تشكل هذه الرواية أحد المنعطفات التي سلكها الروائي في ترسيخ رؤيته الجمالية ونظراته إلى العمل الفني. وتعد في منتصف مساره التأليفي الروائي، حين كان لا يزال يعنى بإدغام رؤيته إلى جمالية العمل السردي بطرافة الحكاية ومناقشة بعض الأنواع الكبرى، مثل السيرة، سيرة الذات وسيرة الآخر، والاستدلال على استحالتهما فعليًا.

راوي نابوكوف يبحث عن أسرار سيرة أخيه الشبيه

أنطوان ابو زيد

ربما لا يحتاج كاتب، روسي المنبت، مثل فلاديمير نابوكوف أن يُعرّف به، لشهرة عالمية نالها بفضل كتابه "الفضيحة"، عنيت روايته "لوليتا" التي ترجمت إلى لغات العالم قاطبة، ومنها العربية، وأثير حولها ضجيج نقدي، في الغرب، حين صدورها عام 1955، ولا سيما اتهام الروائي بالتجرؤ الجنسي، وإنعام النظر في وعي الكائن - الطفل تكوينه الجنسي (الطفلة المسماة لوليتا من قبل هومبير، خاطفها، تبلغ الثانية عشرة)، لا يسعها أن تحجب سائر أعماله الروائية التي سبقت لوليتا، وهي التي أود تسليط الضوء عليها، بعد صدور ترجمتها إلى العربية حديثاً، عن منشورات الجمل في ترجمة حنان يمق.

ولكن قبل المضي إلى الرواية، لا بد من التذكير بالمؤلف فلاديمير نابوكوف. فهو ولد في موسكو عام 1899 من عائلة أرستقراطية، في مدينة سان بطرسبورغ. ولدى نشوب الثورة البلشفية كان عليه أن يغادر البلاد إلى القرم، ومن ثم إلى برلين، ومنها إلى لندن، حيث تابع دراساته الأكاديمية، وتخرج في جامعاتها عالماً في الحشرات. ولئن أفاده اختصاصه العلمي ليعتاش منه لدى رحيله إلى الولايات المتحدة عند اقتحام النازية البلدان الأوروبية، فإن مساره الأدبي، الذي استهله شعراً، بكتاب "ماشينكا" (1926)، و"الدفاع لوجين" (1930)، وغيرهما، تبلور بالكتابة الروائية، في الحقبة الباريسية واللندنية، والتي توجت بروايات: "الغرفة المظلمة" (1932)، و"الخطأ" (1934)، و"الدون" (1937).

أما الحقبة الأميركية، وهي الأهم، فقد شهدت ولادة الرواية التي أعرض لها "حياة سبستيان نايت الحقيقية"، والصادرة عام 1941، وكان قد باشر بكتابتها وهو لا يزال في فرنسا. ولكن رواية "لوليتا" (1955) التي أيقظت حساسية جديدة في الكتابة الروائية، أساسها المس بالمحظور، والكلام على الجنس والعنف المتلازم مع الميول المحرمة: هومبير الخمسيني يغرم بفتاة ذات اثني عشر عاماً، يخطفها معه في ولايات أميركا الشمالية، معرضاً إياها لشتى أنواع الابتزاز، لتظل معه، حتى يقتل صديقها، ويلقى القبض عليه، أخيراً، وتموت الفتاة وهي في السابعة عشرة خلال إجهاضها من علاقة عابرة. وأطلقت هذه الرواية شهرته الواسعة مع رخاء مادي، أتاح له الانصراف كلياً إلى الكتابة، فأصدر على التوالي: "الذاكرة تتكلم" (1966)، و"أوجين أونيغين" (أربعة أجزاء)، و"نار باهتة" (1962)، و"انظر إلى المهرجين" (1974)، وغيرها، شعراً ومسرحاً وقصصاً ونقداً.

منعطف فني

أما رواية "حياة سبستيان نايت الحقيقية" التي صدرت للكاتب نابوكوف، في ختام مرحلته الأوروبية ومطلع الحقبة الأميركية الأطول (1941) على ما ذكرت، فهي تشكل أحد المنعطفات التي سلكها الروائي في ترسيخ رؤيته الجمالية ونظراته إلى العمل الفني. ولدى قياس هذه الحقبة زمنياً، في إزاء الفترات الباقية، لعددناها في منتصف مساره التأليفي الروائي، حين كان لا يزال يعنى بإدغام رؤيته إلى جمالية العمل السردي بطرافة الحكاية ومناقشة بعض الأنواع الكبرى، مثل السيرة، سيرة الذات وسيرة الآخر، والاستدلال على استحالتهما فعلياً، على ما يبينه في مرافعته الطويلة، عبر عشرين فصلاً، عنيت روايته السالف ذكرها.

إذاً، تدور حكاية الرواية الرئيسة حول رغبة الراوي، المعتبر أخاً غير شقيق لسبيستيان نايت، الكاتب المتوفى عن ستة وثلاثين عاماً، في كتابة سيرة عن أخيه الكاتب والروائي. وعليه، يشرع الراوي في جمع كل الوثائق الممكنة التي تركها المتوفى خلفه، أياً تكن، من غير اهتمام للروايات التي تعتبر من عمل الخيال. ومن ثم يروح يستعيد بعضاً من ذكريات الطفولة والفتوة التي عاشاها معاً برعاية والدهما، إلى حين موته في منازلة مع غريم له، ووالدة سبستيان، زوجة الوالد الثانية، وتدعى فرجينيا، ذات النزعة إلى السفر الدائم.

ويتوالى استذكار الراوي أهم أحداث الشباب الحاصلة مع زوجة أبيه فرجينيا، ولا سيما هروبها بالولدين، الراوي ولسبستيان الأكبر منه بسبع سنوات - على حد سرده - من روسيا، موطنهم الأول، فراراً من الأحداث العاصفة فيها عام 1917، وهذا الأمر يتطابق مع الوقائع الفعلية في سيرة الكاتب فلاديمير نابوكوف نفسه، الذي هاجر وعائلته من روسيا، إلى القرم أولاً، ومنها إلى أوروبا الغربية، باريس ومن ثم لندن. ولعلها الواقعة الوحيدة التي يجد فيها القارئ أثراً من سيرة الكاتب الواقعية، في الرواية. ولما ضؤلت إمكانية التوسع بتكوين سرديات كافية لسيرة سبستيان نايت، ذهب الراوي إلى جمع كل الوثائق المكتوبة التي خلفها نايت وراءه، عدا عن الروايات والقصص التي ألفها في حياته، ولم تنل الشهرة الواسعة، بل أخفق بعضها. فاكتشف أنه كان لسبستيان أخيه علاقات عاطفية سابقة لزواجه من إحداهن، وتدعى كلير، وأنهما كانا يتبادلان رسائل الحب والغرام، ولكنه حالما يكتشف مكان إقامتها، ويتوجه إليها بالسؤال عن الرسائل، تجيب بأنها أحرقتها كلها، ولم تبقِ على شيء مما يذكرها به.

ومن ثم ينتقل الراوي إلى استنطاق شاهد آخر، هو الشاعر شيلدون الذي "كان التقى كثيراً كلير ولسبستيان بين عامي 1927 و1930" (ص: 117)، عن أخيه غير الشقيق؛ فيروي له، بلغة سردية منتقاة بعناية أدبية، اللقاء الدراماتيكي بين سبستيان وكلير، في مقهى بلاوبيرغ، حيث يختلط الكلام على آخر ما أنجزه الأول من قصص (الجبل المضحك، ألبينوس باللون الأسود، والوجه الآخر للقمر)، بالحديث عن اكتشاف الأطباء إصابته بمرض القلب، وخروج كلير بانطباع أن سبستيان "أصبح مجنوناً" (ص:126).

سجلات نسائية

بعد كلير، ينتقل تركيز الراوي على امرأة روسية، كان يظن أنه أقام معها علاقات، خارج إطار الزوجية، وأن الأخيرة يمكن أن ترسم له سمات سبستيان الناقصة. وعلى الرغم من أن الوثائق التي بين يديه لم تكشف عن وجود امرأة روسية في حياته، فإن الراوي مضى يتقصى عن النساء الروسيات اللواتي عرفهن في حياته، وكن ينزلن في فندق اعتاد النزول فيه. وبعد البحث والتدقيق، وقراءة كل سجلات النساء الروسيات في ذلك الفندق، والعائدة إلى سنوات بعينها، أواخر العشرينيات من القرن العشرين، توصل إلى أن المرأة تلك اسمها "نينا توروفيتز". إلا أن سياق الأحداث سرعان ما يكشف له أن المرأة الروسية ليست بهذا الاسم، وأنها تدعى "هيلين"، على ما تقول صديقتها لوسيرف، وأن سبستيان كان يعاملها على أنها امرأة رخيصة، "وقام بكل ما بوسعه لتحطيمها"(ص:188). في حين أنها تستحق خيراً من ذلك، وكانت تعرف عن "الحياة والموت والناس، أكثر بقليل مما ظن نفسه أنه يعرف" (ص:186).

وفيما لا يزال القراء مشدودين إلى نهاية الرواية واكتشاف الراوي خيوطاً مفيدة لاستكمال بناء سيرة سبستيان نايت، يفاجئنا الكاتب بالقول "سيبقى قناع سبستيان مثبتاً فوق وجهي، لا شيء سيلغي الشبه بيننا. أنا سبستيان، أو ربما، سبستيان أنا، أو ربما نكون، أنا وهو، شخصاً آخر، لا يعرفه أي منا" (ص: 237). أو تكون الرواية أحجية كبيرة؟ أو يكون التقصي فيها عن شخصيات، قد يكون لها وجود في الحقيقة، هو تقصّ عن ذات الكائن، سواء أكان راوياً أو كاتباً؟ ثم ألا تطرح الكتابة نفسها، وتمثيلها مراجعها الواقعية في اللغة، على قولة اللسانيين الحديثين، مسألة رمزيتها المحدودة؟ وحتى لا نبعد كثيراً، ألا نستشف من لعب الهويات هذه، والأقنعة، والتهكم الضمني من مسار السرد المتقطع، واستحالة ملء الفراغات التي يتركها الشخص الميت، أو الحي، لكتابة سيرته أو سيرة غيره؟ أدع للقراء الإجابة عن هذه الأسئلة، لدى قراءتهم الرواية التي جهدت حنان يمق في نقلها من الإنجليزية، مع المحافظة على نبرتها الساخرة والحارة، في آن واحد.

 

عن: اندبندنت عربية