يكتب محرر (الكلمة) تلك القصة التهكمية الشفيفة التي يبقى فيها «بابل الكبرى» و«السواد» مسرحا لما يدور فيها من أحداث، فيضفي أبد المكان روحه وشعريته على أزمنة السرد وهي تتداخل مع أمكنته، ويفتحهما معا على واقع يرصد حياة المثقف الذي يأبى أن يرتهن للسلطة على مرّ العصور.

المَهنةُ الأخيرةُ للكاتب

صـادق الطـريحي

 

كي أطعمَ نفسي وأبنائي، ولا أستجدي الصّدقاتِ من بابك، عملتُ في مهنٍ متعدّدة، فشلتُ فيها جميعًا، لكنّني نجحتُ في كتابة هذه القصّة، عملتُ شاعرًا في الحرب، وصرّافا آليا في مصرف السّواد الأهليّ، وحارسًا للآثار في شركة النّفط الوطنية، ومندوبًا إقليميّا لمتابعة انقلابات النّقد الأدبيّ في ساحة الشّرق الأوسط الجديد، ومفاوضًا سريّا لتخليص المختطفين والمختطفات، وربما بعض المهن الأخرى التي نسيتها، أو التي لا يمكنني ذكرها في هذه القصة.

في الحرب، كنت أكتبُ أسماء الشّهداء على الأشجار، فيستطيعُ الشّهداء معرفة توابيتهم بسرعة، ولن يتأخّروا عن الوصول إلى أهاليهم، لم أعلم أنّ الحرب تستوردُ خشبِ التّوابيتِ من غابةٍ رخيصة، فخرجتُ مطرودًا من دولة الشّعر.

وفي إحدى المرّات أراد شهيدٌ مغمور أن يسحبَ بعض مستحقّاته المالية من المصرف، لم يعلم أنّ بطاقته غيرُ مفعّلةٍ، ولمّا كانت بندقيته بلا إطلاقات؛ فقد ضربني بقوة بأخمص البندقية، وهو ما تسبّب بخروجي من الخدمة.

في اليوم التّالي قدّمتُ أوراقي إلى شركة النّفط الوطنية، فقد أعلنت الشّركة عن حاجتها لحرّاسٍ للآثار يتمتعون بقوة السّمع، والبصر، والفؤاد، نجحتُ في الاختبار، ولم تعلم اللجنة أنّني معوّق حرب، استمر عملي في الشّركة طويلًا براتبٍ عالٍ، مع بعض الحوافز، والأرباح، لكنّني فُصلتُ بتوصيةٍ من منظمة اليونسكو، عندما اكتشفت أنّ أنبوب النّفط يسيرُ في منطقة بابل الأثرية، وأنّني لم أنبّه شركة النّفط الوطنية إلى هذا الخطأ الفنّي، وقد مهّد فصلي من الشّركة دخول آثار بابل ضمن لائحة التّراث العالمي.

وأنا أبحثُ عن عمل جديد، كي لا أستجدي الصّدقاتِ من صندوق الرّعاية الاجتماعية، قرّرت أن أرسلَ هذه القصّة إلى مجلة (العاملون في النّقد)؛ لأنّها تعطي مكافأة النّشر العالية بالدّولار، وسرعان ما جاءني الرّد من السّيد رئيس التّحرير لمقابلته في مكتب المجلّة، قرب محطّة قطار شرقيّ بغداد، قال لي إنّه قرأ القصّة ويودّ نشرها، وقد لاحظ فيها رغبة البطل في التّغيير، والدّخول في عمل جديد دائمًا؛ لكنّ الخبير القصصيّ رفضَ نشرها، بحجّة أنّها ضعيفة فنيّا، وخالية من الوصف، ولا يمكنها أن تجاورَ قصص كتّاب محترفين في المجلّة؛ لأنّها بلا نهاية مقنعة؛ لذلك اقترحَ عليّ أن أعملَ في المجلّة مندوبًا إقليميّا لمتابعة انقلابات النّقد الأدبيّ في ساحة الشّرق الأوسط الجديد، وحين سألته عن الرّاتب، أخبرني أنّه راتب مغرٍ، بالنّسبة لكاتب مبتدئ، عنوانه الوظيفيّ، محرّر تحت التّدريب، وقد اقترح رئيس التّحرير، أن يكونَ أوّلُ عمل لي هو تحرير استطلاع حول الانقلابات النّقدية في الإقليم المحلّيّ، وكم كان العمل سهلًا بالنّسبة لي، فلقد اكتسبتُ الكثير من العلاقات النّاجحة مع النّقاد المحلّيين، والاقليميين، خلال عملي شاعرًا في الحرب، واستطعت خلال أسبوعين تقريبًا، أن أحرّر فقرات الاستطلاع المعنون (مدى تمكّن النّقاد من فهم المناهج النّقدية النّصية، وتوظيفها إجرائيًا) وتلقي الإجابات وتصنيفها، ثم نشرته في العدد التالي، ومن حسن حظّي أنّني تسلمت الرّاتب قبل فصلي من العمل بيوم واحد!!

فكم كنت ساذجًا، وأحمقًا، عندما شملتُ رئيس اتحاد النّقاد المحلّيين بالاستطلاع الذي أثبتَ أنّ المشتركين فيه جميعًا يردّدون مقولاتٍ جاهزة، مكرّرة، مقتطعة من أصولها، وربّما منقولة بصيغة خاطئة، ولا ترتبط بأيّة طريقة ما بالمناهج النّقدية النّصية، أو غير النّصية!!! ولم يكتفوا بفصلي، بل ثمة عقوبة في إضبارة ملفّي بالمجلّة، تمنعني من العمل فيها مرّة أخرى، لأنّني مرّرتُ بعض الفقرات في الاستطلاع دون علم السّيد رئيس التّحرير!!

وفي العشر الأواخر من الرّبيع العربيّ، عملتُ مفاوضًا سريّا لتخليص المختطفين والمختطفات، في الشّرق الأوسط المحلّيّ، ولا يمكنني الآن الحديث عن عملي هذا؛ لأنّني قدّمت تعهدًا بسرّية العمل، وأن أمتنعَ عن نشر أيّ حديث عنه، إلّا بعد مرور خمسين عامًا على تأريخ تركي العمل.

ولا أدري متى عملتُ كاتبًا في محكمة الأحوال النّفسية، في بابل الكبرى، وعلى الرّغم من ضآلة الرّاتب الذي تقاضيته، وعدد ساعات العمل الطّويلة، إلّا أنّ هذا العمل يعدُ أجمل عمل لي، فقد كانت المحكمة في بناية تراثية قديمة من طبقتين، مرتفعة عن الأرض بسلّم من خمس درجات، من الأسمنت المسلّح، مع سرداب أرضيّ، تطلّ شبابيكه العلوية على ممرّ ضيّق مشجّر بالورد الجوري، ثم سياج حديديّ مشبك يفصل البناية عن الشّارع العام، مقابل الشّطّ تمامًا، بغرف عالية السّقوف، علّقت فيها مراوح سقفية إنكليزية، وبجدران مبنيّة من الجصّ، يصل سمكها إلى نصف متر تقريبًا، ذات معامل عزل عال جدًا.

في الصّباح، يمكنك أن تفتحَ الشّبابيك المطلّة على الشّطّ، فيأتيك نسيم خفيف بعطر النّارنج، ويحمل إليك الماء رائحة طيبة، هي رائحة السّمك الطّازج المطمئنّ، وقد ارتوى من اللذة، وهو في طريقه إلى شباك الصّيادين، في هذه البناية تعرّفت عن قرب إلى عدد من القضاة الذين درسوا القانون في جامعات عريقة، وتبادلنا بعض الرّوايات، والقصص القصيرة، وقد قرّبوني إليهم؛ لسلامة لغتي العربية، ولتفهمي الدّقيق لمن يودّون تسجيل بياناتهم النّفسية الجديدة، ومن المؤسف له، أنّني تعرّضت لعقوبة إدارية في تُمّوز، بعد وصول النقيب الحقوقي، فلان الفلاني ليرأس المحكمة، وهو الذي اكتشف أنّني لم أسجّل بياناتي النّفسية الجديدة، أو تلاعبتُ بها.

لقد ازدادت درجة القلق عندي، فلم أعد أخشى الأماكن العامة فقط، أو الشّعور أنّني محاصر في مربّع صغير، يكاد يتهدّم في أيّة لحظة؛ بل صرتُ أخشى المرور قرب الخطوط الحمراء، ويصيبني الهلع من رؤية أصحاب الحبال، والشّعارات، والرّايات، وأشعر بانقباض في الصّدر، وضيق في التّنفس، كلما رأيت مستوى المياه في الشّطّ، مرتفعًا أو منخفضًا!!

في اليوم التّالي قدّمت تظلّمًا للسّيد العميد (هكذا صار اسمه) لإلغاء العقوبة، بيّنت فيه مدى دقّتي، وإخلاصي في العمل بشهادة القضاة السّابقين، دخلتُ إليه في غرفته المربّعة، ذات الخطوط الحمر، والسّتائر السّود التي تُسحب عن طريق حبل غليظ، ويبدو أنّ السّتائر لم تُسحب مذ استلم وظيفته، لأنّه حشرَ بينها وبين منضدته المصنوعة من الخشب المستورد المضغوط مجموعة من الرّايات الحمر والخضر والصّفر، وملأ جدران الغرفة عددًا من الشّعارات المخطوطة بخطّ الرّقعة، ولا أدري لمَ شعرتُ بانقباضٍ في الصّدر، وضيقٍ في التّنفس، وكأنّني محاصر في مربع صغير!!

نظرتُ باشمئزاز إلى وجهه الذي بدا لي مثل ورقة نباتية متفحّمة الأطراف، مزّقتُ أمامه الورقة التي في يدي، ثم خرجتُ مسرعّا؛ كي أشمّ رائحة الشّطّ.

لكنّني لا أعرفُ حتّى هذه اللحظة، هل مزّقتُ ورقةَ التّظلم، أم ورقةَ القصّة التي لم تُنشر في المجلّة!!

 

  • شاعر وقاص وأكاديميّ من العراق.

بابل 2020