يذهلنا التركيب الحاسوبيّ العضويّ لذاكرة الكائنات، إلى مستوياتِ دفعنا للتفكير في أن الكائن لا يستقيم على الأرض كما يبدو، من دون ذاكرةٍ؛ يذهلنا حقاً أن تتجاوز هذه الذاكرة بساطة الشيفرة الجينية التي تستخدمها الكائنات الأدنى أساساً في الحفاظ على بقائها في الأشكال والسلوك، إلى التعقيد المذهل في ذاكرة الكائن الأعلى على الأرض. بما يدفعنا ربّما للتفكير والتساؤل إن كان هناك إنسان استطاع إبقاء الذكريات كما حدثت من دون أن يتم تحريفها، قسراً في صراعات البقاء، أو طوعاً لأغراضه التي تتجاوز بساطة الحفاظ على ما كان، إلى مستويات عليا تصل به إلى جرأة البحث في تعقيدات عمليات التحوير، بتجاربه العلمية المخيفة، وفي أعماله الإبداعية التي تعيده لاكتشاف ذكريات ما قبل التحوير، وتشدّه للعودة إلى اكتشاف إنسانيته كلّما جمح في هذه التجارب. ولن نكون مغالين ربما في الإشارة إلى رواية العمانية جوخة الحارثي «حرير الغزالة» كأحد الأعمال الإبداعية المهمة في اكتشافات تحوير الذاكرة، ووضع الإنسان أمام مرآة ما فعل ويفعل، تحت تأثيرات ما تعرّض له، في طفولته بخاصة، وتأثيرات ما يرتبط به، في أحد جزر إبداعها الخفيّة الأهم، ضمن أمواج بحرها:
«وضعتْ فنجان قهوتها على الصينيةَّ وسألتني فجأةً إن كنت خرجتُ من ذاتي مرةً وأحسستُ بأني مفصولة عن المكان والزمان، هذه غزالة، لا تهمُّها الوقائع الصلبة، وإنما المشاعر المحتدمة، وكيف يستعمل كلٌّ مِنَّا الذاكرة لأغراضه الخاصَّة، أغمضتُ عيني وأنا أتذكرُّ آسية، وميض عباءتها وعروق يديْها وهي تُمسك بكتفي بلطفٍ وعيناها تسألني بلا كلماتٍ لم ألاحقها؟»… «أكاد أسمع الدم وهو يتدفقَّ في عروق يدها القابضة على يدي، أتنفَّس رائحتها النفّاذة، وأتبع خطواتها. كانت تمشي تلك المشية المتخلّية عن إكراهات الوجود، المستغنية عن رأي الناس فيها، فيها شيء قاتم لكنه غير منكشفٍ وفيها شيء كدر غير أنه محبوس. تلك هي الساعات التي كنت فيها بلا مكان ولا زمانٍ، كأني على ظهر الفرس لوزة وهي تعدو على البحر».
حرير: الرّاوية التي تتكشفُ من خلال سرد يومياتها عوالمُ البيئة الخليجية ونسائها وتغيّراتها؛ وغزالة: المُثنّاة الموزعة بين اسمين وأمَّين وحبَّين واقعيين وحبّ افتراضي؛ وآسية: الصديقة الحامية البرّية المثْقلة بأحد ذنوب ارتكابات الظلم والتمييز والغيرة في الطفولة. ثلاث نساءٍ محوريات يكَدْن أن يكنّ واحدةً هي الكاتبة المتشظّية إليهنّ، وهي تنسج حرير ذاكرتها في روايةٍ شاعرية تكتشف وتكشف في أحد أهم تكويناتها لقارئها من خلال غموض الحبّ، جوانب أخرى أغنت مثيلاتها عنه روايتَها السابقة «سيدات القمر» إلى درجة منحِها جائزة مان بوكر العالمية الممنوحة لأول مرة إلى عربي.
وفي نسيج الحرير المتراكب والمتشابك الممسوح بزيت حكايات شهرزاد، تضع الحارثي موضوعات روايتها في بنية بسيطة وعميقة تتكوّن من أربعة أجزاء بعناوين، تفتتح الأول منها «حفلة الأوركسترا»، بالموت مقروناً بالولادة المجهولة في مصير تطورها كما الموت، حيث تستقرّ عقدة التخلّي في روح الطفلة التي ترمي أمُّها مهدَها عند سماع خبر موت أبيها، ولكن لتتلقّفها الحياة التي تعطي مثلما تأخذ، في لَقْمها حلمة أمّها الثانية سعدة التي أرضعتْها واعتنت بها، ومنحتْها صديقة طفولتها، أختها في الرضاعة آسية. وكذلك في وقوعها بالحب المتمرّد لجارها عازف الأوركسترا الذي يعاني السأم بعد شغف الحب، ويغلقَ عالمه الذي أصبح رتيباً، بهجرها. وفي تطوّر مصير الطفلة تُبرز الحياة تعقيدات منحِها في الجزء الثاني «زهوة الحياة»، حيث تستقّر عُقَد الظلم وآثام ارتكاب الردّ عليه لتُعقِّدَ المصائر، في ردود فعل آسية، واختفائها الغامض، ولعبها جسر التشابك الثلاثي بين شخصيات الرواية المحورية النسائية الثلاث، إضافة إلى دورها في مدّ الرواية بعنصر تشويقها.
ويأتي الجزء الثالث «مغنّي الملكة» ليعرض بشفافية الحبّ وكشف ذوات الشخصيات، ما تداخل بحياة البشر من واقع افتراضي يمثله الفيس بوك، وذلك بعيش غزالة تجربة الحب الافتراضي مع شخصية مهاجر عراقي في السويد يعمل رساماً في مجلة كوميكس، بإضافة غنى الرواية الثقافي بالفن إلى غناها الثقافي بالموسيقى. ويأتي الجزء الرابع «عام الفيل» ليعيد مصائر الحب إلى منابع سيرها وتعقيداته، في عشق الحرة لمتزوج مرتبط بعائلته، خاتِماً الرواية بانفتاح الفن كما الحياة، متوّجةً بعمل روائي إبداعي يرفدها بمتعة البشر في عيش الإبداع.
وتتداخل في بنية الرواية هذه شخصية حرير التي تقيم علاقة صداقة عميقة في الجامعة مع غزالة، وعلاقة حبّ نسائي غامض يوحي بالمثلية، مع الفتاة الغامضة ذاتها برائحتها البرية، آسية، من خلال منظومة السّرد التي تتداخل مع البنية كجزء منها، وتضعها الحارثي باختلاف عن منظومة سرد روايتها السابقة إلا بالابتكار. حيث تتولّى السّرد هنا راويةٌ عليمةٌ يتداخل سردها مع يوميات حرير الموضوعة بتواريخ تمتد عشر سنوات من 21 نوفمبر 2006، إلى 21 أكتوبر 2016، والكاشفة للذاكرة الفردية والجماعية، من خلال عرضها الفني العميق لشخصياتها المبلورة في حكاياتهم، عن حياتها وعن صديقتيها، وعن التغيّرات التي طرأت على الخليج، وانهيار عالم تجارة اللؤلؤ بتجّارها، بعد دخول اللؤلؤ الياباني المزروع الأرخص، وأثَر التغيّرات على حياة الشخصيات.
في نسيج حريرها كثوب ملكيٍّ مطرّز بالحكايات وقميصٍ حرٍّ يتراقص في الريح على جسد صبيّة تخوض في أفلاج عمان وتذرع براريها في ذات الوقت؛ تتجلّى حرفة الحارثي في تمييز أسلوب هذه الرواية، بما يمكن إيجازه من دون اكتفاء:
- بطريقة الّسرد التي نضيف إلى حديثنا عنها سلاسة التتابع والتداخل غير المتوالي بين الساردة العليمة ويوميات حرير، إلى درجة الإيحاء بأنهما ساردة واحدة.
- بالتصوير المبدع للمكان وتفاعل تفاصيله مع الشخصيات وتطورات الأحداث، بدءاً من منبع الرواية في قرية «شعرات باط»، امتداداً إلى مسقط وأبو ظبي وصحار ولندن وبانكوك، بذات روح التعاطف الإنساني، وارتقاء التوثيق إلى متعة الحكاية وحركة تطور الشخصيات:
«وما إن أصبحنا في نانا أو شارع العرب كما يدُعى حتى اقترحت أمّي أن نأكل مكبوس باللحم قبل أن تبدأ العلاج والالتزام بحمية غذائية. بدا صوتها مرحاً كالعادة وكأنها لا تسمع ما قاله الأطباء قبل قليل، دخلنا الشارع فأحسست بأحاسيس متنافرة، خليط من الدهشة والصدمة والنفور، الدشاديش والعباءات والبراقع والمطاعم العربية والشيشة ومحلات الهنود والأسواق الليلية وفنادق الدعارة والمستشفيات والعيادات الدولية، وباعة الرصيف، ونداءات على الفواكه والبضائع الرخيصة، محلات الأحجبة وسجادات الصلاة بجانب البسطات التي تعرض اللعب الجنسية وصور بنات الليل والمتحولين جنسياً».
- بالإدخالات، التراثية المتضمّنة طبيعة العيش والسلوك، بما في ذلك اللباس وصيغ الطبخ، بطريقتها الفنية المبتكرة الخالصة من التوثيق بسرد الحكايات وتصوير الشخصيات، مثلما تفعل كمثال في تبنّي جدة أم حرير تعليم الصبي الطباخ البنغلاديشي محمد نجيب صيغ الطبخ العمانية، وتحوّله إلى طباخ رفيع الذوق يتقن فن الطبخ العالمي كذلك. وإدخالات الثقافة الوطنية والعربية والعالمية، مثلما تفعل كمثال في تأثر المهاجر العراقي صديق الفيسبوك بفنان الكوميكس الفرنسي الشهير موبيوس، وعقد مقارنات التأثر والسرقة بين ديزني وأسلوب الفنان الياباني مايازاكي. وكما في جميع إدخالاتها الممتدة إلى هدهدة الطفل بالأغاني التراثية، تبدع الحارثي في تجنب التوثيق بالحكايات.
- بأسلوب تقطيعات الزمن المدروسة واستخدام أسلوب شهرزاد في سرد الحكايات التي تقيم الجسور بين أزمنة عيش الشخصيات، كما تفعل بابتكارٍ من خلال تجارب المتحدّثين في الواقع الافتراضي إلى بعضهم:
«كان صوته يأتي ملهوفاً كل ليلة: «نام الأولاد»؟ تضحك: «ناموا»، «احكِ لي حكايةً يا ملكتي»، «تضحك»، «آه أيها الطفل، الحكايات كلّها في البصرة حيث عشتَ طفولتك»، فيُصرُّ «لا لا، حكايات البصرة نتركها لليالي الوجع، واليوم ليلة فرح، ألم ينشر العددُ الجديد من المجلة رسومي؟ التوزيع خيالي… أتدرين ما مشروعي القادم؟ جرافيك نوفل، رواية مصوّرة على غرار رواية الإيرانية مرجان ساترابي التي حدَّثتكِ عنها وتحوَّلت إلى فيلم «برسيبوليس» الأبيض والأسود، درجات الرمادي في المشاهد الخطرة والباردة، والجوانب المظلمة من النفس البشريةَّ والسلطة… إنها تجسيد يا غزالة لحلم كلّ فنّان مهاجر… لكن دعكِ من هذا، احكِ لي أنتِ، احكِ لي عن الحمار أو القطّ الذي كانت تربّيه آسية». هكذا تبدأ طقوس الليل، تحكي كأن رفيفَ أنفاسه على رقبتها، وليس في آخر العالم».
- بأسلوبها الخاص في بلورة الشخصيات من خلال الحكايات، مثل بَلْوَرة شخصية أمّ حرير بحديث حرير وأبيها عنها.
ــ بشاعرية الأسلوب وبالأخص في حكايات الحبّ الأسير في خاتمة الرواية التي تعود بها غزالة إلى نفسها، مع استخدامها اللغة الفصحى الرشيقة وتخليلها بتفاصيل مفردات العمانية المحكيّة في السّرد، بمكانها المناسب الذي ترد به.
ــ بأسلوب التشويق الهادئ، المتجلّي خاصةً في اختفاء آسية الغريب، وتمرير ما يوحي بسبب اختفائها، من خلال سماع غزالة لصوتها في برنامج إذاعيّ تسأل فيه شيخاً عن عقاب ذنوب الطفولة، إن كانت تشمل الإنسان عندما يكبر. وإثارة مخيّلة القارئ حول هذه الذنوب، واكتشافه ربما في حرق قطّ آسية وغرق أختها زهوة بعدها، ما يولّد شغف متابعته، كما لو أن رهاناً وُضع أمامه للتأكّد من صحّة توقعه.
جوخة الحارثي: «حرير الغزالة»
دار الآداب، بيروت 2021
163 صفحة.
عن (القدس العربي)