يكشف الباحث الفلسطيني المرموق هنا عن أدلة وشهادات جديدة، تم الكشف عنها بمناسبة الذكرى الأربعين للمجزرة. وكلما ظهرت الأدلة المخباة، تأكد تورط جيش دولة الاستيطان الصهيوني، وأجهزتها السيادية وقيادتها العسكرية منها والمدنية في المجزرة، والتواطؤ للتستر عمن شاركوا فيها منهم، وإلصاقها بإيلي حبيقة والكتائب.

ذكرى صبرا وشاتيلا:

بإيجاز عن ضلوع إسرائيل في المجزرة

أنطوان شلحت

 

حتى بعد مرور أربعين عامًا على مجزرة صبرا وشاتيلا «التي اقترفت في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت يوم 16 أيلول/ سبتمبر 1982 واستمرت لمدة ثلاثة أيام» ما زالت إسرائيل تنفضُ عن كاهلها أي مسؤولية مباشرة أو حتى أخلاقيـة عن اقترافها؛ بالرغم من حرص زعمائها على إبداء "قدر كبير من الاشمئزاز منها"، من دون أن تجد أدنى غضاضة في هذه الانشطاريـة. وقد استعانت لهذا الغرض أيضًا بالاستنتاجات التي توصلت إليها لجنة تحقيق إسرائيلية رسمية لتقصّي وقائع تلك المجزرة التي وقعت مباشرة بعد يومين من مقتل الرئيس اللبناني بشير الجميّل، ومن قيام الجيش الإسرائيلي بالانتشار في بيروت الغربية، وفرض حصار على المخيمين، في 14 أيلول/ سبتمبر 1982. وتشكّلت هذه اللجنة بموجب أوامر صادرة عن مناحيم بيغن، الذي كان في أثناء الحرب على لبنان عام 1982 يشغل ولايته الثانية في رئاسة الحكومة الإسرائيلية.

وذلك إثر ضغوط شعبية مورست عليه، وبلغت ذروتها في تظاهرة الاحتجاج العامة التي جرت في وسط مدينة تل أبيب يوم 25 أيلول/ سبتمبر 1982 بمبادرة من حركة "السلام الآن" وأحزاب المعارضة في الكنيست (البرلمان)، واشترك فيها عشرات الألوف من الإسرائيليين. واستمر عمل هذه اللجنة، التي أسميت "لجنة التحقيق لتقصّي وقائع الأحداث في مخيمات اللاجئين في بيروت"، خلال الفترة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1982 وشباط/ فبراير 1983، وترأسها الرئيس الأسبق للمحكمة الإسرائيلية العليا يتسحاق كاهان (ولذا عُرفت أيضًا باسم "لجنة كاهان")، وضمت في عضويتها كلًا من قاضي المحكمة العليا في ذلك الوقت أهارون باراك (الذي شغل في السابق منصب المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، وأصبح لاحقًا رئيسًا لهذه المحكمة)، واللواء في الاحتياط يونا إفـرات.

وكان من أبرز استنتاجات "لجنة كاهان" أنه "لم يتم العثور على أدلة قاطعة تثبت ضلوع الجيش الإسرائيلي بصورة مباشرة في اقتراف المجزرة"، ولكن اللجنة نوّهت بأن "أمر اقتراف المجزرة نمـا في مرحلة معينة إلى علم ضباط كبار من هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، ولم يتصرفوا على نحوٍ حازمٍ لوقفها". وقالت اللجنة إن وزير الدفاع الإسرائيلي في أثناء الحرب، أريئيل شارون، يتحمّل المسؤولية الأكبر عن التغاضي عن خطر إقدام ميليشيات الكتائب على تنفيذ أعمال ثأر في المخيمين انتقامًا لمقتل الرئيس بشير الجميّل، وأوصت بأن يقدم استقالته. لكن شارون رفض الاستقالة، واكتفت الحكومة بنقله من منصبه وتوليته منصب وزير من دون حقيبة. كما وجهت اللجنة نقدًا صارمًا إلى أداء كل من رئيس هيئة الأركان العامة في إبان الحرب، الجنرال رفائيل إيتان، إلا إنها قررت عدم التوصية بإطاحته بسبب قرب انتهاء ولايته، وقائد المنطقة العسكرية الشمالية اللواء أمير دروري، وقائد جبهة بيروت العميد عاموس يارون. وأوصت اللجنة بعدم إسناد أي منصب عسكري قيادي إلى يارون لمدة ثلاثة أعوام. وبالنسبة إلى دروري فقد بقي في منصبه حتى نهاية عام 1983، ثم خرج إلى بعثة دراسية في الولايات المتحدة، وفي شباط/ فبراير 1985 عُيّن قائدًا لسلاح البرّ، وفي أيلول/ سبتمبر 1986 عُيّن نائبًا لرئيس هيئة الأركان العامة.

وأشارت اللجنة إلى أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمـان")، اللواء يهوشواع ساغي، كان الوحيد من بين القيادة العسكرية الذي قدّر على نحوٍ صحيحٍ ما يمكن أن يترتب على سماح الجيش الإسرائيلي للكتائب باقتحام المخيمين من نتائج مأساوية. بل إنه حذّر من احتمال اقتراف مجزرة بحق السكان المدنيين، ولكنّه تجنّب نقل هذه التقديرات إلى أصحاب القرار، وأوصت اللجنة بإطاحته، غير أنه سارع إلى استباق ذلك بتقديم استقالته من منصبه

وقالت اللجنة إن رئيس الحكومة بيغن أخفق في تقدير النتائج المتوقعة لعملية السماح للكتائب باقتحام المخيمين، وإن وزير الخارجية يتسحاق شامير تجاهل معلومات تلقاها بشأن اقتراف المجزرة ولم يحرّك ساكنًا لوقفها. كما أشارت اللجنة إلى أن رئيس جهاز الموساد، ناحوم أدمـوني، لم يزوّد الحكومة بأي إنذار يتعلق بـ"الخطر المرهون باقتحام الكتائب للمخيمين"، لكنها لم توص باتخاذ أي إجراءات بحقّـه، واستمر في أداء مهمات منصبه حتى انتهاء ولايته.

وقبل مناسبة الذكرى السنوية الأربعين للمجزرة، التي حلّت في أيلول/ سبتمبر الفائت، تراكم مزيد من الوقائع التي تؤكد مسؤولية إسرائيل عن المجزرة. وفي هذا المقال سنعيد إلى الأذهان أبرز الوقائع السابقة على أن نتوقف عند ما استجدّ من وقائع في مناسبة الذكرى الأربعين في مقال آخر.

يمكننا من بين أبرز الوقائع السابقة أن نوجز ما يلي:
(*) أولًا، ادّعى جهاز الموساد الإسرائيلي في سياق جلسة استماع عُقدت لبحث طلب التماس قدّم إلى المحكمة العليا في إسرائيل من طرف نشطاء مدافعين عن حقوق الإنسان في نيسان/ أبريل 2022، أنه من الصعب العثور على وثائق تاريخية في أرشيفه توثّق العلاقة التي كانت قائمة في السبعينيات والثمانينيات، بين الموساد وبين ما وصف بأنه "ميليشيات مسيحية" في لبنان شاركت في اقتراف مذبحة صبرا وشاتيلا خلال حرب لبنان 1982. واعتبرت رئيسة المحكمة الإسرائيلية العليا التي ترأست جلسة الاستماع هذه، القاضية إستير حيوت، هذه الحجة "غريبة". ورأت أن على الموساد المحافظة على الوثائق، تحضيرًا لنشرها علنًا بعد مرور فترة المحافظة على سرّيتها، وهي 90 عامًا، بحسب القانون الإسرائيلي الجديد (قبل هذا القانون الجديد الذي اعتمد عام 2018 كانت فترة المحافظة على سريّة الوثائق الأمنية محدّدة بـ70 عامًا)؛ وخلال تلك المدة، يتعين على الموساد المحافظة على هذه الوثائق وحفظها.

أما المحامي إيتاي ماك، ممثل مقدّمي طلب الالتماس، فكتب في الطلب المُقدّم إلى المحكمة العليا عام 2020: "مرّ نحو 40 عامًا منذ أن كان الموساد مسؤولًا عن دعم إسرائيل للميليشيات في لبنان، والتي ارتكبت فظائع في الحرب الأهلية اللبنانية، وعلى الرغم من ذلك، فإن الموساد يعتقد أن من حقه مواصلة إخفاء الحقيقة عن الناس في هذا الشأن". وأضاف أن مجزرة صبرا وشاتيلا كانت حادثة من سلسلة حوادث قتل وخطف واختفاء قامت بها "الميليشيات المسيحية". وفي رأيه، فإن هذه القضية يجب أن تظهر على الملأ من أجل مناقشتها واستخلاص الدروس التي من شأنها أن تمنع دعم الموساد ودولة إسرائيل لقوى أمنية وميليشيات في أنحاء العالم ترتكب فظائع!

(*) ثانيًا، سمح الأرشيف الرسمي لدولة إسرائيل، يوم 28 شباط/ فبراير 2013، بنشر بعض المقاطع التي حظرت الرقابة العسكرية نشرها من محاضر الاجتماعات التي عقدتها الحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن في شباط/ فبراير 1983، وتداولت خلالها بشأن تقرير "لجنة كاهان"، والذي كان قد صدر في ذلك الشهر وأوصت فيه، ضمن أشياء أُخرى، بإطاحة وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، أريئيل شارون، بسبب "عدم قيامه باتخاذ ما يلزم لمنع ارتكاب المجزرة". وتشمل هذه المقاطع، على نحو خاص، الأقوال التي أدلى بها كبار المسؤولين في قيادة الجيش الإسرائيلي، كما أنها تلقي الضوء على الخلافات التي نشبت في ذلك الوقت بين جهاز الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان")، وعلى مشاعر الغضب والإحباط التي سادت لدى شعبة "أمان" بسبب إرغامها لوحدها على دفع الثمن إثر المجزرة وإعفاء جهاز الموساد من دفع أي ثمن.

ووفقًا لهذا المحضر الذي كان سرّيًا للغاية، فإن شارون حضر إلى الاجتماع المذكور متأخرًا ساعة ونصف ساعة، وأشار إلى أن سبب تأخيره يعود إلى تظاهرة الاحتجاج التي جرت قبالة منزله، وقال خلال الاجتماع إنه قرأ تقرير لجنة التحقيق بتمعن شديد، وخلص إلى الاستنتاج أن التقرير يحتوي على أجزاء يمكن للحكومة قبولها، وعلى أجزاء أُخرى لا يجوز القبول بها على الإطلاق. وأضاف شارون أن الأجزاء التي لا يجوز قبولها هي تلك التي أكدت اللجنة فيها أن زعماء إسرائيل وقادة المؤسسة الأمنية تغاضوا عمدًا عن خطر ارتكاب المجزرة في مخيمَي اللاجئين الفلسطينيين. وشدّد على أن هذا التأكيد يحمّل الجميع مسؤولية ارتكاب المجزرة، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بيغن، وعلى أنه في حال قبول الحكومة هذا التأكيد، فإنها ستكون عرضة لأن تُدان بارتكاب جريمة إبادة شعب، ولأن تُطالَب بدفع تعويضات كبيرة. ولفت إلى أن جرائم إبادة الشعب تُعتبر "أبشع الجرائم" في سجل القوانين الإسرائيلية، وذلك بموجب قانون خاص سنّه الكنيست عام 1950 في هذا الشأن. وقال إن كل مَن سمح (بارتكاب المجزرة)، وقدّم المساعدة، وكان حاضرًا بنفسه كي يمنع أي مقاومة، أو كي يضمن تنفيذ العملية التي كانت قوات الكتائب تزمع القيام بها في المخيمَين، سيكون شريكًا، أو ربما يبدو كما لو أنه شريك في ارتكاب جريمة إبادة شعب. وعند هذا الحدّ قام شارون بتقديم شرح مفصل عمّا يقصده بمساهمة "المشتركين" في هذه المجزرة، قائلًا:

"معروف أننا من قام بالتوجه إليها (أي إلى ميليشيات الكتائب) كي تدخل (إلى المخيمَين)، وقمنا بتقديم المساعدة، ووفرنا الإضاءة، وساعدنا في إجلاء الجرحى، وكنا موجودين في المكان". وأضاف: "معروف أيضًا أننا كنا في ذلك المكان، وفي المنطقة المحيطة به، كي نردع المقاومة. أفلم نعزل المنطقة عن مناطق أُخرى؟ لقد فعلنا ذلك بالتأكيد. وقد قامت قوات تابعة لنا بالمرابطة في المكان، بينما رابطت قوات أُخرى بالقرب منه كي نضمن التنفيذ، وخشية أن تُمنى القوات التي تم جلبها بالفشل وتكون هناك حاجة إلى تخليصها".

وتطرّق شارون إلى الجزء المتعلق به في التقرير، فقال إن الحديث لا يدور حول مسألة شخصية، وأكّد أنه لا يشعر بأنه ارتكب أي خطأ عندما وافق على دخول قوات الكتائب إلى المخيمَين، للحؤول دون تعريض حياة الجنود الإسرائيليين إلى الخطر. وشدّد على أن أخذ مثل هذه الحجة في الاعتبار لا يشكل خطأ. كما أعلن رفضه تنفيذ التوصية الواردة في التقرير، والتي تنص على ضرورة أن يقدّم استقالته من منصب وزير الدفاع.

وخاطب شارون الوزراء قائلًا: "إذا كنتم راغبين في قطع رأسي، فافعلوا ذلك بالطريقة التي ترونها ملائمة، لكن من جانبي لن أبادر إلى تقديم الاستقالة بنفسي". كما شدّد على أن خطوة كهذه (تقديم الاستقالة) تعني "الإقدام على الانتحار (السياسي)". ومعروف أنه في نهاية الأمر وافقت الحكومة الإسرائيلية على تبنّي تقرير "لجنة كاهان"، واتخذت قرارًا قضى بإطاحة شارون من منصب وزير الدفاع. وكانت هذه اللجنة أوصت أيضًا بعدم تعيين شارون في منصب وزير الدفاع في المستقبل، لكن بعد مرور أقل من 20 عامًا (في عام 2001) عاد إلى سدّة الحكم في إسرائيل رئيسًا للحكومة.

كما تبيّن من المقاطع الجديدة التي سُمح بنشرها أن رئيس شعبة "أمان" في ذلك الحين، اللواء يهوشواع ساغي، الذي اضطرته الحكومة إلى الاستقالة من منصبه إثر توصيات "لجنة كاهان"، تكلم في اجتماع الحكومة يوم 10 شباط/ فبراير 1983 فأشار إلى أن توصيات هذه اللجنة تلحق ظلمًا كبيرًا بمسؤولي الشعبة، خصوصًا وأن تقديراتهم فيما يتعلق بالخطورة التي يمكن أن تترتب على السماح لقوات الكتائب اللبنانية بالدخول إلى مخيمي صبرا وشاتيلا كانت صحيحة؛ بينما لم يلحق أي ضرر بجهاز الموساد على الرغم من أنه كان المسؤول من الجانب الإسرائيلي عن العلاقات مع الكتائب، ولديه منظومة خاصة للأبحاث والتقويمات موازية للمنظومة الموجودة لدى الشعبة.

وتكلم شارون بهذا الشأن في الاجتماع، وتطرّق في سياق كلامه إلى مسؤولية جهاز الموساد عما حدث في المخيمين، وبدأ أقواله بتأكيد أن رئيس الموساد في حينه، ناحوم أدموني، لا يتحمل أي مسؤولية شخصية عن المجزرة نظرًا إلى أنه بدأ بمزاولة مهمات منصبه قبل فترة وجيزة من وقوعها. لكنه في الوقت نفسه أضاف: "إننا لا نختبر هنا الأشخاص فحسب، وإنما نختبر أيضًا الأجهزة برمتها. فهل يعتقد أحد أنه لدى معالجتنا للأوضاع في لبنان، أو أنه خلال الزيارة التي قام بها رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي (الجنرال رفائيل إيتان) إلى مقر قيادة الكتائب، في 15 من ذلك الشهر (أيلول/ سبتمبر 1982) في الساعة 3:30 فجرًا، لم يكن هناك مندوب من المستويات الرفيعة جدًا لدى الموساد، والذي يتعامل مع موضوع لبنان منذ أعوام طويلة؟ إننا جميعا نقدّر هذا الرجل (يقصد مندوب الموساد في لبنان والذي لم تسمح الرقابة بكشف هويته) وأنا مسرور لأن اللجنة ("لجنة كاهان") لم تضبطه، ولكن هذا كان من قبيل المصادفة فقط".

وأشار شارون إلى أنه "لو كان عمل هذه اللجنة ألحق ضررًا بأحد ما من الموساد لكان هذه الجهاز برمته سيتعرّض إلى هزّة عنيفة، شأنه شأن شعبة "أمان". وأضاف: "أنا أعرف ذلك المندوب من الموساد، وأعمل معه باتصال وثيق منذ وقت طويل. أفلم يكن معي في مقر قيادة الكتائب، صباح الخامس عشر من ذلك الشهر (أيلول/ سبتمبر 1982)، عندما تكلمنا عن الموضوع (السماح لقوات الكتائب بالدخول إلى صبرا وشاتيلا)، وأمرته بأن ينسق الأمر مع قائد المنطقة العسكرية الشمالية (للجيش الإسرائيلي)؟، أفلم يكن برفقتي في بِكفيا، عندما بلغت بيار الجميّل وأمين الجميّل بما ننوي أن نقوم به؟ أفلم يقم بترجمة أقوالي، مثلما قام بترجمة أقوال رئيس هيئة الأركان العامة في 15 من ذلك الشهر؟".

وقال شارون في ختام كلامه: "لا شك في أن الموساد كان ضالعًا في هذا الموضوع (السماح لقوات الكتائب بالدخول إلى المخيمين)، ولا توجد لدي أي ادعاءات ضد الموساد، فهو أيضا لم يقدّر ما الذي يمكن أن يحدث (وقوع المجزرة)، ولم يقدّر أي أحد منّا أن هذا هو ما سيحدث. وقد أدلى جميع الخبراء في شعبة "أمان" والموساد، فضلًا عن جميع رؤساء المؤسسة السياسية وقادة الجيش، بشهادات مشفوعة بالقسم أكدوا فيها أن أيًا منهم لم يتوقع مثل هذا الخطر".

تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الإسرائيلية أرغمت رئيس شعبة "أمان" ساغي على الاستقالة من منصبه، بعدما أكدت "لجنة كاهان" أنه "كان غير مبال تمامًا ... ولم يبد أي اهتمام بالموضوعات التي كان يتعيّن عليه بحكم وظيفته أن يبدي اهتمامًا بها. كما أن الصورة التي تظهر من شهادة اللواء ساغي نفسه تدلّ على لامبالاة، وانعدام اهتمام بارز، وعلى غضّ الطرف وعدم الإصغاء".

في المقابل، فإن رئيس الموساد، أدموني، بقي في منصبه سبعة أعوام أخرى. مع ذلك، أكدت اللجنة في تقريرها أنه "لم يزوّد الحكومة بتحذير واضح فيما يتعلق بالخطر الكامن في السماح لقوات الكتائب بالدخول إلى المخيمين، ولم يُبد أي ملاحظة إزاء هذا الأمر خلال تقييمه للوضع أمام الحكومة". وأضافت اللجنة أن أدموني "لم يعرب عن أي تحفظ إزاء دخول قوات الكتائب إلى المخيمين ... وأنه بالذات في ضوء العلاقات الخاصة بين الموساد والكتائب، كان يتعيّن عليه أن يتطرّق إلى احتمال حدوث أعمال انتقامية من خلال تحليل كل العوامل المتعلقة بهذه العملية".

يُشار إلى أنه لدى نشر هذه المقاطع من محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية عام 1983، في عام 2013، اعتبرت تحليلات أمنية إسرائيلية متطابقة أن الوثائق المتعلقة بمجزرة صبرا وشاتيلا من جلسة الحكومة الإسرائيلية هذه التي كشف عنها تُعدّ إضافة مهمة إلى المعلومات العامة عن حرب لبنان في عام 1982، وعن أداء حكومة مناحيم بيغن. ولكنها في الوقت عينه أكدت أنها لا تلقي ضوءًا جديدًا على المجزرة، لأن هناك فقرات طويلة ما زالت تخضع للرقابة، وخصوصًا شهادات ضباط الجيش الإسرائيلي، "الأمر الذي يُبقي على الشك في أن إسرائيل تواصل إخفاء ما يثبت تورطها في المجزرة"، بموجب ما أكد محلل الشؤون الأمنية في صحيفة "هآرتس"، أمير أورن.

ووفقًا لمعظم المحللين، فإن ما كشفته هذه الوثائق له علاقة بالحكومة أكثر ممّا له علاقة بالحرب والمجزرة، وهي تصوّر كيف انهارت حكومة بيغن الثانية، والنضال الشرس الذي خاضه أريئيل شارون من أجل التمسك بمنصبه، بعد أن أوصت لجنة التحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا برئاسة رئيس المحكمة العليا يتسحاق كاهان، بتنحيته عن وزارة الدفاع. وسعت اللجنة لصوغ قرارها بحيث يمكن إبعاد شارون عن منصب وزير الدفاع مع استمرار بقائه في الحكومة. وهذا ما حدث، فقد أُجبر شارون على التخلي عن حقيبة الدفاع، لكنه بقي في الحكومة.

وفي الواقع فإن صراع شارون ضد "لجنة كاهان" جرف معه حكومة بيغن الثانية، حيث انصب اهتمام شارون على التلميح بأن صدقية بيغن الشخصية ستتضرر في العالم، وستظهر مسؤوليته المباشرة عن غضّ الجيش الإسرائيلي نظره عن دخول الكتائب إلى مخيمي اللاجئين في بيروت؛ وذلك إذا ما تبنّت الحكومة توصيات "لجنة كاهان". وبهدف تهديد الحكومة ومنعها من الموافقة على التوصيات، ضخّم شارون تداعيات قرارات اللجنة مدّعيًا أنها يمكن أن تُستخدم من أجل توجيه التهمة إلى إسرائيل، أي إلى حكومة بيغن، بـ"التورط في عملية قتل جماعي".

(*) ثالثًا، قبل أكثر من عام ونصف عام من نشر محاضر الاجتماعات التي عقدتها الحكومة الإسرائيلية وتداولت خلالها بشأن تقرير "لجنة كاهان"، أدلى وزير الاتصال في حكومة بيغن الثانية التي شنّت الحرب على لبنان، مردخاي تسيبوري، وهو ضابط عسكري سابق رفيع المستوى تولى هذه الوزارة بعد أن شغل منصب نائب وزير الدفاع، بمقابلة مطوّلـة إلى صحيفة "معاريف" (8/6/2011) تركزت في قراءة وقائع تلك الحرب وما دار وراء كواليسها. ولفتت الصحيفة إلى أن العميد احتياط عزرائيل نفـو، الذي شغل منصب السكرتير العسكري لبيغن في إبان تلك الحرب، قال في مقابلة سابقة أجرتها معه إن تسيبوري "كان الشخص الوحيد في حكومة بيغن الثانية الذي أدرك أن وزير الدفاع شارون ضلّل الحكومة، وجرّهـا عن طريق الخداع إلى قاع المستنقع اللبناني"! وأضاف أن تسيبوري "لم يكف عن التحذير، وملأ الدُنيـا صراخًا وزعيقًا، لكن تم إسكاتـه وتهميشه".

وفيما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيـلا، كرّر تسيبوري في هذه المقابلة ما كان قد قاله لدى إدلائه بشهادته أمام "لجنة كاهان"، وفحواه أنه في صبيحة اليوم الذي ارتكبت فيه المجزرة تلقى من المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" زئيف شيف (والذي اشترك لاحقًا مع محلل الشؤون العربية إيهود يعاري في تأليف كتاب حول الحرب على لبنان بعنوان "حرب التضليل") معلومات مفادها أن "ثمة مجزرة تُقترف في صبرا وشاتيلا بعد أن سمحت إسرائيل للكتائب بالدخول إلى هذين المخيمين"، وقد سارع لنقلها إلى وزير الخارجية يتسحاق شامير، الذي كان من المقرّر أن يلتقي في ظهيرة ذلك اليوم نائب وزير الدفاع الأميركي موريس درايبر. ولدى سؤال شامير من جانب "لجنة كاهان" عما فعله إزاء هذا الموقف، ادعى أنه نقل تلك المعلومات إلى الجهات المختصة، لكن تبيّن للجنة أنه لم ينقلها، وقال تسيبوري إن شامير تحاشى نقلها بسبب خشيته من أن يتدخـل في شؤون العسكـر.

وبرأي تسيبوري لم يكن شامير الوحيد من بين زعماء إسرائيل في ذلك الوقت الذين تملكتهم الخشية من التدخّل في شؤون العسكـر، بمن في ذلك بيغن نفسه، الذي كان العسكر ولا سيما شارون "يتعاملون معه كما لو أنه مجرّد خرقـة"، على حدّ تعبيره، خلافًا للصورة المرسومة له في أذهان الإسرائيليين عمومًا. وبالتالي كان العسكر أشبه بالسيف المُصلـت على الساسة. وروى تسيبوري أيضًا أنه عرف قبل شنّ الحرب على لبنان بكثير أن لدى العسكـر مخططات ترمي إلى تغيير النظام السياسي في لبنان، وإلى القضاء على وجود منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه حذّر بيغن من احتمال إقدام أصحاب تلك الخطط على تنفيذهـا من خلال الالتفاف على الحكومة، وأن هذا الأخير استدعى كلًا من رئيس هيئة الأركان العامة للجيش رفائيل إيتان، وقائد الفرقة 446 التابعة للمنطقة العسكرية الشمالية اللواء أفيغدور بن غال (يانوش)، لاستيضاح الأمر معهما. وقد نفى بن غال ذلك جملة وتفصيلًا، وعندما أصرّ تسيبوري على أن المعلومات التي في حيازتـه تستند إلى حقائق لا إلى مجرّد تكهنات، بادر بيغن إلى إخراسه قائلًا: "إن جنرالات إسرائيل لا يكذبـون"!

وخلص تسيبوري إلى القول إنه بنظرة ثانية كانت الحرب على لبنان بمثابة أكبر إثبات على أن الجنرالات الإسرائيليين يكذبـون، وعلى أنه في حال عدم وقوف المؤسسة السياسية لهم بالمرصاد "يمكن أن يودوا بالجيش إلى التهلكـة"!

ضلوع إسرائيل في مجزرة صبرا وشاتيلا .. شهادات جديدة:
انطوت مناسبة الذكرى السنوية الأربعين لمجزرة صبرا وشاتيلا، التي صادفت في أيلول/ سبتمبر 2022، على تقديم شهادات جديدة من جانب مسؤولين إسرائيليين عايشوا وقائعها تؤكد، وإن بشكل ضمنيّ، ضلوع إسرائيل في ارتكابها. ولا شكّ في أنها تنضاف إلى شهادات ووقائع تراكمت قبلها وتؤكد الأمر نفسه، وتطرقنا إلى أبرزها أعلاه. وسنتوقف هنا عند شهادتين جديدتين أدلى بهما كل من عاموس يارون، الذي كان في إبان ارتكاب المجزرة برتبة عميد، وشغل منصب قائد الجيش الإسرائيلي في جبهة بيروت (قائد "الفرقة 96")، واللواء في الاحتياط عاموس جلعاد، الذي كان في ذلك الحين ضابطًا برتبة رائد في شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان"). وفعل كلاهما ذلك في سياق تحقيق أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية ونشرته في ملحقها الأسبوعي يوم 10 أيلول/ سبتمبر 2022.

تذكر الصحيفة الإسرائيلية أن هدف الدخول إلى صبرا وشاتيلا، إثر اغتيال الرئيس بشير الجميّل، هو تطهيرهما من "المخربين الفلسطينيين"، وأنه من أجل تنفيذ هذه المهمة تم الاتفاق على إرسال ميليشيات الكتائب بقيادة إيلي حبيقة إلى المخيمين. وتضيف أنه في اليوم المُقرّر لهذا الدخول وقبل تنفيذه، عقد حبيقة اجتماعًا مع عاموس يارون وصف بأنه من أجل "إجراء تنسيق أخير"! وقال يارون في شهادته الجديدة التي أدلى بها إلى الصحيفة: "كنت بعد أشهر من اندلاع الحرب (الحرب الإسرائيلية على لبنان، 1982) والتي بدأتها في منطقة صيدا وأنهيتها في بيروت. لم تكن الحرب سهلة أيضًا لأن منطقة المعارك كانت منطقة إشكالية جدًا فيها مواطنون لا علاقة لهم بالأمر، وكذلك لأنه كانت فيها مجموعات مختلفة الواحدة عن الأخرى. فهناك سوريون وفلسطينيون- وكانوا أعداءنا الأساسيين- وهناك مسيحيون يمكن من جهة الاعتماد عليهم في القضايا الصغيرة فقط، ولكن من جهة ثانية كانوا في القضايا الأخرى طابورًا خامسًا".

(*) ماذا تقصد بهذا القول الأخير؟
"كان من الممكن أن تجد نفسك في أوضاع، إن لم يكن هذا مجديًا لهم، فسوف يغرزون سكينًا في ظهرك. أي أن هذا ليس جسمًا يمكنك الاعتماد عليه مئة بالمئة، ولكن هؤلاء كانوا شركاءنا، ونحن اخترناهم. فقد قررت الحكومة (الإسرائيلية) في حينه أنه يجب مساعدة الأقلية المسيحية في لبنان. وليس سرًّا (الآن) أنه كانت هناك نقاشات بشأن مدى الاستعانة بهم، وهل كان هذا صحيحًا أو غير صحيح؟ في نهاية المطاف رأينا أن التعاون لا يثمر نجاحات كبيرة. ربما كانت ثمة نجاحات أكبر في الحيّز الأمني، فهناك قدموا مساعدة ما. ولكنني لا أعتقد أن التعاون مع الكتائب في بيروت أثبت نفسه، بل ممكن العكس. إن مجرد وجود المسيحيين في المنطقة ساعدنا في القتال والوصول إلى بيروت. وأنا استعنت بهم وفقًا لاحتياجاتي. فحين تصل إلى منطقة مثل بيروت وأنت بحاجة إلى القتال وسط سكان مدنيين وحولك من يساعدك، فهذا يوّفر لك دعمًا، ولا يمكن تجاهل ذلك.

وبالتالي فليس كل شيء أسود في هذا المجال، ولكن من بنى أبراجًا من السلام خاب أمله. وبنظري كانت هذه خيبة أمل معروفة مسبقًا. في جميع الأحوال بعد ثلاثة أشهر من الحرب أردت أن يسدّد المسيحيون الكمبيالة التي تعهدوا بها".

(*) وبماذا تعهدوا؟
"بأن يساعدونا في الحرب. لم أقصد أن نحارب معهم متكاتفين، ولكن من وجهة نظري كان من الصحيح أن نرسلهم من أجل القيام بمهمات في مناطق معينة. في تلك المرحلة، حين كانت أمامي إمكانية الدخول إلى هذين المخيمين (صبرا وشاتيلا) مع الجيش الإسرائيلي، أو جعل الكتائب يدخلون بدلًا منا، فكرت: هل أريد الآن المزيد من الإصابات والخسائر؟ إذا كانوا يعربون عن استعدادهم للدخول لتنفيذ هذه المهمة فليدخلوا. هذا كان الدافع".

ويتابع عاموس يارون: "إذا لم تخنّي الذاكرة فإن أمر إدخال الكتائب إلى المخيمين جاء من فوق. أنا لا أرمي المسؤولية على غيري، لأنه كان بوسعي أن آتي وأقول للضباط فوقي بأنني أعرف الكتائب وإن أرسلناهم فقد تحدث هناك أمور رهيبة. ولكن الحقيقة أنه في تلك اللحظات لم أفكر بأن هذا ما سيحدث. واضح أنه لو كنت فكرت أن هذا ما سيحدث، لكنت دخلت بنفسي مع قواتنا أو كنت سأبقى في الخارج وأنتظر مرور عدة أيام لرؤية ما يحدث في هذه المنطقة، لو كان هناك مخربون فعلًا، ونحن مجبرون على الدخول. ولكن لم أفكر ولو للحظة واحدة أنه ستقع هنا مذبحة".

وتكتب الصحيفة: في ساعات المساء أجرى يارون مع ضباطه اجتماعًا لتبادل المعلومات، ووفقًا لما قاله: "كنت في منطقة المخيمين في مبنى عالٍ يسيطر من ناحية الرؤية عليهما. ولم يكن أي منّا قد فهم بعد ما الذي يحدث في الداخل. وقام ضابط من شعبة التاريخ بتسجيل ضابط من شعبة الاستخبارات وهو يقول: ’دخل الكتائب اليوم (إلى المخيمين). أنا لا أعرف أي مستوى من القتال يظهرون. من الصعب رؤية هذا بسبب الظلام الدامس. الانطباع هو أن القتال غير جادّ على نحو خاص. لديهم مصابون مثلما تعرفون، جريحان، واحد في الساق والثاني في اليد. تم إخلاء المُصابيْن بواسطة سيارة إسعاف تابعة لهم؛ وهم كما يبدو حائرون بشأن ما ينبغي عمله بالسكان الذين سيجدونهم في الداخل.

من جهة يبدو أنه ليس هناك مخربون في داخل المخيم، ومخيم صبرا فارغ. من جهة ثانية هناك نساء وأطفال وربما بعض المسنين وهم لا يعرفون بالضبط ماذا يفعلون بهم.. ويبدو أنه كان لديهم قرار مبدئي بأن يركزوهم معًا. وهم يقودونهم إلى مكان ما خارج المخيم’". وادعى يارون أنه منذ اللحظة التي بدأت تصل إليه أنباء تفيد أنه تجري هناك عمليات قتل أوقف الأمر بأسرع ما يكون.

(*) ومتى فهمت ذلك؟
"قبيل طلوع أول فجر يوم 17/9/1982. أي لم تكن أكثر من ليلة واحدة".

(*) هل الذين كانوا في الطابق معك أمكنهم رؤية ما يحدث؟
"كان هذا ممكنًا في حال أن هناك ضوءًا، لكننا لم نستطع الرؤية في الليل. بدأنا نفهم ما كان يحدث من خلال منظومة الاتصالات فيما بينهم".

(*) وماذا قيل في منظومة الاتصالات؟
"كانت هناك محادثات كثيرة لم يكن معناها القتال ضد مخربين بل قتل نساء وأطفال".

(*) هل تتذكر اللحظة التي فهمت فيها ما يدور هناك؟
"لم تكن تلك لحظة مُحدّدة، ولم يحدث الأمر بحدّة، بمعنى أنه "حتى تلك اللحظة" كان كل شيء على ما يرام والآن بدأوا بالقتل. لقد كانت سيرورة استمرت عدة ساعات، ومنذ اللحظة التي اتضحت فيها الصورة لديّ أوقفت الأمر".

(*) كيف أوقفته؟
"أعطيت أمرًا فوريًا بالانصراف من هناك، ومكّنت أفراد الصليب الأحمر على الفور من الدخول ومعالجة الجرحى. وبالفعل هرب الكتائب من هناك مثل الكلاب، ودخلت أنا أيضًا لرؤية ما كان يحدث هناك. وكانت الفظائع هائلة. رأيت في ضوء النهار ما فعله الكتائب في الليل".

لعلّ الخلاصة الأهم التي توصل إليها يارون في شهادته الجديدة هذه، أن ما فعله في تلك اللحظات جرى بقناعة تامة. "وكان من المهم، بالنسبة إليّ، أن ينفذ شخص آخر المهمة وليس جنود الجيش الإسرائيلي"، كما يؤكّد.

أما اللواء في الاحتياط عاموس جلعاد، الذي كان في ذلك الحين ضابطًا برتبة رائد في شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان")، مثلما ذكرنا، فأكد في شهادته الجديدة لـ "معاريف"، أنه عاد وحذّر مرة بعد أخرى من التحالف مع الكتائب. وأضاف: "حتى يومنا هذا ينهش قلبي أنني لم أتمكن من تغيير الوضع، كنت ضابطًا صغيرًا فعلًا في ذلك الحين. لكن الجميع كانوا منغلقين، وكانت الخرتتة رهيبة. إن كل القصة مع الكتائب كانت، وأنا أستخدم كلمات لطيفة، خطأ رهيبًا. لقد اجتمعنا مع حليف كان من الواضح أنه لن يقدّم لنا شيئًا سوى توريطنا".

(*) لماذا نشأ هذا التحالف أصلًا؟
"في تلك الفترة حوّل الفلسطينيون لبنان إلى "قاعدة إرهاب" ضد إسرائيل بأشكال مختلفة، مثل القيام بعمليات عن طريق البحر، كالعملية على "شارع الشاطئ" (الذي يربط بين مدينة تل أبيب في الوسط ومدينة حيفا في الشمال) وإطلاق صواريخ الكاتيوشا إلى الجليل. عمليًا، أقاموا دولة داخل دولة، تحوّلت إلى معادية وعملت في الإرهاب. وكذلك أدوا إلى الحرب الأهلية، ولذا فإن المسيحيين الموارنة رأوا في الفلسطينيين والسوريين أعداء لهم. وعلى أساس تقاليد الماضي تحالفوا مع إسرائيل وعرضوا أنفسهم كحلفاء موثوق بهم.

في الأيام التي كانت فيها مصر الدولة العربية الوحيدة التي وقّعت اتفاق سلام مع إسرائيل، فإن فكرة أنه بواسطة الحلفاء المسيحيين سوف يقام حُكم مسيحي في لبنان سيحوّل لبنان إلى الدولة العربية الثانية التي توّقع اتفاق سلام مع إسرائيل، كانت فكرة شائعة. لقد اعتقدوا أن لبنان سوف تشق الطريق بذلك إلى سائر دول المنطقة نحو السلام".

(*) ما هو الأساس الذي استندت إليه كي تستنتج بأنهم ليسوا حلفاء ملائمين؟
"لقد عملت أمام الكتائب في جميع القنوات الممكنة، العسكرية، والسياسية، والاستخباراتية. كتبت تقارير، ولكن رتبتي العسكرية كانت منخفضة، وهذه كانت المشكلة. حتى اليوم لا أعرف ما إذا كان أريئيل شارون (وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت) قد قرأ التقارير التي كتبتها أم لا. ولكن في احدى المرات دعوني إلى مكتب رئيس قسم الأبحاث، وهناك قيل لي إن تقاريري استثنائية جدًا وأنه لا يجوز أن أكتبها بشكل يعكس رأيي الشخصي. بالطبع كان بوسعهم أيضًا أن يبعدوني عن وظيفتي. فلا شيء أسهل من أن تعزل ضابطًا برتبة رائد".

(*) ولماذا استدعوك؟
"لأنني كتبت مرة بعد الأخرى أن الكتائب هم عصا اتكاء مهترئة. في جميع اتصالاتي بهم استنتجت في الوقت الصحيح أنهم أشخاص مثقفون ونوعيون جدًا من الناحية الشخصية، أشخاص يعرفون كيف يقدمون عروضًا مثيرة للانطباع حول المستقبل اللبناني والرؤية المستقبلية للبنان، وهي تقع بلطف على المسامع والأنظار، ولكن ليست لديهم أي قدرة عسكرية خلف ذلك".

(*) وما معنى هذه الأمور من ناحية الجيش الإسرائيلي؟
"هذا يعني أنه لا توجد أي جهة بإمكان الجيش إقامة علاقة معها. لا يمكن الاعتماد عليهم بأي شكل وبأي حالة وبأي ظرف. كذلك لم تشمل نياتهم في أي حال من الأحوال توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، فلقد سمعت بأّذنيّ بيار الجميّل، والد بشير، يقول: ابني لن يوقع اتفاق سلام، سيكون رئيس جميع اللبنانيين. وهم لم يكذبوا علينا ولكنهم ضخموا من قدراتهم. لقد أرادوا أن يجرّونا كي نستخرج لهم الكستناء من النار".

(*) ليس أمرًا استثنائيًا أن تقوم دولة بمساعدة دولة أخرى:
"صحيح. وإسرائيل تساعد العديد من الدول سواء أكان ذلك في الخفاء أو علنًا ولكن هناك فرق بين ما إذا كانت المساعدة بواسطة أموال، سلاح أو مخابرات، وبين أن تكون مساعدة مادية ملموسة بواسطة جنود الجيش الإسرائيلي".

يضيف جلعاد أن السوريين هم الذين قتلوا بشير الجميّل، وكانوا تعهدوا بقتله. ويقول في هذا الشأن: "أذكر أني كنت في مكتب بشير الجميّل حينما كان على قيد الحياة وتلقى مغلفًا أبيض مكتوب عليه BG (فهكذا أحب أن ينادوه). والمغلف الذي لم يكن على أوراق رسمية ونقل كما يبدو بواسطة مسؤولي اتصالات، كُتب عليه: ’طالما أنك عشيقة للإسرائيليين سنتحمل هذا، ولكن إذا تزوجت فستكون هناك أرامل’، أي إذا وقعت على اتفاق مع إسرائيل سوف نقتلك. وهذا ما حدث بالفعل". كما أكد جلعاد أن إيلي حبيقة كان متغطرسًا كبيرًا ووحشيًا وفاسدًا جدًا، "وكان يبدو لي أشبه بقاتل بدم بارد، قادر على القيام بكل عمل مشين، حتى لو لم يكن من ورائه منطق عملاني. قاتل على حدود السادية، قاتل خطير علينا أيضًا، ولذا فلا يمكن الوثوق فيه أو الاعتماد عليه".

في فترة اغتيال الجميّل تم إرسال عاموس جلعاد للتواجد في غرفة القيادة "بار- ليف" في بيروت. وحين وصل إلى المكان منعه البعض، كما يؤكد، من الدخول كونه يسبّب الكثير من المشاكل. ظل جلعاد في الخارج وأشار إلى أنه انتابته مشاعر قاسية جدًا في أعقاب ذلك. في وقت لاحق جاء اللواء أمير دروري، قائد المنطقة العسكرية الشمالية، والعقيد موشيه تسوريخ، ضابط استخبارات المنطقة، واللذان عرضا فكرة إدخال الكتائب بدلًا من الجيش الإسرائيلي لـ "تطهير المخيمين". يقول جلعاد: "كانت الفكرة من غير علاقة بالظروف العينية صحيحة؛ لأنه بهذه الطريقة لا نهدّد جنود الجيش الإسرائيلي. ولكن أنا أجبت بانفعال عاطفي وصرخت على ضابط الاستخبارات والجنرال: ’هل جننتما؟ هذا أشبه بتركيبة كيماوية. ستقع هنا مجزرة’. وحين قالا لي إن إيلي حبيقة هو الضابط، كان جوابي أنه مجرم دموي، وشخص وحشي ينكل ويعذب مجموعات سكانية بريئة ولا يجوز إدخاله".

(*) وهل ردّا عليك؟
"كلا. لقد نظرا إليّ وذهبا. أنا مقتنع أنه لم يقم أي من ضباط الجيش الإسرائيلي بأي شكل كان بالتخطيط، أو أنه قصد أن يقتل مواطنين، كان الأمر ببساطة بمثابة عمى مطبق". يتابع جلعاد: "بعد هذا اللقاء في مقر القيادة، اتصلت مباشرة بمقر شعبة الاستخبارات العسكرية في تل أبيب التي تعمل على مدار 24 ساعة لمدّة 7 أيام في الأسبوع. قلت إنني أريد أن أملي عليهم تقريرًا وأن أضيف ملاحظات كي يكون واضحًا أن هذا تقرير حسّاس، من نوع التقارير التي تهم (كلا من) رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، ومساعد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، المسؤول عن قسم الأبحاث، وهو ضابط كبير بدرجة عميد. بعد وقت ما اتصلت مرة ثانية لأسأل هل تمت معالجة الأمر بالحساسية التي ذكرتها، فقالوا لي نعم. ولكنهم لم يعالجوا الموضوع".

(*) لماذا لم يوقفوا العملية؟
"كان هذا نتيجة تبلّد الأحاسيس وليس عن قصدٍ مسبق. لم يفهموا من هو هذا الشريك، من هو إيلي حبيقة. أنا من جهتي لم أكن لألقي عليه أي مهمة. هذه ليست مسؤولية مباشرة بأي شكل، ولكن يجب أن تعرف من الذي تقيم علاقة معه".

وبالنسبة إلى لجنة التحقيق الرسمية التي تقصّت وقائع المجزرة (لجنة كاهان)، فقد أعادت الصحيفة الإسرائيلية التذكير بأنها فحصت أداء رئيس الحكومة آنذاك مناحيم بيغن، ووزير الدفاع أريئيل شارون، ووزير الخارجية يتسحاق شامير، ورئيس الموساد ناحوم أدموني، ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الجنرال رفائيل إيتان، وقائد المنطقة العسكرية الشمالية اللواء أمير دروري، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اللواء يهوشواع ساغي، وقائد جبهة بيروت العميد عاموس يارون.

يقول عاموس جلعاد: "خلال عمل لجنة التحقيق مررت بوقت عصيب، كان الناس يخشون الاقتراب مني، لأن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اعتبرني مشكلة، في ضوء تقاريري عن الكتائب. بعد ذلك توجه إليّ رئيس قسم الأمن الميداني الذي قال لي: "حوّل إليّ الشهادات لفحصها في قسم الأمن الميداني"، فأجبت بأنه ليست لدي وثائق مكتوبة، باستثناء التقارير المكتوبة التي قدمتها في الوقت الفعلي. لقد أراد أن يفحص ما إذا كانت هناك أي حساسيات أمنية في شهادتي، لذلك سألت بسخرية: ما هي مشاكل الأمن الميداني عندما يكون الحديث عن المحكمة العليا؟ فهذه لجنة تحقيق رسمية، ولديها صلاحية تلقي أي معلومات سرية، وفي النهاية هددني بالسجن لمدة 15 يومًا إذا لم أطعه، ولكن لم يكن لديّ أي توثيق، فقد كانت المحادثة شفهية".

(*) ماذا حدث خلال اللجنة؟
"مثلتُ أمام اللجنة ثلاث مرات. شعرت بالعزلة والاغتراب. لكن في النهاية تم إقصاء رئيس شعبة الاستخبارات، وتم تعيين إيهود باراك رئيسًا لشعبة الاستخبارات، وعينني مساعدًا له. بالنسبة لي كان هذا الحدث أشبه بمعجزة. وتحولت فجأة من شخص ملاحق ومنبوذ إلى شخص أصبح في القمة".

ونوهت صحيفة "معاريف" بأنه خلال ارتكاب المجزرة، كان المحامي الإسرائيلي أوري سالونيم في نيويورك، وقد استعاد تلك الأيام على مسامعها قائلًا: "كنت ضيفًا لدى عزريئيل عيناف، الذي كان في الماضي مسؤول الاتصال اللاسلكي الرئيسي (المُخبر الرئيسي) على سفينة إكسودوس. كان معنا أيضًا إيتان هابر، محلل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وفجأة رأينا تقريرًا في التلفزيون عن صبرا وشاتيلا. لم يخطر ببالي مطلقًا أن أيًا من الأشخاص الذين أعرفهم عن كثب متورّط في هذا الأمر، ولم يخطر ببالي أيضًا أنني سأكون متورطًا في هذا الأمر". ولدى عودته إلى إسرائيل، أقيمت لجنة التحقيق، وتوجه إليه من كان ضابط فرقته السابق في سلاح المظليين عاموس يارون طالبًا منه تمثيله. يقول سالونيم: "كان من المهم أن أكون محاميًا يُسمح له بالاطلاع على مواد سرية، وثانيًا أن أكون ملمًا بمجال لجان التحقيق، فأنا كنت محاميًا جنائيًا، وتعاملت مع ملفات كبيرة جدًا في مجال الياقات البيضاء".

(*) ما الفرق الرئيسي بين المحاكم الجنائية ولجنة التحقيق العامة؟
"هناك فوارق كبيرة جدًا تفصل بينهما. تعمل المحكمة وفقًا لصيغة منظمة للغاية من أحكام الأدلة وسلامتها. بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أنه يجب عليك أن تشهد بصدق دائمًا، وفي المحاكم، فإن من يحكم عليك هم قضاة محترفون فقط، ممن تكون مهاراتهم وخبراتهم ومعرفتهم قانونية. بينما تتكون لجنة التحقيق العامة من قاضٍ واحد يترأس اللجنة، وسائر الأعضاء هم أشخاص مثلك ومثلي، على سبيل المثال اللواء يونا إفرات. لذلك فإن الآليات التي يتم الاستماع إليك من خلالها ليست بالضرورة قانونية".

(*) كيف تجلّى ذلك؟

"على سبيل المثال، عندما تستجوب شاهدًا في المحكمة ممنوع أن ترشده. يجب أن تطرح سؤالًا وهو يجيب عليه. في المحكمة يُمنع الشاهد أيضًا من أن يروي شيئًا سمعه، فهذه شهادة سماعية. بينما لا يوجد شيء كهذا في لجنة التحقيق، حيث يمكن للشاهد أن يقول إنه كان في مكان معين وسمع أشياء معينة". وبدأت لجنة التحقيق عملها بينما كانت الحرب في لبنان لا تزال مستعرة. وتوجه سالونيم لقراءة المواد العديدة التي تم جمعها: "كان لدينا بحر من المواد التي تعيّن علينا قراءتها. بالطبع لم نتمكن من أخذها إلى البيوت أو إلى المكاتب، فراجعنا المواد في المكان الذي اجتمعت فيه اللجنة. وقد تركت كل أعمالي ومكثت في القدس ستة أشهر".

(*) كيف شعرت عندما قرأت المواد لأول مرة؟
"عندما قرأت المواد، صرت أعرف تقريبًا ما يمكن توقعه. لكن فجأة رأيت روايات مختلفة بين ضباط برتبة رائد، مثل عاموس جلعاد الذي قال إنه طرق كل الأبواب، ووصل حتى إلى مستوى وزير الدفاع، الذي ادعى أن إسرائيل تلقت تعهدات وعملت مع الكتائب الذين كانوا حلفاء". وبرأي سالونيم "هناك مصطلح في اللغة الإنكليزية يسمى Hindsight ويعني الإدراك المتأخر بعد القيام بالفعل. ونفس الشيء حدث هنا. فلقد أدخلنا أشخاصًا أرادوا الانتقام من أعدائهم الذين كانوا أيضًا أعداءنا. وكان ينبغي بنا أن نفكر في ذلك مسبقًا".

(*) هل قُدمت إلى اللجنة أيضًا أدلة من مسرح المجزرة؟
"لم ترد أي شهادات من طرف الضحايا".

(*) كيف تفسر ذلك؟
"لم تكن هناك حاجة. فحقيقة مقتل أناس أبرياء هناك كانت حقيقة لا جدال فيها".

(*) ما هو أصعب شيء مرّ عليك؟
"الناس الذين لا يقولون الحقيقة كاملة، أو لا يقولونها على الإطلاق".

(*) هل يمكنك أن تقول من؟
"قطعًا لا. عليك أن تفهم أنه من الصعب للغاية في لجنة تحقيق "كشف الحقيقة"، في المحكمة يكون الأمر أبسط. لهذا السبب ليس من المؤكد أيضًا أن الذين سمعوهم كانوا يعلمون أنهم يكذبون. أنا شخصيًا عرفت ذلك".

 

عن (ضفة ثالثة)