"أن تترجم بعيون الآخر" عنوان أحدث كتب المنظر والمترجم الإيطالي "ستيفانو أردويني" أستاذ علم اللغة في جامعة روما "لينك كامبوس". يقدم أردويني في كتابه خلاصة خبرته العلمية والعملية على مدار عدة عقود من الدراسة والتدريس في العديد من الجامعات حول العالم وخاصة معهد "نايدا" لدراسات الترجمة في نيويورك. وتنطلق نظريته في الترجمة من رؤيته لفعل الترجمة كلقاء مع الآخر، أيًا كان هذا الآخر: نصًا، أم شخصًا، أم ثقافة كاملة. وقد جاء كتاب أردويني في فصول عشرة تنطلق من تحليل مفهوم الآخر/ الغير في مختلف الثقافات واللغات لاسيما في اللغتين اللاتينية واليونانية القديمة، حيث تمثل ثيمة الغيرية والعلاقة مع الآخر أحد أركان نظريات الترجمة الحديثة.
يبدأ أردويني بشرح مفهوم الآخر في اللغة اللاتينية والذي يحمل دلالتين متباينتين: الآخر (alter) وهو أحد متقابلين، والغير (alius) أي كل ما يختلف اختلاف تفاوت عن أفراد نوعه. يعتمد أردويني في تحليله لمفهوم الآخر على دراسات إميل بينفيسنت حول الجذور اللغوية للكلمات التي تعبر عن علاقة الإنسان مع الآخر. والتي توصلت إلى أن هناك جذور مشتركة للكلمات اللاتينية التي تعبر عن الضيافة والعداوة، مثل hostis وhospes. فالأولى كانت تعنى في البداية "غريب" أي شخص غريب يأتي إلينا ونستقبله. وبعد أن أصبح للرومان أمة وامبراطورية، أصبحت كلمة "غريب" تدل على من لا ينتمي إلى مجتمع الأمة ويأتي من خارج أسوارها، فتغير معنى hostis إلى "عدو"، وظهرت كلمة جديدة hospes لتحمل المعنى الذي كانت تؤديه كلمة hostis قبل أن يتبدل معناها، وهو الغريب الذي نرحب به بالرغم من أنه يأتي من خارج مجتمعنا. ويستمر أردويني في تقديم أمثلة أخرى من اللاتينية وكذلك من اللغة اليونانية القديمة ليبلور مفهوم الآخر لدى القدماء. لينتقل أردويني بعد ذلك إلى أهمية اللغة والكلام كوسائل للتواصل مع الآخر، فاللغة "بمثابة استضافة لعبارة الآخر – تعبيره وعبوره – والترحيب به".
فالكلام يجعلنا نقف على مسافة من ذواتنا، نتحرر من تمركزنا حول الذات ونتحرك باتجاه الآخر حتى نفهمه وحتى نتقبل اختلافه عنا، لنتجاوز في النهاية حدود "أنانا". ويستوحي أردويني هذه الفكرة من مفكر آخر هو، Lèvinas، الذي يرى أن روح اللغة هي نسيج من الضيافة والصداقة.
من هنا يربط أردويني بين فعل الترجمة، أي علاقة النص المنقول منه مع النص المنقول إليه، وبين علاقة الإنسان مع الآخر، حيث تتشابه الآلية التي نقيم بها علاقة مع الآخر مع تلك التي نقيمها مع نص مكتوب بلغة غريبة. فقد نتبنى منهج الاحتواء (annexation) حيث "تبتلع" الثقافة المنقول إليها النص الأصلي، حتى يختفي أصله الغريب ويبدو وكأنه كُتب باللغة المنقول إليها. وهو نفس المنهج الذي قد يجعلنا نضم الآخر إلى مجتمعنا وعالمنا في محاولة أن نجعله مثلنا وأن نُقَنِّع أصله المختلف عنا.
أو قد نتبنى منهج اللامركزية (decentralization)، بمعنى أن تتحرك الثقافة المنقول إليها باتجاه الثقافة المنقول منها لتقف على مسافة منها تسمح برؤية واضحة لكل الاختلافات التي تتميز بها الثقافة المنقول منها، لا سيما ما لا يمكن ترجمته منها (untranslatables)". وتبعًا لهذا المنهج تتأقلم اللغة المنقول إليها مع خصائص اللغة المنقول منها. ويقارن أردويني عملية الذهاب تجاه الآخر/الغير برحلة النبي إبراهيم الذي يرحل إلى أرض موعودة لكنها مجهولة. فهو يذهب تجاه هدفه دون أن يعرف شيئًا عنه، أو متى سيصل إليه أو متى سيعود إلى موطنه مرة أخرى. ويمثِّل أردويني لهذه العملية بقصة أخرى من حياة النبي إبراهيم في سفر التكوين، وهي قصة لقاء النبي إبراهيم بثلاثة زوار مجهولين يأتون إليه، فيرحب بهم إبراهيم ويقدم لهم الطعام والشراب، دون أن يعرف شيئًا عنهم، في هذه القصة نرى إبراهيم وهو يبتعد عن منزله ويذهب تجاه الآخر ليرحب به ببادرة من الضيافة والصداقة والاستعداد لترك موطنه ومكانه الآمن والذهاب إلى الآخر المجهول. إنه مثل المترجم الذي يقرر أن يقرب اللغة المنقول إليها من اللغة المنقول منها دون أن يعرف إلامَ سيصل، هل سينجح؟ هل سيفشل؟ لا يهمه الأمر، إنه يخوض رحلة الترجمة دون خوف من أجل متعة الاكتشاف بروح الضيافة والصداقة.
والمحور الثاني الذي يناقشه أردويني في نظرية اللغة والترجمة هو مفهوم الحدود. ويستخدم أردويني أمثلة من الأدب اليوناني القديم مرة أخرى ليوضح نظريته حيث لا تمنعنا الحدود من الوصول إلى شيء بل تجعلنا نستوعب طبيعتنا الحقيقية أكثر، لأننا عندما نكتشف الحدود بيننا وبينا الآخر الغريب عنا نعرف من نحن وما هي حدود هويتنا الحقيقة، وفي نفس الوقت تدفعنا تلك الحدود إلى تجاوز محدوديتنا، وبالتالي إلى معرفة ما لا نعرفه وفهم ما لا نفهمه، مما يوسع حدود معرفتنا ويثري هويتنا.
ثم ينتقل الكتاب إلى محاولة تقديم تعريف لفعل الترجمة ويفتتح الكاتب الفصل الثالث بمقولة إننا "كائنات تُترجم باستمرار" وأن فعل الترجمة هو تجربة ترافقنا طوال وجودنا. ويبني أردويني فكرته على آراء "بول ريكور" (Paul Ricoeur) الذي يقول إننا غارقون في الترجمات؛ الترجمات بين اللغات المختلفة أو بين التعبيرات المختلفة داخل نفس اللغة. وبذلك نعيش في حالة اجتهاد مستمر لنقل أفكارنا ولاستيعاب أفكار الآخرين، في محاولة مستمرة لننتصر على الشعور بالغيرية التي تفصلنا عن العالم وعن الآخر. دائمًا نحاول أن نفهم ما لا نفهمه وأن نقبل ما يبدو لنا - في الوهلة الأولى - غير مقبول أو غير مفهوم. ودائمًا نواجه نفس المعضلة: هل نقترب مما لا نفهمه، أم نفرّ منه؟ إذًا، الترجمة هي التجربة التي تعكس طبيعتنا الإنسانية بالكامل وتكشف لنا من نحن حقًا. ودعمًا لهذا الفكرة يستعين أردويني بمقولة هايدجر "قل لي كيف ترى الترجمة، وسأقول لك من أنت". حيث تأتي الترجمة لتجعل الإنسان يقبل الآخر ويتمسك في الوقت نفسه بهويته أكثر. ونجد في الترجمة تلبية لحاجتنا في تحديد ماهيتنا من خلال تحديد علاقتنا مع الآخر، وهي علاقة لا تنفي الآخر، لا تفر منه، بل تستوعبه كضيف وكصديق.
وكما حدث في حكاية النبي إبراهيم، نبتعد عن مركزنا للذهاب إلى الآخر المجهول، حيث نتجه باستمرار نحو الآخر أو لغة الآخر، دون أن نعرف بالضبط لأين سنصل، وإلى ماذا سنصل، وهل سنعود؟ هذه الرحلة بعيدًا عن "أنانا" ستغيرنا. بعد لقائنا مع الآخر، لن نبقى كما كنا، حتمًا سنفقد شيئًا مما كنا عليه، وكذلك بعد نقل رسالة من لغة إلى لغة سنفقد بالضرورة شيئًا من النص الأصلي، وهذا أمر معروف. فالترجمة - كالعلاقة مع الآخر - تأتي دائمًا بخسائر. نترجم ونحن مدركون بأننا سنفقد شيئًا من النص الأصلي. ومن هنا يأتي حزن المترجم وشجنه لأنه لا يستطيع أن ينقل كل شيء للغة المنقول إليها. ومرة أخرى، يفسر أردويني هذا الجانب من الترجمة عبر تحليل العلاقة مع الآخر، ويقارن الحزن الناتج عن فقدان عناصر من النص الأصلي بالحزن الناتج عن فقدان الآخر بعد أن تعلقنا به، ويشبهه بالحزن الذي نشعر به بعد موت الأعزاء. وفي شرحه لرؤيته حزن المترجم لفقدان المعنى الأصلي يستعين أردويني مرة أخرى بأمثلة متعلقة بعلاقة الإنسان مع الآخر، ويستعين بأفكار "سيغموند فرويد" حول معالجة الأثر النفسي الناتج عن فقدان الأشخاص الأعزاء في حياتنا، وخاصة فكرة "معالجة الحداد" (trauerarbeit ) وهي طريقة لمواجهة الخسارة والمضي قدمًا بعد فقدان شخص عزيز. عندما نفقد شخصًا عزيزًا يجب أن نقبل الخسارة وننظر إلى ما تبقى حولنا من حياة، علينا ننقل شغفنا بالشخص المفقود إلى ما نجده أمامنا بعد اختفاء ذلك الشخص. كذلك أثناء الترجمة، على المترجم أن يعالج "حداده" الناتج عن وعيه بأنه سيفقد شيئًا من النص الأصلي، عليه أن يقبل أنه لن يحصل على الترجمة الكاملة، ويفهم أن تلك الخسارة تترك له فرصة لإعادة كتابة النص، لأن كل ترجمة هي إعادة كتابة وإبداع محتوى جديد يأتي من ثقافة غريبة إلى الثقافة المنقول إليها. فقط عندما يقبل المترجم هذه الخسارة الحتمية ويقبل تحدي إعادة كتابة النص، سيتمكن حقًا من ترجمة النص/اللغة/الثقافة. وبنفس الطريقة، فقط عندما نقبل فقدان شخص عزيز ونقبل تحدي مستقبل علاقاتنا مع الواقع المتبقي بعد هذا الفقدان، نستطيع أن نتجاوز الخسارة ونخلق علاقات جديدة مع الآخرين. بهذا أصبح المترجم شخصية رمزية للواقع الحالي ولثقافة العصر الحالي بتعدديتها وتعدد لغاتها، لأن المترجم نموذج لكل العلاقات، فهو يقبل كل ما هو غريب عنه كأنه صديق وضيف، يستوعب اختلافه ويستضيف ذلك الاختلاف دون إلغائه أو إنكاره. وهذا هو واجب الإنسانية اليوم. فقد أصبحت الترجمة مهمة اليوم لأنها تذكرنا بهشاشتنا وبهشاشة الوسائل التي نبني بها هويتنا الفردية والجماعية وعلاقتنا مع الآخر. فهي تجعلنا نواجه ارتباكنا وترددنا عندما نضطر أن نتحاور مع شخص غريب. وبالتالي يمكننا أن ننظر إلى الترجمة كفعل تربوي لأنها تقرب القارئ الأجنبي من المؤلف والعكس، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا كان هناك استعداد للصداقة والضيافة. وهنا يستعين أردويني بعبارة "بول ريكور" وهي "الضيافة اللغوية". إذا تربينا على الضيافة اللغوية، فسوف نتعامل مع كل أنواع العلاقات بنفس روح الضيافة.
يطور أردويني نظيرته عن الترجمة في الفصول اللاحقة عبر تحليل تاريخ بعض الكلمات ليثبت كيف أثرت الترجمة على تشكيل كلمات وأفكار ومبادئ جديدة غيرت الإنسانية ورؤيتها عن الواقع. ومن بين هذه الكلمات: الحقيقة، الكذب، الحب، الجمال. ويدرس تاريخ هذه الكلمات في الثقافة الغربية القديمة وخاصة في الثقافة اليونانية والثقافة اللاتينية، ويستعين في الكثير من الأحيان أيضًا من اللغة العبرية القديمة، لأن معظم الأمثلة التي يطرحها مأخوذة من النصوص المقدسة المسيحية واليهودية. ثم يأتي الفصل الأخير الذي يجمع مرة أخرى بين نظرية المعرفة ونظرية الترجمة من خلال التأمل في "مستحيلات الترجمة " (untranslatables) وهو عنوان الفصل الأخير من الكتاب
ينبع تفسير أردويني لمستحيلات الترجمة من مفارقة اللغة: ملكة واحدة تجمع البشر، ولكنها تتعدد وتختلف كثيرًا من شعب إلى آخر. فكيف يمكن لنفس الظاهرة أن تكون كونية ومحلية في نفس الوقت؟ ويذكر أردويني أنه في نهاية القرن الثامن عشر، عندما نشأ علم اللغة، استخدم عالم اللغة "ويلهلم فون هومبولدت" هذه المفارقة لتطوير نظريته الخاصة عن فلسفة اللغة: لماذا تتعدد اللغات؟ يجيب هومبلدت إن الطريقة المثلى لفهم ماهية اللغة هي النظر إلى كل لغة وكأنها شظية من اللغة الكونية.
وتعمق "نعوم تشومسكي" في هذه المفارقة ورد على نفس السؤال بنظرية النحو الكلي، التي تقول إن الملكة اللغوية صفة مشتركة بين كل البشر، وبالتالي فإن مخ الإنسان مبرمج مسبقًا على تعلم اللغة.
وهناك جانب آخر من نظرية هومبلدت يقول إن الشيء الذي يستطيع أن يجمع كل اللغات هو الترجمة. فالترجمة تسمح لنا بخلق العلاقة بين أشكال مختلفة من البشرية، فهي بمثابة لقاء يخلق معرفة جديدة بين مجهولين. إذًا الترجمة فعل يتوجب علينا القيام به، لأن الترجمة تلبي احتياجنا لصنع العلاقات. يستعين أردويني أيضًا بعبارة "فالتر بنيامن" التي تقول إن اللغات مجتمعة تشبه منشور متعدد الوجوه، يُظهِر كل وجه منه العالم من منظور مختلف أو بلون مختلف. وكل لغة ترى الواقع بشكل مختلف، وبالتالي تعدد اللغات يمنحنا رؤى مختلفة للواقع، وبالتالي يثري فهمنا. يتناول أردويني أيضًا فكرة هومبولدت التي تفترض أن اللغة تعطي العالم بنيته، فالعالم يتشكل فقط عندما يرتب العقل الواقع في عبارة لفظية، فالعبارة اللفظية تجعلنا نتصور الأشياء دون أن نلمسها. وبهذا تشكل اللغة الأفكار وتخرجها في صوت وصورة. والعكس صحيح، إذن لا توجد لغة دون فكر ولا يوجد فكر دون لغة. وهذا ما يجعل ظاهرة اللغة ظاهرة كونية تجمع الإنسانية. ولغة كل إنسان تشكل رؤيته الخاصة للعالم ولذلك يكون فعل الترجمة بالغ الصعوبة لأنه لا يمكن لأية عبارة أن تجد ترجمة كاملة في أي لغة. إذًا لماذا نترجم؟ يجيب هومبولدت قائلًا إن الترجمة - خاصة ترجمة الشعر - أحد أهم واجبات الأدب، لأن الترجمة توفر أساليب فنية جديدة ورؤى جديدة عن الإنسانية، وإن لم يحدث ذلك لبقيت تلك الأساليب والرؤى مجهولة لمن لا يعرف اللغة التي جاءت منها، وبالتالي تثري الترجمة قدرة اللغات على التعبير. نترجم لأن الترجمة مرتبطة بالهوية، نترجم لأن إنسانيتنا تحتاج للترجمة، نترجم بالرغم من كل الصعوبات ومستحيلات الترجمة، نترجم لأنه لابد لنا أن نترجم. وليست "مستحيلات الترجمة" مجرد تعبيرات غير قابل للنقل، إنها تعبيرات عن الاختلاف الذي يدفعنا إلى تجديد لغتنا وإبداع كلمات جديدة وإدخال أفكار جديدة في لغتنا وهويتنا. في هذا الصدد يعيد أردويني تفسير قصة برج بابل، مستعينًا بأفكار "بول ريكور"، ويكتب أن أحداث بابل لم تأتِ عقابًا للإنسانية، بل نعمة لها، فقد أصبحت بابل نقطة انطلاق الاختلافات التي شكلت الشعوب والفكر الإنساني. وتاريخ الإنسانية هو تاريخ اختلافاتها، لأن الإنسانية تقدمت بفضل هذه الاختلافات بين الشعوب، وإذا ما خضعت اللغات والثقافات إلى اللقاء/الصدام مع الآخر، لما تطورت، بل لعجزت وماتت. كانت بابل فرصة، لأن تعدد اللغات فرصة لتعدد الرؤى ولتوسع المعرفة ولفتح آفاق جديدة.
ابتكارات اللغة
يقول القديس توما الأكويني: "إن العين لا ترى ذاتها وإنما تدرك ذاتها من خلال فعلها"، الشيء نفسه يحدث للإنسان؛ فالإنسان يدرك ذاته من خلال أفعاله، ومن أكثر الأفعال التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، فعل اللغة. وترتبط قضايا اللغة مع قضايا الترجمة فالترجمة هي فن نقل الأفكار من لغة لأخرى.
وبالرغم من أن الترجمة تقوم على هذه المفارقة الكبيرة بين إرادة نقل الأفكار والخوف من خيانتها، إلا أن اللغة أيضًا تقوم على المفارقة الكبيرة التي سبق الإشارة إليها، وهي أن اللغة صفة مشتركة بين كل البشر، لأننا جميعنا نتكلم، ولكنها تجمعنا وتبعدنا في آن واحد، لأن لغاتنا كثيرة ومختلفة، وهذا يجعل التواصل المباشر بين البشر شبه مستحيل في بعض الأحيان. وهنا يأتي دور الترجمة كتجربة عجيبة تجعل المستحيل ممكنًا وتحل إشكالية التواصل بين متحدثي مختلف اللغات.
ومن خلال الترجمة بوصفها لقاءً مع الآخر تولَد الكلمات الجديدة والمعرفة الجديدة. لأن ترجمة الكلمة من لغة إلى أخرى هي بمثابة إبداع فكرة جديدة لم تكن موجودة من قبل لا في اللغة المنقول إليها ولا في اللغة المنقول منها. فعندما نلتقي بكلمة مجهولة نكتشف أن لدينا نقص، وأننا لقراءة وفهم تلك الكلمة في سياق الواقع نحتاج إلى مساعدة الآخر.
نفس الشيء يحدث مع اللغات. فقط عندما نتعرض للغرابة (estraneità) التي تفرضها علينا اللغات الأخرى، نستطيع أن نفهم أن تلك الغرابة قد تصبح ثراء، فعلى الأنا أن تنفتح على الآخر حتى تتمكن من قراءة الواقع. عندها فقط سنشعر أننا قادرون على تجاوز محدوديتنا. الترجمة إذن خبرة، وليست ممارسة. إنها تجربة معرفية تتناقض مع فكرة أن هناك معاني ثابتة، لأن المعاني تتغير وتتطور باستمرار.
اليوم توجد أفكار كثيرة حول الترجمة تشير إلى التساوي، الوفاء، الحفاظ على المعنى الأصلي. ولكن كل هذه الاعتقادات تعود إلى وجهتي نظر خاطئتين. تنظر أولاهما إلى المعنى كأنه شيء يمكن نقله كما هو، ولكن بـ"زي" مختلف. وقد نفى الكثير من الفلاسفة هذه الفكرة، ويكفي أن نفكر بأن الترجمة تتطلب تغيير نظام القواعد اللغوية، وتغيير نظام الإشارات الدلالية، وبالتالي - وبالضرورة - ستغير المعنى الأصلي. ووجهة النظر المخطئة الثانية قائمة على فكرة أن أي لقاء مع الغريب ينبع من ذاتنا، نستطيع أن نقترب من الآخر، وأن نفهمه ونتعرف عليه، فقط لو تملكناه. وبهذا لا نعترف بالمسافة غير القابلة للتقصير التي تفصلنا عن الآخر. من هذا المنظور، إما أن نرفض طبيعة الآخر لأنها بعيدة جدًا عنا ولا يمكن أن نقبلها، أو نقربها منا حتى ينمحي ما يفصلنا عن الآخر لنتطابق معه. في سياق الترجمة، يؤدي هذا التفكير إلى رفض النص الغريب أو إلى دمجه في اللغة المنقول إليها حتى تختفي غيرية النص الأصلي ويبدو النص المترجَم نصًا أصليًا. وهنا طرح أردويني الترجمة بصورة أخرى، وهي الصورة التي قدمها أيضًا في الفصل الأول من كتابه. وهي صورة الترجمة كلقاء مع الآخر، ولكنه يضيف تفسيرًا جديدًا لهذه الرؤية حيث تحدث عن تشارك المصير مع الآخر. يشاركنا الآخر مصيرنا وهو الغيرية والغرابة. نحن أيضًا، مثل الآخر، كنا غرباء في مكان ما أمام آخرين. وإدراكنا بتشابه مصيرنا مع مصير الآخر يمكّننا من إيجاد مساحة للآخر داخل أنفسنا. وعندما نفكر في الآخر بهذه الطريقة، نعطيه معنىً حقيقيًا. ففي الآخر شيء يقلقنا ويزعجنا وكأنه حاجز يعرقل وجودنا في الدنيا، ولا بد أن نعترف بذلك. وهنا يستشهد أردويني بمقولة وائل فاروق، أستاذ اللغة العربية والأدب العربي في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو: "ليس هناك جسور نعبرها لنتجاوز اختلافاتنا، لأن اختلافاتنا نفسها هي الجسور" بيننا وبين الآخر مسافة وإرادة لتجاوز تلك المسافة، نختلف عن الآخر كما يختلف الآخر عنا، إذ نحن والآخر متساوون في الاختلاف، وحالة الاختلاف والغيرية تجمعنا لأن كل منا ليس إلا غريب في عين آخر .
يستشهد أردويني بنص من التوراة، في سفر اللاويين 19, 34 يقول: " كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ." يفسر "أردويني " هذه الآية قائلا إن "الغريب" الذي يسكن مع اليهود هو مثل اليهود، لأنهم أيضًا كانوا غرباء في مصر. ومحبة الآخر نتاج المشاركة في الشعور بالغربة، وهذه الغربة المشتركة هي أساس التضامن.
في الإنجيل نقرأ "أحبّ قريبك كنفسك"، وفقًا لإنجيل لوقا أن هذه الوصية جاءت ردًا على سؤال أحد الكتبة عن كيفية الفوز بالحياة الأبدية، وبعد سماع وصية المسيح يسأل الكاتب سؤالًا آخرًا عن معنى كلمة "قريب"، وهنا يأتي مَثَل السامري الصالح شرحًا لوصية الحب ولكلمة "قريب". فان جوخ أيضًا رد على هذا السؤل في ١٨٩٠ في إحدى لوحاته التي رسم فيها السامري الصالح حاملًا آلام قريبه الغريب عنه على أكتافه دون أن يتساءل عن معنى الحب وعن معنى القريب. فهو يمر بتجربة الحب للقريب بعفوية ويفعل ذلك بصرف النظر عن احتقار اليهود لشعب السامري. فالسامري غريب أمام اليهودي، ولكنه يقترب منه ويصبح هو أيضًا القريب الغريب أو الغريب القريب.
وعلى خلاف الكاهن واللاوي اللذين مرا بالرجل اليهودي الملقى على الأرض شبه عارٍ وعلى وشك الموت، ولم يكترث لمصيره، يقف السامري ويعتني باليهودي ويتعرف ألمه ويتحمله معه، لأن السامري يرى نفسه في وجه الآخر المتألم المهجور.
ويرى أنه كان غريبًا وحيدًا مثل ذلك اليهودي الملقى في الطريق. ولذلك يقترب منه.
وختم أردويني محاضرته قائلًا إن الاعتراف بأن بيننا مصير مشترك هو ما يدفعنا إلى "الضيافة اللغوية" التي تمثل نموذجًا لأي نوع آخر من الضيافة. نحن نختلف في كل شيء إلا في أننا جميعًا كنا غرباء في مكان ما. لذلك نترجم، لأن في الترجمة نعطي معنًا لغرابتنا، وبهذا ندرك استحالة إيجاد أي نقطة التقاء مع أحد، إن لم نعترف أولًا بغربتنا. هذا هو السبب العميق لخوضنا غمار الترجمة، وبالرغم من عبثية الترجمة وإدراكنا بأنه جهدٌ لن يؤدي أبدًا إلى نتيجة مثالية، إلا أن هذا الفعل العبثي والجنوني يعطي معنى لكل ما نفعله.