يكتب لنا الروائي المرموق عن تلك المناضلة والمثقفة الحساسة والمهمة، التي أنهت حياتها وهو في أوج العمر، لما عانته من أوجاع الانهيار في كل ما آمنت به من قيم إنسانية وفكرية، ومن سيطرة التخلف والهوان على الواقع المحيط بها. ويكشف لنا عن بعض جوانب مسيرتها الخصبة والفريدة معا.

بعض ما يمكن قوله عن أروى صالح

بعد ربع قرن على رحيلها

محـمود الـورداني

 

مرّت الذكرى الخامسة والعشرون على رحيل أروى صالح، الفاجع، والذي أدمى قلوب الكثيرين من رفاق رحلتها الصعبة المنهكة، عن عمر يناهز السادسة والأربعين (1951–1997). والمثير للدهشة حقًا أنها ما زالت حاضرة، وما زال كتابها الوحيد الصادر في حياتها «المبتسرون»-1996، حاضرًا أيضًا ومثيرًا للجدل، بل وأصدرت منه مكتبة الأسرة طبعة شعبية، كما ترجمته للإنجليزية سماح سليم، وصدر بالفعل بمقدمة إضافية من المترجمة. وكانت أيضًا قد ترجمت كتاب توني كليف «المرأة والنضال الطبقي» وصدر في سلسلة كتاب الأهالي بعنوان مختلف هو «نقد الحركة النسوانية» على الرغم من معارضة أروى لتغيير العنوان، استجابة لوهم الناشر أن الأخير أيسر ويجذب القارئ. إلى جانب كتابها الذي أصدره أصدقاؤها بعد رحيلها «سرطان الروح» والمتضمن ما أمكن العثور عليه من أوراقها الأخيرة، علمًا بأن هناك الكثير أيضًا من أوراقها المفقودة، من بينها كتاب كامل أشارت إليه أروى، في «المبتسرون» فقدته أثناء إحدى نوبات الاكتئاب، عندما كانت في أشبيلية خلال عام 1985 على الأرجح.

لا أتذكر كيف وصلني خبر انتحارها في السابع من يونيو عام 1997، لكن ما أتذكره جيدًا ما جرى في اليوم الثاني أو الثالث لخبر رحيلها، عندما جرينا إلى مستشفى أم المصريين لنشارك في تسلّم جثمانها من المشرحة. أتذكر جيدًا أنه كان بيننا الراحلة سناء المصري، والأصدقاء عماد أبو غازي، وأظن أن هالة شكر الله وخالد جويلي ونجيب جويلي، كانوا كذلك (وأعتذر عن الذاكرة اللعينة التي اهتزت كثيرًا، ليس فقط عن نسيان بعض الأسماء التي شاركت، بل لست متأكدًا أيضًا إلا من الاسمين الأولين فقط) والآن، وبعد أن جرت في النهر كل تلك المياه، فإن كتابيّ أروى وسيرتها وسيرة جيلها، بل وسيرة الحلقة الثالثة في تاريخ المنظمات الماركسية في مصر، يمكن الاقتراب منها وتناولها وتأملها على نحو مختلف.

سأحاول في البداية أن أذكر الخطوط العريضة لسيرتها الذاتية، وهي في الواقع سيرة جيلها ورفاقها في الحركة الطلابية التي اندلعت في الجامعات المصرية في أوائل سبعينيات القرن الماضي. أظن أن معرفتي الشخصية والصداقة التي انعقدت بيننا لسنوات، سوف تكون مفيدة في هذا الخصوص، كما أن انتماءنا للمنظمة الماركسية ذاتها، وانخراطنا في صفوفها لسنوات أيضًا، سوف يكون مفيدًا في استعادتها -استعادة أروى طبعًا- بعد كل تلك السنوات. وكانت قد تعرفت منذ وقت مبكر على مجتمع المثقفين القاهريين بسبب تعلّقها المبكر بالقراءة، وقدرتها على استيعاب عشرات الكتب، ونهمها الذي لم يكن ليرتوي أبدًا بالقراءة، وأعتقد أنني رأيتها للمرة الأولى وهي في الثامنة أو التاسعة عشرة من عمرها، حيث كانت تتردد على سطح بناية ضخمة في شارع عرابي*.

أتحدث عن تلك الأيام، ثم السنوات التي أعقبت هزيمتنا المخزية في يونيو 1967. غني عن البيان أنها لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، بل هزيمة لمرحلة كاملة. هزيمة للناصرية ولمجتمع جمال عبد الناصر، ولأحلام وأوهام أجيال تلو أجيال، استيقظوا ذات صباح ليكتشفوا حجم الماكينات العملاقة التي كانت تبث كل لحظة سلسلة من الأكاذيب.

وإذا كانت الحلقة الشيوعية الثانية قد أنهت وجودها ببيانات رسمية عام 1964 بعد خمس سنوات من الاعتقال الدامي في الصحراء الغربية، فإن تأسيس منظمات جديدة كان مستحيلًا بسبب القبضة الأمنية والبوليسية المخيفة التي كانت تحكم البلاد. والمحاولة الوحيدة لتأسيس منظمة «وحدة الشيوعيين» عام 1964 ووجهت بأعنف حملة اعتقالات تخللتها وجبات تعذيب لا بأس بها، مع الأخذ في الاعتبار أن السنوات الممتدة من أواخر خمسينيات القرن الماضي، وحتى هزيمة 1967، شهدت أهم وأشمل تغييرات جذرية على مستويات متعددة، سواء في حركة التأميمات الضخمة ومعاداة الاستعمار وصفقات السلاح مع الدول الاشتراكية، أو المشروعات العملاقة مثل السد العالي والحديد والصلب .. إلخ.

تنتمي أروى صالح إذن لمجتمع جمال عبد الناصر، ولما كانت قارئة نهمة ومهتمة بالسياسة ومشغولة بالوطن، فإن تأثير هزيمة بحجم هزيمة 67 عليها كان مضاعفًا، وعندما التحقت بكلية الآداب جامعة القاهرة في أواخر ستينيات القرن المنصرم، تأثرت وشاركت، وكانت، في طليعة الصفوف عندما اندلعت أول مظاهرات سياسية ضد جمال عبد الناصر ونظامه، احتجاجًا على الأحكام الهزيلة الصادرة ضد جنرالات الطيران المسؤولين عن تدمير سلاح الطيران المصري على الأرض. وفي الوقت نفسه، كانت قد بدأت الحلقات الجنينية الأولى من المهتمين بالسياسة وشؤون الوطن، في النقاش والبحث عن حل والإجابة عن السؤال الذي اشتعل في كل الصدور: ما العمل في مواجهة هزيمة بهذا الحجم؟

وفي 8 ديسمبر 1969 تأسست حلقة خميس والبقري (استمدت اسمها من اسم عاملي كفر الدوار اللذين أعدمهما الضباط الأحرار بوصفهما من قادة إضراب قام به العمال لتحسين أجورهم قبل مرور أسبوعين على انقلاب 23 يوليو 1952). وهي نفسها التي اتسعت رويدًا وضمّت رفاقًا جدد، وأطلقت على نفسها: «التنظيم الشيوعي المصري». وفي عام 1975 كانت قد أعدّت لائحة داخلية وشكّلت بناءً تنظيميًا لا بأس به، وأعلنت نفسها بوصفها: حزب العمال الشيوعي المصري. أغلب الظن أن أروى كانت من أوائل المنضمين للتنظيم الشيوعي المصري، ولم يتعرف عليها كاتب هذه السطور – داخل صفوف الحزب – إلا بعد ذلك بسنوات، ربما عام 1977، وإن كنت أعرفها على المستوى الشخصي قبل ذلك بطبيعة الحال.

تعرضت أروى للاعتقال مرتين، الأولى في أعقاب اعتصام جامعة القاهرة الذي تم فضه بالقوة في 24 يناير 1972، والثانية عام 1973، حين أمضت عدة شهور في سجن القناطر في إحدى حملات الشتاء التي اعتادت أجهزة الأمن شنّها لسنوات طويلة ضد اليساريين. وعلى الرغم من أن والدها كان يشغل منصبًا رفيعًا، فقد كان وكيلًا لإحدى الوزارات، وهو ما كان يكفل – في ذلك الزمان – مستوى اجتماعيًا مرموقًا، إلا أنها غادرت بيت أسرتها مبكرًا، وعاشت حياة سرية كاملة كمحترفة ثورية استمرت حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ونشرت الانتفاض (المجلة العلنية للحزب) والشيوعي المصري (المجلة النظرية للحزب) مقالات عديدة باسمها الحزبي «صفاء إسماعيل علي»، والتحقت بصفوف اللجنة المركزية للحزب.

ووفقًا لملحق مجلة الشيوعي المصري (العدد 28- ديسمبر 1977) نعلم أنها نشرت ثمانية إسهامات رئيسة، من بينها رد على كتاب سيد محمد أحمد «بعد أن تسكت المدافع»، ورد مشترك مع سعيد العليمي على مقال عبد الله بشير «حلقة دعائية أم حزب شيوعي؟»، ومقال «منطق الانتفاض الثوري وتخاذل ما يسمى بمرحلة الدعاية»، ومقال «مساهمة في مناقشة التقرير التنظيمي»، وانتهاءً بمقالها «مغزى إغلاق الطليعة وروز اليوسف». ذلك بالطبع إلى جانب العديد من المقالات القصيرة تعليقًا على الأحداث الجارية نُشرت في الانتفاض. وانخرطت أروى بكل قوة، وأمضت سنوات تعيش حياة حزبية كاملة حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي، عندما بدأت الخلافات – السياسية والتنظيمية – تُطل برأسها وتنقسم اللجنة المركزية بسببها إلى أغلبية وأقلية.

ليس هنا محل الكتابة عن الخلاف العاصف الذي أودى بحياة الحزب، فضلًا عن أن المعاصرين له داخل اللجنة المركزية هم الأجدر بتوثيق النهاية، ومن المثير للغضب ألا تصدر عن الحزب أي إشارة إلى تحلله وذوبانه على هذا النحو. تركت أروى الحزب، وتركها الحزب أيضًا، وأُغلقت أبواب هذا الحزب بعد أن كان قد تحلل ودههمته ودهمت الدنيا نُذر عالم جديد، وفشل الحزب مثلما فشل اليسار في مواجهة ذلك العالم الجديد.

وبدأ البعض يبحث عن حل فردي بالسفر إلى دول البترول، أو حل داخلي في صفوف المنظمات والمكاتب عابرة الحدود. أود أن أتوقف هنا، فأنا لا أدين أحدًا، ولست من الفئة الناجية، كما أننا كنا جميعًا نعيش لحظة خاصة: لحظة الغروب والفشل وانتصار الغرب الرأسمالي، وبدايات سقوط النظم الاشتراكية. وفي منتصف الثمانينيات، غادرت أروى إلى أسبانيا دون هدف محدد، وكل ما في الأمر أنها أحبّت هذا البلد على البُعد، وكانت ترغب في الراحة والابتعاد عن كل ما يحيط بها، فقد كانت الهزيمة أقسى مما يمكنها الاحتمال لمشروع حياتها، بل ولوجودها ذاته. أمضت هناك نحو عام معتمدة على مدخرات شخصية قليلة، لكنها سقطت في النهاية فريسة إحدى نوبات الاكتئاب، وهو ما أدى إلى إعادتها إلى مصر، وتولت أسرتها علاجها.

في أواخر الثمانينيات تعافت قليلًا، وبدأت في العمل على «المبتسرون»، وقد قرأته أنا مخطوطًا. كما التحقت بالعمل مترجمة في قسم المال في جريدة العالم اليوم اليومية، التي كان يصدرها عماد الدين أديب، وهو ما وفر لها قدرًا من الأمان المادي. كذلك قسّمت الشقة التي ورثتها من أمها في حي مدينة الطلبة بينها وبين شقيقها وزوجته بعازل خشبي كئيب، فقد كانت على خلاف وقطيعة معهما. في تلك الفترة، وحتى رحيلها، كتبت الأوراق التي ضمّها أصدقاؤها في كتابها الصادر بعد رحيلها «سرطان الروح». كما تزوجت للمرة الأخيرة، وأمضت عامين أو ثلاثة بين القاهرة والإسكندرية قبل أن تنفصل عن زوجها. وبعد فترة لا بأس بها، أنهت حياتها.

تلك هي الخطوط العريضة للرحلة القصيرة التي قطعتها أروى صالح. أما كتابها «المبتسرون» فهو يتناول تجربتها وتجربة جيلها وتجربة أحد الفصائل الشيوعية الرئيسة (حزب العمال، منذ أن كان منظمة صغيرة هي التنظيم الشيوعي المصري) وينتمي إلى هذا الحد أو ذاك لـ«كتابة الاعترافات». لكنني أود أن ألفت النظر بشدة إلى ما غاب عن أغلب من تناولوه بالمناقشة، وهم كثيرون، واهتموا فقط بنقدها وجلدها للذات وقسوتها في تقييمها للتجربة.

كتاب المبتسرون الذي اعتبره كثيرون دليلًا على سقوط هذا الجيل، بل ودليلًا على «مساوئ الشيوعية» وسقوطها الأخلاقي، يتضمن مقدمة لا بد منها عن «الكيتش» النضالي، مستعيرة تعبير الروائي التشيكي، ميلان كونديرا، الذي استخدمه في روايته «كائن لاتحتمل خفته»، إلى جانب ثلاثة فصول قصيرة: «المثقف متشائمًا»، «مصائر جيل الحركة الطلابية»، والثالث «المثقف عاشقًا»، وخطابين شخصيين اعتبرتهما ملحقًا، وختامًا أخيرًا اعتبرته تذييلًا عنوانه «ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين».

أما ما غاب عن التعليقات والكتابات والمختلفة فهو أن جوهر الموقف السياسي والفكري للكاتبة الانحياز للماركسية، وكتبت بالنص «أنا مؤمنة إيمانا عميقا بصحة الماركسية وبصحة مواقفها إجمالًا في الحياة وفي الفن كمان». وأضافت «وبنفس القدر عندي استعداد كامل لمراجعة أي فكرة فيها لارتكاب هذا المروق الأيديولوجي. خلاص ماباكُلش من الإرهاب «الديني» بتاع المتشيعين اليساريين اللي جهلهم بالماركسية يعادل جهلهم بالحياة». جوهر الموقف أيضًا هو الإدانة الكاملة والقطيعة مع الناصرية، وتبني موقف حاسم تجاه الطبقة الحاكمة التي حكمت البلاد من خلال انقلاب يوليو العسكري. ليست لديها أية أوهام تجاه أمر كهذا. كما أنها ليست لديها أية أوهام تجاه السادات وحرب أكتوبر التي اعتبرت نتائجها استسلامًا كاملًا أمام أمريكا وإسرائيل.

جوهر الموقف هو اتفاقها الكامل مع تحليل حزب العمال، فيما يتعلق بالقضية الوطنية على سبيل المثال. لم تخن أروى ما سبق أن كتبته هي تحت اسم صفاء إسماعيل علي (اسمها الحزبي) حول هذه القضية أو تلك. صحيح أنها تدين جوانب محددة في التجربة، مثل اغتراب المناضلين عن واقعهم وعن الناس الذين يدافعون عنهم. تدين رفاقها في التنظيم، وتدين نفسها، فهم «لا يتحدثون فيما يتحدث فيه الناس»، هم يعيشون «عالم وهمي فيه تراتبية وقسمة غير عادلة بين المؤلفين وغير المؤلفين». تدين ممارسات معينة في التنظيم، وانتبهت مبكرًا لأمراض العزلة وانفضاض الجمهور عن هؤلاء «القادة الصغار» الذين سبق أن استُقبلوا بحفاوة غير مسبوقة. ربما غاب عنها أن الكوكب بكامله، وليس مصر وحدها، بدأ يتجه نحو التخلي عن كل ما حققته الإنسانية طوال القرن.

فالإرهاب الدولي، سواء كان إرهاب الرأسمالية العالمية التي أسقطت النظم الاشتراكية (ناهيك عن أن الأخيرة كانت قد ارتكبت في حق شعوبها جرائم وكان لا بد من سقوطها) أو إرهاب الإسلام السياسي المتحالف مع النظم الرأسمالية. وفي مصر على سبيل المثال، كان السادات يفرّط في كل شيء، وعلى استعداد كامل لتنفيذ كل الأوامر الإسرائيلية والأمريكية، في ظل هوس جنوني بالبحث عن أي فرصة للحصول على أي مكسب، والملايين يسافرون إلى بلاد النفط، والتخلي والتفريط في كل ما كان قد تحقق من استقلال نسبي. بل صدرت قوانين باستعادة الإقطاعيين للأرض الزراعية التي كان حكام يوليو قد أمموها لصالح الفلاحين. وغيرها وغيرها، مثل قوانين الانفتاح الاقتصادي، والاستثمار الأجنبي، مع تمثيليات قصيرة لأحزاب ورقية يتم السماح بها لتجميل وجه النظام .. وغيرها وغيرها.

كان هناك واقع جديد تم فرضه، وانعكس بالطبع على المنظمات الماركسية التي كانت عاجزة عن استعادة علاقتها بالواقع، وتعيش أسوأ الظروف المادية (وقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يلمس هذا بنفسه) وأدت كل تلك الظروف إلى أزمة خانقة تبعها الانقسام بين الأغلبية والأقلية، ثم تحول الأقلية إلى أغلبية والعكس، دون أن ندري حول أي شيء يدور الصراع تحديدًا، وما لبث الحزب أن انفرط وذاب. وهكذا يجب النظر إلى تجربة أروى صالح في سياق معين، يضع في اعتباره كل تلك الأمور والعوامل المتشابكة.

أود في النهاية أن أشير إلى كتابها «سرطان الروح» الذي أصدره أصدقاؤها بعد رحيلها. وباستثناء دراسة طويلة عن روايات صُنع الله ابراهيم تبدو مكتملة ومكتوبة على الآلة الكاتبة، وإن كانت لم تُنشر نشرًا ورقيًا، فإن الأوراق الباقية غير مكتملة. هناك مثلًا، وتحت عنوان «تمشية» (بتاريخ 24 ديسمبر 1995) نعرف أن هناك كتابًا كانت قد شرعت في كتابته بالفعل أثناء رحلتها لأسبانيا، ثم فقدته بعد أن داهمتها إحدى نوبات الاكتئاب، وهي تهُديه إلى´كل المترددين على العيادات النفسية. «ناسي»، أي ناس أروى وأهلها ومشاركيها في المحنة من المرضى. كما نعرف أيضًا أنها اضطرت لإحراق مذكراتها الشخصية وهي طالبة بالجامعة، خوفًا من وقوعها في يد البوليس، وهو ما لم تغفره لنفسها أبدًا.

نعرف أيضًا أنها أعادت اكتشاف «التمشية» في أسبانيا، وتعترف للمرة الأولى، كتبت: «كلا لم يكن الحزب وحده هو الذي جرؤت على كراهيته لأول مرة هناك، بل المثقف بإطلاقه، المثقفون بكل أصنافهم». ونعرف أيضًا – وهذه بالنسبة لي معلومة جديدة لم أنتبه إليها من قبل – هنا مرضت بالاكتئاب للمرة الأولى بعد هجر الحزب مباشرة. كما تكشف عن إحدى محاولاتها للانتحار ذات نهار قائظ عام 1985. اتخذت قرارها قبل أن تغادر عملها، ووزعت النقود التي معها على السُعاة، واتجهت إلى كوبري أكتوبر. ولما كانت لا تعرف العوم، فإنها اطمأنت لنجاح المحاولة. كتبت: «مشيت بهدوء نحو كوبري أكتوبر. قفزت بكامل عليّ، الجزمة، وشنطة يدي الفارغة، وساعتي. وبفعل الارتفاع الذي قفزت منه غُصت فورًا .. بعيدًا جدًا .. تحت .. أذكر إحساسًا بالدهشة وعيناي المفتوحتان تستقبلهما مياه فوجئت أن لونها أخضر داكنًا وليس بُنيًا كما يبدو من فوق».

وتضيف: «غير أني فوجئت بجسدي يصعد للسطح ثانية! وحين بلغته، كلما حاولت إنزال رجلي صعدت رأسي، وكذلك العكس. وفقد فردة جزمتي المخرمة المفضلة لدي في هذا العراك، ثم سقط شيء ثقيل بجانبي، كان شابًا مجندًا عريض الوجه والكتفين يحمل طوق نجاة خشبي، لا أدري كيف حصل عليه في مكان كهذا. وأذكر أنه أعطاني انطباعًا بالغلظة، بل بشيء كالغضب في تعبير وجهه وهو يجذبني من ذراعي بعنف، ليلبسني طوق النجاة. قلت له: «غرّقني». وأصرّ هو على اصطحابها إلى قسم الشرطة بالطبع. وهنا تضيف «عرفت من تحقيق ضابط القسم أن الانتحار جريمة في حق الدولة أيضًا».

كذلك تتضمن الأوراق تحت عنوان «بورتريهات» ورقتين غير مكتملتين، ويبدو أنها كانت تحاول كتابة بورتريهات لشخصيات عرفتها لكنها لم تكتمل. وتحت عنوان «البيتلز» كتبت سطورًا قليلة مبتورة عن فتاها الأول، وسوف تمضي أعوام طويلة قبل أن تكشف الكاتبة أمينة النقاش عن سر تأخر أروي كل تلك السنوات الطويلة، حسبما ورد أخيرًا على موقع الكتابة الثقافي، وهو ما سوف أعود إليه لاحقًا. كتبت أمينة النقاش عن حكاية قديمة جدًا عاشتها. فعندما كانت أروى في عامها الأول في كلية الآداب، تعرّفت على شقيق أمينة، بهاء النقاش، الذي كان مونتيرًا سينمائيًا وأستاذًا للمونتاج بمعهد السينما.

أحب كل منهما الآخر، واصطحبها إلى البيت وتعرّفت على أسرته، وكان مفهومًا أنهما على وشك الزواج، بل وكان هناك ما يشبه الاتفاق أنهما سيعيشان مع الأسرة، بعد إخلاء إحدى حجرات الشقة. كانت علاقة أروى بالأسرة، وعلى الأخص أمينة، أكثر من دافئة. وبينما كانت أروي قد طالها وهج الاحتجاج والرفض للمجتمع والسلطة، كان بهاء على العكس، لا علاقة له بكل ذلك، ولا يهتم إلا بالمسرح، ومع ذلك ربط الحب بينهما لعدة أشهر. وفجأة هجرته أروى دون إبداء أسباب، وهو ما أصابه بحالة من الحزن الشديد، وامتنع عن الكلام، ثم مات في حادث سير وهو دون الثلاثين.

وتواصل أمينة أن سنوات طويلة مرّت بعد ذلك حتى التقيا بالمصادفة. استعادا معًا صداقتهما، ولم تشر أي منهما لما جرى قبل ذلك، حتى أصدرت أروى كتابها المبتسرون، وبادرت بترك نسخة من كتابها في مكتب أمينة مصحوبة بالرسالة التالية في أبريل 1996، أي بعد 15 عامًا من انفصالها عن بهاء، وهي الرسالة التي لم تكشف عنها أمينة إلا بعد 25 عامًا من إرسالها:

«اسمحي لي إني أخفف عن نفسي بأن أعتذر لك .. أعتذر لك انتي. لمّا سبْتْ بهاء يا أمينة ماكنتش عارفة باسيبه ليه. كل ما كنت أدركه إني عاجزة عن الحب ولا أدري لماذا، وتكررت القصة دي بحذافيرها في كل علاقة لاحقة، ولم يُحل اللغز إلا بعد أن بلغت الثامنة والثلاثين، حين استطعت أن أحب لأول مرة .. لم تكن المعجزة تخص الحبيب، بالعكس، في كل خطوة خطوتها في حياتي الشخصية كنت أدرك صراحة أو ضمنًا أن بهاء كان أقرب إنسان إليّ. ماكانتش معجزة، إنما كان الجانب الهش في تكويني النفسي – إلى حد خطر – اللي بيبحث طول الوقت عن أمان استثنائي لا يستطيع أن يوفره أي إنسان في الواقع. لأن الثقب كان في الداخل وعميق جدًا.

الجانب ده كان قطع رحلة الضعف للنهاية – عبر بهدلة لا إنسانية في الحزب – حتى المرض والانتحار إلى آخره، واتعلّمتْ جوّه الرحلة دي أصفح عن جروحي القديمة، واتقبل نفسي كما هي، وأن الحل الفعلي الوحيد لثقب عدم الأمان القديم هو إني أعطي أنا نفسي. فقط لما وصلت للنقطة دي، عرفت أحب، لكن في الحقيقة ماكانش فيه ناس كتير يستاهلوا. اللي كان نفسي أقوله لبهاء. سامحني، ولو أقول الكلمة ونمشي كل واحد في طريق تاني. بس يعرف إني قطعت رحلة عمري العصيبة باحثة بالذات عن الحب بكل أشكاله، لكي أعرف مرة تلو أخرى أنه كان رجلي».

تلك هي أروى صالح التي غابت عنا طويلًا، ويحق لها أن نتذكرها ولا ننساها.

هوامش:

* أشرت إلى تلك البناية وما شاهدته وعشته فيها في كتابي«الإمساك بالقمر.. فصول من سيرة زماننا» الذي أصدرته دار الشروق العام الماضي، حيث كان يسكن في غرفها المتلاصقة مجموعة من الكتاب والفنانين من بينهم نجيب شهاب الدين وجودة خليفة وعبد السلام رضوان وغيرهم، وكانوا يعقدون مايشبه الندوة الدائمة المفتوحة لمن يحضرها.