لا يكتب القاص والناقد العراقي المرموق هنا تقديما لرواية العدد، وإنما نصا عليها، يضيء أبعادا مهمة في تلك الرواية التي تكتب إحدى شرائح الثقافات التحتية العراقية التي شكلت نسيج هذا البلد الثري بأعراقه الفريدة، وهي الصابئة المندائيين. ويتوقف عن الجدل الخلاق بين الكتابة والحياة وبين جوانب السرد ومآلات السيرة ورؤاها.

سيرة الرماد: حاضر الكتابة وماضي الحياة

لؤي حمزة عباس

 

ما السبيل لإدراك طبيعة التاريخي وهو يلتفت مراقباً آثار أعوامه ضمن منحنى حياة لم تعد قائمةً، "كلُّ الذي يمتُّ لها بصلة كان قد توقّف عن أن يكون: الناس والمكان"؟

وكيف يمكن لذات قلقة، مهاجرة، حرّة إلى حد بعيد وملتاعة، أن تعمل على استعادة وقائع حياتها وتدوين سيرتها، وإن كانت "سيرة رماد"؟

إن ما يسعى يحيى الشيخ لإدراكه في عتبة سيرته، قبل الوصول إلى حديث الولادة، يُفيد من قلق مواجهة الذات قبل رواية وقائعها ورصد تجاربها، منتقلاً بها إلى ما هو أكثر بُعداً من الأسئلة، أغنى وأهم، بما يتعدّى محدوديّة الوقائع نفسها ويتجاوز انتظامها للنظر إلى شمول التجربة واتساع عوالمها وهي تستند إلى نوعين مؤثرين من الوقائع "ماحدث في الخارج" و "ما صار في الباطن"، وهي الوقائع التي لن تكون متطابقة مع بعضها، ولن تستجيب أيٌّ منها للعبة الوجه والمرآة، فهما أبداً وقائع مختلفة تحيا كلٌّ منها دورة حياتها وتنشغل بتحولاتها، فلن تكون السيرة الذاتية مرآة صقيلة صامتة، لها ما يكفي من حياد المرايا وتفانيها، ليست السيرة بالمرآة ولن تكون. إن ما تنهض به كتابة السيرة الذاتية من وظيفة ترجمة حياة وكشف تجاربها يمضي بعيداً عن أداء المرآة طالما خضع سرد السيرة لفعلي انتقاء وتأليف، وهما فعلان أساسيان في أي إنتاج سردي، كتابي أو غير كتابي، وطالما انشغلت السيرة بتحقيق هدفها المتمثل بإنتاج "قصة إستعادية نثرية يروي فيها شخص حقيقي وجوده الخاص مركّزاً على حياته الفردية وعلى تكوين شخصيته بالخصوص"، إنه تعريف فيليب لوغون وقد نظرنا إليه بوصفه هدفاً لنلاحظ مقدار ما ينطوي عليه كلٌّ من التعريف والهدف من صعوبة في استعادة "الوجود الخاص" و "الحياة الفردية" وهما يُسهمان ببناء التجربة السيرية، إذا ما تجاوزنا ما يشتمل عليه فعل الاستعادة نفسه من صعوبة وتعقيد. ثمة، أبداً، وقائع مضمرة تغذّيها عواطف وتوجّهها قناعات، وهي على الرغم من إضمارها، تُسهم بتوجيه ما هو معلن من مرويات السيرة التي تحيا دورة حياتها وتنشغل بتحولاتها، بما يؤمّن لـ "سيرة الرماد" مساحة تأمّل تقارب مساحتي السرد والتوصيف وتتجاوزهما أحياناً، فالشخصية التي تؤسس سرد قصتها على فكرة أنها "أكثر من واحد عاشوا الزمن ذاته، أو واحد عاش زمنين" ستظل مشدودةً لمروياتها التي هي مرويات شخصية واحدة، منشغلةً برؤيتها لمنحنى حياتها أكثر من إنشغالها بما وقع فعلاً ولم يعد غير ذكرى. ستهرع الشخصية إلى المرآة كي تُبصر ذاتها فلا ترى أحداً، ولن تسمع في عمق مرآتها غير حَيرة سؤالها: "من عاش إذن تلك السنين؟". أعدُّ سؤالاً مثل هذا جوهرياً في كتابة السيرة الذاتية، أية سيرة ذاتية، ودافعاً مركزياً من دوافع تأليفها. فالانشغال بـ (مَنْ عاش؟) لن يجد إجابته إلا باستعادة الكيفية التي عاش بها، وفهم الاشتراطات التاريخية التي تشكّل داخلها، لكن الاستعادة لن تكون مخلصةً للتجسيد التاريخي، منصاعةً لإرادته، وهو ما يأخذ كتابة السيرة الذاتية باتجاه الفن ويُعلي من دور الخيال وفاعليته في إعادة إنتاج تجاربنا. ليست السيرة الذاتية، بذلك، تسجيلاً محضاً لحياة فرد معلوم وتدويناً دقيقاً لوقائعها، مخلصاً لزمنيتها، مطابقاً للكيفية التي وقعت فيها. إن انفصال كتابة السيرة عن التسجيل يدعونا للتفكير بوسائل انتاجها وطرائق كتابتها وهو ما يضع "سيرة الرماد" في مقدمة مؤلفات السيرة الذاتية في الأدب العراقي الحديث، إلى جوار سير معدودة مثل (أقتفي أثري) لحميد العقابي، و(ذكريات عمر أكلته الحروف) لنجيب المانع، و(غصن مطعّم بشجرة غريبة) لصلاح نيازي، و( الرياح تمحو والرمال تتذكر) لحسب الشيخ جعفر، شغل التخييل فيها مساحة ليست بالضيقة في مواجهة الواقع والتقاط تفاصيله. سيكون الفن حاضراً عبر الطريقة التي تؤسَس بها السيرة الذاتية لتدوين ما مرَّ من وقائع وأحداث، وآليات روايتها، إعادة انتاجها في الأدب، وهو ما منح هذه السير أكثر من سواها فرصة التمثيل الثقافي، لا لأن أصحابها منشغلون بالشأن الثقافي مسهمون به، ولا لأنها تتخذ من الفردي عتبة لاستعادة العام وإنتاج شهادتها بصدده، بل لطبيعة الكتابة التي تبدو قد وصلت إلى درجة من النضج تمكّنها من تحقيق وعي خاص بما تسعى لتدوينه عبر الطريقة التي تدوّنه فيها. إن تمثيلات السيرة الذاتية لا تنوب عن موضوعاتها ولا تكون وثائق مُحكمة عنها، بل تعمل على تدوين ما يُعدُّ واقعاً على النحو الذي تسعى لاستعادة الواقع فيه، إنه واقع الكتابة، رؤيتها للعالم وطرائق تفكيرها وآليات تدوينها.

تقدّم "سيرة الرماد" تمثيلاً ممتازاً لفهم الفكرة، ففي حديث يحيى الشيخ عن ولاته تواجهنا فكرة (البديل) بظلالها المؤثرة: "سقطت إلى الوجود تتقدّمني هيبة طقوس صابئية لابن من عرق كهنوتي نقي لا مراء فيه، قادم على رأس أربع بنات، لأم فقدت ولدها البكر، مهدّدة بزوجة ثانية إن لم تُنجب ولداً آخر بديلاً. فكنت البديل المبالغ في حقيقته، المطلق"، الأمر الذي لا يخلو من حَيرة، فكيف يمكن أن يكون المرءُ بديلاً عن آخر وهو، في الوقت نفسه، حقيقي مبالغ في حقيقته، ومطلق؟

ستردم رمال القداسة هوّة السؤال وتطمر الحَيرة، فقد ولد الطفل في "أقدس أيام الصابئة المندائيين: أيام الخلق" الأمر الذي جعل منه وليداً مقدّساً يُكمل مهمة الكاهن ويتفوّق عليه بقدرته على أن يشهد هاتفاً "أنا سهدخ". ينهمك الكاهن بأداء شعائر كهنوته وينشغل الولد بأداء مهمته السامية، مراقبة ما يدور أمامه والشهادة عليه. بمستطاع السيرة الذاتية أيضاً أن تغدو بديلاً شاهداً، إذ إن إنهمامها بإعادة إنتاج ما تروي، على النحو الذي تقترح روايتها فيه، يعزّز فعل الشهادة ويُعلي مدوّنتها، لكن صوت الولد سينحسر مع مرور الزمن، وتتراجع شهادته في ضجة الأصوات مثلما يتراجع إيمانه بقدرته على أن يواصل دور الشاهد المقدّس وتتعطل حواسه، على الرغم من إن كلَّ كتابة سيرية تستنهض الحواس لتُنتج، على نحو ما، شهادتها.

ستتعدّد صور الفتى كلما تواصل سيره في الزمان وامتدت حكايته، سيغدو معرّفاً بجملة صفات يوجزها بـ "الفنان، السياسي، الأستاذ، الأب، الروحاني، الربوبي"، إنه هؤلاء كلّهمُ وهو آخر غيرهم، ضدَّهم المعلن بجملة صريحة واضحة "في الحقيقة كنت كلَّ هؤلاء وكنت الضدَّ في آن واحد"، لكن مثل هذا التعدّد والتضاد لن يكفي لرواية سيرة واحدة، ستظل الحاجة قائمةً لقرين يؤدي ما لا تستطيع الشخصية الأساس تأديته، وقول ما لا تجرؤ على قوله.

تعمل السيرة الذاتية في صورة متقدّمة من صور التعبير عن قلق كاتبها في مواجهة النسيان، وفي محاولة منها للإنصات إلى صوت الدواخل الانسانية الذي تغيّبه عادةً قعقعة الوقائع اليومية، على إنتاج (القرين) صورة أخرى تتلبّس الذات وتواصل حوارها وقد انشطرت ذاتين، تقع الأولى منهما في مجرى الحدث، حيّةً فاعلةً، وتتخلل الثانية مراياه، تختبيء في أصدائه وتغيب في ظلاله وحواشيه، إنها تهيئ من غموضها ما يخفّف من قلق الكتابة ويعزّز حضور السؤال في تضاعيف السرد، إن مجهوليّة القرين وهي تقابل معلومية دوره تمنح حضوره أهميةً مضاعفةً، وتهيئه لإنتاج قول مغاير كما تُسهم بزعزعة يقين الذاكرة بما تعمل على استعادته من وقائع وشخصيات، إنها اللعبة المثلى للانتقال بالشك إلى مرحلة أكثر تأثيراً في مجرى الوقائع المدوّنة، لنكون عندئذ أمام نوع من مقابلة ضديّة تُسهم الذاكرةُ فيها بالدرجة التي يُسهم فيها النسيان، إنهما معاً يؤديان المهمة الأساس للسيرة الذاتية: إعادة بناء عالمنا الخاص والشهادة عليه عبر إعادة انتاج وقائعه، مثلما ستقدّم آلية القرين فرصة مثاليّة للتغلّب على أوهام الوعي الذاتي وأحكام مثاليّة الوعي ليقود كلٌّ من الشك والقلق صاحب "سيرة الرماد" للتفكير بإنتاج ذات مقابِلة، فاعلة ومؤثرة، تُسهم إلى حد بعيد في توجيه الكتابة وهي تراقب أفعال الذاكرة وتختبر مروياتها: "في هذا المنحى يبدو لي أن عليّ انتاج ذات من طراز آخر. ذات متسامية تُعاين ذاتها القديمة بعدالة، وترمّم ذاكرةً بُترت أطرافها ونجت بما تبقّى. ذات لا تاريخيّة". إن إدراك دور القرين بوصفه ذاتاً لا تاريخيّة سيخفف من رومانسية الفكرة  ويقلّل من مثاليتها لأنها ستغدو ذاتاً مراقِبةً تتخلّل زمنية السيرة وتنفصل عنها في الوقت نفسه، إنها النظرة التي تتجاوز قدرات راوي السيرة المحدّده في موقع واحد لتشغل بدورها موقعين، داخل مجرى أحداث السيرة وخارجها، مكتسبةً حيويةَ موقعها من طبيعة مادتها الغريبة المراوغة، إنها نظرة القرين الصريحة والكاشفة، فالقرين يتشكّل من مادة الذات، من مخاوفها وهواجسها وأحلامها وأمانيها، لكنه لن يكتمل إلا بانفصاله عنها ليُصبح مرآتها، إنها الفكرة التي تسعى لانجاز مقاربتها بين التخيّل والوهم، بين الابتكار والنكوص، وهي تستعير من ذاتها ذاتاً، وتهيئ من صوتها صوتاً، وتشتقّ من صورتها صورةً قادرةً على مكاشفة الذات والتعبير عن قلقها، "هل أتخيّل ما كنتُ عليه وأستعير شخصيةً أخرى أتكلّم عنها، كما لو كنت أنا؟... هناك مَنْ يبحث عن ذاته، وقد يصادفه ما يخدعه في طريقه. قد تكون الطريق ذاتها هي الوهم. وهناك مَنْ يبحث عن هوية ذاته، والشكُّ يكمن في بنية الهويات مهما بلغت نقاوتها". إنها أرض السؤال التي تنبثق منها آليةُ القرين، تولدُ وتتبرعمُ مع استهلال السيرة، وتنمو وتورق وسط متاهةِ النظرةِ وغيابِ اليقين، ليؤدي القرينُ دوراً مؤثراً في إيقاف تتابعية السرد وتغيير مساره أحياناً وهو يعمل في كلِّ مرّة يتجسّد فيها على تعطيله والانشغال بقلق الراوي، إنه آليّة محرّضة تعتمدها السيرةُ لتوسعة نظامها الدلالي وإغناء عالمها وهي تواجه صدقية ما يُروى مقترحةً السؤال سبباً آخر يُضاف لمساقٍ سببي ينظم سردَ السيرةِ ويؤالف بين عناصرها. مع القرين تقلُّ قدرةُ الفاعل المركزي ويُراجع يقيُنه بذاته وبما يروي، ترتبك يده وهو يقبض على مقود تأريخه الشخصي، ويتلعثم لسانه وهو يروي وقائعه الماضية، القرينُ لعثمةُ السيرة، مسوّغها للنزول من سطوح المروي إلى قيعانه بحثاً عن إدراك أعمق للتجربة الفردية وهي تتشكّل عبر منظومة من الوقائع والشخصيات، بما يوسع من رؤيتها لذاتها وللعالم. سيُسهم القرينُ إلى حدٍ بعيدٍ بإرباك الذات المتكلّمة، خلخلة شعورها بتمكّنها مما تروي والتقليل من استسلامها لمجرى الوقائع لتبدو أكثر وضوحاً وهي تنظر عبر القرين إلى نفسها، تراقبها بوصفها آخر، شبيهاً غير متطابق يملك حريّة الرصد والاعتراض.

"ـ يتدخّل قريني على عادته في كلِّ ما أفعل وأسمعه يتشدّق:

ـ أنت تقلقك النهايات وتخاف صورتها.

أقاطعه لأسدّ الطريق عليه ولا يكمل خطبته، فأنا أعرف وسائله الخبيثة في تعذيبي.

قلت له ولأشبع غروره:

ـ صدقت! لهذا فشلت أن أصبح كاتباً.

وهذا ما كان يرمي إليه، أن أعترف بفشلي وأنا صاغر".

سيكون القرينُ، بذلك، آليّةً من آليات الاعتراف التي تعتمدها السيرة، وتلك مهمة أخرى من مهماته، فليس بوسع السيرة أن تُنتج رؤيتها لتجربة صاحبها وهي تستعيد قصته من دون أن تمنحه فرصةً للإعتراف وهو يسعى لفهم حضورها في نهر الحياة الانسانية عظيم التدفق دائم الجريان، الفهم الذي سيمنح السيرةَ الذاتيةَ فرصةً للانتقال من معالجة الخصائص الفردية لصاحبها للنظر في خصائص الجماعة البشرية التي ينتمي إليها، ليكون، عندئذٍ، أشبه بقطرة الماء الموضوعة تحت المجهر، إنها تبيّن خصائصَ الماء وتكشف طبيعته.

لا يمرّ القرين في "سيرة الرماد" على نحو خاطفٍ ولا يترك ظلاً عارضاً على الذات وهي تسعى لمواجهة تجربتها ورواية قصتها، بل يُصبح ركناً من أركان المواجهة ووجهاً فاعلاً من وجوه التجربة وصوتاً مسموعاً يتخلّل صوت الراوي كاشفاً الكثير من كوامنه، ليتجلّى في أحيان عديدة حامياً ومخلّصاً وهو يشكّل مركزاً سردياً يمنح سرد السيرة وجهاً من وجوه الكفاءة. إنها مهمةٌ أخرى، إنسانيةٌ وملهمةٌ، من مهمات القرين الذي لن تتحددَ وظيفته بكشف قلق الراوي وإعلان هواجسه: "عدتُ إلى البيت منتشياً وصفقتُ الباب خلفي. استيقظ أبي من قيلولته أحمر العينين. قبل أن أجيبه على سؤاله: أين كنت؟ أخذت العصا على فخذي تحفر مكانها. ولطالما كان حضن عمّتي ملاذي الآمن، وأترك قريني بين يديه ينال ما تبقى من عقاب"، إنها المهمة الأصعب بين مهمات السيرة الذاتية، البحث عن القرين وتقديمه على النحو الذي يُضيء المسافةَ بين الذات وهواجسها:" إنه قريني: النبي الذي أتبعه وأشكُّ برسالته". الأمر الذي لا يقف عند حدود الذات ولا يتماهى بانشغالاتها، إنما يتعزّز ويرتقي في الحديث عن الآخر بحثاً عن قرينه، فلا تكتفي سيرة يحيى الشيخ باستحضار الآخر وتبيّن أثره في تشكيل الذات ـ كما في الفصل المعنون (سهيل وقرينه) ـ بل تمضي أبعد من ذلك من خلال البحث عن قرينه حيث يغدو القرين مناسبةً لإدراك الآخر ومحاولةً في فهم أثره. إن الكتابة عن سهيل سامي نادر، الناقد التشكيلي والصحفي، صديق صاحب السيرة الذي فارقه منذ أربعة وثلاثين عاماً، تمنح السيرةَ عبر دراسة التخطيط الشخصي المنجز من قبل صاحبها مساحةً للخروج من الذات إلى الآخر، ومن الآخر إلى قرينه: "لقد رأيت سهيلاً يتشكّل كلَّ لحظة. يكبر بإرادته. كيان تاريخي لم تكتمل صياغته النهائية بعد. حسناً... سأثبّت قماشة الرسم وعليّ قبل ذلك أن أتثبّت من نيتي.

ـ عن ماذا تبحث فيه وهو غائب عن وضوحه كما تقول؟

ـ أبحث عن قرائنه، عليّ أعثر عليه.

بدأت ملامح قرين سهيل سامي نادر تظهر على قماش اللوحة: رأس مقطوع يذكّر برأس يوحنا المعمدان في الصور الكلاسيكية، هل ينتمي سهيل إلى هذا النبي بصيغة ما؟ لا أعرف".

إنه قلق المعرفة الذي يفتح الباب واسعاً أمام السؤال، ليظلَّ القرينُ، على أيةِ صورةٍ تجلّى، نبيَ الذات الذي تتبعه وتشكّ فيه، بمعونته تتضح الفكرة وتتشكّل وهي تضيء مناطق العتمة بأنوار الخيال، تردم هفوات النسيان بأن تبني حولها مساحات مأهولة، فتمنح المشّاء الذي ينسى فرصة أن يدوّن صفحات حياته وهو الذي يغيب عنه "بماذا بدأ وبماذا انتهى". إنه ينوّع ضمائر كتابته ملتفتاً في كلِّ مرّة، ويعدّد أزمنته ليكون كاتباً في مقطع مكتوباً عنه في آخر، مثلما يكون شيخاً لا تشغله غير أوقات المراقبة والتفكّر، همّه متابعة ذكرى ولد تأخذه "إغواءات بساتين مأهولة بالبلابل والدبابير" وتسحره لعبة العظام المرميّة بعيداً في قلب الظلمة والبحث عنها، كان الفتى يربّي قلبه على الخوف، وعينيه على الظلام. يحدّثنا الشيخ عن القلب الذي يستعيد الحكاية والعين التي تلتقط تفاصل المشهد البعيد بحثاً عما نُسي فيه ورغبةً في إكمال نواقصه، "عندما يجتاحني الافلاس وهو حالة مزمنة، أنبش الماضي، لأني على يقين أني نسيت شيئاً ورائي ولم أكمله، تركته ناقصاً".

تحاول السيرة الذاتية إكمال ما تركناه ناقصاً وراءنا وهي تروي قصة حياتنا على نحو منتظم، واضح، ومنطقي، لكنها سريعاً ما تهدم قناعاتنا وهي تدوّن اعترافاً ترصد فيه طبيعة  العلاقة بين حاضر الكتابة وماضي الحياة، إنهما مشهدا حياة تُعيد السيرة تقديمهما في مشهد واحد أثير "أصبح حاضري عبارة عن بواقي ماض تختلط ببعضها، فيصعب تقدير نسبها، ويتعذّر عليّ فرزها، حاضر يجرُّ وراءه ماض ناقص يعبر إلى مستقبل غير مكتمل، لم أبدأ تماماً ولم أنته تماماً. حرف وصل بين جملتين، بين حياتين: هذه صورتي"، مثلما تُنتج طبيعة النظر لمجرى الزمن تصوراً عن الذات بين زمنين، يتجلى الحديث عن الذات  المرويّة من خلالهما بوصفها آخر. ثمة إثنان في "سيرة الرماد" يتقاسمان الحكاية: صبي راحل ذو ثمانية أعوام، وشيخ رصيده من الرحلة، حتى لحظة الكتابة، سبعة وستون عاماً، هو الذي يُعلن شكّه بأن من يكتب ليس الذي رحل مع أهله قبل أكثر من خمسين عاماً "إنما صبي آخر، إنه الذي لم يرحل"، فبين الإقامة والرحيل تؤسس السيرة قصتها وتنظم مجريات وقائعها، مدوّنة إدراكها لمفهوم الرحيل الذي "لا يتم في المكان، بل في الزمان. في الحياة إننا لا نرحل، بل ندور حول أنفسنا وحول بعضنا، وسعيد من يُدرك الدائرة الأخيرة ويفطن نهايتها".