في حركتها الرشيقة؛ فتهتز وتتراقص عجيزتها المدوّرة تحت الجلابية الملونة المشجرة، وتحت الملاءة السوداء. تنزل حمولتها فوق عربة اليد الخشبية الصغيرة وحدها، قبل أن يتقدم فرج النجار لمساعدتها. تسوى إشاربها الملون الملفوف تحته شعرها الطويل في كعكة، وهى تزفر بعذوبة: "كتر خيرك يا حبيبي".

 يعود فرج لدكانه بعد أن يقول لها "ربنا يقويكِ يا وِزَه" وتقف هي خلف عربتها مبتسمة للرزق، وللزبائن الذين سيأتون بإذنه. لوزة تبيع برتقالاً ويوسفي في الشتاء، وعنبًا ومانجو في الصيف، ودلعًا حلوًا، مجانيًا، طيلة العام!

 كم من حكايات، تتدوالها الألسن، في الحيّ لعب فيها جسد لوزة الرائع ومشيتها ومؤخرتها دور البطولة، حكايات من صنع خيال الناس وشهوتهم ورغبتهم في لوزة، وبلا سند واحد من الواقع.

 ولوزة تعرف منبع قوتها الأنثوية، وأداة إثارتها الصاعقة. هي تعرف أنها لوزة، أنها قبل هذا الوجه القشدة الأبيض، والعينان الخضراوان المشروطتان، وقبل الثديان العامران الكبيران، والجسم الرشيق، هي لوزة. هي هذان الردفان الناعمان اللذان يخلبان الألباب، وتتشبث بهما الأنظار. ربما ثقل حملها أثقل ردفيها!

 تدرك لوزة، منذ كانت صبية في الرابعة عشرة، أنها قادرة على إسالة لعاب المعلمين والأسطوات والعيال الصيّع حتى ميدان القلعة شمالاً وميدان السيدة زينب جنوبًا. معجبوها كثر، ولكنهم لا يأخذون منها سوى بعض المداعبات اللفظية، والفكاهات والدلع، ولاشيء أكثر، فلسانها القبيح مسنون، يلقى الرعب في نفس صاحب أكبر شارب، وأكثرهم جرأة وتهتكًا.

 الغزل الذي ينهال عليها كالمطر من كل فم، غيرة النسوان المفضوحة منها، وهيام المراهقين بها، ومطاردات تلاميذ الثانوي، وحدب الأسطوات ومغازلات زبائنها...كل هذا لا يعزي، لا يعوض، ولا ينزع المرارة من طعم حسرتها الأليمة.

 عليمي، زوجها، رجل غفل ساذج، يحب أن يرقص كالحريم. في عشر سنوات نام معها عشرين مرة، عشرين دقيقة، وأطلق شاربه المهوش الكبير عندما أنجبت له الذكر "سعد". أنجبته بعد عشر سنوات من ولادتها لكريمة.

 "آه من الظمأ، ظمأ الأرض الفتية العفية للمطر، أعطيك عمري وارو عطش عشر سنوات، اذبح لك ابني واسقني حتى لا أحرق نفسي، وأشعل فيها النار بجاز وسخ".

 كانت تنتابها هذه الأشواق -الأشواق، هه!- وهي جالسة بعد الفجر على عتبة باب بيتها. كانت ضجرة، ساخطة على العيش والذين يعيشونه، بعد لقاء فاتر بزوجها استغرق ثلاثين ثانية. نام بعدها عليمي كالقتيل، وملأ الحجرة الضيقة بشخيره الصاخب، فخرجت ضائقة الصدر تلتمس نسمة هواء.

 بهدوء فُتح في الطابق الثاني، في بيتنا، شباك حجرة نوم فرج وبطة. وظهر دلو كبير بين يدي بطة عارية الكتفين والصدر. أراحت الدلو على حلق الشباك وعدلت حمالة قميص نومها الأحمر، تلفتت يمينًا ويسارًا ثم ألقت بماء استحمامها مع زوجها. وقع بصرها على لوزة قاعدة على الأرض منكسة الرأس. ابتسم وجهها المتورد كله، وهي تناكفها بكلمتين:"عقبالك يا حزينة".

رمقتها لوزة بعين قوية: "بالراحة على نفسك يا آختي.. والنبي جسمك هيورّم من كتر الن..".

ضحكت بطة ضحكة مجلجلة توقظ نائمين، وتُسمع من طولون إلى القلعة.

- "أهو أحسن ما ينشف من عدمه".

وأطلقت ضحكة أخرى هائلة.

 تكاد لوزة تفرقع، ولكن حصى المرارة ينحشر في بلعومها فلا تجد ما تصرخ به.

 ألقت بطة بدلو ماء آخر، تعمدت هذه المرة أن يطرطش على لوزة.

انتفضت لوزة واقفة عندما لحق ماء استحمام بطة وفرج وجهها وجلابيتها السوداء، فقفزت من قعدتها حتى منتصف الحارة، وبدأت وصلة "ردح" طويلة، ذكرت فيها التاريخ السرّي لبطة بنت مسعود الفران، الذي مات من الجوع، ووساخة الجارة التي ليس لها عيش ولا ملح .

 فُتحت معظم شبابيك الشارع، وأطلت منها وجوه شابات تطرد النوم والعماص بدعك العيون، وعجائز مؤرقات متلهفات على الفرجة.

 كان مزاج بطة جميلاً، وجسدها مشبع للغاية بعد ليلة غرام رائعة، فلم ترد أن تعكر مزاجها لمجرد الرد على لوزة. فاكتفت بعقد يديها تحت ثدييها العامريين وإراحة كوعيها وذراعيها على حلق الشباك، وراحت تتابع مشهد لوزة، حركاتها وأصواتها كأنها تشاهد فيلمًا عربيًا مسليًا، تتفرج كأن لوزة تقبح، وتسب وتلعن امرأة أخرى تكرهها، وتستمتع بسماع شتمها!

 كانت لوزة قد وصلت إلى افتراش الأرض، وإهالة التراب فوق دماغها حين دفع فرج بطة بعيدًا عن الشباك، فرآها وهى تلطم خديها بقسوة، وتبرطم بجمل مدغمة لا معنى لها، هازة جسدها كمجنونة.

 وضع فرج ذيل جلباب نومه في أسنانه، وهبط الدرج قفزًا، ودون أن ينطق بكلمة أمسك بظهر ورجلي لوزة التي سكتت فور رؤيته، ورفعها كلها على صدره بيديه القويتين. لم تقاوم لوزة، سكنت في حضنه وبين يديه، وانسابت من عينيها دموع غزيرة دون صوت بينما وجمت بطة في مكانها كتمثال، تحملق فيهما ساخطة مذهولة.

 عبر فرج بلوزة عتبة باب بيتها، فسمع شخير عليمي خشن كنهيق حمار يأتي من حجرة النوم في الطابق الأرضي. دفع الباب بقدمه ودخل بها مباشرة إلى الحجرة التي ينام بها عليمي. برفق وضعها على السرير إلى جوار الجثة الشاخرة، ومسح بأنامله دموعها ببطء، وهو يبتسم بوجه طيب. أحست هي بخدر خفيف يغزو جسدها. أخذت شهيقًا عميقًا كأنها تثبت رائحة فرج في جوفها. كان صدره عريضًا كثيف الشعر وجذابًا، وما زالت رائحة ليلة غرامه ببطة عالقة به.

 قالت في نفسها، وهي تتحسس فخذيها تحت البطانية، لو ينام فوقي الآن، لو يضعني تحته، ويزلزل كل جسمي حتى يغمي علىّ، أو أستدير له وأعطيه كل ما أملك من فتنة، كل ما سحر رجال طولون والسيدة زينب.

 لو يدق جسدي كله بشاكوشه الطويل حتى أصرخ، وأفقد عقلي وأصوّت، أصوّت حتى يصعد صراخي إلى ميدان السيدة، وحتى يصعد للقلعة، أصرخ حتى تستيقظ جثة عليمي الميتة، وتكف عن إخراج هذا الفساء والشخير المقرف.

 برفق أخ وضع فرج شفتيه على جبهة لوزة وقبلها ببطء، وهو يفكر كم جميلة لوزة هذه، وطيبة وحمَّالة أسية.

 شد البطانية كلها من فوق عليمي، ودثر بها لوزة، التي كانت قد هدأت تمامًا، أغمضت عينيها وأخذت شهيقًا طويلاً، تورد وجهها، وارتسمت على وجهها ابتسامة رائعة، وقد بدأت تحلم بفرج يغرقها بالقبلات.

 بعد أن اطمأن فرج إلى أن لوزة قد نامت سعيدة خرج من بيت عليمي، وهوّش بيديه للنساء اللاتي ما زلن في الشبابيك والبلكونات ينتظرن بقية الفرجة. وصعد إلى شقتنا، قابلته بطة بخرس حين رأت على وجهه كل هذا الأسى والحزن. لم تنطق بشيء، وهو يفكر بأنه إذا انهال عليها ضربًا الآن ستصرخ، وتصوّت وتأتى بقية النسوة ليكملن الفرجة، فآثر أن يتم نومه صامتًا، تمدد على السرير معطيًا ظهره لبطة ونام.

 وفي ذلك الفجر نامت لوزة أيضًا، نامت لوزة نومًا عميقًا هادئًا لا مثيل له، على ما أعتقد، وأغلقت أنا الشباك الذي كنت قد فتحته لأتفرج على ما يحدث بين أمي ولوزة. أوصدت الشباك الذي يسرب نسمة فجر باردة إلى سريري الفرداني تحته.أغلقت النافذة التي تسرب الهواء إلى جسدي، وإلى مراهقتي الغضة التي أينعت منذ شهور قليلة.

 

 (8) زهرة
 زهرة، ليس لها من اسمٍ آخر عندي.

 أعطيها اسمًا من دماغي لأنني لم أعرف لها اسمًا حقيقيًا، واقعيًا، أبدًا.

 هناك، على بُعد متر واحد مني، كانت موجودة، حاضرة، كحياة نضرة خضراء، كحاجة مؤلمة، كالجوع.

 كانت بنتًا غريبة تمامًا عن حينا، لم تعش معنا طفولتنا في حواري وعطوف طولون، لم تلعب معنا، ولم تذهب لمدرستنا، لم نتتبع نموها، ونراها وهي تطول، وتفور، وتتدور، مُودَّعةً الطفولة لتصير صبية لها صدر من الليمون، لم نلاحظها وهي تصبح فتاة ملفوفة، بصدر من البرتقال أمام أعيننا، وهي لم ترنا نعبر من جلد الطفولة الطري إلى جلد مشعر خشن، لم تر شواربنا الخضراء تنبت وتثقل، وعضلاتنا تنمو، ولم تسمع أصواتنا تخشوشن وتغلظ.

 أعرف معظم بنات طولون، في مثل سني، والأكبر والأصغر، وإخوتهن، وآبائهن، وأمهاتهن أما هذه الغريبة، فلم تقع عليها عيناي لمرة واحدة في حارة أو شارع

 أو زقاق في طولون، لم أرها من قبل أبدًا، هي بنت غريبة، عابرة، عبرتني بسرعة كنسمات صيف لطيفة.

 كانت واقفة في طابور العيش، المكتظ والمزدحم، قدام فرن طولون البلدي، الفرن الوحيد بحينا. جسدها الصغير يكاد أن يُبَطَط في الطابور غير المنتظم، الذي تدفع فيه كل واحدة، بكلتا يديها، منْ أمامها، بينما الواقفة في الأمام تزغد بكوعها منْ خلفها. وهي كانت مزنوقة بين امرأتيْن بدينتين في ملاءتين سوداوين، كانت محشورة بين أم شفيق، وبنتها شفيعة الدميمة. زهرة تكاد تختفي، وينمحي وجودها بين هذين الجسدين السمينين، مرة تدفعها شفيعة من خلفها، ومرة يزغدها كوع أم شفيق في جنبها.

 كانت يدها السمراء الرقيقة تتشبث بجلباب أم شفيق أمامها مرة؛ حتى لا تنهار، وتسقط تحت الأقدام، ومرة أخرى تركن ظهرها على شفيعة خلفها حتى لا تنكفئ على وجهها للأمام.

 زهرة كانت تجاهد حتى لا تتهاوى، وتسحلها الأقدام، وحتى تظل في دورها، في طابور العيش. وكانت سمراء، مسمسمة التقاطيع، في نحو الخامسة عشرة، باسمة الثغر رغم ألم السحل والفعص، ولها شفتان حمراوان رقيقتان، وغمازتان ساحرتان. كان وجهها مستديرًا كشمس صغيرة، عيناها سوداوان في عذوبة، وشعرها فاحم السواد، يحيط بوجهها ويسترسل ناعمًا، وطويلاً.

 خطفني حسنها، وكنت أرغب في رؤية بقية جسدها، أريد أن تنزلق عيناي على جيدها وصدرها، وخصرها، وفخذيها، وساقيها. لم أستطع، لا لشيء سوى لأنها كانت محجوبة الجسد في الزحام بأجساد نساء سمينات، وضخمات أمامها وخلفها، وحولها. بعد زمن ومشاجرات ومناكفات، خف الزحام، واستوي الطابور واقتربت مقدمته من الشباك الحديدي الذي خلفه الخبز، وحسن الفران.

 بانت لي كاملة من القدم إلى الشعر، فأتت الدهشة المذهلة، فاغرة فمها، على وجهي. كانت ترتدي "شوالاً"! جوالاً من الأجولة السميكة الخشنة، التي يُعبأ بها الدقيق والسكر والذرة. كان جوالها مغسولاً ونظيفًا وخشنًا، بالكاد يغطي ركبتيها، وبلا أذرع؛ يظهر منه ذراعاها الطويلان الرشيقان جميليْن، كجناحي طائر فريد.

 التقت عيناي بعينيها لبرهة، فرأيت فيهما:

 " كم يكون جميلاً لو تراني بفستان ملون من حرير".

 البنت جميلة، تعرف أنها أجمل من في طابور الخبز، أجمل بنت ظهرت في طولون، في القاهرة كلها، وتعرف بطريقة أكثر خشونة وغلظة أنها تلبس شوال دقيق، وأن لا بنت بهذا الحيّ ارتدت أبدًا ما ترتديه، حتى بنات الشحاذين في العشش وقلعة الكبش وشيّخون، وكانت تحس وتشعر أن أم شفيق أمامها وشفيعة خلفها تحتقران وجودها بينهما.

 البنت جميلة للغاية ومنتهكة، ومقلوب وجودها الحقيقي، مثل زهرة وضعوها في عين كنيف بلدي.

 كنت في السادسة عشرة، وكنت ساخطًا وغاضبًا وممرورًا، وكان قلبي قد بدأ يتعلق بالأنثى، وفكري بهن مشغول، وكنت أريد أن أحب، وأن يصير لي حبيبة!

 كنت أريد أن أكلمها، أن أقول لها ولو عبارة واحدة، كلمة واحدة، مثل "إزيك"، "أنتِ جميلة"، "لا تحزني" أو" أنتِ في سنة كام؟"، "أنتِ منين؟" لكنني خجلتُ، وترددت وظللت متسمرًا في مكاني، أحدق فيها كأبله.

أخيرًا وصلت للشباك الحديدي فلم ترفع يدها بنقود، فقط رفعت وجهها لوجه حسن الفران، وابتسمت له، فأعطاها.

 عبرتْ إلى جواري، حاملة بين يديها العاريتين وصدرها عيش"السَحْلَة"، الذي عطف به حسن عليها، مرت عن يساري بخطوات بطيئة، محدقة فيّ وباسمة، كأنها تستفهم سر اهتمامي بها، وحملقتي فيها. ابتعدت عني خطوات كثيرة، ثم توقفت كأنها نسيت شيئًا، ولوت رقبتها للخلف، ونظرت إليّ وابتسمت لي، كأنها أميرة تحمل بين يديها أرغفة من ذهب، فابتسمت لها، واضطربت، خجلت، ووضعت وجهي في الأرض.

 من المؤكد أنه لم يكن بعينيّ أثر لعطف أو شفقة، أو إشفاق، كان بعيني شيء أجمل وأروع من هذا كله، كان بعيني حب مراهق، وبصدري قلب ينتفض، سريع الدقات.

 لم أرها بعد ذلك مطلقًا، ولا لمرة واحدة. حاولت أن أتخيل ما وراءها، حكايتها وقصتها، لكني لم أعرف أبدًا.

عدت للبيت حاملاً أرغفة الخبز على صدري، وقلبي تحت صدري ممتلئ بشيء جديد حلو، وجميل، ولم أجد أمي بالبيت.

 

 (9)  زوجة أبي
 لمَّا وقع أبي، الأسطى فرج النجار، على البلاط فجأة، وسط دكانه، في عز النهار، طار الخبر في شوارع وحارات وعطوف طولون، ودخل بيوت الناس، حتى وصل لأمي الجالسة على كرسي الحمام، الخشبي الصغير، أمام طشت الغسيل، فوق سطوح بيتنا. بطة أمي، زوجة أبي، ضربت صدرها بيديها الغارقتين في رغاوي الصابون، "يا مصيبتي"، وتركت الغسيل طافٍ على سطح الماء في الطشت النحاسي الغويط، وقامت مفزوعة، متألمة كمن لدغها عقرب. فردت بيديها، بلهوجة وسرعة، جلابيتها المبلولة المنحسرة في حجرها، حتى غطت ركبتيها وساقيها. نفضت ثوبها البيتي المشجر، وقامت واقفة، وضعت في قدميها الشبشب أبو وردة حمراء، ورفعت ذراعيها العاريين على امتدادهما في الهواء، ورقعت بالصوت: "يا خرابي..يا خرابي".

 نزلتْ السلالم جريًا، وهي تحكم ربط المنديل الملون، أبو قويه، على رأسها، ودفعت باب البيت الخشبي الكبير، وخطت عتبته "زى ما هيه"، واندفعت إلى الشارع وعلى وجهها فزع من فقد حبيب من دقيقة. هرولت مسرعة في الشوارع كبطة حقيقية سمينة اللحم، وعبرت حارات كثيرة خلف جامع طولون، وهي تصوّت، وتولول، كأنها تشيع فرج إلى القبر قبل الأوان، قبل أن يُحمَل في خشبة في طريقه للآخرة.

 في ركضها في الطرق كان ثدياها الكبيران، اللامعان بماء الغسيل الذي لم ينشف بعد، يهتزان بإيقاع متناغم وهزة فردتيّ ردفيها. خرجت بجلابية البيت الباطيستا الضيقة، التي جسّمت جسدها الممتلئ، فكانت أكثر إثارة مما لو كانت قد خرجت عارية تمامًا. كانت تجري في الحارات وأنظار الخلق معلقة بها، بعضهم شغل ذهنه، وقلبه، بمصيبة الزوجة الشابة، بنت المرحوم مسعود الفران، وبعضهم طرب وفرح برؤيتها بهذا المنظر المثير، وراح يتفرج عليها، وهو يقاوم سيلان لعابه. مظاهر الهلع والذعر التي ارتسمت على وجه بطة، جميل التقاطيع، كانت تهب وجهها القمحي المدور حمرة، وإثارة إضافية، إثارة تولد الرغبة في الإحاطة بهذا الوجه بالكفين، في الإمساك بالنهدين وتثبيتهما، وفي احتواء الجسد الثائر الذي يهرول، ويتمتم بلا وعي:"يا ساتر..يا ساتر، يا ساتر استر يا رب".

 طولون كلها تفرجت على بطة في منظر غير معتاد، "ما يصحش تخرج كده"، حتى لو كانت في طريقها لإنقاذ طفلها من كهرباء أمسكت فيه! فمصمصت نساء شفاههن حانقات، وامتعض عجائز قالبين وجوههم، ومشوحين لها بأيديهم، غير عابئين بولولتها، ونواحها.

 حين وصلت إلى عتبة الدكان بجسدها المكشوف، الذي انطبعت فوقه نظرات ما لا يقل عن ثلاثة أسطوات"بتوع نسوان"، وعشرة مراهقين، وعشرات النساء، كان الأسطى فرج قد أفاق من غيبوبته القصيرة، وقام من رقدته على بلاط الدكان، ووقف على رجليه مستجمعًا جسده ووعيه، ونافضًا نشارة الخشب العالقة ببنطلونه وقميصه الكاروهات، وتنحنح، وراح يرفع يديه بشكر الجدعان الذين هرعوا لإنقاذه من الإغماء المفاجئ. لم ينس فرج أن يبتسم، وأن يربت، ممتنًا وشاكرًا، على كتف أول من هرع لنجدته: لوزة، زوجة عليمي الفاكهاني.

 كانت لوزة قد أبرزت مهارات تمريضية رائعة، أقعتْ إلى جوار فرج على البلاط، وأخذته في حضنها، وأراحت رأسه على صدرها الواسع، ودعكت برفق صدره كثيف الشعر بأصابع مرتعشة وقلب متلهف، ومع ذلك ظلت أنفاسه بطيئة خافتة. صرخت طالبة ماء "حد ينجدنا بكوز ميه يا عالم".

 مرات كثيرة أراقت لوزة الماء على يديها وعلى فرج.

 مسحت صدره وشعره ووجهه ورأسه المسنودة على صدرها بالماء مرات متتابعة، حتى بللت صدر عباءتها السوداء وحجرها، وأغرقت رأسه وصدره وبطنه، وهي تبسمل وتردد بلهفة "من شر حاسد إذا حسد"، و"قل أعوذ برب الفلق". وحين حضر فحل البصل في يد زينب الخضرية، أخذته بلهفة وشممت فرج البصل، ودعكت به أنفه مرات عديدة. كانت عينا لوزة في الرمق الأخير من مقاومة اليأس، والانهيار في البكاء، حين شهق فرج على صدرها وعطس، وفتح عينيه وانتفض صدره، وقام نصف قومة. استردت لوزة أنفاسها المحبوسة، وزفرت " قطيعة..خضتني عليك يا أسطى". ربتت على كتفي فرج، وبوجه فرح مغتبط، وضعته في وجهه، قالت، بطيبة وافرة، من قرارة قلبها:"ألف سلامة عليك يا حبيبي"، ثم قامت واقفة، ووضعت كف يمينها أعلى فمها، وزغردت فرددت حيطان الدكان صدى زغرودتها.

 زغرودة لوزة مشهورة في حينا، جميلة وطويلة، كزغرودة بلبل.

منْ عرف في طولون أن فرج وقع، عرف الآن، بسماعه زغرودة لوزة، أن فرج قد قام.

بعد كل هذا وصلت بطة للدكان.

 ما إن تخطت العتبة، ووقعت عينا فرج عليها، ورأى مفرق نهديها العاري يلمع من الفتحة الواسعة للجلابية الضيقة حتى قفز نحوها كنمر غاضب.

كانت تردد مذهولة فاتحة ذراعيها لاحتضانه: "بره وبعيد، بره وبعيد.."

 غاضبًا وشرسًا هوى فرج بكفه الأيمن على خد بطة الأيسر، ثم أعطاها، وأعطى المتجمعين بالدكان، ظهره بحركة متشنجة، وبصق في الناحية الأخرى: "نسوان!!".

بعد لحظات من الوجوم والصمت الثقيل، استدار الأسطى فرج وواجه بطة والناس، وصاح بلهجة آمره:

- "كل من دا يشوف حاله يا إخوانا، بالسلامة.. متشكرين".

ربتت لوزة على ظهر بطة تُطيّب خاطرها، وهي خارجة من الدكان، وهمست في أذنها: "معلهش يا آختي، معلهش.. رجالة يا حبيبتي".

ظلت بطة جامدة، ذاهلة، في مكانها، واضعة كفها على موضع صفعة فرج على خدها.

 بعد دقيقتين انفض الناس، كلٌ لأشغاله، وخلا الدكان إلا منهما.

 ببساطة وهدوء أنزل فرج باب الدكان الصاج من الداخل حتى لامس البلاط، وداس مفتاح اللمبة الفلوريسنت فأضاء الدكان. شد بطة من يدها بالقوة، وجلس على الكرسي الخشبي، المخصص لاستقبال الزبائن، وأجلسها على فخذه. وراح، بحنوٍ ورقة، يقبل رأسها، وخديها، ويعافر حتى لا تنفجر دموعه، فنهنهت بطة.

 بوجه طيب، أسمر وأحمر، همست بطة في أذن فرج: "فيه إيه يا أبو سيد؟ إيه اللي حصل يا أخويه؟"

خفض فرج رأسه قليلاً.

- "عشتي بعافيه يا بطة.. دوخت شوية، دقيقتين كده وخلاص".

كانت رأسها على صدره فعرفت رائحته.

- "حششت على لحم بطنك يا أسطى! فرج؟! وراك عيال عايزاك، وأنا..اعمل معروف بالراحة على نفسك يا أخويه، اعقل يا فرج.. مالناش غيرك يا أخويه".

- "اعملي لنا شاي يا بطة".

 قامت بطة، أحضرت وابور الجاز، أبو شرايط، من ركن الدكان، ووضعت فوقه براد قديم أسود، وأخذت وقتًا طويلاً في البحث عن الشاي والسكر والكوبين، تحت البنك

الخشبي، بنك عمل فرج، والدواليب والسراير في أرجاء الدكان .

 لم ترد بطة أن تسأل فرج عن مكان السكر والشاي حتى لا تظهر"خيبانة" أمامه. وفرج تمدد صامتًا بطوله فوق بنك عمله، وأغمض عينيه، وراح في النوم سريعًا، دون أن يشرب الشاي الذي أعدته بطة بعد أن وجدت الشاي والسكر في شنطة العدة الخشبية. لم توقظه، وبقت جالسة، متربعة، في مكانها على البلاط، وأمامها كوبي الشاي ينفثان البخار، تسمع شخيره الخافت فيطمئن قلبها قليلاً.

 جسد فرج فوق البنك ممدد في سكينة وسلام، ودماغ بطة بين يديها "يودي ويجيب" ويدها متصلبة على كوب الشاي الذي لم تشرب منه رشفة. لوقت طويل ظلت ساكنة في قعدتها هكذا، كتمثال مُعذب جميل، مخها فقط يتحرك داخل رأسها، مخها يتجول بين"اللي هيحصلنا وهيحصل لها لو فرج جرا له حاجه، لا قدر الله".

 - "يا رب، ما لناش غيره".

 كانت بطة ترفع وجهها لسقف الدكان، وتقولها بين حين وآخر، وهي تنتظر بفروغ صبر أن يصحو من نومه، ويقوم. لساعاتٍ لم يجاوبها سوى شخير فرج الخافت، والفراغ في الدكان.

 بعد ساعات أخرى، مرت عليها طويلة وكئيبة، فتح الأسطى فرج عينيه، وقام، تمطع ونظر إليها باسمًا وهو ينزل من فوق البنك. استيقظ الأسطى فرج، كما تمنت، فوجدها"شايلة الهم" في مكانها، وحزينة.

 قال لها وهو يرفع باب الدكان لأعلى"يالا نروّح"، وأخذها في يده، وعادا للبيت، في ظلمة ما بعد العشاء.

 

(10) ريم
 فصلنا، ثالثة ثاني علمي رياضة، هو الفصل الوحيد المُشترك، بنين وبنات، بمدرسة طولون الثانوية، بسبب قلة عدد الطالبات اللاتي اخترن قسم علمي رياضة في الصف الثالث، سنة الثانوية العامة، سنة الشهادة. هن ست فتيات في فصل من أربعة وخمسين طالبًا، أي أن نصيب الواحدة منهن هو تسعة طلاب! "أنت صدقت؟! أنا بضحك معاك". فصلنا زبدة فصول المدرسة وقشطة طلابها وطالباتها، وله وضع خاص عند المدير، والناظر، والوكيل والمدرسين، والمدرسات، كلنا، طلبة وطالبات الفصل الفريد، تحت المنظار، تحت عيونهم الصباحية، وعيونهم الأخرى، الساهرة! فصلنا فصل"المتفوقين" وعليه كل آمال المدير، والناظر، وأولياء الأمور في طولون. معظم طلابه"دحيحة"، هادئون ومجدون، منضبطون، ولا وقت لديهم لمعاكسة البنات والكلام الفاضي، والفعل الفارغ، معظمهم من المدرسة للدروس الخصوصية لحجراتهم الفقيرة في حارات وشوارع طولون، طلاب خُلاصة، عريضو الأحلام. والطالبات الست، ثلاثة منهن يرتدين نظارات سميكة العدسات، كعب كوبايه، قبل الأوان، والثلاث الأخريات هزلن من سهر المذاكرة، وصرن لحمًا على عظم، الصبايا الست، بالتأكيد، لسن من جميلات طولون، ولكنهن الأذكى والأكثر أدبًا واحترامًا، وواحدة فقط بينهن، طالبة واحدة لها وضع خاص وفريد: "ريم"، هي حاجة وحدها.

 طالبوا وطالبات العلم الأربعة والخمسين ليس لديهم سوى حلم واحد كبير، يحلمون بكلية الهندسة كخيار وحيد، بغيره سيسقطون إلى هاوية البلداء والمنبوذين، والتعساء، سيتدنون ويهبطون، سيقعون من عيون آبائهم وأمهاتهم. سيعدهم أولياء أمورهم تلاميذًا فاشلين وساقطين، ومُجهضِي أحلامهم السعيدة، ستكون مصيبة العمر كله لهم، ولأسرهم.

 الطالبات الست هن الأشطر،الأنبغ، الأوائل على الفصل والمدرسة، كل واحدة منهن متفوقة بطريقتها الخاصة: واحدة بالنظارة قعر الكوبايه والدح الدائم، واحدة بالصمت والتركيز الهائل، وأخرى بالانضباط الصارم كأنها عسكري، كل بنت ولها طريقة. هناك واحدة فقط في فصلنا، وفي مدرسة طولون الثانوية وفي الخليفة كلها تفوقت، وأبدعت وصارت الأولى على المدرسة وعلى قلبي، بسبب رقتها فحسب! ريم تجلس في أول تختة للبنات فى الصف الشمال وأنا أجلس على أول دكة في الصف الأوسط، وبيننا سنتيمترات قليلة، طبيعي جدًا أن أقول لها كلمة أو أبادلها النظرات، أو تستلف هي مني كشكول أو كتاب أو أية حاجة، الغير طبيعي هو أنني لم أجرأ على التمادي في الحديث إليها أو النظر إليها بخشونة، أو معاكساتها كما أفعل مع زميلات وجارات في مثل سني. الذي صد عنها كل معاكساتي، ولساني، ويدي، وكل حماقات مراهقتي هو رقتها فحسب!

 نعم الرقة.

كان اسمها ريم، وجسمها، وكسمها، ورسمها رسم غزال جميل وبرئ!!

 ريم رقيقة كالملاك الذي تتخيله، ليس لها وجه كوجوه المراهقات والصبايا والنسوان في حينا، ريم لها عينان ليستا كالعيون، وجسدها الرشيق خفيف وموسيقي الحركة، وشعرها مطلق، أسود وحر، وصوتها كتغريد بلبل حقيقي في مدينة بائسة.

 ريم تسكن في"الخضيري"، في بيت قديم له بلكونة صغيرة على سورها القصير أصص نباتات خضراء الأوراق وملونة، وشجيرات ياسمين، وورد بلدي، وليست من رفيقات طفولتي، ليست من البنات اللاتي نشأت معهن، ولعبت وتشاجرت، وترعرعت. ريم فتاة جديدة وغريبة في فصلنا، جاءت إلى مدرستنا مُحوّلَة من "مدرسة السنية بنات" لا نعرف السبب، الحمد لله أن انتقلت من مدرستها الأولى وجاءت فصلنا.

 يُقال إن أباها موظف مهم في وزارة الصحة، هو طبعًا ليس من أسطوات طولون كأبي، وبدرجة ما أفندي، أستاذ، بيه، وليس من المحتمل أن يكون قد سهر مع الأسطوات ذات ليلة على قهوة عطاالله، أو التقى أبي مثلاً، إذن ليس من المحتمل أن يكون بيني وبين ريم لقاء، ولكن اللقاء قد حدث، في الفصل وفي خارج الفصل، في مطلع القلعة، وفي حديقة الخالدين!

 رأيت ريم لأول مرة، وأنا في طريقي لطابور الصباح، مبكرًا كعادتي في أول يوم دراسي في سنة تحديد المصير، سنة الثانوية العامة. كانت الدنيا رائقة، وكانت ريم واقفة مع سلوى بنت عبده القمّاش، على جانب الباب الحديدي للمدرسة، تحت شجرة الكافور العتيقة، وقع بصري عليها تحدث سلوى فوقع بصري على صباح رائق السماء، نقي بنداه، وسمح الحضور.

مررت بهما فوقفت على بعد متر منهما، ورفعت يدي لهما، وقلت: "صباح الخير".

قالت سلوى: "صباح النور يا سيد..أنت دخلت قسم إيه؟"

قلت لها: "رياضة".

قالت لي:"أنا دخلت علمي علوم".

قلت لها: "الهمة يا دكتورة".

قالت لي: "شكرًا يا هندسة".

ريم لم تتكلم، ابتسمت لي فحسب.

 وكانت فرحة هادئة حين صعدنا للفصول بعد طابور الصباح فوجدتها تختار ركنًا وتجلس بهدوء، وتهبني ابتسامة أخرى.

 مر شهرين ودخل برد ديسمبر، وأنا مجتهد في المذاكرة، وعظيم في الفصل، ومبسوط بوجود ريم في ركنها.

 ذات ليلة جلست إلى مكتبي الصغير، الذي صنعه أبي لي أخيرًا بعد وصولي لل"فينل" كما يقول، المكتب دهنته بنفسي، فكان وبالاً على المكتب جميل النجارة، كرّوَته ولم أخدمه بالجمالكة جيدًا، مللت من دهانه بسرعة، باب النجار مخلع، وكذلك باب الأُسطرجي ردئ الدهان. المهم تركت مسائل الهندسة الفراغية تنتظر حلولي الإبداعية، وتحولت للنصوص الأدبية، في تلك الليلة جلست أكتب أول رسالة في حياتي، رسالة غرامية، طازجة، وبريئة من أجل ريم.

 قلت لها في رسالتي إن الشهرين، الذين انقضيا منذ رأيتها للمرة الأولى كان كافيين لإرسالي إلى جنة الحب، وجحيم عشقي، وإنني لم أحب بنتًا قبلها طوال سنواتي السبعة عشرة، وإنني لم أذق حلاوة التعلق بوجه، بشخص، قبل رؤيتها، وقلت لها أنت جميلة ورقيقة.

مزقت الرسالة يائسًا.

 لا، ليست حلاوة لمسها والتحديق فيها أو الاستمناء باستحضار صورتها، هو ما أريد منها، أبدًا، ثمة حلاوة أجمل من كل هذا، إنها حلاوة أن أجلس وأشعل سيجارة خلسة من خلف ظهر أبي، وأفكر ب"ريم". فقط التقكير فيها، دون محاولة كتابة كلمات إليها، التفكير فيها متعة صافية تشبعني تمامًا.

كل يوم أراها في الفصل، أراها، وهي لا تُرى أو تنكشف أبدًا.

 كانت ريم هي أميرة الفصل، تسليم صامت تام بين الثلاثة والخمسين طالبًا وطالبة بأنها الأميرة الجميلة، المتوجة رغم أن أحدًا لا يذكر اسمها كثيرًا، لا المدرسون ولا المدرسات، ولا حتى نحن الطلبة، لا نكلمها إلا نادرًا، ريم حاضرة في الفصل لتمثل الرقة، الرقة الرحيمة فحسب، ركنها لا يأتي منه صوت، ريم حين تُسّأَل تجيب، وحين تستعصي مسألة رياضية على جميع طلبة الفصل بما فيهم أنا، تعرض الحل ببساطة وسلاسة، بلا تكلف وبلا مباهاة أيضًا. حين كنت أنظر إليها خلسة أثناء الحصة لم أكن أراها، كنت أرى الطالبة التي تعيش في المسألة الرياضية المعروضة على السبورة، ولا أرى شيئَا أو أحدًا آخر، وفي الخمس دقائق بين كل حصة وأخرى تكون منهمكة في إعداد كتاب وكشكول الحصة القادمة.

 في يوم خميس، نهاية ديسمبر، واتتني فكرة، فاستيقظت في موعدي كالمعتاد، وارتديت قميصًا مشجرًا، وفوقه بلوفر سبعة أبيض خفيفا، وبنطلون بلو جينز، وللمرة الأخيرة ضبطت تسريحة شعري أمام المرآة، ورششت بعض كولونيا خمس خمسات على خدي وصدري. صفرت لنفسي سعيدًا بهيئتي، على سنجة عشرة، والتقطت الجاكت الشتوي، الأسود القماش، في يدي وأنا أهم بالخروج. لمّا رأتني لا أرتدي زيّ المدرسي قالت لي أمي "فيه إيه يا سيد؟"، قبلت رأسها وقلت لها"عندنا يوم رياضي انهارده"، تركتها تحضر الإفطار لأبي ومني ونزلت السلالم مسرعًا، وبلا حقيبة المدرسة، الحقيبة السامسونيت.

 انطلقت خفيفًا من طولون للخضيري، فالصليبة، أمشي تحت رذاذ المطر الخفيف، أرى كل شيء جميلاً، ولكن هدفي كان هناك في ميدان القلعة. من كشك ورد "زهور الربيع" اشتريت وردة حمراء واحدة ملفوفة في ورق السوليفان، أخفيتها في الجيب الداخلي للجاكت، ووضعته فوق كتفي، وصعدت للحديقة الخضراء تحت سور القلعة، وهناك جلستُ وحدي منتظرًا انتهاء اليوم الدراسي القصير وألعاب اليوم الرياضي. بعد أذان الظهر نزلت في طريقي إليها، في جيب بنطلوني رسالة، والزهرة معي وهي ستخرج من المدرسة مع الخارجين، وستمشى وحدها في اتجاه بيتها، وسأعترضها، ببساطة، سأعطيها الزهرة وأضع الرسالة في يدها، وسأجري من أمامها بسرعة، وليكن ما يكون.

 في ذلك الخميس انتظرت عند مسجدي شيخون أن تمر ريم فى طريقها لبيتها، عائدة من اليوم الرياضي بالمدرسة، حتمًا ستعود وسأراها في فستان مختلف عن مظهرها الدراسي المعتاد، وسأوقفها وأقول لها...

 ريم لم تمر وأذان العصر ملأ الشارع والسماء، وأنا ما زلت واقفًا في مكاني كتلميذ صايع. ظللت واقفًا هناك ثلاثة ساعات حتى ذبلت الوردة بالجاكت، وتكرمشت الرسالة في جيبي من قبضي عليه، وضغطي عليها.

 لم تظهر ريم، وأنا رجعت للبيت، وبي حريق.

لما رأيتها يوم السبت في الفصل ذهب الحريق من جوفي.

 أذاكر، وأذاكر، وأذاكر بانتباه وتركيز، ولكن ريم تتجلى صورتها على سقف حجرتي في كل وقت. أكون منهمكًا في مسألة "حساب مثلثات" فتلصق وجهها بسقف حجرة، وعيني، قلبي، وعقلي. كانت دائمًا هادئة باسمة، عينان واسعتان ووجه هو اللطف ذاته، لا تتكلم معي، فقط تنظر إليّ في لطف، وأنا لا أفعل شيئًا، فقط أنظر إليها فتنساب في نفسي رقة الزهور، وصفاء وجه الماء.

ريم لا تعطل عن المذاكرة.

 إن ذهبت ريم من الحجرة لن تكون هناك مذاكرة ولا تحصيل، ولا المجموع الكبير لدخول الهندسة المرتقبة، الهندسة التي ينتظرها فرج وبطة، وبالطبع أنا.

 حضور ريم فى الغرفة هو المذاكرة ذاتها والاستيعاب نفسه، بها أفهم ما لا أفهم، وأحفظ أسرع، وأجيب الإجابة الصحيحة، وبها أستطيع أن أصل إلى"الفرض" في مسألة هندسة فراغية شديدة الصعوبة، وبحضورها أيضًا أستطيع أن أذهب للأسطى فرج المريض، وأعطيه الدواء حين يأتي موعده.

 بيتنا ساء حاله بعد غلق الدكان مؤقتًا لمرض الأسطى، وساء حال سكانه أيضًا.

بحضور ريم معي أستطيع ألا أبالي، وأن أكون لطيفًا مع أمي وأختي، وأبي سيء المزاج والكلام.

 عند الكانتين استطعت أن أقترب منها, كنت أشترى سندوتشين جبن رومي، وهي أيضًا كانت تشترى، ابتسمتُ لها وقلت "ازيك يا ريم". تبسمت كأنها ليست المرة الأولى التي أوجه إليها كلامًا، وقالت لي "ازيك يا سيد". نطقت اسمي بعذوبة أطربتني. ارتعشتُ أنا قليلاً، وهي ذهبت.

 وكانت رحلة الصعود إلى القلعة على الأقدام فرصة ومتعة أخرى، كان فصلنا كله في رحلة للقلعة، كانت تسبقني ولكنها تطرفت بعض الشيء عن سلوى أقرب طالبة إليها، أنا كنت أتأملها من الخلف، بنت في زي المدرسة الثانوية، جيب كحلي طويل، وشراب شيفون كحلي، وحذاء مدرسة، وقميص أبيض، وجونلة كحلية، هذه طالبة الثانوية وريم أضافت أشياء أخرى، أشياء تجعلني أرى هذه البنت التي تسير أمامي كمخلوق آخر لا ينتمي للبنات المفتونات بأنفسهن، ولا للبشر المفتونين بالقوة، الفتنة هنا مقترنة بالأثيرية، بالنفاذ، بالخفة الرحيمة، والفراغ من الآثام.

كانت ريم أمام عينيّ ظاهرة وخفية، ظاهرة بقوة جسدها الرقيق، ومختفية بسبب خفتها ولطفها.

لم أكن أر أمامي سواها.

 كنت أصعد خلفها، قدمي على البازلت الأسود، وعيناي عليها.

 كانت تصعد أمامي، لم أقاوم نفسي أكثر، في خطوتين واسعتين صرت على يسارها، نظرت إليها، وابتسمت ـولم أقل شيئًا.

رفعت وجهها إليّ: "إزيك يا سيد."

حدقت في وجهها الباسم بفرح، وسرى فيّ ما يكفي لارتواء نفسي وروحي.

حاولت لمس ظهر يدها بأصابع يساري فلم ترد يدي، تركت يدها لي للحظات، للحظات طويلة أبقيت أصابعها في يدي، سرى فيّ كهرباء لطيفة منعشة، لمَّا فتحت عيني كانت قد سحبت يدها، وتخطني، لمَّا فتحت عيني اللتين أغلقتهما برهة وجدت يدي فارغة ووجدتني وحيدًا.

 لم أقترب منها مرة أخرى طيلة الرحلة، طيلة اليوم، لم أكن غاضبًا منها، لم أكن حزينًا، ولا سعيدًا، كنت حنونًا، وفارغًا من كل شيء.

 في فصلنا طلاب عرفوا هذه الواقعة العظمى من لسان سلوى، فقرعوني وسخروا مني، وحكي لي كل واحد عن طريقته في صيد البنات. وفي فصلنا أيضًا، طلاب يزنقون الطالبات في زحام طابور الصباح، في الأتوبيسات، وفي الشوارع بلامبالاة بشيء.

 نحن ذكور الفصل، كل واحد منا يعد نفسه أفضل من الآخر، وكنا خمسة متفوقين نعد أنفسنا أفضل من كل المتفوقين في حينا، في إدارتنا، إدارة الخليفة التعليمية، وربما في القاهرة كلها، وأنا أدركت أنني صرتُ، رغم سخرية أصدقائي مني، متفوقا جدًا لأنني لم أؤذ ريم بجلافة مراهقتي!

 لآخر العام ولمَّا قبل التغيب من المدرسة والمكوث بالبيت استعدادا للامتحانات المرعبة، لم أتحدث مع ريم سوى مرة واحدة فقط، ولكنها كانت كافية. كان عصر بشمس شديدة اللطف، وكانت حديقة الخالدين جميلة بأشجار سامقة ضخمة، خضرة وزهور في كل مكان، وطيور تغرد هنا وهناك، وفراغ من الناس، لم يكن هناك مارة أو زوار، وكانت طرقة مبلطة بالزلط وشجرة كافور هائلة، وتحتها مقعد حديدي وحيد، وأنا وهي قاعدين، أنا وريم جالسين، ينظر كل من للآخر، ونتكلم بلا خوف، وبلا توتر .

 ثرثرنا عن كل شيء بعفوية وسهولة وعذوبة، حكيت لها كل شيء عن أمي وأبي وأختي، وما مضي من عمري وما هو آت، وكلمتني عن كل شيء، عن أبيها وأمها وأخيها وأختها، قالت إن أسرتها طيبة، وعائلتها كل أفرادها طيبون، وإن حياتها جميلة للغاية، وأنها تحب الرياضيات، وإنني جميل وطيب، وإنها تحبني جدًا جدًا.

 لقد أجببت ريم وأنا أسمع كلماتها لدرجة أكبر مما أحتمل، أحببتها لدرجة أنني تقريبًا صرت مثلها، مجرد ريح لطيفة تهب على حديقة، على بستان زهور، دون أن ترى حولها أي قبح أو بغض..

 طار عقلي، وانفتح قلبي للجمال حتى أنني لم أعد بحاجة لرؤية ريم كي أكون سعيدًا، لقد بلعت جسدها الشفاف كله، وتركته يسري في وجودي.. ريم وهبتني ما يكفي ويزيد، ريم وهبتني كل ما لديها وذهبت كأنها لم تمنحني شيئًا، خرجت من وجودي بنفس العذوبة، والسلاسة، التي دخلت بها.

 

(11) رانيا
في أول عام دراسي لي بالكلية، فقط بعد شهر واحد من بداية السنة، وأنا جالس على دكة خشبية بنية، من شجر زانٍ عتيق، مستندة للجدار، في مدخل مدرج العميد "طه حسين"، ظهرت رانيا في المبنى القديم، وطلعت في حياتي كشجرة نخيل إفرنجي على باب الجامعة، ظهرت رانيا في أيامي الجامعية الأولى رشيقة وغريبة وساحرة، مرسلة لأنفي، ونفسي عطرًا جديدًا، عطرًا نفاذًا، أخاذًا، لا مثيل له فيما مضي من أيامي. حين أقبلت في الردهة، المضيئة بأنوار المساء، قادمة من ساحة الكلية، عابرة الباب لمدخل المدرج، كانت جسدًا فتيًا، مختالاً بذاته، يتحرك بموسيقية، في فستان أزرق فاخر، ويطرقع تحت كعب حذائه العالي بلاط الأرض. لم تكن ترتدي ملابس عملية كبقية طالبات الدفعة والكلية، وكانت تضع ماكياجا، يصلح للمساء والسهرة، على وجه أبيض مدور، بحاجبين سوداوين كثيفين، وخدين أسيلين، وشعرها الأسود الفاحم نازل على جبهتها، ويحيط بوجهها، وتحت ساقيها البديعتين حذاء أزرق بكعب عالٍ، يرسل صوت ارتطامه بالبلاط الرسائل للسامعين، يرسل إيقاعه الخاص، منبهًا الجميع لحضورها الاستثنائي.

 لم يكن بيدها سوى حقيبة يد زرقاء، أنيقة، تكمل صورتها الزاهية، فاتنة الحضور.

 عبرت الباب العتيق نحو مدخل المدرج، ونحوي، أنا الوحيد الجالس في هدوء وصمت، على الدكة العتيقة.

 وقفت وأدارت عينيها السوداوين، طويلة الرموش، هنا وهناك حائرة، ثم ألقت نظرة عابرة عليّ فجاءت عينيها في عينيّ. توترتُ قليلاً، وتشاغلتُ بالكتاب المفتوح فوق ركبتي، ثم فتحت حقيبتي الجلدية الجديدة إلى جواري، وأخرجت منها علبة سجائري السوبر وأشعلت سيجارة مضطربًا، وهربت بعيني منها للكتاب المفتوح.

 بهدوء مالت، وجلست بجواري، على بعد شبر واحد من جسدي المضطرب، ووضعت قدمًا فوق أخرى فارتفع فستانها فوق ركبتيها قليلاً، فتألق ضوء شفاف من ركبتيها، وأضاءت ربتلا ساقيها المدورين بحمرة شفيفة. رجلها اليسرى بعيدة عني فوق رجلها اليمنى المستقرة على بعد سنتيمترات قليلة من رجلي.

 من حقيتها الزرقاء الأنيقة أخرجت علبة سجائرها المارلبورو الحمراء، وأشعلت سيجارتها الحامية، امتصت شفتيها الحمراوين الأنفاس باستمتاع، ونفثت الدخان ببطء.

 رانيا أنيقة كهانم مترفة، وليس في مظهرها شيء من طالبة الفلسفة، لا حقيبة،

أو كشكول محاضرات، أو أكلاسير، أو حافظة أوراق، معها فقط ابتسامة غريبة شبه دائمة، على شفتيها، وهذا الحضور الغريب بين طالبات جامعيات، أعرفهن بمجرد النظر إليهن.

 رانيا غريبة في هذا المكان، ولم أستطع تخمين هويتها بالضبط.

 كنت صامتًا على بعد نحو الشبر منها، أداري اضطرابي بتقليب صفحات كتاب الفلسفة العامة بين يدي، وبدخان سيجارتي، وبلمس أنفي لمقاومة عطرها النفاذ، مظهري العام في جلستي الصامتة مظهر طالب مجتهد، لا يبالي بالجميلات، وهي إلى جواري صامتة تتابع دخان سيجارتها بلامبالاة بشيء أو بأحد. بعد نحو خمسة دقائق من الصمت، أدارت وجهها نحوي:

- "دكتور منصور لسه ما جاش..".

رفعتُ نظري عن فصل "الاغتراب عند أبي حيان التوحيدي" في كتاب الفلسفة العامة بين يدي. أغلقت الكتاب بهدوء، ونظرت إليها باسمًا، وقلت لها:

_ "بيقولوا يمكن ما يجيش انهارده".

- "ليه؟"

- "أبدًا يمكن مش عايز يشوفنا انهارده، عنده اغتراب مثلاً!"

ضحكت بعذوبة.

قالت لي: "باين عليك ابن نكتة، أنت منين؟"

قلت لها: "من طولون".

- "وإيه اللي دخلك فلسفة؟"

قلت لها بحياد، وابتسام:

- "فشلت في دخول الهندسة..وأنتِ... إيه؟"

- "لا ..أنا فشلت في النجاح في سنة أولى تلت مرات!!"

وابتسمت نافثة عمود دخان مدور.

علت الدهشة وجهي:

- "أنتِ طالبة معانا؟! في دفعتنا؟!"

- "آه..مستغرب ليه؟!"

 بعد غيابها لشهر كامل وجدتني في نفس مكاني على الدكة، وبنفس الانتظار لمحاضرة الفلسفة العامة، وللدكتور منصور، حين جاءت ومدت يدها الرخصة وأبقتها في يدي لثوان، طراوة كفها في كفي رقة ممتعة، وصوتها مُطرب: "إزيك؟" جلست بجواري، هذه المرة فستانها أبيض بزهور حمراء وصفراء متناثرة على الصدر والوسط والذيل، وحقيبة يدها صفراء وحذائها أصفر، كانت كلها تلمع، وتفوح برائحة الياسمين.

قلت لها: "إيه، بقالك كتير غايبة؟!"

قالت لي: "عندي خمس مواد فقط، والمادة دي عقدتي الأزلية".

ثم قامت: "شكله هيتأخر أو مش هيجي..قوم نتمشى".

 كنت أتبع خطواتها واتجاهها كمسحور، كعبها العالي يرن على الأسفلت، وابتسامتها كالورود الحمراء في حديقة الكلية، في الحديقة نخلات إفرنجية قصيرة، ونجيل أخضر وبعض شجيرات ورد، وأنا أسير إلى جوارها بيدي كوب شاي، وبيدها كوكاكولا كانز.

 ببساطة قالت إنها مرتاحة لي، وإنني لست مثل بقية الطلاب، شكلي شاب شهم وذوق، وقالت إنها ليس لديها صديقات في الدفعة فقد صرن في الليسانس، وإنها لا تستطيع حضور المحاضرات، وإن لديها الكتب كاملة لكن: " ممكن تعملي خدمة صغيرة".

نظرات الطلبة التي تلاحقنا من بعيد فيها حسد لي، وإعجاب بها.

 رانيا، لا تريد مني شيئًا، فقط تريد أن أعطيها كشاكيل المحاضرات الجديدة، كل أسبوعين مثلاً، وتريد أن تصورها فوتوكوبي، وتصوّر ملاحظاتي أيضًا، وقالت إن شكلي طالب ممتاز. وقالت أيضًا، إنها تعمل ومستقلة بحياتها منذ بلغت الثامنة عشرة، وإنها تعمل مضيفة.

 

 كانت رانيا أول زميلة أقترب منها في الكلية، أول ساحرة مغوية ألتقيها على الإطلاق، وأسير معها متقاربي الكتفين. إيقاع حركة جسدها إلى جواري، رتيب في أذني، صراخ خافت لطيف يطلب الغرام. خفت منها قليلاً، لا أعرف ولكن خجل ابن التاسعة عشرة كان ينتابني أحيانًا أمامها، فأضطرب، وينقلب كياني، فأستسلم لها كطفل، وأسير بنفس إيقاع خطوتها، أهز رقبتي موافقًا على كل ما تقول وتعمل. هي التي رسمت بدقة بالغة، وبترتيب حسن الإعداد، حدود ما بيننا من علاقة. كل أسبوعين تأتي قبل محاضرة الفلسفة العامة بساعة كاملة، نجلس معًا، نشرب شايًا وندخن ونتكلم، نحضر المحاضرة جالسين متجاورين في الصف الأخير من المدرج، ننصت للدكتور منصور ونتهامس أحيانًا. بعد المحاضرة تأخذ كشكول محاضراتي، أجندتي الجلدية في يدها اليمنى وأنا في اليسرى، ونذهب ل "بين السرايات"، تصور من الكشكول ما تشاء، ثم نتمشي للبارك أمام سور الجامعة حيث تركن سيارتها الحمراء الصغيرة.

- "باى باى يا سيد".

- "باى باى يا رانيا".

 أذهب لطولون مشيًا، أعبر كوبرى الجامعة والمنيل والملك الصالح، أدخل السيدة ومنها لطولون، وأنا سعيد لأن لي صديقة صارخة الجمال، لديها سيارة، وفساتين براقة، وتعمل مضيفة.

لم أسألها أبدًا عن تفاصيل حياتها حتى قالت لي ذات يوم:

- "أنا عازماك عندنا في الفندق".

 تطلّب تلبية دعوة رانيا العزيزة استعدادات خاصة، انتهت عند شعري ومظهري كله، وبدأت من أظافر يدي اليمنى، الأظافر الحمراء المسودة من بقايا الجملكة والكحول. منذ دخلت الجامعة بدأت إلباس يدي اليمني فردة جونتي بلاستيك شفاف، حين أعمل في دهان الدواليب والأسرّة، والمكاتب، لكني تضايقت وزهقت من الجونتي ولم أعمل وأنا مرتاح، ففضلت العودة لخدمة الشغل بيدي وأصابعي العارية.

 لتر سبرتو كامل غسلت به أظافر يدي العشرة حتى عادت لشبه لونها الأبيض الطبيعي، ارتديت بنطلوني الجينز الجديد، وفوقه قميص أبيض لامع، وفي يدي جاكت جينز أنيق، وصففت شعري الطويل للخلف. لم أخرج من بيتي في طولون للقائها بجاردن سيتي إلا بعد أن أحسست بأنني في منتهي اللياقة، والأناقة. خرجت من طولون وذهبتُ لجاردن سيتي مشيًا على الأقدام. دخلت الفندق الشهير، الذي له فروع في جميع أنحاء العالم، الفندق المدور كبرج بيزا الإيطالي، البرج الزجاجي الصاعد لسماء القاهرة، والداخل لصفحة وجه النيل. استقبلتني في بهو الفندق وهي ترتدي يونيفورم عملها، بدلة كحلية كلاسيكية أنيقة، وصعدت بي إلى المطعم الفيف ستارز، مطعم ألف ليلة وليلة. أجلستني إلى منضدة فاخرة وحدي، وذهبت باسمة: " خد راحتك خالص.. عشر دقايق وجيالك".

 نزل لي عشاء فاخر، وزجاجتين بيرة مايستر، وكل عشر دقائق تترك رانيا ما في يديها، وتأتي لتقف إلى جواري، وتنحني عليّ، تسألني عن الكباب، والأرز، والملوخية والبيرة ونضحك، نضحك على آخر طرائف طلاب وأساتذة قسم الفلسفة، التي تحب أن تسمعها مني بالتفصيل، رانيا فضولية ومحبة للاستطلاع.

بعد أن تعشيت مبسوطًا بالمكان الفاخر، والضيافة وافرة الكرم، وسكرت بالبيرة وبعذوبة رانيا قلت لها: "أنا هروح بقى".

 قالت إن وقت تسليم ورديتها على وشك، وإنها ستوصلني بسيارتها.

كانت تقود بأناقة مثلما ترتدي، وكاسيت السيارة يرسل، ويرحب:

Welcome to the hotel California

 بعد صمت قصير، قالت إنها تريد أن تستبدل سيارتها الحمراء الصغيرة بأخرى، حمراء أيضًا، ولكن كبيرة وفاخرة، فورد مثلاً، وإن مرتبها ما زال لا يكفي احتياجاتها الكثيرة، خاصة مع إيجار الشقة المرتفع، وإنها ستسافر إلى أمريكا الصيف القادم لتعمل شهوًرا هناك، تعمل قرشين حلوين ثم تعود، وإنها فقط مضطرة للبقاء في مصر حتى تحصل على شهادة الليسانس، لأنها ستفرق كثيرًا معها، كما تفرق النقود: - "النقود يا عزيزي تغير كل شيء".

- "آه..طبعًا".

قالت فرحة:

- "على فكرة الليلة عيد ميلادي".

-" إيه؟"

- "عيد ميلادي..".

رفعت إصبعي السبابة والوسطى في يمينها وقالت: "اتنين وعشرين".

قلت لها: "كل سنة وأنت طيبة".

لم أسألها لماذا كانت تعمل الليلة ولم تحتفل بعيد ميلاها.

 وحدها قالت إن أمها كانت تحتفل بعيد ميلادها كل عام، ومنذ توفت ماما، وتزوج أخيها بالشقة لم يعد هناك من يحتفل بها أو معها، وإنها منذ عاشت وحدها لم تعد تحب الاحتفال بشيء.

كانت تعرف إنني أسكن في طولون ومع ذلك سارت في اتجاه مدينة نصر، لم أقل شيئًا، قالت هي "هفرجك على شقتي..".

وأضافت برقة وخبث: "إيه مش عايز؟"

قلت: "لا طبعًا عايز".

 في شقتها الصغيرة كان كل شيء في فوضى عارمة، منافض ممتلئة بأعقاب سجائرها، منضدة مقلوبة، وصالون فاخر لكنه مترب، ومساند الكنبة ملقاة بإهمال هنا وهناك، وعلى السجادة العتيقة على الأرض.

 قالت لي وهي في طريقها للمطبخ: "اجيب لك حاجة تشربها".

 لم يكن لديها سوى الكولا، جلسنا على الكنبة متجاورين، نشرب الكولا، وفخذها في فخذي.

 أخذت رأسي إليها، ووضعت يدها على شعري: " تعرف؟ ...أنت وسيم".

 أخذت وجهي بين يديها، وبدأت بتقبيل خدي بشفتين لم أذق أجمل، وأطعم وألذ منهما، ثم تحسست بشفتيها شفتي برقة وبطء، وصارت تقبلني برقة، كأنها ذكر حمام يقبل حمامته، قبلتني، قبلات صغيرة متباعدة ولطيفة، أسبلت عيناي ورحت في موسيقى خافتة وعذبة، قبلة وراء قبلة، وراء قبلة، حتى لم أعد قادرًا، حتى طرت، وانفجر جسدي من تحتي.

 عدت برأسي للخلف مبتعدًا بشفتي ووجهي عنها، وأنا أهمس لها: "هروح الحمام". في الحمام وجدت خدي أحمرين، وشفتي حمراوين بطلاء شفتيها، وكيلوتي الأبيض قد تبلل. وضعت رأسي تحت تيار ماء فاتر متدفق، وغسلت وجهي وأنا رائق كلحن خافت، عذب.

خرجت إليها فوجدتها في قميص نوم أبيض مفتوح، وجسدها تحته شاب، وعارم الأنوثة.

قالت لي: "وقت نومي جه، أشوفك قريب يا سيد..مِرسِى".

اضطربت قليلاً، واصفر وجهي.

قبلتْ خدي، وهى تفتح لي الباب.

نزلت السلالم كأني أهبط من علياء إلى حضيض الأرض.

 رانيا أخذت مني كل كشاكيل محاضراتي، وكل هوسي الجنسي المحبوس أيضًا، أخرجته باستحضارها في حمام بيتنا وأنا أتخلص من شهوتي الضاغطة، رانيا وهبتني صورتها وقادتني ببساطة للعبور، للعبور من محنة الطالب إلى شبع الرجل.

 طيلة سنوات الدراسة الأربعة ستبقى علاقتنا التي لا اسم لها على هذا النحو، ولا تتجاوز حدود تتبادل القبلات السخية!

كان هيامي بها قد ازداد وصار يقلقني في الصحو، والمنام، فلما أتمالك نفسي أكثر عقب تبادل القبلات، على نفس الكنبة في شقتها.

قلت لها:" أنت عارفه ..".

قالت:"عارفة."

وضعت وجهي في السجادة تحت قدمي.

"بحبك".

عادت بظهرها للوراء، راكنة ظهرها للمسند الفاخر، وأخذت مخدة وردية ووضعتها فوق حجرها، وقالت بهدوء، وبيقين:

 - "لا لزوم لذلك، لا لزوم لأن نسمي العلاقة بيننا بأي اسم، هي علاقة على كل حال، ليس هناك من فرق بين الزمالة والصداقة والحب، كلها أسماء وصفات لا تدل على شيء، المهم أننا معًا الآن، تحديد نمط العلاقة يفقدها كل جمال".

 كنت قد تعلمت ما يجب عليّ، وما لا يجب، ما الذي يمكنني السؤال عنه، وما لا يمكنني أن أسأل فيه، لا يمكنني أن أسأل عن حياتها الخاصة، ولا عن الشاب الغني، الوسيم، الذي يأتي معها في سيارتها، ويسلمها لباب الجامعة ويمضي، لا يمكنني أن أسأل عما تسميه "حياتي الشخصية"، لا يمكنني أن أحلم أو أتحدث عن مستقبل لنا معًا، غير مسموح سوى بالقبلات، بهذه القبلات الجميلة ولا أكثر.

المشهد يتكرر بحذافيره مرات متعددة، ونفس الكلام الذي أقوله أقوله، ونفس الكلام الذي تقوله تقوله!

كنتُ يائسًا، ومحروقًا.

 ليلتها ذهبنا لشقتها، تكررت قبلاتها الرائعة علي خدي وشفتي، ضممتها إليّ بقوة، ثم بنزق، قبلتها أنا قبلات حارة، ساحنة، حتى كدت أقضم شفتيها، وحاولت نزع قميص نومها من فوق ركبتيها، حاولت تعريتها لأراها كلها، قاومت يدي وجسدي بقوة، وغضب ومقت، أبعدت يدي ودفعتني للخلف صارخة، وبصقت في وجهي: "عايز تعريني يا سيد!!"

لم أعرف بماذا أجيب، حركت رأسي وجسدي يمينًا ويسارًا، وطوحت يدي في الهواء آسفًا، بوغت أنا أم صدمت أم ماذا، لا أعرف.

ولم أعرف كيف أبتعد عن جسدها أيضًا، كنت واقفًا أمامها بلا حيلة وبلا كلمة.

 بعد أن هدأ غضبها قليلاً انفجرت في بكاء، بكاء طويل مرير، كأنني كنت أرغب في اغتصابها منذ لحظة، كفكفت دموعها ثم قامت من مكانها وصرخت فيّ "أنت حيوان".

-"أنت حمار، أنت لا تعرف كيف تعاملني".

لم أفهم شيئًا سوى أنني كنت أريد أن أعرفها بشكل أعمق، كانت رغبتي فيها حارقة،

وهى قادتني لهذا الباب، فلماذا هي غاضبة كل هذا الغضب الآن، لماذا تبدو على هذا النحو.

 علاقتنا لا اسم لها، علاقتنا جميلة لأن لا اسم لها، علاقتنا رائعة لأنها تقودها كما تشاء، تواصلنا الجسدي رائع لأنها هي التي تحدد طول القبلات، وزمنها، وتوقيتها ومكانها، ومداها، علاقتنا صارت ثقيلة على قلبي لأنني لم أفهم رانيا أبدًا.

قادتني للباب وقالت لي:

- "مش عايزة كشاكيل محاضرات تاني".

 كنت في تلك الليلة أجرى في الشوارع، ومن عمارتها وحتى محطة الأتوبيس، كنت أفر منها، من مدينة نصر كلها، وكانت دموع قد نزلت من عيني غزيرة كأنها شلال ماء، كنت ولدًا صغيرًا فقد لعبته المسلية، المسلية والممتعة والتي فقدها قبل أن يرى ماذا بداخلها، كيف تعمل، وكيف تهب المتعة واللذة.

رانيا اختفت من الكلية ومن حياتي، وأنا لم أسأل عنها.

 

(12) أوفيليا
 حولي المدرج فارغ، وموحش.

 لا أحد من الخمسين طالبًا وطالبة، شركاء السيكشن، يجلس عن يميني أو عن يساري، أو خلفي، حولي صمت وسكون، واختفاء صوت أنفاس البشر، وليس ها هنا معيدة اللغة الإنجليزية الحسناء: ابتسام. المدرج خالٍ من كل شيء إلا من عيني اللتين تحدقان في الفراغ أمامي، في الهواء ما بين مكاني في وسط الصف الأول، وحتى السبورة الخضراء، هذا الفراغ كان حيًا وموجودًا، وممتلئًا بها، في هذا الفراغ كانت ابتسام تتحرك وتروح وتجيء بخطوات متمهلة، وتتكلم عن الأدب الإنجليزي وشكسبير، هذا الفراغ كان ساحرًا بشدوها، ومنه يأتي صوتها الرائق، أوفيليا تغني:

" مار فالنتين غدًا عيده

سأبكر في الصباح لكي تراني

أول من ترى في الحيّ من عذارى

فتحبني من دون كل الحسان".

 جئت لأرى نتيجة الفرقة الثانية، نتيجتي، وقد رأيتها، تلقيتها بهدوء وثبات، وبإحساس غير مؤذٍ، لم أكن أول الدفعة، كنت الثالث ذلك العام أيضًا، لم أكن حزينًا جدًا، لا بأس، الأول العام القادم إن شاء الله، والذي بعده، ما زالت فرصتي أن أعين معيدًا بالقسم موجودة، كل هذا مريح ولكن في قلبي غصة، غصة ثقيلة.

 هنأت وائل، أول الدفعة ومروة الثانية، وتركت زحام زملائي وباقي الدفعات عند الأوراق المعلقة بالنتيجة في مدرج طه حسين، وتسللت إلى المدرج الصغير، مدرج السيكشن، وأغلقت خلفي الباب بإحكام.

 كنت أريد أن أكون وحيدًا هنا.

 وحدي في المدرج أحدق في المسافة، المسافة بين مكاني ومكانها، بين موضعي وموضع ابتسام هناك، حيث كانت تجلس، ثم تقوم تمشي خطوتين، وتكتب على السبورة، أو تدون ملاحظاتها، أو أوفيليا تغني الأغنية ذاتها، تشدو بها كاملة وبلا انقطاع، هذه المرة أوفيليا تغني حزينة:

 " مار فالنتين غدًا عيده

سأبكر في الصباح لكي تراني

أول من ترى في الحيّ من عذارى

فتحبني من دون كل الحسان

وفي صباح العيد جاءت ورآها

عذراء منت نفسها بالتلاقي

فأدخلها البيت عذراء ولكن

لم تبارح بيته بكرًا بالفراق".

 ابتسام لها حضور خاص في أي مكان تكون فيه، في طرقة، كانتين، حديقة الكلية، غرفة العميد أو هنا في هذا المدرج الدراسي الصغير. تفيض برونق الشباب وبهائه، في نحو الخامسة والعشرين، وبضفيرة واحدة سوداء تتأرجح خلف ظهرها وتمتد لتصل فوق جونلتها الكلاسيكية الأنيقة، ترتدي نظارة طبية خفيفة العدسات، معلقة بلطف فوق أرنبة أنفها الدقيق، وجهها جاد باسم، وجسدها لا يطيق السكون طويلاً، لا تطيق القعود على كرسيها أو الوقوف الدائم إلى جوار السبورة، تتحرك بعرض المدرج، وتدرّس باقتدار ومحبة، كتاب مختارات من الأدب الإنجليزي، وكتاب الأكاذيب العظيمة". The great lies

 طلابها، وأنا منهم، ينادونها ب"بروفيسر" وهم يعرفون أنها ما زالت تعد رسالتها للدكتوراه، وإن بعضهم قد يكون أكبر منها سنًا، نعرف أن رسالتها عن شكسبير، ولا محاضرة تمر بدون ذكره، بدون مسرحياته وشعره.

 بروفيسير ابتسام لا نراها كثيرًا، محاضراتها قليلة ولكن حضورها في نفسي فريد، شدني إليها هذه الأناقة البسيطة، وضفيرتها التي تنزل حتى أعلى مؤخرتها الموزونة، وصوتها الجذاب الذي يقرأ الشعر كأنه فعل فني جمالي حيّ ومطلق في ذات الوقت، شعر يحدث أمامي، هي عازفته ومغنيته وممثلته، هي تلقي الشعر لي وحدي، وأنا الوحيد الذي يسمعها.

 مونولوج "أوفيليا" هو واحد من خمسة نصوص ندرسها، ويا ويلي حين ألقته. هم ينادونها بروفيسر ابتسام، وأنا أسميها باسم آخر..

 ذات محاضرة نادرة الجمال، ألقت البروفيسيرة ابتسام المونولوج كاملاً، لم تقتطع أبياتًا قليلة كالعادة، لم تقرأ قراءة عابرة، لم تشرح شيئًا، فقط ألقت، تلت المونولوج كاملاً دون توقف، فحدث لي ما حدث.

 حدث أن خلعت نظارتها وألقت بها بهدوء فوق أجندة ملاحظاتها المفتوحة، على المنضدة الصغيرة أمامها، وقامت واقفة، تحركت خطوتين إلى منتصف البرتيكابل الخشبي الذي يفصل بين السبورة وبداية أول بنج، فصارت كأنها على خشبة مسرح. بلا نظارة، ابتسام واسعة العينين، عيناها زرقاوان صافيتان وغامضتان. الكتاب في يدها مغلق، وهي حافظة عن ظهر قلب. راحت ابتسام، ربة الشعر، تلقي، تمثل، وتبتدع المونولوج القاسي، فحدث لي ما حدث، حدث أنني انتشيت نشوة جمالية خالصة، لا صلة لها بالجسد. هي تلقى المونولوج بصوت أخاذ، وتتحرك فوق البرتيكبل، فوق خشبة مسرحها، وأنا ألاحقها بعيني مشدوهًا، حتي ثبتت في مكانها، جاءت عيناها في عيني، فتشبثت بهما وحدقت فيهما، لم أفلتهما، هي الآن تتلو لي وحدي، عيناها في عيني، عيناى تبوح لها وتحدثها، وهي تحدثني.

أحدثها وتحدثني.

أنا لست بهملت، وهي أوفيليا تتحدث:

 لهفي على عقل رفيع قد هوى"

من النبلاء لسانهم، ومن الجند سيفهم

ومن العلماء عينهم

زهرة الدولة اليانعة ومطمحها

مرآة الذوق والأناقة، قالب الأدب

ملتقى الأبصار كلها قد هوى وتحطم

وأنا ، أبأس النساء وأتعسهن، أنا

أنا التي رشفت العسل الذي في وعوده المنغمة

أرى الآن ذلك الذهن الكريم الرفيع

يرن كأجراسٍ عذبةٍ تجلجل نشازًا منكرًا

وذلك الشباب الفاغم الذي لا صنو لصورته

تكسر عودَه يد الجنون

يا ويلتاه لما رأيت

يا ويلتاه لما رأيت."

أنا سيد فرج أحدثها.

حكاية أوفيليا ليست هي المهمة، حكايتي أنا هي المهمة.

 لا أطلب شيئًا منكِ، فقط لا تعيدي النظارة إلى عينيك، أنت تقرئين جيدًا بلا نظارة، أنت ترين أفضل بلا نظارة . لتبق هكذا كما أنتِ، تقرئين شعر شكسبير، وأنا سأحدق في عينيك وأفهم، سأنصت إليك بكل حواسي وسأفهم، وسأقول لك كلامًا مفهومًا، ردي متى أحببني، وامتنعي وقتما تشائين.

واصلي يا أوفيليا، واصلي يا بروفسير، واصلي يا ابتسام.

أنا أريد أن أقول لك شيئًا واحدًا، أنا سعيد، سعيد جدًا اليوم، شكرًا لك.

 أوفيليا المجنونة ألقت قصيدة حب رائعة، أوفيليا المجنونة بحب هاملت مجنونة بالرثاء أيضًا وبأشياء أخرى، وهملت لا يبحث عن الحب، هملت يبحث عن الانتقام بشكل ما، وربما عن بطولة تليق به، هذه هي الحكاية التي أريد أن أذكرها، ليست هي حكاية شكسبير بالضبط كما ذكرها في المسرحية، تمامًا كما أن حكايتي أنا مع ابتسام ليست حكاية هملت مع أوفيليا!

أنا كنت أريد أن أصير مثلها، أن أصير كفؤًا لها.

 حوارنا صامت، وممتد.

 كثيرًا ما تلتقي عيوننا أثناء المحاضرة، أرى فيهما شيئًا غامضًا.

 في كل محاضرة ستبحث عيناها عني، في كل محاضرة ستجدني جالسًا في موضعي، هي تعرف أنني في موضعي، وأنا أعرف أنها في موضعها، وستتحرك رائحة وغادية، هي تعرف أن عينيي معلقتان بها، بجسدها، بحركتها، بصوتها، بشعرها وبشكسبير، وأنا أعرف أنها تحدثني أنا وحدي حديثًا صامتًا وبليغًا، هي تروح ببطء عن عيني وترجع إليّ، وأنا عيناي تروحان وتجيئان معها.

- "جاوب يا سيد".

 .سيد يجيب

- "ما رأيك ياسيد".

سيد يقول رأيه، ويشرح انحيازه للحب على حساب الانتقام.

ابتسام، أوفيليا، تقول لي مختلفة معك.

وأنا أقول إنني مختلف معك.

- "اشرح يا سيد".

سيد لا يجد الكلمات الإنجليزية المقابلة تمامًا للكلمات العربية في رأسه.

 حوار العيون الصامت غير المنطوق أبلغ من كل كلام قلته لها، وقالته لي.

مثلاً، قلت لها: "أنت جميلة".

قالت: "شكرًا".

قلت لها: "و..النظارة أنيقة".

ابتسمت.

قلت لها: "ولكن عينيك بلا نظارة أجمل".

قالت: "أعرف".

قلت: "تخلصي من نظارتك، وابق عينيك عاريتين طيلة الوقت".

قالت: "لا أستطيع، لا أعرف كيف أقرأ بلا نظارة".

قلت لها: "خسارة".

تبسّمت.

قلت: "شرحك ممتاز".

سخرت: "هل ترى ذلك فعلاً!"

"آه."

 قالت: "اتركني لعملي إذن".

حوار العيون متعة لا يعرفها سوى العشاق الذين لا يجدون الكلمات.

في منتصف العام، وصل حوارنا لنقطة أخرى.

 " تعرفين إنك رقيقة جدًا".

تبسمت.

" تعرفين إنني أحب ضفيرتك".

تدللت سعيدة.

"شكسبير عاشق كبير".

"نعم، شكسبير عاشق كبير".

"أقصد..شكسبير عاشق فريد".

"نعم شكسبير عاشق فريد".

"لكنه مأساوي".

"نعم هو مأساوي".

"كيف تنتهي قصص الغرام نهاية سعيدة؟"

"قصص الغرام عادة لا تنتهي نهاية سعيدة".

أطرقت لخشب البنج أمامي.

وعادت هي للشرح.

 ليس هناك من أحد ها هنا في المدرج، أنا لا أرى الطلبة والطالبات الآخرين، أنا معك وحدك، وأنت ترين الآخرين، تعلمينهم ولهم تشرحين، أي ظلم هذا، أنا لا أرى غيرك، وأنت ترين الآخرين.

تعدل نظارتها وينساب صوتها الرقيق يشرح قصيدة أخرى.

في آخر محاضرة لم أستطع إخفاء فقدي لها، لم أستطع أن أتحمل إجازة صيفية طويلة بدونها.

تكلمنا للمرة الأخيرة بالعيون..

"هتوحشينى؟"

ابتسمت نفس ابتسامتها الواسعة، ولم تجيب.

"أصلى بحب شكسبير".

انفرج وجهها الباسم أكثر.

"هتعملي إيه في الأجازة؟"

"أجازة ليك أنت، أنا لسه مراقبة وكنترول وتصحيح".

"طب وبعد كده؟"

"بعد كده مسافرة لندن".

"هتقعدي قد إيه؟"

"ثلاثة شهور.."

"تروحي وترجعي بالسلامة".

"وأنت استمتع بالأجازة..باى باى".

"طب سؤال قبل ما تمشي".

"اسأل.."

"هتدرسي لنا السنة الجاية؟"

"مش عارفة..باى باى".

" باى باى".

"استمتع بإجازتك".

"وأنتِ كمان".

سأستمتع بأجازة الصيف على طريقتي.

 فرج النجار مات منذ ثلاثة شهور، ولم ينتظر أن أحصل له على الشهادة الكبيرة كما وعدته، وترك لي ورشة وأم وأخت، وحجرة نوم عمولة، جهاز البنت كريمة وحلمي ابن خالها، والحجرة في حاجة إلى يدي، في حاجة إلى دهان وتشطيب حتى يكتمل الفرح، حتى يكون هناك فرح من أصله، عليمي أرجأ الفرح لموت أبي، ولم يعترض حلمي العريس، ولا لوزة التي كانت حزينة جدًا على أبي. عم عليمي لم يأخذ الحجرة من الورشة لورشة أخرى، ولم يطالبني بالعربون الذي أعطاه لأبي، وقال لي بشهامة "الجوازة تستنى.. مش هتطير".

 يجب أن أشطب حجرة نوم العروسين حتى ينصب الفرح.

 بعد أن أعطتني ظهرها وكادت تمضي وتختفي عن عيني التفتت للخلف، وقالت باسمة وعيناها الزرقاوان رائقتان ولامعتان تحت نظارتها الرقيقة، التفتت إلىّ مرة أخيرة وتمنت لي الاستمتاع:

"استمتع بإجازتك".

"وأنتِ كمان".

"باي باي".

"باي باي".

 

 (13) حفصة
 في المحاضرات المهمة، التي أدوام على حضورها، وأحبها، أجلس في الخلف، في الصف الأخير. أجلس في آخر بنج، أقصى الطرف الأيمن ووحدي إن لم يكن أحد أصدقائي حاضرًا معي، وإن كان فسيجلس الصاحب بجانبي مرتاحًا مثلي، وسنتهامس من حين إلى آخر أثناء المحاضرة، ونتبادل التعليقات على المُحاضر وكلامه، أسلوبه ومنظره، ونتبادل السجائر كالعادة في محاضرات بعض الأساتذة المدخنين، وغير المدخنين، الذين يسمحون لنا بسيجارة أثناء المحاضرة، عن طيب خاطر.

 الصف الأخير له ميزة عظمى وفريدة، منه ترى الآخرين من الخلف، ترى الجميع، كل الذين أمامك بوضوح، ستلاحظ الطالب والطالبة والأستاذ، والساعي، الجميع مكشوفون لك وأنت مختفٍ، غائب عن أعينهم، خلفهم، ترى قفا كل منهم ورأسه وشعره، وسيتعب من يحاول أن يجدك، سيرهق من يريد أن يراك، أن يلاحظك أو يراقبك، سيلف رقبته ورأسه وجذعه، للخلف وبالكاد سيلمحك لبرهة خاطفة، بصعوبة وبغير وضوح وراحة.

"أنت، في الخلف، في الموضع الأفضل يا سيد". موقعي الاستراتيجي في الصف الأخير في كل مدرجات دراستي ركنت إليه بعد سنتين جامعيتين من الجلوس في الصف الأول، وها أنا صاحب خبرة معتبرة، وفي سنة الليسانس، سنة التخرج، وجالس في صفي الأخير وحيدًا، أمني نفسي بمحاضرة قيّمة، تنعشني ذهنيًا، وها هي قد جاءت إليّ، على غير عادة، وعلى غير انتظار.

 لا أعرف لماذا، وكيف، انتقلت حفصة من مكانها الثابت إلى جوار أخواتها من الفتيات المحجبات في الصف الأول، قامت من مكانها تاركة رفيقاتها، ومشت خطوات، وعبرت المسافة بين الصفين الأول والأخير، تخطت عشرين صفًا، شبه مكتملة العدد من طلاب دفعتنا، وغيرهم من الطلاب الزائرين الذين يحضرون معنا هذه المحاضرة، ودقت الدرجات الخشبية تحت حذائها منخفض الكعب، وجاءت لتجلس على بنجي الحبيب، وفي موقعي الاستراتيجي. كنت وحدي، وجاءت هي ووقفت غاضة بصرها، وتنحنحت بصوت خافت، رفعت رأسي نحوها، فرأيتها في فستانها الأسود الفضفاض، وحجابها الرمادي، ووجهها الذي يكتم الغضب بسبب مشاجرة مع رفيقاتها على الأرجح. التقت عيوننا، تزحزحت أشبارًا قليلة للداخل، وقاومت إحساسًا بالضيق منها لمشاركتها لي صفي الأخير، وقطع وحدتي، وابتسمت لها:"أهلاً".

 وضعت حقيبتها القماشية الكبيرة على الديسك أمامها بعصبية، ولمت ثوبها، وجلستْ أقصى الطرف، في الموضع الذي كنت أجلس فيه، وألقت عليّ السلام بصوت خافت: "سلامو عليكم".

 حفصة ذات وجه أبيض، خال من الماكياج، بأنف صغير وجبهة ضيقة، وعينين مكحلتين، وحجابها أنيق وغالٍ، يتغير لونه كل يوم بينما لا يتغير لون الثوب، هو لون داكن غالبًا، متوسطة الطول، وممتلئة الجسد قليلاً، كإوزة بيضاء. أعرف أنها مغتربة، تعيش بمدينة الطالبات بالجيزة التي قدمت من إحدى قراها البعيدة، وأثق في أن أحدًا لم يضبطها يومًا ما وهي تضحك ضحكة عالية وأنثوية، أو ماشية مع أحدهم في قصة غرام، بالتأكيد لا تعرف الطريق إلى الحديقة الخلفية لكلية سياسة واقتصاد، حيث أزواج العشاق الجائلين، ولا تأبطت أحدًا في طريق كلية آثار السياحي، ولم تجلس جلسة حميمة مع حبيب في"بطن الزير"، حيث السلالم الخلفية، الرخامية الحمراء، للمبنى الجديد، مبنى أقسام: الفلسفة والوثائق والمكتبات، والجغرافيا، واللغة الفرنسية. حفصة ترتاد مصليَّات كل الكليات داخل الحرم الجامعي وخارجه، ككليتي الهندسة والطب، وتقضي أوقاتا في الصلاة بها، وحضور الدروس الدينية والمقاريء، أطول كثيرًا مما نراها بمدرجات دراستنا.

 دخل الدكتور رياض عارف المدرج طويلاً، ممتلئ الجسد، في نحو الخمسين، وأنيقًا في بدلة فاتحة اللون، غير غالية، وبنظارة سميكة العدسات، ووجه باسم، بشعر رمادي وصلعة خفيفة. جلس إلى كرسيه ومنصته الصغيرة بعد أن قال لنا مبتسمًا: "صباح الخير". فتح حقيبته الجلدية الكلاسيكية، وأخرج منها خمسة كتب: ثلاثة بالعربية وواحد بالإنجليزية والأخير بالفرنسية، عادة يتنقل بين الكتب، واللغات، أثناء المحاضرة لقراءة نص أو التثبت من فكرة أو معلومة، عادة، أيضًا، يملي علينا في آخر المحاضرة قائمة مراجع بالعربية، والإنجليزية، لموضوع الدراسة.

 وقف هو، وصمتنا نحن تمامًا، تحرك خطوتين من منصته، وعدل نظارته، وبدأ يمهد لموضوع المحاضرة بالحديث عن الفارابي، المُعلم الثاني بعد أرسطو، وأفكاره العامة، وعن السياق التاريخي والفلسفي الذي أنجز فيه كتابه الشهير"آراء أهل المدينة الفاضلة".

 بعد وقت قصير استغرقت مع الدكتور رياض، مع وجهه وحركته وصوته، بآذان منصتة، وذهن يقظ، وعينين تنتقلان من وجهه لدفتر محاضراتي أمامي. وأخذت أدوّن أفكارًا وملاحظات مما يشرح، وآرائي وأفكاري أنا الخاصة. حفصة إلى جواري لم تفتح حقيبتها المكتظة بكتيبات الدعوة إلى الله التي توزعها علينا أحيانًا، وأغلب الأحيان على طالبات المدينة الجامعية، وعلى طلاب الكليات الأخرى، حفصة لم تخرج من حقيبتها المكتظة أجندة أو كشكولا. كانت ساكنة، نظرها للأمام، ويداها على حجرها، تستمع للصوت الوقور، واضح المخارج، للدكتور رياض، تنصت إليه بامتعاض مشمئز فوق وجهها المستطيل، ومن حين لآخر تشد طرف حجابها الرمادي لأسفل ناصيتها، نافدة الصبر.

 بعد نحو ربع ساعة مالت ناحيتي، ورفعت قفاز يدها القماشي نحوي، وهمست لي:

- "كذب..كذب!!".

لا أعرف ماذا تعني.

- "كذب كذب..مدينة فاضلة إيه، وكلام فاضي! المدينة الفاضلة مش في الدنيا، المدينة الفاضلة في الآخرة.. الفردوس هو الجنة، المدينة الفاضلة في السما مش على الأرض".

أول مرة ألاحظ أن صوتها رفيع، وحاد، وغير أنثوي!

 وأنا أضع إصبع السبابة أمام شفتيّ حذرتها: "هششششش".

 اعتدلت في مكاني، وعدت للقلم في يدي والنظر للأستاذ، وواصلت الإنصات بانتباه وتركيز، وحاولت تجاهل وجودها إلى جواري.

 الدكتور رياض ليس موسوعة في الفلسفة الإسلامية فحسب، لكنه التاريخ الحيّ للفلسفة الغربية والمعاصرة أيضًا، موهبته العظمي ليست في التأليف الفلسفي، وإن كان لديه عشرة كتب معتبرة على الأقل، موهبته العظمى كانت في هذا الإلقاء الساحر، في السرد الشفوي، وبراعة الانتقال من فكرة إلى أخرى، يصحبنا معه أي كان موضوع المحاضرة، ويبحر، بلغة عذبة ودرامية، لا تخلو من الفكاهة والمرح، الدكتور رياض في نظري ممثل مسرحي بارع، أحبُ محاضراته كثيرًا، ولا أتغيب عن واحدة منها، ولا أحب أن يشوش عليّ أحد أثناء إنصاتي له.

مرة أخرى مالت حفصة نحوي: "كذب..كذب، بدع وضلالات، والفارابي ده كافر أصلاً، كفّره الغزالي في مسائل عديدة".

 حاولت التحكم في غضبي: "وبعدين؟! من فضلك..عايز أتابع الدكتور".

شوحت لي بيدها بصوت سمعته الصفوف الخلفية في المدرج:

- "دكتور إيه، وبتاع إيه؟"

تحركت لمنتصف البنج مبتعدًا عنها.

 بادلني الدكتور رياض الذي كان قد توقف عن الكلام نظرة، وصمتَ حين تحركت مبتعدًا عن حفصة، ولم يقل شيئًا. ولما سكنت في مكاني عاد لمواصله حديثه كأن جلبة وضجيجًا، وتلقيحًا عليه، في الخلف لم يكن، وواصل شرحه لمحاولة الفارابي الجمع بين رأيّ الفيلسوفين: أفلاطون وأرسطو.

 حفصة لم تأبه للدكتور رياض، ويئست مني ومن تجاوبي معها، ولا تشعر بذنب. حفصة لا تكتب شيئًا، ولا تسمع شيئًا، وأصابها الملل فأخذت تشخبط بالقلم على الديسك الخشبي أمامها محدثة صوت خربشة مزعجة في أذنيّ، صبرت عليها. بعد ربع ساعة أخرى فاض بها الضجر، فأخرجت مصحفًا صغيرًا من حقيبتها، ووضعته على ركبتيها، وراحت تجري عينيها على الآيات. شفتاها مقفولتين، مقلوبتين بامتعاض، وكيانها كله متوتر. هي ظلت هكذا لآخر المحاضرة، وأنا لم أستطع تجاهل وجودها إلى جواري فذهب تركيزي واستمتاعي. أفسدت عليّ المحاضرة الثمينة، منها لله.

 بعد المحاضرة، خرجت لأشرب شايًا في كانتين القسم، وأدخن، انتظارًا للمحاضرة التالية. جاءت خلفي للكانتين، ووقفت بجواري، ونظرت إلى وجهي، بعتاب صامتة!

 طلبت لها شايًا معي:

- "اتنين شاي يا عم رزق". قالت: "لا..ينسون".

أخذنا الشاي والينسون وتحركنا خطوات، ووقفنا على شرفة واسعة تطل على ساحة الكلية.

- "إيه اللي عجبك فيه؟"

- "في مين؟"

- "الدكتور رياض".

- "عجبني جدًا طبعًا..أستاذ عظيم، ومفكر مجدد".

راح وجهها ألوانا متباينة ومختلفة، وكادت تلقى بكوب الينسون الساخن في وجهي، لكنها تمالكت أعصابها بالجزّ على أسنانها، وقالت:

- "أولاً شرحه ممل جدًا، ولا يحفظ القرآن الكريم، ولا الأحاديث!!"

- "هه؟!"

 - "ويدعي أنه مفكر إسلامي رغم إنه لا يدرس لنا حسن البنا، ولا رشيد رضا، ولا أبو الأعلى المودودي، ولا سيد قطب!!"

ما زال اندهاشي مستمرًا.

قلت لها إن الدكتور يدرس لنا كبار الفلاسفة والمتكلمين والعلماء في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وليس هؤلاء الناس!

استشاطت غضبًا، ولكنها تمالكت غضبها، بطريقتها الخاصة، راحت تمتم وتجرى إبهام يدها اليمنى على عقلات أصابعها "سبحان الله..سبحان الله.. سبحان الله".

وصمتنا مدة، أنا أشرب الشاي وأدخن سيجارتي السوبر، وأوصل الفرجة على زحام الطلاب والطالبات في ساحة الكلية وحديقتها، وهي تمتم لتهدأ من حنقها، وغضبها علىّ.

 دفعتنا فيها نحو خمسة عشر طالبًا فقط، ونحو مائة طالبة، كنا في يسر وحل من أن نتودد للبنات! وبين المائة طالبة ثمة خمس محجبات فقط، ومنقبة واحدة.

المنقبة الوحيدة التي لا أعرف اسمها، أقبلت نحونا وهمست: "السلام عليكم".

ردت عليها حفصة: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".

- "تعالى معايه" قالت الطالبة المنقبة.

 بدت حفصة مستاءة من صاحبتها، وغير راغبة في الذهاب معها، وتريد مواصلة الكلام معي، ولكنها استسلمت ليد المنقبة، وهى تقول لي: "نكمل حوارنا غدًا".

- "إن شاء الله" قلتُ.

قالت"إن شاء الله".

 ذات يومٍ، في آخر ربع ساعة من المحاضرة، وقفتُ إلى جوار منصة الدكتور رياض، وأخذت من يده الميكروفون الصغير، وواجهت زملائي. خائفًا من الجمهور قليلاً، تنحنحت مرتبكًا، وتلعثمت في البداية ثم بدأت الأفكار تواتيني فتحدثت بطلاقة عارضًا كتاب "الإسلام وأصول الحكم". قلت إن علي عبد الرازق أثبت بالأدلة الشرعية، وصحيح الدين، عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، وقال إن الله، في كتابه العزيز، ترك الحرية للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم هذه الدولة، أى كان شكلها، بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة.

 أثناء كلامي امتعضت وجوه أمامي في المدرج فاتضح لي أن الذين لا يحبون على عبد الرازق وكتابه، ولن يحبوني بسبب اختياري وعرضي لهذا الكتاب ليسوا بقلائل في المدرج، وفى الدفعة.

بعد أن سكت منهيًا كلامي، تحدث الدكتور رياض لدقيقة واحدة، أشاد فيها بعرضي الجيد، وشجعني على التفكير بنفسي، والتقط حقيبته وخرج.

 خارج المدرج جاءت حفصة نحوي بوجه متوتر:

- "السلام عليكم".

- "وعليكم السلام".

- "ممكن أتكلم معاك شوية".

قلت لها: " بكل سرور.. يالا.."

هبطنا سلالم مبنانا معًا، وذهبنا لنجلس على سلالم المكتبة المركزية.

 حفصة لم ترض أن تجلس بجواري على بسطة السلم، وظلت واقفة، فستانها كحلي، وحجابها اليوم أبيض وطويل، ويزم وجهها وخديها، ويهبط حتى ركبتها.

 قالت لي بخجل إنها كانت تتوسم فيّ شابًا صاحب دين، وخلق، وإنني للأسف قد هبطت اليوم من نظرها، فكيف لي أن أجاري النصارى والكفرة في أفكارهم الاستشراقية عن الإسلام العظيم، من هؤلاء حتى ينتقدوا كتابنا المنزل من فوق سبع سنوات، نحن خير أمة أخرجت للناس، كيف لك أن تقول ما يقولون، وأن تجاري هذه الكراهية لدين الله ورسوله.

بهت طويلاً، وأنا أسمعها تتكلم، كمن يحفظ ويقرأ من كتاب مفتوح أمام عينيه.

لم تكن حفصة تنظر في عيني أو وجهي أبدًا وهي تتكلم، كانت تنظر لبلاط السلم، وتتكلم بصوت رفيع رتيب لا يرتفع، لا ينخفض.

قلت لها إنني لم أتحدث عن نصارى ولا عن كفار ورأيهم في الإسلام، وإنني كنت أتكلم عن عالم إسلامي جليل اسمه الشيخ على عبد الرازق وعن كتابه المهم، وعن اجتهاده.

 قالت لي ألا تعرف أن هذا الضال سُحِبتْ منه شهادة العالمية، وطرد من الأزهر الشريف بسبب هذا الكتاب، المعادي لصحيح الإسلام؟!

قلت لها إنني سواء كنت أعرف أو لا أعرف فإن ذلك لا يغير في موقفي شيئًا، وإنني حر في رأيّ وأفكاري.

سكتت، واضطربت، أرادت أن تمشي وأن تبقى معي، كنت جافًا، وقلت لها جملتي الأخيرة كمن ينهي الحوار.

قالت لي: "على فكرة.. فيه فتوى في الأزهر تكفر أستاذك الدكتور رياض يا أستاذ، خليك ماشي وراه لحد جهنم الكفار".

ألقت قنبلتها الأخيرة في وجهي وانصرفت.

 حفصة لم تتعلم في مصر، ولدت وعاشت حتى الثانوية العامة في الخليج، ووالدها مدرس بجامعة إقليمية، والحمد لله لم يستطع إقناعها بأن الحديث معي خطيئة من أصله، وأن صوتها عورة، وأنها هي كلها عورة يجب أن تخبأ في البيت!

 حين اشتعلت حرب الخليج سنة 91 كنت أرى حفصة في المظاهرات المحتجة على العدوان الأمريكي، كنت أراها وسط قبيلة من المحجبات والمنقبات، وكنت أنا في قبيلة أخرى قبيلة المستقلين، اليسار، ونادي الفكر الناصري، كانت عيناي تقع أحيانًا على عينيها فتهرب مني بالنظر للأرض، وبعد وقت تعود لتنظر إليّ مرة أخرى.. كان في نظرتها إليّ شيء يطلبني، يريد قربي، وكان في قلبها وعقلها ما يجعل لقاءنا مستحيلاً.

 انقضت الحرب، وانفضت المظاهرات، وتخرجت لأبدأ عطالة غير طويلة، خالية من بهجة طلب العلم في كلية يدعوها طلاب دار علوم "كباريه الجامعة"، لكنني سأعود إليها سريعًا طالبًا للدراسات العليا والماجستير.

 وحفصة، سمعت أنها تزوجت بعد أيام من ظهور نتيجة الليسانس، ولم تظهر في حياتي مرة أخرى، حفصة ليست فتاتي على أية حال.

 

(14)
ها هنا كان يجب أن ألقى حبيبتي، حب عمري، امرأة خيالي وواقعي، هذا بالضبط هو ما لم يحدث في ذلك الوقت، وما زلت أنتظر وقوعه، حدوثه، رؤيته، وعيشه.. ما زلت أريد أن أحب.

 

(15) أرزاق
 كنتُ في الخامسة والعشرين، ومدرسًا للفلسفة "بالحصة"، مؤقتًا، بمدرسة طولون الثانوية، نفس المدرسة التي أخذت الثانوية العامة منها، وكنت أُعامل في المدرسة معاملة تلميذ الأساتذة الكبار، مدرسيّ القدامى لم يكونوا غلاظًا جدًا معي لدرجة أن يجعلوني في مرتبة التلميذ، ودرجته، طيلة الوقت كانوا يعاملونني حسب أحوالهم، ومزاجهم، وكان بعضهم فخورًا بتلميذهم القديم، تلميذهم الشاب الذي سيواصل المهنة من بعدهم، والذي خبروه طالبًا شاطرًا في فصول ثانوي، وهو أيضًا على كل حال قد فلح وتخرج من الجامعة، وأصبح مدرسًا مبتدئًا، جيدًا، ويقول إنه يحضر رسالته للماجستير في الفلسفة.

وكنتُ أيضًا لم أعرف امرأة بعد، المعرفة العارية، الحقيقة الكاملة.

 تلك الليلة كنت جالسًا على مقهى "مراسينا" بميدان السيدة، ألعب دور شطرنج مع الدكتور مُحي طبيب الأطفال، وقاعد معنا يتفرج الأستاذ حكيم المحاسب، حين جاء لطفي الموظف الحديث بهيئة التأمينات الاجتماعية، وأحد أصدقاء طفولتي، ومراهقتي.

 لطفي بعدما جلس بدقيقتين وتفحص الدور سريعًا، لم يستطع السكوت كالعادة، ففتح شفتيه الغليظتين، وقال وهو يعدل نظارته الطبية:

- "معلهش يا دكتور، المدرس كسبان كسبان".

 امتعض الدكتور، وقلب وجهه للطفي، وأخذ يهمهم وهو يحاول الفرار بملِكه.

 بعد ثلاث نقلات أخرى، مع آخر نقلة حركتها نفض يديه، استسلم، وقال غاضبًا:

- "كفاية يا أستاذ سيد..كفاية".

- "هارد لَك يا دكتور".

 قال لي لطفي وهو ينتقل لمنضدة أخرى:

- "قوم.. عايزك ف حاجة".

 قمت وجلست بجواره، وهو أخذ يحدثني في أذني. - "الليلة..أناااا رايح.."

- "رايح فين؟"

- "رايح بيت هَوَى يا مُعلِّم..تعالى معايه!"

- "بيت هوى؟!"

- "بيت دعارة يا مُعلّم".

ابتسمتُ.

- "تعالى معايه..هتنبسط، وتفرفش، وتروّق".

- ......

 وأخذ لطفي يصوّر لي، بحركة يديه وتعبيرات وجهه وكلماته، الجو الجميل في ذلك البيت، ويسهب، ويشرح، ويجول بلسان مستمتع، وروح جائعة لجسد.

- "روعة روعة.. مكان روعة".

 أنا كنت أستمع إليه متلذذًا بالكلمات، والوصف والشرح، وكان يجول برأسي إنني لم أعرف امرأة بعد، لم أدخل دنيا بعد. أنا في الحيّ، ووسط أقراني، ممن يقال لهم "عذراء"! أعرف بالطبع بعض الأشياء والتفاصيل ولكنني أجهل الشيء الأكبر، أنا أتقاضي ثلاثمائة جنية فقط في الشهر، ولم ينفتح أمامي بعد باب الدروس الخصوصية، ولا غيره من أبواب الفلوس..الفلوس يا معلِم. - "ولا يهمك الفلوس".

قال لطفي.

قلت: "لا يا معلِم.. على إيه؟ الفلوس موجودة".

قال لطفي بفرح:

- "الواحد بتلاتين جنيه، وممكن تقعد تشرب شاي، وتريّح وتستعيد نشاطك، وتعمل واحد إضافي بعشرين جنيه بس..نظام آخر حلاوة!".

 تذكرتُ بيت أُنس، تبسّمت وشردت مع نفسي في أنس، وأثاث البيت العزيز على صباي.

ضرب لطفي على فخذي:

- "رحت فين؟! يَالاَ بينا".

قمنا، سلمنا على شلة الشطرنج، وانطلقنا.

 في الطريق إلى بيت الدعارة كان لطفي يهمس في أذني بضرورة الحيطة، وأخذ البال، والانتباه، ومراعاة المريضات بالأمراض السرّية والسيلان على وجه خاص، وشرح لي وصفة بسيطة لاكتشاف مرض البنت، قال يجب عليك أن تضرب سِوّة البنت بقوة مرة، ثم مرة ثانية أقوى من الأولي، وثالثة أقوى من السابقتين، فإذا خرج من مهبلها ماء مع أية ضربة من الضربات الثلاث كانت مريضة، والعياذ بالله، فلا تقربها أو تدخلها أبدًا يا ناصح. وقال لي إنه من المستحيل بالنسبة له أن يضاجع بنتًا عندها سيلان مهما كانت أنوثتها صارخة، وذات تضاريس غنية، وتُأكَل أكلاً، والحمد لله البنات في البيت الذي سنذهب إليه عشرة على عشرة.

لدهشتي وقف بي لطفي عند نفس البيت، بيت أُنس!

 أنس كانت الفرفشة والدلع الأنثوي، والضحك الماجن، في صباي. فماذا لو رأيتها اليوم.

أنس لم تكن هناك لتفتح لنا الباب.

 حين دخلنا الشقة العتيقة كانت كما هي، كما كانت في صباي تمامًا، بنفس أثاثها الجميل الذي أعرفه منذ سنوات طويلة، فقط صار قديمًا ومنطفئًا، هنا الأسطى طارق والأسطى فرج حاضريْن في كل قطعة من أثاث هذا البيت، هما صنعا الدواليب والأسرّة والمناضد، والكراسي والمرايا، صنعا ودهنا ولمَّعا بمهارة وفن، وأهل حينا عمَّروا المكان، وانبسطوا، اغتموا، واستمتعوا، وحزنوا. كان أبي والأسطى طارق موجودين لكن أُنس لم تكن حاضرة، ولم تكن في موضعها في ركن الكنبة، كان موضعها فارغًا.

 في مكان أُنس على الكنبة كان يجلس فتوة أحول، جلف المنظر، بجلباب بلدي كجلباب عوض الجزار، في منتصف الثلاثينات تقريبًا، كان هادئًا في جلسته المختالة، الواثقة بالنفس، والمتسلطة، مبرزًا عضلات صدره العريض، وقوة فخذيه وقدميه الراسختين على السجادة، كان كتلة من الصلب بلا ملامح وجه، فقط له عينان كل منهما تنظر في اتجاه مختلف، وشعر أكرت طويل بين يدي بنت صغيرة، تحت العشرين. كانت البنت سمينة جدًا، ملظلظة الوجه، ومنتفخة الصدر، تعصب شعرها المصبوغ بالحنة الحمراء بمنديل مشجر رخيص، تنفخ لبانة من بين شفتيها الممصوصتين، وتلعب بأصابعها الطويلة في شعر الفتوة وقفاه، راكنة جسدها الكروي على مسند الكنبة، وعلى كتف الفتوة. هي تنفخ اللبانة وتطرقعها وتلعب في جلد قفاه، وهو متسلطن آخر سلطنة.

 المعلمة، التي كانت تجلس على الكرسي غائبة فيه، كهلة في نحو الخمسين، قصيرة، تلبس جلبابًا منزليًا، وطرحة بلدية معقودة على ناصيتها الصغيرة، المرأة قصيرة جدًا شبه قزمة، ولا ينقصها سوى طبق أرز تنقيه أو مخرطة ملوخية. والبنت التي تجلس على مرفق الكرسي الذي تجلس عليه"المعلمة سمر" بنت في العشرين تقريبًا، شكلها ساقطة إعدادية غالبًا، ومن حواري طولون لا شك، ولكنني لا أعرفها. كانت سمراء هزيلة، متناقضة التضاريس، صدرها مسطح، شبه أملس كأنها بلا ثديين، حوضها عريض، وفخذاها سمينتان، وافرتا اللحم. كانت عاقدة يديها تحت صدرها ترفع بهما ثدييها حتى يظهران كبيرين في عيني، وثريين أكثر مما هو الأمر في واقع الحال.

جلستُ على الكرسي البعيد إلى جوار لطفي، وفي مواجهة المعلمة. قدمني الأستاذ لطفي: "الأستاذ سيد" ولم يزد حرفًا.

قالت المعلمة بصوت محايد وبليد وهي تزني بعينيها.

- "تلاتين جنيه".

 مددت يدي لجيب بنطلوني الخلفي، وأخرجت الثلاثين جنيهًا من محفظتي فجاءت البنت المتكئة على مسند كرسي المعلمة، أخذتهم من يدي وغمزت لي بعين قوية، ثم استدارت ومالت على المعلمة، ووضعت النقود في يدها الممدودة.

 وضعت المعلمة الفلوس في صرة قماش صغيرة أخرجتها من صدرها، وقالت للبنت آمرة: "معاه يا أرزاق".

 قادتني أرزاق إلى الحجرة التي أصلحنا أنا وأبي دولابها وسريرها منذ سنوات طويلة، وأغلقت خلفنا الباب.

 قعدتُ على السرير ونظرت للدولاب وابتسمت. ما زال الدولاب أنيقًا ولامعًا، معلق الأبواب، والسرير تحت مني متينًا كأنه جديد.

لما رأتني صامتًا، سارحًا، أخذتني من يدي وأوقفتني:

- "أنت جاي هنا تتأمل؟!"

 خلعتْ عنها بنطلونها الجينز الرخيص بسرعة، وقميصها بسرعة أكبر، فصارت عارية في لمح البصر، صارت جسدًا هزيلاً، غريب الشكل، في قدميه شبشب زنوبة، يمد يديه الطويلة ليخلع عني ملابسي. بنفس السرعة التي خلعت بها ملابسها، خلصتني من الجاكت الجلدي الشتوي والقميص والبنطلون الجبردين، وملابسي الداخلية البيضاء.

صوت المعلمة خافت خارج الباب:
- "شهلي يا أرزاق".

 أرزاق تلصق نفسها بي، وتحتضن جسمي العاري وتوح "أح أح". أرزاق ترجع بظهرها للسرير، وتجذبني إليها وتشدني فأنشد مطاوعًا إياها، هابطًا فوقها. أرزاق تعبث في الأسفل.

صوت المعلمة أعلى من المرة السابقة: "شهلي يا بت.. شهلي".

خطوات المعلمة تبتعد عن الحجرة.

أرزاق تقول لي، وأنا فوقها: "أنت خايف كده ليه؟!"
وأنا أنفي بشدة: "أنا مش خايف".

تقول لي: "طب ما تخلص..خايف من إيه؟!"

أرزاق تحك وتحاول، وغير مبسوطة.

- "أنتَ مالك؟!"

- "أنا ماليش..أنا كويس!"

صوت خطوات المعلمة تقترب بضجة، وصوتها غاضب قليلاً:

- "يا بت خلصي".

تغيّر وجه أرزاق كأنها آسفة لانتهاء اللقاء الغرامي، وحزينة.

- "يا بت إخلصي.. يا تلمة".

عبّطت فيّ دقيقتين ثم دفعتني بيديها، وقامت عني.

 أرزاق قالت لي "تعالى تاني..ادى المعلمة عشرين جنيه وتعالى" وغمزت لي بعينها. ألبستني بنطلوني وقميصي في لمح البصر وهي عارية، ووضعت في يدي الجاكت الأسود الجلدي، وقادتني للباب وفتحته، وصاحت في الطرقة:

- "خلاص يا معلمة".

وصلتُ للصالة، وخلفي باب حجرة أرزاق مفتوح، وهي على بابه، باب الكريم.

 كان لطفي جالسًا مع الثلاثة الآخرين: المعلمة سمر، والفتوة، والبنت الثانية. كانوا جالسين في هدوء مريب، يحدقون في الحوائط صامتين، لا تلتقي عيونهم، ولا ألسنتهم.

المعلمة رفعت وجهها، غريب الملامح، إليّ وسألتني: "تشرب شاي، وتاخد نفسك، وتعمل واحد تاني؟"

قلت لها: "مالوش لزوم..كده حلو قوي".

لطفي قال لي:

- "طيب.. بالسلامة أنت، وراك مدرسة الصبح بدري".

- "وأنت؟"

- "لا، أنا عندي سهرة جامدة قوي".

 غاب عني لطفي لفترة طويلة، وسمعت أنه مريض.

 حين قابلته مصادفة على قهوة "مراسينا" شرح لي ببساطة إنه أصيب بالسيلان، وإن الأطباء، والتحاليل الكثيرة التي أجراها، يقولون إن نسبة قدرته الطبيعية على الإنجاب قد اضمحلت، تدنت لتصير20في المائة فقط، لا غير. قال حزينًا، بائسًا ويائسًا، رغم أنه غير خاطب، ولا يبدو أنه سيتزوج في سنته، ولا في السنوات القليلة القادمة:

- "يعني ممكن ما اخلفش خالص!!"

 الرغبة، الرغبة في جسد ما، كما تعرف، تشبه تلك الزاحفة الملوّنة في أركان غرفتك، مهما توارت واختفت بين أثاث وأشياء غرفتك، مهما غابت عنك في حجرة نفسك ستظهر وستتحرك، وستزحف دائمًا، على بلاط الغرفة.. هل تراها؟

 الرغبة منظرها جميل، زاحفة جميلة مرقطة، لامعة، تتحرك ببطء وهدوء وتتقرب إليك، وتتدلل، فتمد، أنت، إليها يدك البريئة، تمرر أصابعك على جسدها، على شعرها ورأسها فتنتشي وتحس متعة، وبدوام الاحتكاك تغيب أنت وهي في لذة عارمة لثوان، لدقائق.. لكن الذي يتلو الفراغ من اللذة مؤلم ومؤذ. عندما تهبط بأصابعك لتمس وجهها، لو اقتربت من فمها ستعضك، ستعضك عضة هائلة السمية. الرغبة لا تعرف ما تسميه بالحب.

 وها قد ذقتُ عضتها الحارقة الأولى، في بيت أنس.

ولأنني لست قابلاً للإخصاء عدت للبيت ذاته مرات عديدة، ذهبت لبيت الرغبة المرة بعد الأخرى وعدت بعضة في الجسد، وبغصة في الحلق والقلب، لكنني مع الوقت صرت شفافًا كلوح زجاج فيه دائرة فارغة تعبر منها الزواحف الصغيرة، والكبيرة، دون أن تمسني بسوء. سأظل أذهب لتلك الأماكن حتى أتزوج، وأخلص.

 لم أفكر في أنني أيضًا قد أكون قد أُصيبت كلطفي، وصرت مريضًا ومهددًا مثله، كنت شجاعًا لدرجة التهور، واللامبالاة التامة.

 

(16)  ساها
ساها اليابانية نراها في قسم الفلسفة مرة كل أسبوع، كل ثلاثاء تحضر طيلة النهار عدة محاضرات للفرقتين الثانية والرابعة، وفي المساء تكون معنا، نحن طلاب الماجستير والدكتوراه، وبعض المعيدين، والمدرسين المساعدين، في السيمنار الفلسفي الأسبوعي للدكتور رياض، بصالون القسم. ساها منتظمة كساعة "كاسيو"، وجدولها اليومي ثابت، وصارم، وهي حاضرة دائمًا كل ثلاثاء، لم تغب عن عيني مرة واحدة لثلاثة أعوام، لثلاثة مواسم للسيمنار تأتي في موعدها تمامًا، وإن كانت مريضة إلى حد الإعياء.

 كل ثلاثاء، في التاسعة إلا ربع صباحًا تظهر أمام المسلّة الفرعونية الحمراء على بعد خطوات من بوابة الجامعة، فتاة رشيقة، بشعر طويل، تمشي مشيتها المميّزة قصيرة الخطوات، وعلى ظهرها حقيبة رياضية، كحقائب تلاميذ الثانوي، تعبر البوابة الحديدية التاريخية لحرم جامعة القاهرة، وتتجه يمينًا بحذاء السور ومبني كلية الآداب العتيق، ثم يسارًا لتعبر إلى ساحة الكلية وحديقتها الخضراء المستطيلة، التي تطل عليها كل مباني الكلية، على يمينها مبنى قسمي إنجليزي وتاريخ بطرازه المعماري الرصين، وفي مواجهته مبنى المكتبة المركزية للجامعة. حين تدخل ساها الساحة وتخطو خطوات قليلة يكون المبنى القديم، مبنى الإدارة ولغة عربية خلفها وهي تتطلع بعينيها الضيقتين اللامعتين لمبنى قسمنا، المبنى الجديد ذي الواجهة الرخامية، والذي يسبقه نحو عشر درجات من الرخام الأحمر والبنيّ، والمزدحم دائمًا بالطلبة والطالبات الجالسين على جانبيه، وعلى درجات السلم الرخامية اللامعة. ساها تتحرك نحو مبنانا بمشيتها الدقيقة قصيرة الخطوات، يداها في جيبي بنطلونها الجينز، تحدق مرة في حذائها الرياضي ومرة للمباني والطلبة والطالبات حولها، تلاحظ كل شيء بعينين مفتوحتين وتركيز، وتأمل. وتصعد سلالم مبنانا مبتسمة ابتسامة من وصل بغيته أخيرًا، مبتسمة وفرحة بلقاء الفلسفة الإسلامية، وأستاذها الدكتور رياض، وربما بلقائي أنا أيضًا!

 من التاسعة صباحًا تشق طريقها مسرعة بين الطلاب في الطرقات محيية أصدقائها، وصديقاتها، الكثيرين، تُحيي الجميع وتتكلم معهم، وتنتقل من مدرج إلى آخر وبيدها نوتة زرقاء صغيرة، بها جدول محاضرات الفرق الأربع بالقسم. تحضر أربع محاضرات محددة لأساتذة بعينهم، محاضرات: الفلسفة الإسلامية، فلسفة العصور الوسطى، التصوف، وعلم الكلام. وقبل الخامسة مساء بربع ساعة، ستصعد السلالم إلى الدور الثالث حيث صالون القسم، وحيث السمنار الأسبوعي، وحيث أكون أنا.

 ذلك المساء رأيتها واقفة في الطرقة المؤدية للصالون مع صاحبتها المحجبة، فاطمة الطالبة بالفرقة الرابعة. كانتا خارجتين من محاضرة التصوف، محاضرة الأستاذ الدكتور، شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر. أخذتْ من فاطمة كشكول محاضراتها، ووضعته في حقيبتها، ثم ودعتها بقبلتين على الخدين، وأقبلت نحونا. رفعت يدها قبل أنا تصل إلينا بالتحية، لم تنحن للأمام ولم تضم كفيها بالتحية اليابانية، رفعت يدها بحذاء خدها، مثلما نفعل نحن، ومدت يدها "سلامو عليكم" وسلمت على الواقفين في مدخل الكانتين، والقاعدين على السلالم الرخامية في ظهر مدرج جغرافيا، وأمام صالون القسم.

 أنا كنت جالسًا على البسطة أدخن، وإلى جواري حقيبتي الجلدية التي صرت أعلقها على كتفي حين أسير كالمثقفين، وبين يدي كتاب الدكتور رياض الجديد "نحو ثورة فكرية"، وكوب الشاي عن يميني، رأتني، لاحظت وجودي أخيرًا، فجاءت إليّ:

- "السلام عليكم".

أغلقتُ الكتاب.

- "عليكم السلام والرحمة يا ساها".

هزت رقبتها بحركة لطيفة مبتسمة، واحتجت: "مش كده يا سيد".

- " أُمال إزاي؟"

- "مفروض تقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".

ضحكتُ من الدقة اليابانية، ومن دقة نطق ساها، ودقة وجهها منمنم التقاطيع.

تشربي شاي؟". حاضر.." -

نظرت إلى ساعتها البسيطة في معصمها النحيل:

- "دكتور رياض هيتأخر؟"

- "شكله كده؟"

- "يعنى إيه شكله كده؟"

- "يمكن أتعطل في السكة، في المرور".

- "دكتور رياض عمره ما غاب".

- "تشربي شاي؟"

- "كتاب إيه اللي في ايديك ده؟"

أريتها الغلاف والعنوان: " نحو ثورة فكرية للدكتور رياض عارف".

        "إمممم!!" -

 فكت سيور حقيبتها عن صدرها الرقيق، صغير الثديين، وخلعت الحقيبة اليابانية ذات الجيوب الكثيرة عن ظهرها، فتحتها، وأخرجت منها علبة الشاي الأخضر الخاص به، وراحت إلى عم رزق فراش القسم خلف نصبته الرخامية، ووضعته في يده. أخذ باكو الشاي الأخضر الياباني منها، وهو يهز رقبته السمينة متعجبًا، الواقفون والجالسون سمعوا هذا الحوار بين ساها وعم رزق.

قال لها، وهو يلعب لها حاجبيه الأبيضين الكثيفين:

- "هو حلو، والنبي حلو..بس أنا عايزك تجربي شاينا المصري، دا ليبتون بفتلة، وأحمر".

ساها قبلتْ للمرة الأولى، وقالت له: "آه..آه..ماشي".

- "أعملك خمسينة على كيفي؟"

- "يعنى إيه خمسينة؟!"

- "يعنى شوية شاي..خليكي هنا وأنا دقيقة أوريكي الشاي بتاعنا".

- "طيب".

وجلست إلي جواري على بسطة السلم المرتفعة حيث أجلس، وقدماي على الدرجات.

- "إزيك يا سيد، أخبارك إيه..كله تمام؟"

- "الحمد لله".

- "عامل إيه في بحثك؟"

حكيت لها عن زياراتي لمكتبة الجامعة الأمريكية بالفلكي، وإنني تقريبًا أذهب إليها مساء كل يوم، وإنني وجدت معظم مصادر ومراجع رسالتي هناك.

همهمتْ، باليابانية، وامتعضت قليلاً، وقالت:

- "طب يعنى لازم تروح هناك؟ أُمال المكتبة المركزية هنا ما فيهاش كتب؟!"

قلت لها: "لا مصادر ولا حتى مرجع مهم!!"

 "المهم قولي لي أنتِ..إيه أخبار الفارابي؟"-

قالت بعذوبة وفرح:

- "الآن أقرأ الكتب بشكل أفضل، وأسرع".

صفقتُ لها بهدوء، ضحكتْ: "أيوه..أنا أتكلم الفصحى والعامية المصرية بطلاقة".

 جاء الدكتور رياض وفي يده امرأة جميلة وأنيقة، مستشرقة فرنسية، أستاذة الفلسفة الإسلامية بالسوربون. جامعة السوربون التي تخرج منها معظم شيوخ الأزهر الكبار، والدكتور رياض، وكثير من أساتذة الفلسفة في مصر والعالم العربي.

 قامت ساها وهرولت نحوهما وتكلمت معهما نحو خمس دقائق قبل أن نجلس جميعًا في الصالون الفلسفي، ونغلق الباب، ونبدأ في الاستماع إلى الأستاذة الفرنسية التي حدثتنا عن جهود المستشرقين الفرنسيين والأوربيين والأمريكيين في تحقيق، وفهرسة، ونشر تراث الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي!

 ساها تجلس في موضعها الدائم، تجلس على الكرسي المواجه للدكتور رياض الجالس إلى مكتبه، تجلس إلي جواري، أحيانًا تميل عليّ تستوضح كلمة لا تعرفها، أو فكرة لم تفهمها، تحدثت البروفيسرة بالفرنسية، وكان دكتور رياض يترجم للعربية، وأنا أضع شفتي، كل انتقال من فكرة لأخرى، على أذن ساها وأهمس، أوضح لها، وأشرح فتهز رقبتها القصيرة برشاقة، وتترك شعرها ينزل على كتفي.

 بعد انقضاء السيمنار ذهبنا أنا وساها لبين السرايات.

 أنزلت حقيبتها من فوق ظهرها في مكتب التصوير، وأخرجت منها نحو خمسة كتب، وكشكول محاضرات فاطمة، كل كتاب تريد أن تصور منه صفحة واحدة، خمسة أو عشرة، حسب حاجتها فحسب. وهي تتابع ماكينة التصوير تخرج منها صورة صفحات اختارتها من كشكول محاضرات فاطمة قالت: "فاطمة دي طيبة خالص، ولطيفة جدًا، مصرية بجد".

 انتهينا من التصوير في نصف ساعة، وجلسنا على قهوة "الحَبِييب" خلف الإستاد الرياضي للجامعة، القهوة مزدحمة بالطالبات والطلبة، وتحتل حارة طويلة مسدودة، وبين مكتبي تصوير مستندات، وتجليد وتغليف الرسائل العلمية والكتب.

طلبتُ شايًا، وطلبت هي ينسون وشيشة!

وهي تشد حجر معسّل التفاح باستمتاع، ودون أن تكح مثلي حين أدخن الشيشة، قالت: "شاي عم رزق مش بطال".

 أول يابانية تدخن الشيشة هي ساها.

 ساها أخذت شهادتها في الدراسات العربية من جامعة أمريكية، وعاشت في لندن عامين، والقاهرة عندها أجمل من طوكيو، المدينة التي وُلدتْ بها، وساها تعد رسالة ماجستير في الفلسفة الإسلامية، عن فلسفة الفارابي وتوفيقه بين أفلاطون وأرسطو.

ماذا حدث يومها، ماهي حكايتي مع ساها؟

 يومها لم يحدث أي شيء غير مألوف أو معتاد بيننا، تكلمنا عن والديها وخطيبها، والفارابي والحياة في مصر، كصديقين قديمين، كالعادة، ولا شيء أكثر. الحقيقة، لا توجد أي حكاية على الإطلاق، ساها لديها مشاكل مع خطيبها الياباني الذي يعمل بالسفارة في مصر، تراه غيورًا ومنغلقًا، غير منفتح على المصريين وحياتهم، وسئم الحياة في مصر، وهي تحب الحياة في القاهرة، ولا تريد أن تفسخ الخطبة وتتركه حتى لا تعود لصديقتها الأمريكية التي كانت تعيش معها طوال سنوات الدراسة، في نيويورك.

 ساها ودودة ولطيفة ومهذبة أكثر من اللازم، للدرجة التي جعلتني لا أشعر بها كأنثى، فقط أشعر معها، بالصداقة، ولا شيء أكثر.

 على كل حال أظن إنني، لثلاث سنوات، كنت الصديق الأقرب لساها، كما هو حال فاطمة، كنت الألصق بها، معها ذهبت لمركز البحوث الزراعية لشراء الجبن الياباني وبعض الأطعمة النادرة في مصر، ومعي أتت لزيارة طولون، فدخلت الجامع، ودخلت بيتنا في شارع صرغتمش، وذاقت طبيخ أمي وأختي مُني، وأثنت على الملوخية والسلطة الخضراء ، ولم تأكل الفراخ البلدية. ومعي تجولت مرات عديدة في الخليفة، وسوق السلاح، والقلعة، وشوارع المعز لدين الله، والأزهر. وساها تحب الكتب القديمة، أذهب معها تقريبًا كل جمعة، لمكتبات دور النشر التاريخية خلف الأزهر، نتجول فيها ساعات الصباح والظهيرة، وفي الغداء نأكل الكشري الذي تحبه ساها أو الفول والطعمية. لا نقرب الكبدة أو الفشة أو الممبار في مطعم "العهد الجديد" مثلاً، لأن ساها نباتية، لا تقرب لحم حيوان أو طير أو حتى سمك!

 بعد العصر نصعد من خلف الأزهر باتجاه هضبة الباطنية المرتفعة حيث سوق كبير للكتب القديمة وأكشاك صغيرة لكتب التراث. في كل مكتبة وكشك تغيب بين تلال الكتب وأعمدتها الملقاة هنا وهناك بلا نظام، تفتش بنفسها عن الكتاب الذي تبحث عنه، البائعون كما أنهم يعرفونني يعرفونها، يتركونها تفعل ما تشاء، ومبسوطين منها لأنها يابانية مرحة، وتتكلم العربية بطريقة لطيفة.

 تشتري ساها تحقيقات لمخطوطات قديمة لفلاسفة المسلمين: الفارابي وابن رشد وابن طفيل والكندي، وللمتكلمين والفقهاء، وغيرهم، تضعها في حقيبتها فوق ظهرها، ونمضي.

 ساها تمشي كربوت صغير، منمنة التقاطيع جدًا، وابتسامتها ساحرة إلى جواري، تحت كتفي، ساها تمشي إلى جواري كزهرة لوتس.

 تلك المرة، ونحن نعبر نفق الأزهر الاسطواني، شبه المظلم، قلت لها، وبدون مناسبة، كمن خطر على باله فكرة عارضة، إنني أريد أن أزورها في البيت، حيث تسكن لأرى شقتها، وأرى كيف تعيش وحدها. توقفت عن السير، فتوقفت أنا أيضًا، رفعت وجهها إليّ، وتأملتْ وجهي لحظات طويلة ساكتة، مباغتة وحائرة، انطفأت الابتسامة على شفتيها، ثم حولت وجهها عني ونظرت لبلاط النفق. وبدأت في بكاء صامت لم أره منها قبلها أبدًا، بكت بكاء مؤلمًا وحارًا، وأنا إلى جوارها لا أعرف ما الذنب الذي اقترفته، أحاول أن أقول شيئًا فينعقد لساني، بعد دقيقتين تحركنا وأكملنا سيرنا صامتين. ولما خرجنا من فوهة النفق لميدان المشهد الحسيني أسرعت بخطاها القصيرة مبتعدة عني.. فارة مني. جريت خلفها بكل ما أوتيت من قوة، لحقتها ولمست كتفيها الدقيقتين براحتي، وأوقفتها في مواجهتي، ناظرًا في عينيها، ومندهشًا من رد فعلها العنيف، وصرت أحدق فيها في صمت. وجهها وجه من تلقت طعنة غادرة من رجل، رجل غيري بالتأكيد، تلقت طعنة من رجل لا تعرفه، ولا يعرفها، وليس بينهما صداقة من أي نوع.

 بعد أن هدأت قليلاً أنزلتْ يدي عن كتفيها، كفكفت دموعها، ومشت، تجر رجليها إلى جواري، منزعجة من فضول المّارة الذين تابعوا مشهدنا، وحدقوا فيه. بعد وقت استطاعت الكلام، بصوت ضعيف، خافت، قالت إنها آسفة، وإنها تحس بالراحة معي، تحس بالسكينة، تحس باللغة المشتركة، لكنها لا تحس نحوي أية عواطف أخرى، ولم يكن يجوز لي أبدًا أن أؤلمها، وأن أطلب زيارتها وأنا أعرف إنها تعيش وحيدة!

 وكانت تلك آخر مرة أرى فيها ساها.

 كنا نشتري الكتب والزهور معًا، كنا نشتري الجبن معًا، كنا نجلس على المقهى معًا، نحضر الصالون الفلسفي على مقعدين متجاورين، دخلت بيت أبي وأمي وأكلت طعامنا، لكنها لم تدخلني بيتها، ولم ترني غرفتها..

اليابانيون لا توجد في لغتهم كلمة "أحب".

اليابانيون لا يوجد في قاموسهم شتائم بذيئة، اليابانيون مهذبون جدًا كما ترى يا سيد.

والفتاة اليابانية لا ترفض، لا تصدك، لا تبلغك أنها لا تحبك، لا ترد على كلمة الحب التي نقولها نحن ببساطة أكثر من اللازم، اليابانية تبتسم حتى لا تؤلمك برفضها.

 ببساطة، ساها كانت خطيبة شخص آخر، شخص ياباني، آخر أفضل مني بكثير!

 

(17) ماري
 مكتبة الجامعة الأمريكية بباب اللوق مكتبة فاخرة وجميلة لطالب ماجستير مثلي. مكان ساحر فعلاً، فيها معظم المصادر والمراجع الأساسية في العلوم الإنسانية كلها، والكتب النادرة، غير المتاحة في غيرها من المكتبات والجامعات، ومعظم مصادر رسالتي. فيها الصمت والهدوء، ومنضدة فردية وكرسي لكل زائر وطالب، وثلاثة أجهزة كمبيوتر لتجلس إلى إحداها وتبحث بنفسك عن الكتاب وموضعه ورفه، تأخذ ما تريد من كتب، وتجلس دون أن تزعج موظفًا أو يزعجك أحد. وفيها، أيضًا، بنات مصريات وأمريكيات وأوربيات في شرخ الصبا والجمال والهوى، هنا المنظر مختلف عن المكتبة المركزية لجامعة القاهرة فالبنات غير البنات، الطالبات غير الطالبات، وطلب العلم نفسه غير طلب العلم هناك، وكذلك طلب الهوى!

 ماري جاءت في يوم، وقالت لي، وأنا قاعد أتصفح كتاب"العالم كإرادة وتمثل" لشوبنهور.

-Where is the bath room?

 الحمد لله، عرفت كيف أدلها على مكان الحمام.

 هذه مزية نسبية، معرفة المكان ميزة نسبية، هي جديدة في المكتبة، تبقى جديدة في القاهرة، جديدة في مصر.

 في الحديقة الواسعة لمركز التعليم المفتوح، على السلالم الحجرية التي ترتفع نحو لا شيء، جلسنا. هي تشرب القهوة الأمريكية في مَج لارج، وأنا أشرب الشاي وأدخن سيجارتي السوبر الطويلة. مضى الحوار بيننا سلسلاً وجميلاً، قالت إنها تدرس العربية، وإنها سعيدة جدًا بوجودها في مصر التي تحبها من أعماق قلبها.

 كنت معتادًا على الحديث مع بعض الأجانب الذين أقابلهم في سيمنار الفلسفة بالقسم، بالكلية، ولكنني لم أكن معتادًا على الكلام بعفوية وطبيعية مع الآنسات والشابات الحسناوات!

سألتني عما أفعل؟

قلت لها: "طالب ماجستير".

- " أين تسكن؟"

- " أسكن في طولون"

- " ماذا تعمل؟"

- " مدرس فلسفة، ثانوي".

قالت: "عظيم جدًا".

 التدريس في مدرسة طولون الثانوية لا يأخذ مني وقتًا طويلاً، فكل ما لدي هو فصل واحد، خمسين تلميذًا ومنهج واحد، لم أحز أملة الدروس الخصوصية بعد، وأتقدم في الرسالة بشكل جيد، وأذهب للمكتبة كل مساء، وأرى ماري كثيرًا.

 خرجنا معًا من المكتبة ذات ليلة شتوية، وعبرنا شارع التحرير، ومن بعده ميدان الفلكي، وجلسنا على مقهى الحرية، حيث رواد وزبائن من كل سكان المعمورة. شربت هي زجاجة بيرة واحدة، وشربت أنا ثلاثة، وتكلمنا وضحكنا، وبعد ساعة، وقفت وقالت لي "أعزمني على إفطار، فول في طولون"، وودعتني وانصرفت لموعد قالت إنه مهم وحيوي.

ليلتها عدت لطولون مشيًا على الأقدام بمزاج رائق.

 أمام المطعم توقفت ماري، ورفعت وجهها نحو اليافطة العملاقة فوق مبنى المحل: "فول الجحش". وراحت تتفرس في الرسم الملّون على الواجهة الكبيرة، خلفية بيضاء فوقها حمارين وجحش، حمارين بنيين وجحش أبيض مرح رافع رجليه في الهواء، وباسم الوجه، مظهرًا أسنانه الكبيرة ناصعة البياض.

ماري سألتني: "إيه الرسمة دي"؟

 لم أملك الوقت لأجيبها فقد حضر زومبه، جرسون المحل في جلابيته البيضاء وفوطته الصفراء، وسلّم عليّ مرحبًا، وقال لماري "وِيْلكَم". وضعت ماري يدها بتلقائية على كتف زومبة. زومة قصير وسمين، وبيبي فاس. وسألته وهي تشير إلى الرسمة الكاريكاتورية الجذابة فوق المحل:"إيه الرسمة دي..إيه الجحش ده؟"

ببساطة قال لها زومبة: " أبدًا..دا المعلم وهو صغير".

 كدت أسقط من الضحك، وماري ابتسمت مجاراة لي، وانتظرت الشرح الذي لم أقله.

 ونحن نأكل الفول بالزيت الحار، والبطاطس والطعمية بالسمسم، حكت لي ماري عن تدربها على الرقص الشرقي بإحدى المدارس الشهيرة في المعادي، وقالت إن صاحبة المدرسة راقصة رائعة، وإنها بدأت تعلم الرقص قبل عامين في أمريكا غير إن هذه الراقصة المدربة جيدة جدًا، وقالت إنها صارت تتقن حركات جديدة جميلة ومثيرة، وقالت إن الرقص الشرقي رياضة جميلة ومقوّية لعضلات الصدر والبطن والردفين، وإنها تخرج من التدريب متعبة جدًا كأنها جرت كيلومترين كاملين.

قلت لها: "على الأقل الرقص الشرقي ألطف من الجري في شوارع القاهرة" وضحكنا.

 انبسطت ماري من الفول والطعمية، والجولة في طولون والصليبة والقلعة، وآخر النهار طلبت أن تري بيتي وأمي، اعتذرت وقلت إن أمي ذهبت لزيارة الخالة روحية وإنها ستبقى عندها حتى بعد العشاء، وإن مُنى أختي ليست بالبيت، فهزت رأسها ولم تطلب ذلك مرة أخرى، لم تلح.

حين ودعتها في المساء شكرتني كثيرًا على اليوم الجميل، وقالت لي إنها ستحضر لي مفاجأة مدهشة، قريبًا جدًا.

 وغابت عني نحو أسبوعين، انشغلت فيهما بمراجع رسالتي الفلسفية غير ناسيها. آخر الأسبوعين صرت أبحث عنها في المكتبة، والمقهى.

 في يوم خميس، في نحو السابعة مساء، والمكتبة على وشك الإغلاق، وُضعتْ يد على كتفي، وابتسم في وجهي وجه ماري. سحبتني من يدي وقالت: "تعالى معايه ..يالا".

 حين خرجنا من المكتبة في الطريق لشقتها بالفلكي قالت إن المفاجأة التي وعدتني بها قبل أسبوعين في طولون تنتظرني.

   قالت إن زملاءها وزميلاتها الذين يشاركونها الشقة سافروا جميعًا، وإنها ستبقى بمصر أسبوعين إضافيين، وإنها ستسافر ثلاثة أيام إلى الأقصر، وثلاثة لشرم الشيخ.

وضعت أمامي زجاجة البيرة ودخلت حجرتها، وقالت "دقيقة واحدة".

 غابت دقائق، وأنا أتأمل الصالة الواسعة والأثاث البسيط المتناقض، أثاث الشقق المفروشة، وأشرب البيرة .

 فُتحَ باب حجرتها، وخرجت مارى بالمفاجأة المدهشة.

 ماري جسد أبيض وأحمر، وشعر أشقر طويل، يرتدي بدلة رقص حمراء، السوتيان أحمر ولامع وقابض على ثدييها، والجزء الأسفل من البدلة يكشف فخذيها الرياضيين القويين، وساقيها المدورتين، وحافية القدمين.

قمت من مكاني:

- "وندرفول" قلت مبتهجًا.

جاءت لي بزجاجة بيرة أخرى من الثلاجة، وغمزت لي بعينها مبتسمة، ووضعت شريط "عفريت الطبلة" في الريكورد الكبير:

"تيك تاك توك

تعالى نسيب الراب والروك

وتعالى نرقص بلدي

تيك تاك توك.."

 ورقصت لي ماري على الدوم والتك، رقصت لي وحدي بأذنين منتبهتين للإيقاع، وبجسد منتبه للحركة التي يؤديها تأدية صحيحة ومضبوطة. ماري رقصت كفتاة أمريكية تُجيد الرقص الشرقي، بحركات سليمة ومنضبطة تمامًا كما تعلمت في مدرسة المعادي. جسدها رشيق وجذاب وحركتها تجاري الموسيقي والإيقاع وتأتي بحركات هز صعبة بمهارة كبيرة وإتقان، ولكن هذا الجسد ليس بالتأكيد جسد سهير زكي مثلاً، ولا هذا رقص سهير زكي رغم أنها تحاول تقليديها، ترفع كفها مفتوحة إلى جوار رأسها بالتحية مثلها، تهز صدرها مثلها، وترفع رجليها واقفة على أطراف أصابعها بخفة ودلع مثلها، لكنها ليست هي، هذه نسخة أمريكية، وهذا هو رقص ماري، ماري الأمريكية التي ترقص رقصتها الخاصة.

لم يكن بالشقة غيرنا، أنا وهي فحسب.

 قبل أن تصل موسيقي الوصلة لمنتهاها، وفي ذروتها، دارت ماري حول نفسها دورات لطيفة متتابعة، ثم قفلت رقصتها رافعة يدها اليمنى في الهواء كتحية سهير زكي في آخر الرقصة، ثم انحنت للأمام وهي تلم طرف بدلتها، وحيتني، فقمت من مكاني وصفقت لها: "برافو..برافو".

جلستُ وجلست بجواري على الكنبة، ببدلة رقصها.

وهي تمسح العرق عن رقبتها وصدرها بفوطة حمراء سألتني وهي تميل نحوي:

- "ما رأيك برقصي؟"

قلت وأنا أشرب الزجاجة الرابعة:

- "رقصك مضبوط".

- "فعلا؟"

- "صحيح ومضبوط".

قالت:

- "أليس جميلاً؟"

سكت ورفعت الزجاجة لفمي.

- "رقصي ليس جميلاً؟!"

قلت: "رقصك سليم ومضبوط".

- "رقصي سكسسي؟"

تجرعت جرعة أكبر من كوب البيرة.

رقص ماري ليس سكسي في الحقيقة، ولا جميل.

حاولت أن أقول إن رقصك جميل وسيكسي ولكن لساني صار ثقيلاً مثل رأسي.

قالت مقررة:

- "أنت ترى أن رقصي ليس جميلاً وليس سكسي".

صمتُ.

 رقص ماري ليس مثيرًا ولا سكسي كما أعرف، إنه سكسي كما تعرف هي، سكسي وجميل.

قلت لها: "أنت جميلة وسكسي، والبرهان على أن جسدك جميل، وأنك سكسي أني أريد أن أقبل شفتيك الآن".

 ملت عليها، وحاولت تطويقها بذراعي، أمسكت بها وحاولت أن أقبلها، مفاجأة ومصدومة حركت جسدها في الجهة الأخرى، وفكت قبضتي من على كتفها ووسطها وقامت واقفة بحدة، وقالت: "أنت لا تفهم..أنا أسألك عن رقصي وليس عني أنا، يا مثقف، يا باحث في علم الجمال وفلسفة الفن!!"

بهت وانكسفت، وخجلت من نفسي، وانكمشت في مكاني.

ظلت واقفة معطية ظهرها ليّ.

قمت من مكاني وجررت رجلي نحو باب الشقة.

جاءت خلفي.

 همهمتُ بكلام غير مفهوم، وقبلت خديها بسرعة فلم تمانع.

وقلت لها:

- "جود نايت".

لم تبتسم وهي تجيبني:

- "جود نايت ..سي يو سون".

قبل أن تسافر لأمريكا بيوم التقينا على مقهى الحرية، جاءت لتودعني.

كان معي حقيبة فيها كتب مستعارة من مكتبة الجامعة الأمريكية، وزجاجة نبيذ عمر الخيام اشتريتها من محل بايرون، قُرب التحرير.

جلسنا صامتين لوقت طويل حتى استطعت أن أقول لها: "أنا آسف".

راحت تتحدث عن أنها ستفتقد القاهرة لعام كامل، قبل أن تعود في الموسم الدراسي القادم.

قلت لها إنني أريد أن أعزمها على زجاجة نبيذ.

قالت بحدة: "عندي؟".

-"آه".

بهتت جدًا، وقالت لي: "مش ممكن".

قلت لها وأنا أخرج الزجاجة من حقيبتي: " عمر الخيام.. نبيذ أحمر.. خذيها".

ابتسمتْ، ترددت قليلاً ناظرة في عيني.. بعد وقت أخذت الزجاجة الحمراء المكتوب فوقها بعض أبيات الخيام، والمرسوم عليها وجهه، ووضعتها في حقيبتها ببساطة وبلا تكلف.

قلت لها: "إنني ..."

قالت: "متأسفة..".

قلت لها: "نحن صديقين".

قالت: "نحن صديقين".

قلت لها: "أنت تعرفين..".

قالت: "أنا أعرف".

قلت لها: "إنني يعني.."

قالت لي: "وإنني يعني".

قلت لها: "أنت جميلة يا ماري".

قالت: "شكرًا" وابتسمت.

قلت لها: " نحن صديقين".

قالت: "نعم نحن صديقين".

قالت: "تعرف أن لدي بوى فريند".

قلت: "أعرف أن لديك بوى فريند".

قالت: "إذن هذه مشكلتك".

قلت: "نعم هذه مشكلتي..مشكلتي وحدي".

قامت وودعتني: "سي يو".

- "سي يو".

 وهذا الزمن الذي سأراها فيه مرة أخرى لم يأت بعد، ربما سيأتي يومًا ما.

سافرت مارى وستعود، وأنا أيضًا سأقيم هنا، وربما سأسافر لمدينة أخرى، وسأعود.

 

 

(18) حُسْن
 أمس الثلاثاء خُتِمتْ الليلة الكبيرة لمولد السيدة سكينة، الليلة الأكثر زحامًا وصخبًا، الأكثف زيارة وخدمة، وذكرًا وإنشادًا. أمي لم تذهب ليلة أمس رغم إلحاح مُنى أن تذهب معها، ومع صاحباتها. زمان كنا نغلق باب بيتنا في الظهيرة، ونخرج جميعًا، تأخذني في يدها، ومُنى في يد أبي، ونمشي من طولون للمقام وسط زحام خلق من كل مكان، نمشي وسط أهل حينا وفلاحين وصعايدة وأولاد بلد، نصل لجامع السيدة سكينة قبل صلاة العصر بقليل، بعد الصلاة تخرج الزفة من أمام عتبة المقام، يقودها حصان الخليفة، شيخ المشايخ، حوله شيوخ ورجال الطرق، وخلفه أعلامها الخضراء، والحمراء، والبيضاء، والبيارق مرفوعة بأيدي شباب وصبية مشرقي الوجوه، والطبول والدفوف والآلات الموسيقية النحاسية تُدَقُ بأيدي رجال كبار، والصاجات في أصابع رجال آخرين، والكرات الحديدية والنحاسية تعبر من خد إلى خد أفواه بعض رجال وعجائز خارقين، يرتدون جلابيب بيضاء، وفوق رءوسهم عمائم خضراء كبيرة وطراطير بيضاء.

 أبي أمامي وفوق كتفيه مُنى، وأنا أمسك في طرف قميصه بيد، ويدي الأخرى في يد أمي، نمشي في الزفة فرحين، نطوف معها الشوارع والساحات والميادين الصغيرة، وحين ألح عليها أن تأخذني من الأرض وتضعني فوق كتفيها، مثل مُنى، تقول لي "كِبَرت" وهي تحملني وتضعني فوق كتفيها مبسوطة. من موقعي فوق رأسها أرى الزفة كلها، وأرى الخليفة فوق حصانه الأبيض، أرى الخليفة المهيب في جبته وقفطانه بهيًا، سمح الملامح، وهو يرفع وجهه للسماء، ويغمض عينيه ويهيم في ملكوت الله.

 يرن فوق أذني النشيد الجماعي:

 "توحيد الله لنا نورًا أعددنا الروح له سكنا".

 بعد ساعاتٍ من الطواف بالخليفة والقلعة والسيدة نفيسة تعود الزفة لمكان بدأها، أمام عتبة المقام، فيرفع الخليفة فوق حصانه يديه للسماء ويدعو للجميع، يدعو لمن حضر ولمن لم يحضر، ونحن نردد خلفه "آمين".

 بعد الزفة نذهب ونركب المراجيح في ميدان الخليفة، وندخل سرادق الأراجوز، ويشتري أبي الحصان الحلاوة لي، والعروسة لمُنى. وبعد صلاة العشاء ندخل، كلنا، سرادق الطريقة البيومية، نحضر الحضرة، ونستمع للمنشدين، ونقضي الليل كله في الذكر حتى أذان الفجر.

 نصلي الفجر في جامع ستنا سكينة، ونعود لبيتنا، والشمس تبدأ في الشروق.

 بعد أبي صارت أمي لا تذهب للمولد سوى في الليلة اليتيمة، ليلة الأربعاء.

في نحو العاشرة مساء جاءت لحجرتي في عباءة خروجها السوداء، وحذاؤها في قدميها: " قوم نحضر الحضرة ونشوف الحاجة، قوم معايه يا سيد".

كنت أواصل كتابة الفصل الثالث في رسالتي حين جاءت لحجرتي، وأخذتني في يدها من جون ديوي، والبرجماتية الأمريكية، وما بعد الحداثة.

- "يالا ..حرام عليك..عايز أوصل قبل ما الحاجة تبدأ".

 تأبطت ذراعي بيدها اليسرى، وعكازها، الذي كان عكاز آخر أيام أبي، في يمينها.

وقفنا أمام بيت عليمي، ونادت أمي على الحاجة روحية الواقفة في البلكونة، تنتظرنا:

- "يالا يا حاجة روحية..اتأخرنا".

- "لحظة".

 نزلت الحاجة روحية في عباءة بيضاء وطرحة بيضاء، كملاك عجوز.

 تأبطت الحاجة روحية ذراع أمي الأيمن، ورفعت أمي عكازها، وسرنا من طولون في طريقنا للمقام. هذه الليلة هي الليلة الوحيدة التي تذهب فيها أمي للحضرة، ولرؤية الحاجة حُسن. ككل عام اشتاقت أمي إلي صحبة روحية لليلة كاملة، ولزيارة المقام، وللوجود بالقرب من الحاجة حُسن، وحضور إنشادها، وسماع القصائد تجري على لسانها. أمي تحب المقام، والحضرة والإنشاد، ولا تفهم جيدًا الكلام العربي، النحوي، ولكنها تشعر وتحس بل تحفظ بعض هذه الأبيات، أمي مغرمة بحضور الذكر والرقص ورفرفة المحبة في المولد وفي أرجاء الحيّ.

 ككل عام، ستقول لنا ونحن في طريقنا للمقام، إن السيدة سكينة زارتها في منامها وإنها دعتها لزيارتها، وإنها لا يمكن أن تتأخر عليها:

- " وكتاب الله العظيم حصل، شُفتها..وكلمتني".

وأنا أربت على كتفها مصدقًا إياها انعقدت الدهشة على وجهها، وأشارت لامرأة قادمة في اتجاهنا: "بص..مين دي؟" وقالت الحاجة روحية "سبحان الله..سبحان الله".

لم نر بالطبع ستنا سكينة، رأينا امرأة غابت عنا وعن طولون سنوات طويلة.

 زبيدة جاءت نحونا فرحة، مبتهجة، بوجه ممتلئ يفيض بالبِشر، وفي يدها اليمنى صبي، وعن يسارها فتاة. زبيدة هرولت نحونا، وهي تجر في يديها صبيًا في نحو العاشرة ومعها مراهقة جميلة. ولد زوزو يشبه ذلك الصبي الذي كنته يومه ما، والصبية، فتاة زاهرة الأنوثة، نسخة مطابقة، لما كانت عليه زوزو قبل نحو عشرين سنة.

 كان اللقاء حارًا، حارًا جدًا وفياضًا.

 زوزو حضنت أمي وقبلتها كثيرًا، وحضنت الحاجة روحية وباست خديها ورأسها طويلاً، ثم استدارت إليّ وأخذتني في أحضانها، وقبلت خدي قبلات طويلة، بلا خجل.

 صرت أطول من زوزو كثيرًا، وشاربي أسود وكثيف مثل شارب أبي:

- "إزيك يا حبيبي.. اسم الله عليك يا سيد".

ضحكتُ، وهي تقرص أذني، وتضرب صدرها:

- "الله أكبر الله أكبر..بقيت راجل ملو العين يا سيد".

 من سنوات طويلة تزوجت زوزو رجلاً ليس من طولون، وتركت بيت أم شفيق، وانتقلت للحياة في السيدة عائشة.

ما زال وجهها جميلاً، جميلاً للغاية، وما زال حضورها يدفعني للخجل.

الفتاة إلى جوارها كانت تبتسم لنا وسعيدة بأمها التي تعرف الأستاذ سيد المدرس.

كلمتُ البنت:

- "إنتِ في سنة كام يا شاطرة؟"

قالت خجلة: "تالته إعدادي".

الفتاة أخذت كل شيء من أمها، حتى صوتها الرنان، وزوزو ما زالت هي زوزو، فتية وجميلة.

 وأمام الجميع، أيضًا، سألت عن الأسطى طارق، ووجهت لي الكلام:

- "إزى عمك طارق يا سيد؟"

قلت لها: "بخير"

قالت: "ما تجوزش لسه يا سيد؟"

قلت لها: "لأ"

قالت لي بأسى: "طب خلي بالك منه يا حبيبي، وحداني!"

 واختفت زوزو، ومعها الولد والبنت، في زحام ما بقى من المولد أُمًا شابة لم يقهرها زمن.

 ككل عام هناك سرادقان كبيران، واحد للرجال وآخر للنساء، في سرادق الرجال سيحيي هذه الليلة اليتيمة الشيخ النقشبندي، وسيحيي الليلة في سرادق النساء الحاجة حُسن.

 الحاجة حُسن منذ ثلاثين سنة تحي هذه الليلة اليتيمة، الليلة الأهدأ بعد أن رحل رجال الطريق الذين يطوفون كل مولد وبلد، وبعد أن انفضت خيام الخدمة التي تقدم أطباق الدقة المعتبرة وأرغفة الخبز والشاي لكل من يقدم يده ويأخذ، ولكن هذا الإنشاد العذب هو آخر ما ينفض ويزول.

 الحاجة لا تظهر هنا سوى ليلتين فقط، الليلة الكبيرة ومن بعدها اليتيمة، ولا نراها سوى بعدها بعام. الحاجة حُسن حبيبة أمي لا تأخذ من أجر، تُحي ليلة السيدة سكينة تطوعًا وزلفى لله، يقولون نذر قديم، توفي به كل عام. طيلة العام هي مشغولة ومحجوزة تحي ليالي الموالد الكبرى مدعوة من مشايخ الطرق، ومن الصفوة والكبار، وتأخذ أغلى أجر في مصر لمنشد، ربما أكثر من أجر الشيخ النقشبندي نفسه.

الحاجة حُسن وجه أبيض أطيب من الفاكهة والورد، لا ترتدي سوى الأبيض، والطرحة حول وجهها خضراء، والصوت أعذب مما تنشد..

أَصْحَابُ الحَالِ فِي حِلٍّ مِنْ كُلِّ حَال

رَكِبُوا المَرَاكِبَ وغَادَرُوا

أَيْنَ الوِجْهَةُ؟ مَا المَقْصِدُ؟

صَمَتُوا، ولَمْ يَدْرِ أَحَدُهُمْ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا.

 أدخل أمي الكهلة، وروحية التي صارت عجوزًا، وهما تتوكأن كل منهما على الأخرى لسرادق النساء، لهما مكان محفوظ كل عام بالقرب من وقفة الحاجة حُسن في صدر حلقة الإنشاد..

 

1

الحُبُّ لَيْسَ لَهُ مِنْ غَرَضٍ

الحُبُّ هُوَ الغَرَضُ

الحُبُّ يَقُومُ بِلَا غَرَضٍ

ويَسْتَوِي عَلَي الكُرْسِيِّ إِلَهًا وإِلَهَةً.

 

2

أَقُولُ لهَا: أَضْنَانِي الحَنِينُ

أَقُولُ لهَا: أَلَا تَحِنِّين

أَهْمِسُ بالحُبِّ جَذْلانَ

وأُدَارِي عَنِّي ارتَيَابِي.

 

3

مُرٌّ غِيَابُكَ عَنِّي

مُرٌّ مُغَادَرتِي إِيَّاكَ

لِمَ التَّدلُّلُ

والحُبُّ قائمٌ بَاق؟

 

4

في الطَّرِيقِ صَادَفْتُ كُلَّ قُبْحٍ

ورَأيْتُ كُلَّ حُسْنٍ

تَلقَّيْتُ الكرَاهِيَةَ والحِقْدَ

بِقَدْرِ مَا سُقِيتُ مِنَ الحُبِّ.

 

5

ظَهْرِي للحَائِطِ والمُصَلَّى

بُكَاءُ الكَوْنِ يُضْنِينِي

مَتَى تَأَتِي؟

أَيْنَ الوِصَالُ والحُبُّ؟

 

6

وإِذْ تَنَاءَتْ تَمْتَحِنُ فِيكَ الحَبِيبَ

جَلَسْتَ عِنْدَ بَابِها في الشَّمْسِ والمَطَرِ

في الزَّمْهَرِيرِ، وفي الظُّلْمةِ، واليَأْسِ

ما فَتَحَتْ، ولَا أَجَابَتْ، حتَّى قَطَعَتْ لَكَ ذِرَاعًا.

 

7

المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ مَحْضُ صِفَةٍ

والصِّفَةُ مَحْضُ وَصْفٍ

حِينَ نَظَرْتُ الحَبِيبَ

تَبيَّنَ أَنْ لَا وَصْفَ ولَا صِفَة.

 

8

امْلَأِ الحَبَّارةَ بِالحِبْرِ

والكَأْسَ بِالمَاءِ

والفَمَ بِالفَمِ

ولَا تُكْثِرْ مِنَ السُّؤَال.

 

9

بالنَّهَارِ كَانَ الوِصَالُ حَنِينا

باللَّيْلِ كَانَ الحُبُّ مَتِينا

ومَا نِمْتُ، ومَا نَامَ

جَلَّ المَقَامُ فعَزَّ الكَلامُ.

 

10

تَسَاوَى اللَّيْلُ والنَّهَارُ

الحُبُّ والبُغْضُ

الغِنَى والفَقْرُ

فصَارَ الوَاحِدُ سَيِّدَ الأَمْرِ.

 

 ستدور النساء فوق الحصر، وتذكر وتتمايل كما يفعل الرجال، ستطرب وتنتشي وتسقط على أرض السرادق مع بلوغ الموسيقى لذروتها، والإيقاع لمنتهاه، تمامًا مثلما يحدث في سرادق الرجال.

وستقوم أمي وخالتي روحية تذكران مع الذاكرات، تتمايلان وتدوران، وتحلقان في سماء عالية بعيدة.

 وسأخرج أنا للسرادق الآخر، ولقول آخر.

 في سرادق الرجال كان إنشاد صادح يعلو ويرتفع، وكان شعبان المجذوب على باب السرادق، كما هو، رجلاً نحيلاً، خفيف الجسد، بجلباب أخضر وطاقية بيضاء مطرزة بخيوط ذهبية، الطاقية والجلباب من صُنع يدي روحية، وشعبان لم يتقدم في العمر، لم يهرم رغم مرور نحو ربع قرن على رؤيتي له للمرة الأولى، ولم يخط الزمن أخاديده وتجاعيده على صفحة وجهه، هو نفسه شعبان الشاب.

 سلمت عليه، ومن يراني يظنني صاحبه وفي مثل سنه، فأخذني في حضنه وهو لا يتوقف عن الذكر، مبتسمًا ومتهللاً، وسألني "إزيك يا ابن الناس الطيبين" قلت له: "أنا كبرت..شِخت يا شيخ شعبان وأنت زي ما أنت!"

تركني وعاد لذكره وتبسمه.

وروحي فرحة، جلست على الحصير، كجالس التشهد، وأَنصتُ.

إنشاد آخر يجري بلا توقف للنهر علي لسان الشيخ حَسن النقشبندي الساحر..

 

1

أُجَاهِرُ فِي الغَرَامِ ولاَ أَخْشَى

أُجاهِرُ بالغَرَام ولاَ أَستَحِي

أَقولُ النَّاسِ أَبقَى

أَم قَولُ رَب الفُؤَاد؟

 

2

ثَوبِي مُطَهْرٌ بحُبِكَ

أَسِيرُ بِلا حِذَاءٍ، بِلا رِيّاءٍ

أَصْرخُ فِي المَيدَان

أُحُبِك.

 

3

يَا سَعْدَ مَنْ أَومَأتْ إِليهِ

يَا فَرَحَ مَنْ أَشَارتْ إِليهِ

خُذُونِي مَعَكُم إنْ أَعَطتْكُم

وتعَالُوا إِليَّ حِينَ تَأتِي.

 

4

إِذَا أَرَادَ أنْ يَمْشِي علَىَ المَاءِ مَشَى

إِذَا أَرَادَ أنْ يَخْطُو علَى رِمْشِي خَطَا

إِذَا أَرَادَ أنْ يَأْسِرنِي فَعَلَ

وإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطْلقَنِي سَابَ.

 

5

حَبِيبِي يتَدَللُ بالبِعَادِ

حَبيبِي يَرتدِي ثِيابَ الإِيذَاءِ

حَبيبِي يتجَاهلُ ويَنسَانِي

ولا يَتركُ قَلبِي ويَرْحَل.

 

6

كُلُ يَوْمٍ أُنِادِيهَا

كُلُ لَيلَةٍ أُنَاجِيهَا

مَا صَوتِي بالخَافِت

ومَا بأُذنيّهَا صَمَمٌ.

 

7

شَفَّ الجِسمُ وعَزّ الطَلَبُ

لا أرقٌ ولا اضِطْرَابٌ

سِيانٌ عِنديِ بُغضُكَ وحُبكَ

أَنْتَ المُرادُ والمُبتغَى.

 

8

مِنْ دُون العَالَمِينَ أَتَتكَ
بزِينةِ وسِحْرٍ وجَمَال
وقَالَتْ أُحِبكَ
كَيفَ عَميتَ عَنِي كُلَ هَذَا الوَقْت؟

 

9

مَا الذِي تُرِيدُه يَا شَخْص

حُسْنُ الهَوَى مَرهُونٌ بِالشَخْص

مَا الذِي تُرِيدُه أَنْتَ

حُسنُ الهَوَى أَنْتَ.

 

10

بَعْدَ سِنِين مِنْ دَفْنِكَ جَاءَتْ

نَبَشَتْ القَبْرَ وأَخْرَجَتْ جُمْجُمةَ الحَبِيب

قَالتْ للَحْمِ الوَجه انْبِتْ مِنْ جَدِيدٍ، نَبَتَ

قَالَتْ لكَ ابْتَسِمْ وقَبّلْنِي.. فَعَلْتَ.

 

 قبل الفجر يسود الصمت، ويعلو من الجامع صوت قرآن الفجر، فينفض الجمع، الرجال والنساء يدخلون الجامع للصلاة، أدخل أنا لصحن الجامع، وأترك أمي وخالتي روحية في المكان المخصص للسيدات، وأنا وهما سنصلي الفجر.

 

أَصْحَابُ الحَالِ فِي حِلٍّ مِنْ كُلِّ حَال

رَكِبُوا المَرَاكِبَ وغَادَرُوا

أَيْنَ الوِجْهَةُ؟ مَا المَقْصِدُ؟

صَمَتُوا، ولَمْ يَدْرِ أَحَدُهُمْ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا.

 

(19) أمي
 حين أفكر في أمي أراها قد كبرت، عجزت، وشاخت، وكذلك أنا بشكل ما.

 أمي صارت نحيلة ممصوصة وهزيلة، بطة صارت جلدًا على عظم، لم تعد البطة البنيّة، اللحيمة، الضاجة بالحيوية والطاقة، ومنذ زمن لم تعد "أم سيد"، ولا "مراة الأسطى فرج"، أمي صارت واحدة أخرى جديدة عليّ، صارت أرملة الأسطى، وأم الأستاذ سيد المدرس، وصارت وحيدة أكثر بعد زواج مُنى ورحيلها عن البيت، وعن طولون والقاهرة كلها، صارت حبيسة البيت، لا تلتقي صاحباتها ولا تزور أو تُزار إلا نادرًا، وإن خرجت تطلع من باب البيت وهي متشحة بسواد عباءتها، متكئة على عكَّاز أبي الخشبي القديم، ذي الرأس المائلة لأسفل، وتمشي بخطوات بطيئة متثاقلة، ليس في مشيتها شيء من هرولة البطة التي كانت، وصارت تكلم الناس، الحريم والرجال بصوت خافت هامس، بعد أن شبعوا، سنينًا طويلة، من صوتها العالي الذي يسمعه من بآخر ميدان طولون، أمي لم تعد أمي كما لم أعد أنا الطفل والمراهق الذي كان.

 وأنا، أيضًا، تجاوزت الشباب في عيني أمي، الشاب عندها، هو ابن العشرين، والذي يقترب من الثلاثين لم يعد شابًا، ولا يجوز له الطيش والسهر، والعودة للبيت مع مطلع الفجر، ولا أن يظل أعزب، بلا زوجة وبلا أولاد.

 تلك الليلة، وأنا في الطريق إلى البيت وصلت للدحضيرة، وأنا أفكر بكل هذا، صعدتها ببطء وثقل، أجر قدمي، جسمي ثقيل وروحي كابية، أفكر بالحبيبة التي راحت، وأمي الباقية بالبيت.

 ذهبت كل امرأة أحببت، راحت المرأة التي كنت أريد أن أقضي عمري معها، واختفت البنت التي أحببت من أعماق قلبي، وأمي ستظل بالبيت. الحقيقة إنني أحببت نساء أكثر مما ينبغي، هرتلت وتصعلكت ورافقت وعشقت أكثر مما يجب، أحببت بالطريقة التي أعرفها، بفكرتي عن الحب وعن العشق، شغفت بالواحدة تلو الأخرى، وتكرر لي الفيلم ذاته. يكون لنا هزة رعد قوية في البداية، ثم ارتواء وشبع ومتعة قصوى، ونصل بسرعة أو ببطء، حسب الأحوال والتساهيل والظروف، إلى خاتمة القصة، فتور وهجر وفراق، وأبدأ من جديد مع امرأة أخرى وتبدأ هي من جديد مع رجل آخر. أما آن لي أن أنتهي من هذا كله، أما آن لي أن أعيش كبقية خلق الله كما تقول أمي. أعيش كرجل مسئول، مدرس وزوج جيد، يذهب في كل صباح إلى المدرسة، وهو مستعد للعمل أتم استعداد، مدرس ملتزم وكفء، يحضَّر دروسه في الليل ويذهب للمدرسة في الصباح، وفي يده حقيبة المدرسين الأنيقة، بها كشكول التحضير الجميل، وهو يرتدي البنطلون الكلاسيكي، فوقه قميص منشي الياقة، وبلوفر وقور برقبة سبعة، هذا هو الأستاذ "سيد"، الذي يسير نحو المدرسة كما يجب، في أهبة الاستعداد لتعليم الجيل الجديد شيئًا من الفلسفة، وسيكون مربحًا أن يكون مدرسًا مشهورًا، وذي صيت وسمعة، إذ سيأتيه لا محالة الطلبة الميسورين والمعسرين ليقفوا على بابه، يطلبون الدرس الخصوصي، والمذكرات وتوقعات ليلة الامتحان. يؤجر الأستاذ سيد حجرة، في عمارة قديمة بشارع الخضيري مثلاً، أو يشارك غيره من المدرسين شقة، يحتل أحد حجراتها لبعض الوقت، أربع ساعات كل يوم، وستأتي المجموعة تلو المجموعة، وآخر الشهر سيحصل على ما يكفي من النقود، ما يكفي لشراء الطعام والملابس، ووضع النقود في يد الزوجة الطيبة التي ستنجب أولادًا، يملئون البيت بالصخب والفرح.

 ما لها هذه الحياة؟

 أليس جميلاً أن أعود للبيت فأجد امرأة، لديها طبيخ ساخن، وجسد ساخن أيضًا، وليالٍ دافئة!

 أخيرًا عبرت الدحضيرة ووصلت لشارعنا، شارع صرغتمش، شارعنا المجيد.

دخلت بيتنا، وصعدت درجات السلم الحجري القديم، وجلست على الكنبة في الصالة إلى جوار أمي التي تشاهد مسلسل السابعة بانتباه واستغراق. لحظات ثم قمت من مكاني وجعلت صوت التليفزيون صامتًا:

- "عايز أكلمك في حاجة يا أمه".

- "قول يا حبيبي".

عيناها على الصورة الصامتة، مسلسل المساء عزيز عليها.

- "عايز أتجوز".

غزا وجه أمي فرح رقيق، لكنها ما زالت لا تصدق ما سمعت مني.

قامت واقفة: "بسيطة.. قوم معايه".

- "على فين يا أمي؟".

- "على بيت العروسة يا ضنايه".

دخلت غرفتها: "لحظة واحدة".

تركتني في الصالة مندهشًا، ومترددًا.

لا، لا داعي لهذا، أنا تسرعت، أنا لا أقصد ما قلت لها، أنا....

 عادت وقد وضعت عباءتها السوداء فوق جلابيتها البيتية، وعصبت رأسها بإشارب ملون، ووضعت في قدميها بنص أسود، وأخذتني في يدها كأنها تسحب الطفل الذي كان في طريقه للمدرسة الابتدائية.

حاولت أن أقول لها شيئًا.

- "طب.."

- "أنت لابس كويس..وزى الفل اهوه!"

- "طب رايحين على فين؟"

- "رايحين للعروسة يا حبيبي".

أمام بيت عبده القمّاش توقفتْ، وسلمت أمي على أم سلوى، والنسوان الجالسات على التلتوار أمام البيت.

- "العواف يا أم سلوى".
- "الله يعافيكي يا أم سيد يا آختي، أتفضلي يا حبيبتي".

قامت أم سلوى من جلستها نافضة مؤخرتها الثقيلة:

- "خطوة عزيزة يا أم الأستاذ سيد ..يا ألف مرحب..أهلاً وسهلاً يا أستاذ سيد".

ودخلت البيت أمامنا.

في حجرة الصالون جلسنا على الكنب البلدي الوثير.

 لدقائق كنت أنا وأمي قاعدين وحدنا، صامتين، بعدها عادت أم سلوى وسلوى معًا، وصينية فضية عليها الشاي والماء المثلج.

- "يا ألف مرحب يا أم سيد".

- "الله يرحبك يا أم سلوى".

 سلوى على مشارف الثلاثين مثلي، ومدرسة علوم بمدرسة طولون الإعدادية، وبدأ جسدها يتخذ مظهر العانس، سلوى شابة مقبولة شكلاً وموضوعًا.

أطرت أمي سلوى كثيرًا:

- "بسم الله ما شاء الله، الأستاذة سلوى كل طولون تحلف بأدبها وأخلاقها".

رجعت سلوى بنتًا بالثانوية العامة، بنتا تخجل، وتستحي، وتخجل.

وكنت أنا هادئًا، ومستسلمًا لمصيري الجديد.

 دبرت أمي الزيجة بسرعة، في شهرين فقط تم كل شيء، صرت عريسًا له عروس،

وصارت أم سيد مسرورة جدًا، لأن لها الآن زوجة ابن، ولأن ابنها صار زوجًا، رب أسرة، وعما قريب سيصير لها حفيد، حفيد وسيم يشبه ابنها، ابنها التلميذ الذي كانت تذهب به للمدرسة، حيث العلم، والناس المتعلمين.

 وأمي تركت لي وللعروس البيت، وصارت تبيت كل ليلة عند روحية، تقضي النهار معنا، وبالليل تذهب، تذهب وتنام لتؤنس وحدتها، ووحدة روحية.

 

(20) سلوى
 31ديسمبر 1999احتفلتُ بعيد ميلادي المجيد، عيد ميلادي الثلاثين، وحيدًا في غرفة المكتب، احتفلت بنفسي وحدي، والقاهرة ساهرة للصباح، والعالم يدخل الألفية الجديدة.

 الخميس، الثانية عشرة ليلاً، هي تقريبًا اللحظة التي ولدت فيها قبل ثلاثين سنة.

وليلة الخميس ليلة رائعة، ليلة مجيدة ومقدسة في حينا، لهذا تَمجَّد يوم وليلة مولدي!

 في عطوف وأزقة وشوارع طولون تضطجع النساء، الآن، ويتمددن على الملاءات رافعات أرجلهن في الهواء بينما يدفع الرجال، يدخلون الأجساد المشتهاة، ويخرجون في لذة وفرح، تحت العشاق تزيّق الأسرّة التي صنعها الأسطى فرج، الله يرحمه، الأسرّة الملونة المتينة تصر من تحت مزعزعة، ومن فوق ترتفع أصوات غنج النساء وصرخات الشهوة، من فوق أيضًا تنتعش نفوس الرجال فرحة بالقدرة والفحولة، صيف خاطف يمد الحيّ بالدفء والحرارة طيلة ليل هذا الشتاء البارد، وعند الفجر، مبتهجات ستلقى النساء السعيدات، المروّيات جيدًا، بماء استحمامهن مع أزواجهن، ستمتد أيدي النسوان بطسوت ألمونيوم أو بلاستيك وتلقي الماء الذي طهرهن، هن وأزواجهن، من نوافذ وبلكونات البيوت، ليغسل تراب الشوارع، ويهمد التراب فيها، ويجلب الهواء للذين يلتمسونه، قاعدين على عتبات البيوت أو مارة في شارع

 أو حارة.

 في بيتنا هذا نفسه، وفي ليلة كهذه، فعلها أبي وأمي منذ ثلاثين سنة مضت، ولم يكتفيا بذلك. فضلت أمي أن تذكرني دومًا بفضيلة الخميس، فعلقت بي في ليلة عشق زاهرة، وأتت بي للدنيا والناس من حولها يتناكحون في أرجاء طولون.

 كانت أمي قاسية جدًا، كانت منحازة للطبيعة والفطرة، وبلا وعي تذكرني بوظيفتي كرجل، وكأنها تقول لي "الرجل الحقيقي لا يخاف القتلة والكلاب، ولا يخشى النسوان يا سيد".

 في حجرة نومي وسلوى ارتديت بدلتي الصوف الثقيلة، وعقدت رابطة العنق الحمراء وأنا أدندن وأرقص في مكاني. تعطرت بعطر جوتشي المثير، الذي أهدتني إياه ماري منذ زمن، وابتسمت لنفسي في المرآة ابتسامة واسعة، وقلت بلطف "كل سنة وأنت طيب يا مان".

 عندما عبرت الصالة إلى المكتب كانت سلوى في الحمام غارقة في الشامبو والصابون والماء الساخن والبخار، وكانت تغني لنفسها. دخلت الغرفة، وأغلقت الباب عليّ من الداخل. جلستُ إلى مكتبي الخشبي القديم، صنع يدي أبي، على مقعدي الجلدي الدوّار الجديد، ومن درج المكتب أخرجت زجاجة بولوناكي 84، فتحتها بأسناني وبدأت أتجرع، ببطء وعلى مهل، كأسي الأول. كنت أحضن الكأس براحتي يدي وأشرب، وأنصت لدندنتها الهامسة التي تأتيني من الحمام. وكنت أحدق في رفوف الكتب التي تغطي معظم حيطان الغرفة، وأهمس لنفسي "لقد كبرت بما يكفي لأن تصير رجلاً حقيقيًا..يجب ألا تنتظر شيئًا أو أحدًا".

 تجرعت المزيد من الخمر الرخيص على مهل، وبلا شيء في رأسي. فتحت نافذة المكتب المطلة على الساحة وجامع طولون. رغم الظلمة، بانت لي المئذنة العتيقة طويلة منتصبة بقوة، خازوق عملاق يشق فراغ السماء، وكانت الساحة حول الجامع واسعة وخالية تصفر فيها الريح. بلطف بدأت تمطر في أنحاء طولون، ولا أحد بالخارج، رفعت وجهي للسماء وابتسمت فرحًا بالمطر، وبدأ شخير سلوى يأتيني من غرفة نومنا، كموسيقى تصويرية مرافقة. كان شخيرها يعلو ويتقدم بتناغم وانسجام مع تقدمي في الشراب والسُكر. أغلقت النافذة وعدت للجلوس محدقًا في رفوف الكتب، وأدركت أنني سعيد بوحدتي، وباحتفالي بنفسي، ومبسوط لأنها نسيتني، ونامت.

 بعد ثلاث ساعات أو أربع، لا أدري، فرغت الزجاجة، وامتلأ جسدي بالكحول، وصارت رأسي تدور. بصعوبة قمت من مكاني وأنا أترنح بخطوات متعرجة. فتحت الباب وسقطت على ركبتي في الصالة، ولكني أخيرًا وصلت لحجرة النوم. تخبطت في ظلمة الحجرة، وزحفت حتى وصلت للسرير الواسع. طوحت برابطة عنقي، ورقدت إلى جوارها في فراش زوجيتنا ببدلتي الكاملة وعطري وسُكري، وتمددت إلى جوارها كقتيل سعيد.

سلوى مدرسة العلوم بمدرسة طولون الإعدادية، لم يكن بيننا قصة، أبدًا، خطبتها لي أمي، وأنا استسلمت، وتوكلت على الله، وخلّصت!

 سلوى قالت يومًا ما إنها تحبني، إنها كانت تحبني منذ كنا أطفالاً ومراهقين، قالت، ربما مرة في شهر العسل، ومرة في العيد الكبير الذي فات.

 لم نعد نتضاجع منذ شهور. فقط نتمدد في الفراش متجاوريْن، لا يتلامس جسدانا إلا بمصادفة غير مقصودة، وينام كل منا في مساحته وحيزه الخاص، المحدد. اندسست تحت البطانية فأحسست بدفء وحرارة تسري في جسدي.

 فجأة، بدا لي إنني يستحسن أن أبدأ عامي الجديد بمضاجعة ممتعة.

كانت تعطيني ظهرها نائمة على جنبها، جسدها فارع وممتلئ، وأنفاسها حارة، من الخلف مددت يدي إلي ظهرها ورمانتي كتفيها، كان جلدها دافئًا، وكانت عارية تمامًا تحت البطانية على غير العادة، وصدرها يرتفع وينخفض، وشخيرها رتيب. فهمت عريها الكامل واستغنائها عن قميص النوم على أنه احتفال ودعوة، ورغبة. ببطء ورقة تلمست براحتي يدي جذعها واستدارة ردفيها. صاحت بغضب وسط أحلامها "الراجل دا خرع ..مش راجل أساسًا" وواصلت تنفسها المنتظم ونومها العميق. انسدت نفسي، ولم أحاول معها مرة أخرى.

 كنت ممددًا على ظهري، عيناي تحملقان في السقف، وشيئي ميت بين فخذي.

وضعت مخدة طويلة في حضني، ورحت أهدهد نفسي كأم تناغي رضيعها لينام.

لم أنم.

 هاجمتني مشاهد قديمة كنت أظن إنني نسيتها للأبد.

 أراني الآن، أنا هذا الصبي الأبيض الذي قالت له أمه مبتهجة بمنظره "اسم الله عليك.. لما كنت في اللفة كان من يخاف ربنا لا ينظر في وجهك".

 كانت تمسح على شعري، وتتأملني بإعجاب، وأنا في مريلة المدرسة التي كنت أرتديها للمرة الأولى.

 هو أنا، ولد أبيض نادر اللون بين عيال الحارة، يشبه أبيه، كما يشبه الولد عبد الظاهر ابن عم فوزي البقال، عبد الظاهر اسمه على اسم الظاهر بيبرس، كما يتفاخر هو وأبوه!

 كان عبد الظاهر يماثلني في الطول، ويشبهني في البياض وملامح الوجه والشعر البني. لا يميز الناس أحدنا من الآخر، ينادونني: "سنقول لأبيك..مالك ومال الكلاب يا عبد الظاهر الكلب!" فأفر من وجوههم الغاضبة الساخطة، وأجرى نحو بيتنا وأنا ألهث.

 كان لعبد الظاهر ولع غريب بالكلاب، وشغف عارم بالتجول في حارات وأزقة وخرابات طولون ليلاً دون أن يخاف مثلنا. كان عنده كلب أسود ضخم وقبيح، يتحرش بكلاب الحارة الذكور، يعضها ويرهبها، ويقفز على ظهور الإناث. في يوم رجع إليه الكلب، بعد جولته الحرة اليومية العادية، ينزف دمًا من أنفه، صدره مجروح ورأسه مشجوج .عبد الظاهر لم يبك مثلما نبكي نحن من أجل أشياء كثيرة . فقط تحجر وجهه، ودفن رأس الكلب في حضنه، وسد الجرح بكفيه حتى أتت أمه بالبن فترك الكلب لها. وقف على قدميه كرجل كبير، وحدق في دم كلبه الذي يسيل على جلبابه الأبيض، وقال لعصابته من العيال الملتفين حوله إن الفاعل المجرم، الذي حاول قتل كلبه الحبيب، ليس كلابًا فقط، وإنه سينتقم من كل الكلاب المعتدية والناس الأشرار.

 يقول العيال إن الكبار لا يسبون عبد الظاهر إلا بوصفه بابن الكلب؛ لأن أمه عشقت في شبابها كلبًا أسود ضخمًا، وكانت تعاشره من وراء ظهر عم فوزي!

 أمي قالت لي عندما رددت ذلك أمامها: "عيب..حرام، دي ست مسكينة وصحتها على قدها".

 قالوا في طولون إنه لما ولدتْ أم عبد الظاهر عبد الظاهر، لم يكن بصدرها لبن، وظل هو يرفض اللبن الصناعي ويتقيؤه إلى أن رأته يزحف وحده نحو كلبتهم المضطجعة على بلاط الصالة. اندس بين الجراء التي كانت ترضع، والكلبة لم تصده ونظرت إليه بشفقة وعطف. فأسلمت أم عبد الظاهر أمرها لله، وصارت تهتم بطعام الكلبة. لبن ولحم ودهن، طعام لا يأكله فوزي البقال نفسه، فشبع عبد الظاهر وشب مغرمًا، عاشقًا للكلاب، خاصة السوداء منها، التي تشبه كلبتهم. ناس آخرون قالوا إنه رضع من حمارة عليمي الفكهاني، كنت في طفولتي أصدق أمي، وأساطير طولون ذات المعنى، والتي لا معنى لها.

 بعد ثلاثة أيام من اختفائه عن شوارع طولون، ومكوثه بمنزل فوزي البقال، وبعد ظننا أننا قد استرحنا منه للأبد، ظهر الكلب الأسود مرة أخرى يسحبه عبد الظاهر. بدا لي أنه تعافى من جراحه، واستعاد شراسته، ومنظره المخيف.

 أمام دكان أبيه حمَّم عبد الظاهر كلبه بماء الورد، والصابون المعطر، تحت بصر العيال الملتفين حوله يتفرجون. وضع في عنقه طوقًا جلديًا أحمر جديدًا، وغطى ظهره بقطعة قماش أبيض مطرز عليها ورود وأشجار، وربطها من تحت بطنه بشريط أصفر لامع، ثم سحب حبل كلبه برفق بالغ إلى مكانه المعتاد، عند ساحة الجامع. احتضن جنبي كلبه وربت عليه بحنان، قبّل رأسه وجبهته، وقال له "حمد الله على السلامة يا عريس..دقيقة وراجع".

 دخل عبد الظاهر مخزن أبيه، وأخرج برميل صاج فارغ من براميل الزيت التي تملأ المخزن، دحرجه على الأرض حتى أقامه في الساحة إلى جوار كلبه، الجالس في عظمة على قدميه الخلفيتين. وضع عبد الرحمن دلوين ماء، وزجاجة شربات ورد، ولوحين ثلج في البرميل، فطار الخبر في العطوف والأزقة والحواري.

 خرج الخلق يجرون ويتزاحمون ويتصادمون في طريقهم للساحة.

 ربط عبد الظاهر طرفيّ جلبابه على وسطه، وأخذ يغرف من البرميل بكوز ألمونيوم، ويسقى طابورًا طويلاً متزاحمًا من العيال والبنات والنسوان والعجائز. يقول لكل واحد: "اشرب اشرب..والختمة الشريفة لأسمم كل كلاب الحتة..بالهنا والشفا".

ويقول لمن يطلب كوز شربات آخر وهو يعطيه: صحة وعافية، وحياة أمي لن أترك فيها كلب ابن كلب..اشرب اشرب".

 في يومين فحسب فعل عبد الظاهر ما أقسم به بحذافيره، فلم يبق بالحي كلب واحد من كلاب الحيّ العشرين، كلها انقلبت على ظهورها بجوار حيطان البيوت، ونواصي الأزقة وزوايا العطوف، تأن وتتلوى من الألم حتى تنفق، ونحن نتفرج عليها، نلعب ونلهو بجثثها. يظهر واحد طيب من رجال حينا، يشتمنا ويسبنا ويبعدنا، يضرب يديه إحداها بالأخرى ويقول "لا حول ولا قوة إلا بالله" وينقل الجثة الجديدة إلى الساحة الواسعة أمام الجامع، يصب الجاز فوق الكلب، ويشعل فيه النار.

 صارت الساحة محرقًا عظيمًا يتصاعد منها الدخان، ورائحة الجيف، والحريق ثلاثة أيام متواصلة بليلتين.

 لما اتهموني أنا بسم الكلاب البلدية، الحارسة، الطيبة، بكيت، وجريت من الساحة مرعوبًا وأنا أصرخ على أمي التي خرجت للشباك، وصوّتت وهي تدعو الله أن يسخط الولد عبد الظاهر الشيطان قردًا. صعدت درجات السلم قفزًا، كانت ما تزال غاضبة، تدلدل جسدها من الشباك تسب عبد الظاهر وأباه، والعيال الصيّع، والكلاب، احتضنت جسدها من الخلف وأنا أنشج وأرتعش فاستدارت، وأخذتني في حضنها الدافئ، وصارت تربت على ظهري "عيب ..الراجل ما يخافش، ولا يعيط يا سيد".

 كان عبد الظاهر مخيفًا وشرسًا دائمًا.

ابن الكلب سمّم كلاب طولون الوفيّة، حرق وأوغر صدور الناس، ونهبنا، وسرقنا نحن العيال، واتهموني أنا بكل ما فعل.

 أراه في هذه اللحظة، بعين ذاكرتي وخيالي، يقف في مركز الساحة الواسعة أمام الجامع، يمسك في يده اليمنى حبلاً قصيرًا يشد كلبه الأسود، وعلى وجهه الأبيض ابتسامة ماكرة رائعة، ابتسامة لا تصدر إلا عن قلب ميت أسود. كان يقطع الطريق على العيال والبنات ويتسلى بنا، من رعبي منه، ومن كلبه، كنت أتجنبه وأدور حول السور العالي لجامع طولون .أهرول متلفتًا حولي وجسدي يرتعش خوفًا وهلعًا، ويدي ميتة على القروش في سيّالة جلبابي. ألف وأدور، وأجري مسافة طويلة حتى أصل إلى الفرن، أشترى أرغفة العائلة وأخبأها تحت جلبابي، وأعود لأمي فرحًا؛ لأنني أفلت من سطو عبد الظاهر ورذالته، والخناق معه.

أيامها كنت في سنة خامسة ابتدائي.

 بعد ذلك بسنوات طويلة تزحزح عبد الرحمن عن حبل المشنقة؛ لأن محاميه أثبت أنه كان يدافع عن نفسه عندما طعن عوض الجزار طعنة مميتة، بسبب خلاف على عشرة جنيهات.

 لم أكره أحدًا قدر كرهي لعبد الرحمن وكلبه الأسود.

عبد الرحمن قاتل وكلبه نجس ومخيف، وفوزي البقال لم يكن محبوبًا في حينا يوما ما.

 هل يصير الواحد رجلاً "حقيقيًا" وهو ما زال يشغل نفسه بالخوف.. يشغل نفسه بعبد الظاهر وكلبه، وهو ممدد إلى جوار جسد امرأته العاري؟!

هل يصير الواحد رجلاً حقيقيًا، وهو مازال يشغل نفسه بالنسوان، وبما فات وراح، بما مضى وانقضى كحلم ممتد طويل وغريب، ولن يبعث للوجود مجددًا أبدًا؟!

 في الصباح الذي يأتي لا بد عقب كل ليل، في الصباح استيقظت بسبب ضوء الشمس، الذي ملأ الغرفة فجأة، عندما شدت سلوى ستائر شباك حجرة النوم بجلبة متعمدة، وهي تصيح "اصح ..اصح، بقينا العصر..الساعة تلاتة يا سيد!"

 همهمت ساخطًا، أعطيتها ظهري، وتقلبت في الفراش إلى أن صرت دافنًا وجهي في مخدة صغيرة، ركبتاي على صدري وجسدي في وضعي الجنيني المحبوب، ووددت في تلك اللحظة لو.. لو... لو أعود للرحم الذي جئت منه، وددت أيضًا من كل قلبي أن أولد من جديد، وأن أخرج للنور.

 

- تمت -