خصصت دار الشعر بمراكش، برمجتها الشعرية والثقافية لشهر دجنبر، للغة الضاد احتفاء باليوم العالمي للغة العربية وبمكانتها ورسالتها المركزية في البناء الحضاري، واستحضارا لدورها الفاعل في ترسيخ التنوع والحوار وإبراز إسهامها المعرفي والفكري والعلمي. وانطلقت الفعاليات الجمعة 16 دجنبر، من خلال تنظيم الندوة الوطنية حول موضوع "الشعر والكاليغرافيا"، شهدت مشاركة ثلة من النقاد والباحثين والشعراء والفنانين، وتقديم مداخلات تستقصي تقاطعات الشعري والكاليغرافي، وشهادات لبعض الفنانين والشعراء في استحضار لتجاربهم الخاصة في هذا السياق.
وقدم الفنان الباحث محمد البندوري تأطيرا نظريا عاما، وسمه ب"التجربة الشعرية الكاليكرافية المغربية، المقاربات والمفارقات"، من خلال عرض نظري وتطبيقي بالصور، توقف خلالها عند تجارب رائدة في الشعر المغربي من خلال العودة لمرحلة البدايات. هذه التجربة المغربية الرائدة، والتي امتدت بين (1977-1985) لدواوين مغربية رسخت هذا الأفق الحواري، بين الخط والشعر، ضمن سياق عمق من البعد البصري للقصيدة المغربية الحديثة. كما استحضر الباحث البندوري، تجربة المخطوط العربي، في ربط للتراث القديم مع النسق الكاليغرافي، لينتقل، في نهاية مداخلته، لعرض بالصور لاشتغالات الشعراء المغاربة، ابتداء من قصيدة الفنان أحمد جاريد، والتي نشرت بمجلة الثقافة الجديدة، إذ تبدو القصائد الشعرية الكاليغرافية التي نشرها أحمد جريد مكتوبة بالخط الأندلسي وتظهر فيها بعض الاجتهادات على مستوى تشكيل الخط وعلى مستوى تموضع القصائد، بينما سنلاحظ لاحقا بأن التجربة الكاليغرافية المغربية الحديثة هي بخط مغربي مبسوط ومجوهر وكوفي..انتهاء بتجربة عبدالوهاب بوري مع محمد بنيس وأحمد بلبداوي في تجربته الشخصية. ففي القصيدة الكاليغرافية الحديثة نجد بعض الخطاطـين الذين كانوا يفتنون في تخطـيط القصائد والدواوين، قد صنعوا مساحة للخط المغربي المبسوط والخط المغربي المجوهر، وشكلوا خاصية المكان في النص الشعري المغربي.
عرض الباحث البندوري، في مداخلته، أهم ملامح التجربة الشعرية الكاليغرافية ودور الخط العربي في علاقته بالنصوص الشعرية. وهي التجربة التي تكتسب أهميتها من خلال إثارتها لأحد المجالات المهمة التي تجمع بين الخط المغربي والشعر والتشكيل، وتتصل مباشرة بالتراث العربي وثقافته. وتُظهر قدرة الخط في إضفاء الجمالية على النص الشعري، لأنه يتميز بمجموعة خصائص مطاوعة لنمطية الشكل الجديد للقصيدة الحديثة، فصنع بلاغة بصرية جديدة تتجاوز النمط القديم المألوف في النصوص الشعرية، وهو ما شكل أحد الإضافات الجديدة في الشعر الحديث.
وقدمت الباحثة آمال عباسي عرضا نظريا، حددت فيه العديد من المداخل لتأطير موضوع الندوة. وحصرت العديد من المصطلحات والمفاهيم النظرية، في استدعاء لهذا البعد التفاعلي بين المعطى البصري، الأيقوني، وبنية القصيدة كنسق إبداعي، توقفت الباحثة عباسي عند التمظهرات البلاغية والخطابية، ضمن سعي للوعي ببلاغة النص واستعاراته. وسمت الباحثة آمال عباسي، الباحثة المهتمة بقضايا الفكر والنقد والترجمة، مداخلتها ب"تقاطعات الشعري والكاليغرافي في الثقافة العربية" من خلال أبعادها ودلالاتها. وتمركزت حول مرحلة الثمانينات وما قبلها بقليل، كفترة زمنية شهدت عدة تحولات على مستويات عديدة، ولأن الشعر ظل مرآة صقيلة تعكس واقعه بكل جرأة وشفافية، وهنا ظهرت بشكل جلي عدة تقاطعات بين الفنون، خلقت نوعا من العلاقة القدرية بين الشعري والكاليغرافي، تمخض عنها ما يعرف بالقصيدة البصرية.
لتقدم الباحثة في معرض مداخلتها مجموعة من الوظائف التي صنعها هذا النوع من التآلف بين الشعر والكاليغرافيا خاصة، منها : الوظيفة التمثيلية والتثبيثية والتشكيلية وغيرها، ليغيب، في هذه الفترة، الاهتمام الزائد بالإيقاع والوزن، ويحل محله الاهتمام بالشكل الطباعي للقصائد وبالصورة المرئية التي تعرض بها هذه الأخيرة، فتسجل الساحة الثقافية ثورة إبداعية تخلد الصدام بين الفني والبلاغي في الممارسة الشعرية، وهنا يجد علماء السيميولوجيا في هذا التجديد مرتعا خصبا للبحث والاشتغال، خاصة في التقاطعات التي توقعها العلامات غير اللغوية، فيتشكل قاموس لغوي جديد من المصطلحات يواكب ما عرفته الساحة الثقافية من تجديد بتلاحم الشعري ـ اللغوي والكاليغرافي ـ الفني، مثل: كاليغرافيا الشعر، كيمياء اللغة، الكتابة الأوطوماتيكية، البعد الشعري الشجري ...إلخ.
ولاكتمال الصورة في شكلها التطبيقي قدمت الدكتورة مثالا شعريا زاوج بين الشعري والكاليغرافي، يتمثل في قصيدة (الشاعر)، لعلال بن الهاشمي الفيلالي، والتي جاءت على شكل رجل شاعر يفتح ذراعيه، وكأنه يرحب بقارئه المفترض، ويدعوه لقراءة أشطر قصيدته بصدق وتمعن. لتختم الباحثة مداخلتها بدعوة النقد والنقاد إلى تطوير الاهتمام بهذا الشكل الجديد، وتدعو إلى رسم مداخيل جديدة للنهوض به وتوسيع أبعاده ومداركه إسوة بسيميولوجيا الأدب، نظرا للتواشج القائم بين العلامات اللغوية وغير اللغوية لخلق ممكنات كاليغرافية جديدة.
الناقد والمبدع الدكتور أحمد زنيبر انتقل لتحديد سمات هذا التقاطع، من خلال توصيف بلاغة القصيدة الكاليغرافية، في استحضار لتقاطعات الشعري والكاليغرافي، عبر رصد عام محددا سماته النظرية. رسخت هذا الأفق الحواري، بين الخط العربي والنسق الشعري، ضمن سياق عمق من البعد البصري للقصيدة المغربية الحديثة. علما، أن بعد أشكال النماذج الحداثية (أبولينير، ومالارميه..) وغيرها شكلت عبورا للقصيدة الى منحى يعمق من البعد التسجيمي البصري، في استحضار دائم لأثر العديد من المدارس والاتجاهات حينها. وختم المبدع زنبير، عند معطى آخر، يتعلق بالتوزيع الكرافيغي للكتابة الشعرية من خلال تجربة ذاتية، في إصرار الشاعر على توزيع نصه على البياض.
ولعل بروز هذه المزاوجة، في فترة لاحقة في المشهد الثقافي المغربي، بين الإبداع الشعري والتشكيلي، نذكر هنا تجربة بنيس وضياء العزاوي ونجمي والقاسمي وتجربة المومني وتجارب الكراريس والكناشات الشعرية (الغارة الشعرية، مرافئ،...)، ضمن مزاوجة بين بنية القصيدة والعمل الفني التشكيلي، أرسى لانشغال عميق للمتن الشعري في علاقته بالإمكانات التعبيرية والجمالية للفنون البصرية، وهو ما أثر بشكل مباشر على معمارية النص الشعري.
ضمن فقرة تجارب وشهادات، قدم الخطاط والفنان لحسن الفرسيوي، أحد أبرز الكاليغرافيين المغاربة والذين ربطوا مسيرتهم الفنية بالشعر، تجربته مع مجلة "الغارة الشعرية" (1994-2000). وربط ميلاد الغارة بالمجموعة الأولى التي أسست مشروع مجلة "أصوات معاصرة" (1991)، لتختار مجموعة من الشعراء، (سعد سرحان وياسين عدنان وطه عدنان ورشيد نيني وهشام فهمي..) في تمثل لتجربة الحساسية الجديدة في الشعر المغربي، إطلاق مجلة الغارة الشعرية، كان ذلك في نهاية 1994. اختار مؤسسو هذه التجربة أسلوبا مختلفا للنشر والتواصل مع قرائهم، إذ بالاعتماد على الحبر والورق والأظرفة وطوابع البريد، استطاعوا أن يبلوروا مشروعا جديدا أسهم في الكشف على العديد من الأصوات الشعرية الجديدة حينها. جاء رد هؤلاء الشعراء الشباب، في اعتماد على قدراتهم الذاتية المحدودة، في مواجهة كانت حينها تعتمد مقولة "قتل الأب" وتجاوز نصوص سائدة حينها، في تمرد مباشر على الشعريات القديمة. لقد كانت المجلة، عبارة عن مجموعة من الأوراق المطوية، "كنانيش صغيرة مكتوبة بخط اليد الجميل" تتداول بين القراء في المغرب وفي عواصم البلدان العربية.
وضمن فقرة شهادات، تدخل الخطاط والفنان عبدالإله الهلالي، مشيدا بتجربة لحسن الفرسيوي الرائدة، والتي تحتاج الى تكريم يليق بمكانة هذا العاشق للشعر والخط. كما تحدث الفنان عبدالله بوركعة عن تجربته، أحد تلامذة المدرسة الحروفية المغربية، والذي أشاد بتلك العلاقة السحرية التي تجمع الفنان الفرسيوي بلوحته. كما نوه الشاعر، المصري المقيم في المغرب، السيد فتحي، بموضوع الندوة في إشارة الى استعارة النص والكاليغرافيا، منذ حفريات التاريخ القديم الى اليوم.
وخصصت دار الشعر بمراكش برنامج ورشات الكتابة الشعرية (للأطفال واليافعين والشباب) ليومي الجمعة (16 دجنبر)، والسبت (17 دجنبر)، للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية. وأشرف الفنان نورالدين بوخير على تأطير ورشات الخط العربي، مقدما عروضا نظرية وتطبيقية الى جانب إشرافه، بمعية الناقد والشاعر عبداللطيف السخيري، على إنتاج بطائق فنية اعتمدت القصيدة نموذجا حيا للاحتفاء بجماليات الخط العربي. وستواصل دار الشعر بمراكش، برمجتها الشعرية والثقافية لشهر دجنبر، الاحتفاء باللغة العربية من خلال تظاهرة "ذاكرة شعرية"، في دورتها الرابعة 2022، والتي تنظم بتنسيق مع كلية اللغة العربية بمراكش وبيت الشعر في المغرب، وخصصت هذه الدورة للاحتفاء بذاكرة الشاعر الراحل أحمد بركات، في إرهاف للذاكرة الشعرية المغربية.