ابتكر الإنسان منذ قدِيم الزمان أدوات متنوعة من أجل إحكام سيطرته على الطبيعة وتسخيرها لصالحه. تطورت هذه الأدوات تدريجيًا مع تطورات الإنسان المعرفية. بدأً من العصر الحجري حين كان يستخدم أدوات بدائية، وصولاً إلى عصر التكنولوجيات الحديثة ذات الجودة والكفاءة العالية. كان الهدف من ابتداع الإنسان لهذه الوسائط هو لتيسير حياته، وإحكام سيطرته عليها، لتضحي اليوم هي من تسيطر علينا وتثير فينا الكثير من الالتباس. رغم ذلك تبقى الوسائط التكنولوجية ضرورة ملحة لا يمكننا العيش بمعزل عنها.
تحرر الإنسان بفضل التكنولوجيا من الجهل والعبودية، لكنها أوقعته في عبودية من نوع آخر "عبودية التقنية " التي اقتحمت أدقّ تفاصيل حياتنا مما أثّر في سلوكنا. فرضت التكنولوجيا واقعًا جديدًا انعكس على حياتنا ثمّ على الفن، فهناك من يرى أنّ القيم الجمالية قد تهاوت أمام الثورة التكنولوجية، بينما ترى فئة أخرى أنّ التكنولوجيا أوجدت مفاهيم وتقنيات جمالية جديدة، أثرت بطريقة مباشرة على أداء الفنان الذي تخلى تدريجيًا عن الوسائط التقليدية ليستبدلها بالتجهيزات المتطورة والآلات الروبوتية، لتفسح له المجال للتساؤل عن مستقبل البشرية في ظل الهيمنة الرقمية.
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، اتسم الإبداع الفني بالتطور المتسارع بفضل التقنيات الرقمية التي قادت الفنان نحو تطوير المفاهيم الجمالية، عبر إدراج الفن الرقمي في الممارسة الفنية. مما أدّى إلى تقديم تجارب وعروض حيّة غريبة ومدهشة تساؤل الوسيط التكنولوجي وتقيّم حدوده .
ويعد “مارسليلي ارتينيز روكا”[i] من أوائل الفنانين الذين أقحموا التكنولوجيا الرقمية في ممارساتهم الفنية. "مارسليي" هو فنان إسباني من مواليد 1959 ذاع صيته في الساحة الفنية من خلال عروضه الحيّة ذات الطابع التفاعلي التي يوظف فيها تجهيزات رقمية مكثفة. يعد عرضه الذي يحمل عنوان " Epizoo" أحد أهم عروضه التي بيّن من خلالها قدرة التقنية على استلاب حرية الإنسان. يتسم العرض بالطابع الصادم والجريء يكون فيها المتلقي مشاركًا فاعلًا في عملية الإنشاء الفني. تتداخل في هذا العرض العديد من الأجناس الفنية المختلفة من مسرح وفنون تشكيلية وموسيقى. ساعدت التقنيات المتطورة على إلغاء الحدود والفواصل بين مختلف هذه الأنماط الفنية لتقدم بطريقة متجانسة. يغيب في هذا العرض النص الحواري لتحل مكانها الآلات المتطورة، بخاصة الإيماءات والتعابير الجسدية. مما يجعلنا نمعن النظر في جميع هاته التفاصيل من أجل فهم مقاصد الفنان ومعانيه.
في بداية العرض يقبل علينا الفنان على خشبة المسرح ثم يشرع بارتداء خوذة وبذلة روبوتية ذات أسلاك متشعبة متصلة بالحاسوب وشاشة عرض عملاقة، يتبع الفنان فريق تقني من شخصين يساعدانه في تثبيت البذلة على جسده. تتغير الإضاءة تدريجيًا نحو الأحمر، وتصاحبها موسيقى ديناميكية ذات نسق تصاعدي. ثمّ يُختارُ عشوائيًا شخص من الجمهور للمشاركة في العرض ليجلس بجانب الركح أمام حاسوب يحتوي على رسوم ترمز إلى جسد الفنان، وتشير إلى موضع وحركة الآليات. وبهذه الطريقة يتحكم المشترك في الضوء، والصوت، وحركة جسم الفنان بمجرد النقر على الرسوم الموجودة على الشاشة، فتجبر الآلة الفنان على أداء مجموعة من الحركات الدائرية، فيحاول كبح نفسه، لكن بدون جدوى، حيث مكنت الأسلاك المثبتة على جسده إلى تحويله إلى مجرد لعبة في يد المتطوع الذي اختار النقر على مناطق معينة من الجسم، كالأرداف والصدر لتجعلها الآلة تهتز، وتتمدد وكأنها لعبة يُتلاعبُ بها، وتسييرها كيفما يشاء. يبدو المستخدم مستمتعًا بعملية التلاعب الأشبه بالتعذيب أمّا الضحية فقد حولته التقنية إلى أحد امتداداتها. ليصل خضوعه إلى أوجه عندما ينقر المستخدم على الوجه فتقوم الأسلاك المتصلة بالرأس بتحريك الوجنتين والحاجبين ثم الأنف. رهنت التقنيات المثبتة على جسد الفنان حركته فجعلته خاضعًا بشكل فظيع لإرادة النظم الآلية التي تغزوه. فالعرض بمثابة تجسيد بصري لمقولة أينشتاين "إنّ سلاح التقدم التقني يبدو مثل فأس وضعناه في يد مريض نفسي.[ii]"
على الرغم من الانسجام التام الذي يتسم به العرض من ناحية التناغم المثالي بين عناصره الفرجوية التي تجعلنا نعجب بما توصل إليه العلم من تطور تقني، إلّا أنه في الوقت نفسه يجعلنا نعيش نوعًا من القلق، ففي البداية ببدو لنا العرض ممتعًا أشبه بلعبة تحكم عن بعد، لكن تدريجيًا تغدو هذه اللعبة مقلقة ومأساوية أضحى فيها الفنان أشبه بفأر تجارب مرهون وسط هذه الآلات التي تضغط عليه، وتعصره فتجعله يصرخ من شدّة الألم، فلا نعرف إن كان ألمًا حقيقيًا أم مفتعلاً، لكن في كلتا الحالتين يجعلنا نتعاطف معه. وهو ما جعل أحد المتطوعين يرفض الاستمرار في التلاعب بجسد الفنان؛ لأنه عمل لا إنساني، كما يرى.
يكشف لنا العرض الجانب المظلم من التكنولوجيا التي تغرينا فتحثنا على الإقبال عليها، لنجد أنفسنا مجبرين على مرافقتها طوال الوقت إذ ترهننا بطريقة تجعلنا لا نتخيل الوجود بدونها. فالعرض بمثابة محاكاة رمزية لما نعيشه اليوم من غزو رقمي والأخطر من ذلك يكمن في الشخص الذي يتخفى وراء أجهزتنا ويرسم لنا واقعنا وفق ما تقتضيه مصالحه. فالعرض يبدو للوهلة الأولى أنه يتبع منهج ترفيهي ليصطدم المتفرج بخيبة أمل نتيجة الإخفاق في السيطرة على هذا الوسيط.
باحث تونسي في جماليات الفنون