ترسم الكاتبة رؤية المستقبل، وتجربة جيل، كان الحلم زاده، فاصبح الانكسار زواده. مستخدمة تلك الإشارات الدالة، والداعية إلى التأويل، حيث يبدو الوشم علامة والحية تحيط بقرص الشمس المعبود المؤله، حيث تكمن المأساة، أن الملك لما يزل مؤلها. رغم كل ما فعله، ورغم كل ما تحملته الأجيال من بعده، "مستخدما تلك الأساليب الخرافية، القائمة على الخزعبلات، وقراءة الطالع، فخاصمها العلم والمنطق، والحقيقة.

وشم الشمس

اعتدال عثمان

 

والقمر قدَّرناه منازل، منزل من بينها يطل على بحر ومحيط وسواحل، يستمد منها المخصب والماحل. وتستصحب القاطن والراحل. تقف عليها جبال أطلس حارسة. حومات وزنقات تفضى إلى بعضها. ساحات فائحة بروائح البهارات والشاى الأخضر بالنعناع، وعرق الكُسْكُس وعطر الأركان ونسيم البحر المملح المحيط.

ساحة جامع الفنا. المرأة فى زيها الوطنى ملتفة بالبياض، مُنقبة حتى الفم. عيونها مكحولة بالشبق العتيق. فى يديها أوراق اللعب.

"يا اللالة نشوف الحظ".

الفتيات فى أرديتهن اللازَوَرْدِيَّة. الشعر خصل رفيعة مضفورة، معقوصة على الجباه السمراء اللامعة، ومنسدلة على جانبَى الوجه. تضوى وتختفى فى حلكة الجدائل نجوم خرز عذرى ومحببات ودلايات فضية مستديرة، تحتجز تحت الأكسدة الكابية برق القمر.

تدق طبول أفريقية شمالية، ويعزف الوتر البربرى، فإذا قرع السائل بسؤاله خزائن الصدور، انفتحت أبوابها، وانطلقت ألسنة الفتية القارعين بالنداء، تجيبه تلبية الصبايا البدويات البربريات.

"واضربْ على سرِّ سرِّ السرِّ قفل حِجَى".

تهتز الصدور الصبية دلالاً وتدلهًا ودعوة. ترتعش حبات عقود الكهرمان الزعفران الذائب فى كريات فضة مموهة بنمنمة المينا، مزججة بألوان البحر والزرع وذرات الرمال. حلقات التاريخ سلاسل متشابكة، مغلقة على أسرارها الغائرة فى الزمن والبدن. تطوق الأعناق بلفات مُحْكمة، لاحتكاكها رنين كالأنين. تصطك أساور معاصم البنات ويرتجف منهن الجسد، مقبلا مدبرًا مجذوبًا برغبة العتق وكبح القيد الحلية. نجمة الصبح البربرية تتقد فى المنتصف بفص حجر الدم. تتمايل على الصدور النافرة الشمَّاء أهلة لا حصر لها، تركت وشمها على الجسم والروح وغابت فى الزمن.

يتقدم الفتى، فارعًا، عاقصا يديه، مُخفيًا فى طيات العباءة الفضفاضة وفى خزنة الصدر خنجرا. يعلو قرع الطبول.

"واضربْ على السرِّ".

تتقدم الصبية، غصن بانٍ مَّياس. تكشف وشم الأهلة وتحجبه بغير كلام، فكل خطاب حجاب إلا خطاب الوجد والوجدان.

ترنو وتغضِى. يرتعش منها الوشم يقول صامتًا؛ خذنى بقوة.

الفتى ذاهل حائر مختلج.

" جهلت فأمعن لدى أسرارنا النظرا".

الوشم المحجوب المكشوف يتفصّد بالنداء.

دعوناك فأخبر كل من رآه وحققه، وأمعن النظر فيه ودققه، أنه ختم على صدره، وبات له راقدا على قلبه، لا يفتح له باب، ولا يبدو لسره لباب. ولا ينبغى أن يقف على ذلك العلم المكنون، المنظور منه والمستور، إلا أصحابه الوارثون.

يفرد الفتى ساعديه. يظهر الخنجر، معقود المقبض بعقدة الوصال المؤجل. يتجه صوب الوشم القفل. يمتد من العقدة طرفا حبل المراودة. يلتفان حول عنق الفتى من وراء.

يقصر طرف الحبل إذ تجذبه الكف اليمنى. قابضة على الخنجر المُشَرع. ينتفض بدن الصبية.

"هيهات هيهات لا كلّ فأطلبه".

تلقفت الخنجر اليد الأخرى. تجذب الحبل تجاهها. فينجذب متوترًا. تهم الصبية بالنكوص.

"لا وحقى طرف فى العلا ظهرا"

جُنَّ مقبض الخنجر بين الراحتين، يدنو ويبعد، يعلو ويهبط. يَصِّاعد قرع الطبول.

"واضرب، اضرب على سرّ سرّ السرّ..."

حد الخنجر المُسنن اللمَّاع يلامس أعلى الرقبة. حبات العقود تستجمع التئامها الأخير. تتأوه منفرطة. ينزلق الحد الجارح إلى الصدر. يشق الثوب اللازَوَرْد. يخز وشم الجلد النحاسى. تشتعل نجمة الصبح بسهام شمس مراكش الحمراء.

تبدل جمع القوم وترًا ممسوسًا

والرقص سهم

فصار خطاب السهم يسرى إلى الوتر.

المرأة فى ساحة الفنا تخلط أوراق اللعب.

"يا اللالة نشوف الحظ"

تتداخل البنات مع الأولاد والشُّيَّب والآسات وبهاليل الورق والأسماء المرقومة. تبسطها وتضمها. عينها علىَّ، تخاطبنى بفن الغمز والألغاز. ألمح من تحت النقاب السميك عوارضها الذهبية، تتوهج بطرف من شمس مراكش الحمراء. تهمهم بكلمات كثيرة. لا أفهم. بسم الله. تمنحنى البنت البتول. فى يدها الولد، يقدح زناد الحظ والهوى المشبوب. والشائب فى اليد الأخرى. يتوارى متربصًا.

تخلط الأوراق بسرعة. تفردها كمروحة، رموزها منكفئة إلى أسفل، لا تبين. تمس يدى لأسحب منها ورقة. أحتار. يدها منقــوشة بوشم الحناء. صفراء حمراء قاتمة، "الحنة يا الحنة يا قطر الندى".

حين لامستنى تبادلنا الوشم وسر السرِّ وقِرَ فى صدرى.

أقول: فى الجهل حيرة، وفى المعرفة حيرة.

على مقربة لاعب الثعابين، ينفخ مزماره، تطل رأس حية الصَّل من المخلاة. السقاء يدور بصلاصله. رأس الحية، وهج الحنة، عين المرأة، عين شمس مراكش الحمراء، أحدق فيها طويلا، ينهار الصمت ما بيننا، وينهمر الزمن، آيات فسيفساء، متجاورة متلاحمة. رع آتوم، حية الصل تحيط بقرص الشمس المعبود من جانبيه، تتوج رأس الملك المُؤله. والملك لما زال ولايزال مؤلهًا.

 يدور السقاء بصلاصله. يروى العطاشى من ماء زمزم. ويدور الفتى فى مركز الأرض. نوبى، مولوى، أمرد. يُحكم على خصره النحيل تنورات السموات السبع. يدور ويدور على دق الدفوف. يمر عليه مقام ما لا يقال. يتزلزل، يذهل، يشحب. تتوالى على بشرته الدَّاكنة الرائقة أنواع الصفات. وهو بين الصحو والسُّكر، والذوق والمحق، ومحق المحق، وفناء العين، وبقاء الحس، تنورة مَوِّاجة، منشورة إلى ما فوق الرأس، وواحدة محكمة على الخصر النحيل. دائرتان دوارتان تمحقان ألوان الطيف. بياض فى بياض، ما بينهما بقعة سمراء يشفها الوجد، قصيدة نفرت من أصابع شاعر، وجود راقص وإيقاعات، واضرب على السرِّ، ونحن فى ساحة الغورى، وكأنما الطير منا فوق أرؤسنا، والجسم قد صار وشمًا للروح، همزة وصل بين دائرة الأرض ودائرة السماء.

ينقض الطير على الوشم.

وحين دعاه شيخه الحارس، أبو الحسن الجارح، فى ليلة قمراء إلى دخول الحمام، كان هو تواقًا لذلك. فلما وصلا، جعل الشيخ الشراشف البيضاء حذاه. واستدعى المريدين، وأخذ يعرِّى واحدًا واحدًا من ثيابه، يرديه بشرشف ويؤزره بآخر. ثم فعل بالفتى مثل ذلك وبنفسه. وكانت مسبغة، إذ بات الفتى فى جنة عالية قطوفها دانية.

"لا علم لا عين لا إحساس يُدْرِكنا".

وفى الصباح وُجِدَ الشيخ قتيلا فى الحمام. وقيل مات غريقًا فى ماء المحبة.

وكان الفتى قد بلغ منتهاه. وبلغ دوىّ الطبول ذروته. وانغرس نصل الخنجر فى الصدر العارى الموشوم.

"لا عَقْل لا جمع لا تفريق لا غيرا"

تَفَتَّقت زهرة الدم.

وكنت أسمع صوتًا فى مَهَامِه الروح يقول:

"عندما يسطع نور المستنيرين

سترافق روحى أوزوريس

وسأتقمص الصقر المُجنح

وسأخرج إلى الأرض

وأفتح الجحيم

لكى أرى شمس الوجود من جديد".

وكنت فى ساحة جامع الفنا، أمد الطرف فأجد الغورى قريبًا من صومعة الكتبيِّة ومِئذنة الحسين والقبة الزهراء. وصدى الدوىِّ لما زال ولا يزال يصمُّ أذنىَّ.

"واضرب على سِرَّ سِرِّ السِرَّ  قفل حِجى"

..... انفتحا.

تفتقت زهرة الدم بين القصرين النهدين وفى قبة المنتهى وفى عين الشمس.