(1)
أصدر الكاتب ناصر عراق عشر روايات في الفترة من (2006-2020م) تمثل مشروعه الروائي، ومن شأن المشاريع أن تكون لها غايات تسعى إليها، وأحسب أن الغاية الكبرى في روايات ناصر عراق تتمثل في الانتقال بمصر من صفوف الجهل والفقر والمرض والتأخر إلى الصفوف المتقدمة في العلم والحضارة. وتحقيقا لهذه الغاية الكبرى التي ترجو لمصر (التقدم)، لابد من (وعي تنويري)، يمهد السبل ويدفع الناس إلى مراجعة ما لديها من أفكار وتصورات للعالم ثم دحضه أو تعديله من أجل الانتقال إلى رؤية أخرى كاشفة عن حقيقة العالم المعيش ثم تبني كل ما من شأنه أن يبصر إلى واقع أكثر إشراقا لارتباطه بالعلم.
ولم تكن الغاية المنوطة بالمشروع الروائي لناصر عراق جديدة على المجتمع المصري، بل تبنتها كل قوى النهوض المختلفة: الليبرالية 1918م، والاشتراكية 1920م، والسلفية 1928م، والقومية 1952م. وكلها داعية إلى تحديث الوطن والارتقاء به، وإن تمايزت في الوسائل، وتمايزت في تحديد مواقفها من العلم([i]). وبدهي أن المفاهيم المؤسسة التي تناولتها قوى النهوض لم تكن ثابتة طوال الوقت، وأنها اتخذت أشكالا مختلفة. وهو ما يعني أن الهدف المشترك لا يعني ثبات النموذج الواحد أو ثبات العلاقة بين النماذج المختلفة. ولكنه في كل الأحوال يعبر عن موقف فكري، وله غاية اتفق عليها الجميع، وهي الارتقاء بالوطن وإن تنوعت السبل واختلفت الوسائل.
وتتبدى قيمة كل مشروع في قدرته على فهم الواقع المعيش، مستندا في الوقت ذاته إلى أساس فكري أو بناء فلسفي واضح يعينه على إدراك واقعه وتفسيره. ويتكون هذا الأساس غالبا من صيغ أو أبنية تتسم بالثبات، وهذه سمة أولى. ويترتب على وجود هذه الصيغ / الأبنية قابليتها للتفسير، وهذه سمة ثانية لوصف المشاريع.
وأزعم أن المشروع الروائي لناصر عراق – بشكل ما - رفع قواعده على أسس البنيوية الماركسية، وفي نسختها الفرنسية خاصة، وهي الأسس التي قرأ فيها لويس ألتوسير أفكار ماركس، وطورها في نسق أو في شكل بنيوي قار. ودعم هذه الأسس، قراءة ومناقشة وممارسة عملية، كل من الفيلسوف الفرنسي بيار ماشير والناقد الإنجليزي تيري إيجلتون. وليس من هدف الدراسة استعراض هذه الأسس، ولكنها تشير إجمالا إلى طرح عدد من الأفكار التي لها صلة بالمشروع الروائي، وتمثل في تبلورها للأطر النظرية الماركسية نسقا أو بناء منطقيا. وأهمها: الحديث عن ثنائية الوعي / اللاوعي بالمفهوم الاجتماعي فالإنسان يحدد كينونته بناء على الدور الاجتماعي الذي يقوم به، أي إن الوظيفة تحدد الماهية، الوجود أولا – المتحقق عن طريق الوعي – ثم الماهية.
ويتصل بهذه الثنائية ثنائية أخرى هي التأسيس للعلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان القانون والتاريخ وحركة التطور تحكم المجتمع (المادية التاريخية – المادية الجدلية)، وهو ما يعد نفيا لكل دور إيديولوجي في المجتمع. وحركة التطور التي تحكم المجتمع تتم بالتفاعل بين المكونات القائمة على التعدد والتغير، وهو ما سيدفعهم إلى تبني رؤية خاصة من الماضي. وهو تبني يتضح في ضوء تصورهم للجدل، وجدلهم مع الماضي لا يعني نفيه، ولكنه يعني التحول إلى كيفية جديدة. وهذه الكيفية الجديدة تحقق لديهم فكرة الصيرورة.
وتبدو قيمة الحرية قيمة أساسية في إبراز حركة التغير التي تكون نقطة انطلاق لكل تطور. وتتجلى صيغة التقدم في ضوء أفكار الوعي والتطور والجدل، في ضوء ما قدمناه، والتقدم هنا سيرتبط بكل ما يتصل بالإنسان، وكل نظام اجتماعي لا يعمل لصالح الإنسان فهو نظام قهري، ومن صور القهر ما يعرف بصراع الطبقات، وقدرة الإنسان – عبر الجدل – على تذويب الطبقات سيؤدي إلى إحساس الإنسان أنه يمتلك حريته. والحرية هي طريق التقدم، بالمعنى الذي يجعله يؤسس كيفية جديدة لواقع جديد. وقد يتبادر إلى الذهن ما حدود هذا التقدم هل هي آفاق مستقبلية حالمة أم خطوات محدودة إلى الأمام في اتجاه الحاضر؟ يتحكم في الإجابة عن هذا التساؤل ما يعرف في الماركسية بالمنظور التفاؤلي، لأنهم ينظرون إلى المستقبل من هذا المنظور، ويرون أن كل تغيير في الأدوات وأشكال المعرفة سيؤدي إلى شكل من أشكال التطور لاحقا. في ضوء ما سبق حددنا ثنائية الحرية والتقدم مدخلا لقراءة نص جمالي هو رواية الكومبارس. وهو ما سيدفعنا إلى تساؤل جوهري:
أين موقع الفن ماهيةً ووظيفةً في هذا البناء الفكري؟
لا ينهض عمل الفنان هنا بمعزل عن الأنشطة الأخرى، لأنهم يرتبطون جميعا بالواقع الاجتماعي ومحاولة إدراكه وتفسيره. ويمتاز الفن عن سائر الأنشطة الأخرى بالبعد الذاتي الفردي الذي يصنعه خيال المؤلف لإدراك الواقع. ويصنع هذا الالتقاء بين الفردي والجماعي خصوصية الفن. في هذا السياق لا يصح أن يكون البناء الفكري إطارا للبناء الفني، بالمعنى الذي يجعله يحتويه، بل يعمل الفن بموازته ويتداخل معه في آن. وبقدر ما يحافظ الفنان على هذا (البعد المتصل) بين الفردي والجماعي يكون للفن دور في إدراك سلامة الواقع الاجتماعي. وتتناقص قيمة الإدراك مع ميل الفن إلى أحدهما، إذ إن الجنوح إلى الذاتي قد يدفع إلى تصور مؤداه أن الفن هو الواقع أو العلم المعبر عنه وليس الرامز له. والجنوح إلى الجماعي يتحول معه الموقف الجمالي إلى أدلجة فكرية.
إن الوعي بالبعد المتصل والواقع الاجتماعي عند الفنان هو الذي يمكن من قراءة المشاريع الروائية ذات الطوابع الفكرية بوصفها روايات (تمنحنا إدراكا وليس معرفة، بشكل ما من الداخل وعبر مسافة داخلية للإيديولوجيا نفسها التي تتداخل هذه الروايات في نسجها)([ii]). تفاوتت أهمية اللغة في النظريات الماركسية، فهي الأداة الشفافة للأدب وليس مادته عند لوكاتش. وتبدو ذات قيمة مهمة في التصور النظري عند ماشيري لكنها لا تقوم على أساس لغوي([iii]). وتشغل اللغة بوصفها أداة الفن أهمية كبرى في الإسهام الغربي عند تيري إيجلتون، وفي الإسهام العربي الذي قدمه عبدالمنعم تليمة في كتابه مداخل إلى علم الجمال الأدبي حيث يتحدد المنجز الحقيقي للفنان في سيطرته على اللغة وتطويعها لإبراز موقفه الجمالي، مما يجعل من عمله الفني (موازة رمزية للواقع [...]العمل الفني – إذا – تشكيل يواجه تشكيلا، تشكيل جمالي يواجه تشكيلا تاريخيا اجتماعيا. بناء يواجه بناء. إن الفنان يدرك واقعه جماليا، والعمل الفني هو تشكيل جمالي لموقف من هذا الواقع)([iv]). وهو ما نحاول أن نفيد منه في رصد التشكيل الجمالي للموقف الفكري في المشروع الروائي لناصر عراق.
(2)
بيّنا في مطلع الدراسة أن الروايات العشر لناصر عراق تمثل مشروعا روائيا، وما يترتب على وصف العمل بالمشروع، وخاصة علاقة الكلي بالجزئي. وأوضحنا أن المشكل الجمالي يقتضي ضرورة تنازع الفردي والجماعي، بالمعنى الذي يجعل كل واقعة جزئية (عمل روائي محدد) يتمايز عن الوقائع الجزئية، وفي الوقت نفسه لا ينفصل عن الكل. وليس من سبيل، ونحن بصدد مناقشة هذا المشروع جماليا إلا التمثيل، أي اختيار إحدى الروايات تكون بمثابة واقعة جزئية بالمعنى الذي قدمناه. تحقيقا لسلامة الإجراءات المنهجية كان علينا قراءة ما يمثل نصف الإنتاج أو يزيد ثم اختيار ما نراه أعلى النماذج جماليا. وقد رأيت أن (رواية الكومبارس) تمثل النموذج الجمالي الأعلى في رصد المشروع الروائي (وهذا حكم أولي قابل للمراجعة).واستندت -في هذا الحكم - إلى قراءة فاحصة للروايات الخمس التالية: نساء القاهرة دبي 2014م، الأزبكية 2015م، الكومبارس 2016م، البلاط الأسود 2017م، دار العشاق 2018م. ولا ينتقص من جمالية النص المختار ما يدخل في دائرة أوهام التأليف ([v]).
ونَصِفُ في السطور التالية البناءَ في النص الروائي الذي يدور حول هجر الممثل المغمور عبدالمؤمن بيتَه، وتقوده قدماه إلى الإقامة في كفر أبوحوّا، والعمل في مقاهيها، وهي مهنته القديمة عمل بها مع عمه بعد أن قتل أبوه زوجه العاهرة. أما زوجه إيمان وابنتاه فتفشلان في الوصول إليه. وتلتقي أمه بالدكتور جميل في لجنة القراءة، وهو العمل الذي أسند إليها دعما لها بعد رحيل زوجها ثم تتطور أحداث علاقتها بجميل في توازٍ مع تطور أحداث الثورة المصرية.
تأتي الرواية في ست ومائة فصل، وكتبت في قسمين: يضم الأول اثنين وتسعين فصلاً. ويضم الثاني ثلاثة عشر فصلاً. ويسبق ذلك كله فصل تمهيدي. وكل الفصول لها عناوين تأتي على هيئة تأريخ بالعام والشهر لمجريات أحداث كل فصل، وأحيانا بتاريخ اليوم أو بتاريخ اليوم والساعة، ويضاف إلى هذا التاريخ اسم إحدى الشخصيات أو أماكن الأحداث باستثناء الفصل التمهيدي فقد جاء التاريخ (4يناير 2008م) مسبوقًا باسم اليوم (الجمعة). أما أسماء الأماكن التي جاءت في العناوين الداخلية فقد تراوحت بين "كفر أبوحوّا" في إحدى وعشرين مرة، و "شبرا الخيمة" في ثماني عشرة مرة، و" مدينة نصر" مرتين، و "باسوس" مرة. ومدار الأحداث في الزمن الحاضر في مدينة نصر وكفر أبوحوّا، ومدار الأحداث البعيدة في مدينة شبرا الخيمة وباسوس. وهو ما قد يوحي – ظاهريًا – بشبه التكافؤ على المستوى الكمي بين أحداث الماضي وأحداث الحاضر مع ميل نسبي للحاضر (وهذه نتيجة تحتاج إلى فحص).
أما أسماء الشخصيات التي جاءت في العناوين الداخلية فقد توزعت بين ابنتي عبدالمؤمن السعيد وزوجه، فابنته فاطمة اثنتان وعشرون مرة، وكذلك ابنته فاتن اثنتان وعشرون مرة أيضًا، وزوجه إيمان تسع عشرة مرة. وهم رواة أيضا لهذه الفصول. في الوقت الذي كان فيه عبدالمؤمن السعيد راويًا ثماني عشرة مرة. ويضاف إلى هؤلاء الرواة راو آخر يمكن أن نطلق عليه راوي الرواة أو ما يعرف في السرد الحديث بالراوي العليم بضمير الغائب، وهو الذي روى الفصل التمهيدي، وهو يفوق الجميع في الرواية، لأنه روى خمسًا وعشرين مرة.
ويبقى التساؤل: ما دلالات هذه الأرقام جماليا؟
وفقا للغاية الكبرى للمشروع الروائي، تؤسسُ الروايةُ عملَها على ثنائية مهمة، وهي (الحرية / التقدم). الحرية بالمفهوم الواسع الذي يُمكِّن الإنسان أن يدرك ما حوله ويتفاعل معه، ويحقق إرادته. الحرية التي تمكنه من قهر الضرورة وتجاوزها. وتساعده على التقدم بالمعنى الاجتماعي الذي يجعله في جدلية دائمة مع حركة التطور في الواقع المعيش، وإذا كانت فكرة التقدم مرتبطة بالإنسان بالمعنى الذي سبق توضيحه فإن كل شكل من أشكال التطور في الأدوات يؤسس لمفهوم تقدمي، إي إننا نعي فارقا بين التطور والتقدم، فالأول (تحكمه القوانين العامة للجدل. ويسير التطور في شكل حلزوني. ولكل عملية من عمليات التطور بداية ونهاية، وتكون النهاية متضمنة بالفعل في اتجاه من البداية، واكتمال دائرة واحدة يدل على بداية أخرى جديدة، قد تتكرر فيها بعض ملامح الدائرة الأولى)[vi]. أما الثاني التقدم فهو يشكل مع النكوص (شكلان متعارضان للتطور الاجتماعي ككل [...] ويدلان على التوالي، إما على التطور التقدمي للمجتمع في اتجاه صاعد أي ارتفاعه، أو الارتداد إلى الأشكال القديمة التي انتهى عهدها أي الركود والتدهور)[vii]. وهو ما يجعلنا – مفاهيميا – نتعامل مع كل شكل من أشكال التطور بوصفه خطوة نحو التقدم.
وقد نجحت الرواية – جماليا – في الكشف عن هذه الثنائية ثنائية الحرية والتقدم بتقسيم ثنائي للرواية، اعتمد قسمُه الأول بالكامل مخالفةَ الترتيب السردي في اثنين وتسعين فصلا لأحداث دارت من يناير 1966م إلى مارس 2011م. في الوقت الذي كان فيه القسم الثاني يضم ثلاثة عشر فصلا متصلا، تخلله استرجاع في الفصل السادس، لا يخلو من دلالة، لأنه يؤسس لجدل مع الماضي ينتج عنه كيفية جديدة(سنزيد الأمر تفصيلا لاحقا)، أي إن القسم الثاني يمثل حركة (التقدم) إلى الأمام نحو حاضر أكثر إشراقا. وهو مشرق لأن بعض الشخصيات استطاعت أن تقهر ضرورتها، وتعي واقعها المعيش. وهو ما يتسق جماليا مع الثنائية التي تؤسس لها الرواية: ثنائية الحرية والتقدم. وهو ما يشير في المجمل إلى جدل فعّال مع الماضي، لتأسيس واقع جديد لصالح الحاضر، والميل النسبي في رواية الأحداث كميا - المشار إليه سابقا – لصالح الحاضر يتحول إلى دال كيفي يرسخ مفهوم (التقدم).
ويبدو من التقسيم الثنائي المحكم للنص الروائي، أنه لا يخلو من بناء منطقي في ترتيب الأحداث، وقد حزّم الأحداثَ دلالةٌ زمانية لافتة للنظر، وهي أن محور الأحداث (شهر يناير) في سنوات مختلفة. وهو أمر يتشابك جماليا مع ثورة يناير، أي إن اختيار شهر يناير هو اختيار مقصود للدلالة على الفكر الثوري. وهذا التشابك هو ما يجعل الرواية تتجادل مع قضايا الواقع، وتتجاوز مفاهيم التشظي والتفتيت والتجاور التي غلفت الأعمال الروائية قبل ثورة يناير، أو ما عرف بروايات ما بعد الحداثة [viii]. أما في عصر الثورات فإنه يمكن تقبل كل شيء، لذلك لم يكن عجبا أن تؤسس الرواية بناء معرفيا مخالفا مع الروايات التي ألِفت الانحسار والسوداوية والتفتيت، وتؤسس عن طريق التشاكل والمخالفة معها بناء منطقيا يتشابك مع الواقع الاجتماعي المعيش، وهو جماليا صورة من صور التقدم.
يستمر البناء المنطقي في توزيع رواية الفصول على الأشخاص، وقد توزع بين أفراد أسرة عبدالمؤمن، كما أسلفنا القول، زوجته تسع عشرة مرة، وهو عبدالمؤمن ثماني عشرة مرة، والابنتان لكل واحدة اثنتان وعشرون. عبدالمؤمن هو الوحيد الذي نكص إلى الماضي، وخرج من التاريخ/ حركة التقدم بابتعاده عن ممارسة هدفه والشعور بسيادة دود الأرض أشرس الكائنات وأخطرها وأبقاها على أجساد البشر (الروايةص242). وهم - باقي أفراد الأسرة - واصلوا قهر الضرورة لتحقيق (الحرية).
وتجاوبت الرواية جماليا مع مفهومي الحرية والتقدم حين حرمت عبدالمؤمن من أن يكون علما على أحد الفصول، كما هو الشأن مع باقي أفراد الأسرة، واختزاله في المكان. وهكذا يتهاوى التقارب الكمي لصالح مفهوم (التقدم). ويضاف إلى هذا الاختزال في المكان أنه حُرِم رواية الفصلين المخصصين لـــ (مدينة نصر)، ولم ينفرد – وحده - برواية الفصول المخصصة لــلأماكن الأخرى (كفر أبو حوّا – باسوس – شبرا الخيمة)، لأن راوي الرواة شارك في الرواية، وبعدد يفوقه كما وكيفا. إن عبدالمؤمن حين هجر بيت الزوجية في (مدينة نصر)، وهي إحدى المدن التي تشير إلى شكل من أشكال التطور في الأدوات، أراد بهجرته العودة إلى ما يسمى بترييف المدينة([ix])، وهو ما يمثل نكوصا اجتماعيا إلى الماضي يتعارض مع مفهوم التقدم الذي تؤسس له الرواية.
(3)
ووفقا لألتوسير، فإن الإنسان إما أن يقع في منطقة الوعي/ الشعور أو في منطقة اللاوعي/ اللاشعور. وتنهض الشخصيات المستنيرة من منطقة الوعي، وتستطيع أن تتقدم، وتكون فاعلة في المجتمع عن طريق قهر الطبيعة وإقامة علاقات صحيحة مع من حولها، مما يمكنها من إدراك واقعها المعيش، وتحقيق ما يطلب منها من أدوار، أي إن الوعي هنا مرحلة تالية للوجود. وهو يتشكل به من خلال ما يدركه بالحواس. في المقابل توجد شخصيات غير فاعلة لا تستطيع أن تلبي احتياجاتها الضرورية، وتفشل في إدراك واقعها فتهاجمه أو تنسحب منه. والإنسان الذي يحدد مساره ويحقق هدفه هو الشخص الواعي المستنير الذي يصل إلى ما يريد عن طريق العمل.
والتساؤل الآن: كيف استطاعت الرواية جماليا أن تكشف عن الصورتين؟
قد يبدو مفيدا أن نقول مرة أخرى إن هناك دائرة مشتركة بين (الشخصية الواعية/ جميل الشناوي) و (الشخصية اللاوعية / عبدالمؤمن)، وتتمثل الدائرة في أسرة عبدالمؤمن (إيمان التي ستتزوج لاحقا جميل الشناوي، والبنتان فاطمة وفاتن اللتان تنتقلان مع أمهما في بيت جميل). وستكون دوائر المخالفة هي التي تؤسس سمات الشخصية (سفر جميل إلى فرنسا لمدة ربع قرن، وعمله في المجلس الأعلى للثقافة، واختلاطه بالشباب في الثورة) وفي المقابل سمات (عبدالمؤمن الذي يعيش ضحية أم عاهرة وأب قضى مصيره في السجن، وتكفل به عمه، وواصل حياته حيث التقى إيمان في معهد الفنون المسرحية وتزوجها، وعمل ممثلا مغمورا، وقبعت في البيت). أي إن الجدل الذي يؤسس لكيفية جديدة لا يتحدد عن طريق مباشر أو مواجهة مباشرة بين فكر عبدالمؤمن وفكر جميل الشناوي، ولكنه يتم عن طريق قدرة كل منهما في المنطقة المشتركة (إيمان وفاطمة وفاتن).
بالنظر إلى دائرة عبدالمؤمن سنجد أن نقطة التقاطع الحقيقية – روائيا – بين دائرتي الوعي واللاوعي تبدأ بمولد يحيى في الرابع من يناير 1999م، ويعلن عنها في الرواية مع الفصل الأول من بداية القسم الثاني، الميلاد بشارة وطهارة ومستقبل، ولكنها أمور لا تأتي عبثا بل يبذل لها الدم حتى تستمر، وهكذا في كل أمر ثوري تبذل تضحيات من أجل الحلم. وقد أشرت إلى استرجاع وقع في الفصل السادس من القسم الثاني في البناء الروائي، وقلت – في موضع سابق – أنه لا يعوق حركة التقدم بل يؤسس له. وهو ما يمكن أن نتبينه - جماليا -هنا في رصد عدة حوادث: الأول: تغييب الابن (يحيى) بالموت، ولا يخفى دلالة الترميز في اختيار الاسم الذي يوحي بالبقاء، ويتماثل مع رغبة الأب الذي يؤسس للمفهوم البطريركي الأبوي وهو يخاطب زوجَه المعاتِبَة له إهمال البنتين في مقابل تدليل الولد في المشهد الآتي:
(-هل نسيت فاطمة وفاتن؟ إن يحيى يستحوذ على جل اهتمامك؟
فقال لها وهو يرفعه إلى أعلى ليداعبه:
-إنه من يحمل اسمي وسيسطره في سجل الخالدين بإذن الله) [الروايةص295- التأكيد من عندي، وكذا في كل النقول اللاحقة].
يؤسس المفهوم (البطريركي) لعدم (التواصل) مع مفهوم (التقدم)، وقد عبر عن ذلك بمشهد ينقطع فيه عبدالمؤمن عن مواصلة أهدافه وقهر الاغتراب الذي لحقه بوصفه ممثلا مغمورا، أي فقدان التواصل مع من حوله. يقول الراوي في حدثين متتابعين روائيا: (ولما وصل إلى السابعة أضحى يحيى المرافق الأول لأبيه، يصطحبه معه في كل مكان، لدرجة أن عاتبه أحد المخرجين في الإذاعة لأنه يعطله عن العمل بشقاوته، فقرر ألا يعمل مع هذا المخرج بعد ذلك أبدا.
وقد تعلق الطفل بوالده تعلقا مَرَضيا دفع أمه لأن تهمس في أذن عبدالمؤمن معاتبة:
-يا عبدالمؤمن..أريد أن أذكرك فقط بأنه ابني أنا أيضا) [الرواية ص296]
أما الحدث الأخير الذي يغيب فيه عبدالمؤمن / الماضي على المستوى الرمزي، أو بمعنى آخر يظهر فيه عجزه عن الصيرورة، فهو ما رواه راوي الرواة الذي يسيطر على البناء المنطقي بأكمله في الرواية، وهو الحدث المتعلق بأهم أدوار الممثل المغمور، والذي كان بإمكانه أن يواصل عبره حركة التقدم نحو تحقيق أهدافه، إنه الدور الذي أدى فيه شخصية الشاعر العربي الفرزدق. وهو حدث ذو ارتباط وثيق بتغييب يحيى، لأنه جاء بعد ولادة الأخير بيومين، يقول الراوي:
(وبالفعل حقق الممثل المغمور حضورا لا بأس به عندما تقمص شخصية الشاعر العباسي في مسلسل تاريخي، وقد قام بتكبير صورته في المسلسل وعلقها في وسط الصالة إعجابا بنفسه وبأدائه، لكن المخرجين لم يلتفتوا إلى موهبته، وكثير منهم انزعج منه ونفر من طبعه غير الأليف، وكمونه داخل ذاته ورفضه السهر معهم، فلم يفكروا في منحه أدوارا كبيرة تستلزم التعامل معه فترات طويلة) [الرواية ص295-296]
جاء هذا تعقيبا على قول عبدالمؤمن لزوجته في مشهد حواري:
(-أنسيت أن أهم أدواري – وهو دور الفرزدق- قد حصلت عليه عقب ولادته بيومين اثنين فقط. إنه البشرى المتلالئة)
جاء التغييب هنا تأكيدا لغياب فاعلية الواقع الذي يؤسس له الماضي، فلن يضير الحاضر أن يكون الفرزدق أمويا أو عباسيا، وهو من المؤكد ليس من مخضرمي الدولتين، ومن ثم كان وصفه بالشاعر العباسي مقصودا، وليس من أوهام التأليف، إنه تغييب مقصود من الراوي الذي يرفع قواعد بنائه المنطقي على دال التقدم لا النكوص. وصحيح أنني ألمحت إلى شيء من أوهام التأليف في مواضع أخرى في النص لكنني أميل هنا إلى القصدية. وإن كان هذا يقتضي معالجة ورود وسم الفرزدق بالشاعر العباسي على لسان إيمان في موضع آخرص29 (سنعالج هذا الأمر لاحقا) ومناقشة أخرى – ليس هذا البحث مكانها – في أحقية الكاتب في تغيير حقائق عامة لا تنتج شكلا فنيا جديدا، أي إن الفرزدق ليس صورة عنترة أو صورة أبي نواس أو هارون الرشيد الذين انتقلوا من التاريخ إلى السيرة.
وأكد حضور عبدالمؤمن في كفر أبوحوّا مجهولا بين الناس، فقدان الفعالية الإيجابية لصور الماضي في جدلها مع الحاضر، والفرصة الأخيرة التي أتيحت له أن يخطو خطوة أخرى نحو التقدم هي وجوده في الميدان بعد أن شاهد ابنته الجريحة تسقط في الميدان. لقد كان من الممكن أن يحرر عبدالمؤمن نفسه، ويستعيد عافيته بتضميد جروح ابنته ومشاركتها الوصول إلى حرية مفقودة أملا في مستقبل متقدم، ولكنه نكص.
واتساقا مع نقطة التقاطع التي حددناها روائيا بمولد يحيى ثم بوفاته، سيحصر عبدالمؤمن – جماليا – في أساليب الحوار السردي (داخل دائرة الأسرة) حيث تختزن الرواية لاستحضار صورة الأب أو الزوج ما يسميه ليتش وشورت بالكلام المباشر، يظل دائما محصورا بين قوسين لا يتجاوزه إلى حوار فعّال، وهذا نموذج له من سرد فاطمة: "في البداية ظننت أنك ستتقمص إحدى الشخصيات المسيحية أو اليهودية في مسلسل جديد، وأنك ترغب في الاستزادة من المعلومات الدينية حتى تتقن تجسيد الشخصية، لكنك نفيت ذلك عندما سألتك [وقلت لي برفق: الاطلاع على الكتب المقدسة ضرورة يا بنيتي لنفهم ديننا أكثر] " [الرواية ص12]
أما المرة الوحيدة التي تكون فيها المواجهة بين الدائرتين (فكر الشخصية المستنيرة جميل مع فكر عبدالمؤمن) ستكون إعلانا بتأسيس الواقع الجديد بمفاهيم جديدة، و إخبارا صريحا بأحقيته بوصفه نموذجا متقدما. وهذا ما يمكن أن نستشفه من زيارة جميل وإيمان وفاتن (وغياب فاطمة له دلالة) إلى عبدالمؤمن الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة في كفر أبوحوّا.في هذا المشهد السردي بين فاتن و إيمان من جهة وأبيها من جهة أخرى، تقول فاتن ساردة:
(بصعوبة فتح الرجل عينيه، فهتفت أمي وهي تلتصق بعمو جميل:
يا خبر.. إنه عبدالمؤمن
فجاءنا صوت واهن مترع بالامتثال للمقادير:
أهلا يا إيمان.. نعم.. أنا عبدالمؤمن) [الرواية ص314]
لقد ورد على لسان الساردة / الابنة ألفاظ (الرجل) للدلالة على الأب، وكأن عدم منحه لقب أبي هو ضرورة يجب قهرها نحو التقدم. وفي مقابل ذلك كان الانتساب للأم في لفظ أمي التي استجابت للتقدم لا النكوص، وهو التقدم الذي يمثله جميل، وداله هنا منح لقب عمو، ووصف تمسك الأم به عن طريق الفعل تلتصق بجميل. ثم لا تظهر في باقي المشهد دموعا، ولكننا نعرف ذلك من لفظ الأب:
- لا تبك يا فاتن..لقد انتهى الأمر.ص315
وهو أمر لا يخلو من دلالة جمالية فمشاعر الأب / الماضي هي التي تحكي الموقف. فأين دموع الابنة المتطلعة إلى المستقبل؟. ثم يسأل الأب (أين فاطمة؟ فلم يجبه أحد). ويستمر المشهد بالانفصال الكلي بين الأب / الماضي والابنة / الحاضر المتقدم بوفاة الأب، وبقاء الحاضر المتقدم. تقول الساردة: " فجذبني باسم برفق من فوق صدر أبي الذي واصل كلامه بنبرة وداعية شجية:
-إنني ذاهب إلى حيث لا عودة.. فلا تحزنوا ولا تبلغوا أحدا عن أنني ما زلت حيا حتى لا تضطرب حياتكم.. أكملوا مسيرتكم كما هي.. مبروك يا إيمان زواجك.. علمت أن زوجك رجل فاضل غير مهموم بدود الأرض.. دعوا هذه السيدة تدفنني هنا.. وعودوا من حيث أتيتم) [الرواية ص315]
وتقف كل جملة وردت على لسان عبدالمؤمن دالا قائما بذاته على التأسيس لقيم الحاضر المتطلع إلى الأمام.
ويبقى التساؤل: كيف استطاعت الشخصية المستنيرة/ جميل أن تحقق ما عجزت عنه فكر الشخصية غير المستنيرة /عبدالمؤمن؟ ولماذا غابت دموع فاتن في حضور أبيها؟ وما دلالة غياب فاطمة في المشهد؟
يمكننا رصد تحولات المشهد جماليا من خلال علاقة جميل الشناوي بإيمان ثم بفاتن وفاطمة. تبدو دوال التقدم- في هذا المشهد- من خلال صور التغير المبنية على التعدد وإبراز صور الاختلاف بين واقع معيش يجب قهره، وواقع آخر يبنى في ضوء التحرر من الواقع المعيش.
تكتشف إيمان (لاحظ أن الاسم يتقاطع مع عبدالمؤمن لفظا) للفوارق بين دوائر عمل الشخصية المستنيرة الواعية الدكتور جميل (لاحظ دال اللفظ الجميل وما يشابهه من صفات النبيل والجليل، وكلها دوال مهمة في الفكر التقدمي انظر صفحات 94،105،319 من الرواية على سبيل التمثيل) ودوائر عمل الشخصية اللاوعية زوجها عبدالمؤمن. إن اللقاء الأول يتم بفعل بغياب الواقع المعيش (غياب عبدالمؤمن دفع أحد مسئولي الثقافة إلى تعيين زوجه إيمان في لجنة القراءة المسرحية التي يرأسها جميل).
وهو توجه يفترض أن تمجه الشخصية التقدمية (فعل المجاملة = التعيين)، لأنه لا يعتمد على كفاءة (يلاحظ ورود اسم الشاعر الفرزدق على لسانها ونعته بالعباسي) وهو ما يعني جهلا فاضحا (بدائرة عمل الزوج / عبدالمؤمن = فكرة التعيين بالمجاملة = عدم الكفاءة)، وإن قبلناه من راوي الرواة، ووظف فنيا فهل يمكن أن يقبل من الزوجة الفنانة. ونستطيع أن نلمح – في النص - أنه امتداد لغياب الفن بوصفه قوة ناعمة مؤثرة، وهو دال نكوص أدى إلى تصعيد (حسن والي الفنان الفاشل ابن المنتج التاجر، وتغييب المواهب الحقيقية /عبدالمؤمن، أو توجه أصحاب المواهب إلى الجانب التجاري لا الفني = زواج فايزة السعدني من حسن والي). إن بناء شخصية إيمان في النص الروائي يعني امتدادا لهبوط دور الفن، ومع ذلك قبول الشخصية التقدمية هو إشارة إلى أن المؤلف لا يريد بناء شخصية مؤدلجة، وإقامة توازن ما بين البناء الفلسفي والبناء الأدبي. ولا يمنع هذا من القول إن بناء شخصية إيمان يشير إلى سهولة السيطرة عليها من شخصية واعية، وهو ما يجعله مأزقا فنيا في الكتابة الروائية، لأن الفكر التقدمي يرفض من الإيديولوجيا / الدين سيطرتها على البسطاء والمهمشين، وصورة إيمان بهذا البناء الروائي يمكن أن تكون نموذجا للبسطاء، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون استبدال النموذج بنموذج آخر، وتسقط دعواهم. فكيف سيعالج الكاتب هذا؟
تنهض الرواية كما قدمنا على تصور الجدل قائما بين عبدالمؤمن وأسرته من جهة، وجميل والأسرة نفسها من جهة أخرى، وتصنع المقابلة بين الصورتين – بشكل ما – الصيغة النهائية للجدل. ومن ثم كانت بابا لإبراز هذا الجدل، ودالا على فكرة التحرر والتقدم. تقول إيمان مثلا:
(عندما ذهبت إلى سريري في ذلك المساء سألت نفسي متعجبة: هل حقا تزوجت يوما ما من شخص يدعى عبدالمؤمن السعيد؟) ص95. وسيظهر تأثير شخصية جميل في أفعالها دون أن يكون مشاركا في الحدث، فهي تصف جميل بأنه (لا يمكن له أن ينطق بجملة عربية دون أن يطعمها بمفردة فرنسية. لم يكن مفتعلا أو مدعيا،وإنما ثقافته الفرنسية غالبة ومتجذرة في عقله ولسانه وبين شفتيه) ص93. وسيتسلل إلى إيمان هذا في حوار مع ابنتها (برافو..برافو..يا بنتي!) ص137.
أما سر التساؤل: هل تزوجت رجلا اسمه عبدالمؤمن؟ فيبدو أن فعل الزواج يقتضي سعيا من الزوج إلى الزوجة حتى تستشعر أنوثتها. ومع ذلك فإنها هي التي تسعى إلى الزواج من عبدالمؤمن، ويكون إتمام الموافقة من الطرف الآخر لتحقيق (النفعي) من الزواج، وليس (الجمالي)، وهكذا يقبل عبدالمؤمن السعي إلى الزواج تحت وطأة الإحساس بالجنس، وليس التواد والتراحم، يقول الراوي:
(وهمست ضاحكة بعد أول رشفة من الشاي:
-لا حل سوى الزواج.. هو المنقذ لك من الشرود الدائم!
-لكني لا أملك المال، وما زلت أقطن في شقة حقيرة بشبرا الخيمة !
كأنها تحمست بكلامي، فهتفت مشجعة:
-هذه مشكلات صغيرة سوف يتكفل الزمن بتجاوزها
وبدون تفكير جدي وتحت ضغط نيران رغبة جنسية لا تخمد قلت لها بعد تردد:
-إيمان.. هل تقبلين الزواج بي؟
غضت بصرها خجلا للحظة ثم انبعث من عينيها بريق ساحر مطمئن، وهمست:
-هذا أسعد يوم في حياتي !
فقلت لنفسي ساخرا إيمان في اليد ولا فايزة على الشاشة ثم مضت تحكي لي بسعادة...) الرواية ص247
في مقابل هذه الصورة النفعية التي انتهت بنكوص، تأتي صورة الدكتور جميل المثقف الذي يرغب هو في الزواج، ويبرز الجمالي عنده قبل النفعي، تقول إيمان:
(كأني صبية مراهقة، أنتظر خطواته الجريئة بحرقة، وأرتبك تماما عندما يقدم عليها، وهل كنت تتوقعين لحظة يا إيمان وأنت على مشارف الخمسين أن تتمتعي بقبلة عميقة داخل سيارة في الطريق العام؟
كيف حدث؟ إن جميل الشناوي يمتلك الحسنيين: جرأة الشاب العاشق ولامبالاته بالعواقب، وحكمة الرجل الكهل، وفي أقل من عشرة أيام تمكن هذا الرجل من السطو على خيالي. حقا..إنه السطو اللذيذ..السطو الذي ترضى به النساء وتتمناه. السطو الذي يحمي ويصون ويورق الجسد الذابل ويحيي الروح الميت) الرواية ص93.
وتشير إلى مشهد مماثل في ليلة عقد القران بينها وبين عبدالمؤمن ثم بينها وبين جميل، وفي كل مرة تأتي أغنية أنت عمري، في المرة الأولى هي التي تطلب من عبدالمؤمن فعل المشاركة (ارقص معي)، وهي التي تطلب أغنية أنت عمري، وهو لا يشارك فعليا (حضور صورة فايزة السعدني= النكوص إلى الماضي)، يقول الراوي:
(ثم خطت خطوة كبرى عندما طلبت من الفرقة الموسيقية أن تعزف لها مقدمة أغنية أنت عمري ورقصت عليها وسط ذهول الجميع، وبلغ الافتنان برقصها أن وصفوها بأنها تشبه تحية كاريوكا، وابتسم عبدالمؤمن السعيد وهو يتابع جسد عروسه وهو يتمايل ويتقافز على إيقاعات الموسيقى، واستسلم لخيال عجيب، ورنا إلى مدخل الصالة التي يقام فيها العرس ممنيا نفسه برؤية فايزة السعدني، وقال لنفسه: ماذا سيضير المقادير إذا قررت استبدال فايزة بإيمان؟ ألن أكون أسعد عريس في العالم؟ وجذبته عروسه برفق فعاد إلى دنيا الرقص والزغاريد والموسيقى وقالت له بعينين تتألقان بالسعادة: هيا..ارقص معي!) الرواية ص263.
أما مع جميل فهي تشير إلى دال التقدم من الشخصية المستنيرة فهو الذي يدير الأغنية نفسها، وهو الذي يطلب الرقص منها = ما أسمته في النص السابق بالسطو اللذيذ، ومن ثم سيكون فعل السعادة ونجاحه نوعا من التحول المؤكد للكيفية الجديدة، تقول الراوية:
(وإذا به يفاجئني طالبا: حبيبتي..ارقصي لي من فضلك !
للحظة اعتراني خجل،وتأملت جسدي الممتلئ نسبيا،وسألته بنظراتي كيف؟ لكنه شجعني بعينيه، ونهض ليدير موسيقى أغنية (أنت عمري) لأم كلثوم، واقترب مني، ووهبني قبلة دافئة أشعلت حواسي كلها، وهمس: هيا يا حبيبتي..ارقصي لي !) ص240. ثم تتابع مقارنة ([...] وهكذا كنت المرأة الوحيدة التي رقصت مرتين في ليلتي زفافها وقد مضى على الرقصة الأولى ربع قرن).
وسيكون استخدام لفظ(القرن) أو ما يشير إلى زمن كبير مثل ألفاظ العقود دلالة على الهوة الواسعة بين الماضي وحركة التقدم. وهو ما نؤكده بقولها في موضع آخر: (تيقنت أن جميل الشناوي هو مستودع الرجولة الحقيقي وأن عبدالمؤمن لم يكن زوجا أو حبيبا لي.. بل مجرد شخص عشت معه ربع قرن) ص223. وفي موضع ثالث: (تذكرت حوارا مشابها جرى في القرن الماضي عندما رفض أبوها أن أعمل، آنذاك كنت مفتونة بعبدالمؤمن... ورغم اعتراضي على موقفه إلا أنني لم أتمسك بحقوقي وقناعاتي كثيرا، فغريزة الأمومة أطاحت بأي طموح آخر). ص53.
ومن ثم تتعدد المقارنات التي تكشف عن الفارق بين الشخصية التي لا تستطيع أن تتجاوز النفعي، والشخصية المستنيرة التي تحقق النفعي والجمالي في آن، وسنذكر نموذجا أخيرا، وهو يتمثل في قول إيمان:
(فتح لي باب سيارته المرسيدس الزيتية اللون بحركة مسرحية رشيقة أعجبتني، وتذكرت أن عبدالمؤمن لم يفعلها إلا مرة واحدة وفقط، وذلك عندما اشترى سيارته الهيونداي قبل عشر سنوات) الرواية ص67-68. ولسنا بحاجة إلى الحديث عن لفظ العقد عشر سنوات، ولكننا بحاجة إلى تدقيق النظر في لفظ (الباب) الذي وظفته الرواية العربية ببراعة في التمثيل بين موقفين مغايرين (نذكر برواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، ورواية الغزو عشقا لنجلاء محرم)، وها هو باب السيارة يوظف في إثبات تغاير فعل عبدالمؤمن / الماضي،وفعل جميل / الحاضر المتقدم [x].
ويمكننا أن نرصد فعل التحول من دال الماضي إلى دال الحاضر المتقدم من خلال علاقة فاتن بأبيها وعلاقة فاتن بزوج أمها جميل. لقد ارتبطت بشابين هما أحمد صادق وباسم مرزوق، وكلاهما ينتميان فكريا إلى الفكر الماركسي، ولكن ذكاء الكاتب ورغبته في التوازن والتداخل بين الفكري الفلسفي والأدبي جعلهما متفاوتين، لذلك لم تكمل فاتن مع أحمد وأكملت مع باسم. والسؤال: لماذا؟
لم يستطع الشاب أحمد صادق تجاوز النفعي إلى الجمالي، فقد قبلت منه ما يشي بالغريزة الجنسية التي لا تتجاوز القبلة، ولكنه يتمادى وتصده، ثم تشرح موقف أختها فاطمة البائس مع زوجها ضابط الشرطة عاطف بعد خيانته لها، ويكون موقفه تبريريا (سطوة الجنس لدى الرجال..هذه العبارة التي يرددها باستمرار) ص78. وصورة أحمد صادق تلتقي مع صورة الأب / عبدالمؤمن في عدم التجاوز إلى الجمالي، ومن ثم كان هناك وجه شبه بينه وبين الأب من قبل فاتن (كما أن عينيه تشرقان ببريق الفطنة والحضور، وجسده فارع مثل أبي، وهو أمر يشعرني دوما أنني في أمان طالما ظل بجانبي) الرواية ص26-27. وهو تشبيه جاء ليشعر بالأمان، ولكنه تحول إلى خوف. وكما أن صورة الأب تراجعت فعليا بموت الابن يحيى فلابد من تراجع صورة أحمد صادق لأنه سيعيد إنتاج (صورة يحيى) لقد قال لفاتن مواسيا وحالفا أنه سيسمي ابنهما إن تزوجا باسم يحيى (وأقسم أنه سيطلق اسم يحيى على أول ذكر يولد من زواجنا، فارتج كياني) ص27.
في مقابل هذا يأتي باسم مرزوق، وهو يشبه جميل الشناوي وليس صورة الأب، ليكون بداية التحول إليه من قبل فاتن (في تلك الليلة شاغلني طيف باسم مرزوق أكثر من أحمد صادق، وتذكرت انفعاله وقدرته البارعة على الإقناع، فاضطرب كياني كله، وأغمضت عيني على حزن وقلق وحيرة) ص92. لذلك كانت ملاحظتها أنه أقرب إلى التقدم بالمفهوم النموذجي، وقارنت بين حركته السريعة وحركة أحمد البطيئة لتكون علامة على هذا الفارق (بعكس حركة أحمد البطيئة في السير، مشى باسم كأنه يهرول، خطواته واسعة وسريعة، فبذلت مجهودا زائدا لأظل بجواره) ص104. وهو ما يجعل كل فعل من باسم هو فعل نفعي وجمالي في مقابل ثبات أحمد عند النفعي فقط، وهكذا صاغت عباراتها نحو باسم (يتمتع بعينين لا تتوقفان عن إطلاق أشعة ضوء مبهر وآسر ص105، رمقني بنظرة أثارت ورد أنوثتي ص105، أذوب عشقا في باسم ص106، يتقن فنون التعبير بالكلمة ص138، مغازلة بأرق الكلمات حتى كدت أطير ص236). ومن ثم ستحاول أن ترسم لنفسها مع باسم نموذج آخر لعلاقة إيمان بجميل (سأطلب من باسم أن نقضي شهر العسل في فندق سيسيل بالإسكندرية...) ص285، وهو ما لباه باسم قولا ص288. وأخيرا فإنه حامل رسالة الفن الذي سيغزل العلاقة بين يوميات الثورة وأسرة عبدالمؤمن ويختار لها اسم الكومبارس ص318-319.
أما العلاقة الثالثة والأخيرة بين فاطمة وأبيها وزوج أمها فهي علاقة تؤسس لمواجهة السلطة بمفهومها الرمزي المتحقق في شخصية عاطف زوجها، ورحلة البحث عن الحرية التي تتطلب مواجهة أيديولوجية السلطة والأجهزة الأمنية.
ونستطيع أن نبدأ الرصد من (المولود يحيى) فقد تراجع (يحيى عبدالمؤمن / الفكر البطركي) و (يحيى أحمد صادق/ الحلم الواقع تحت الرغبة الجنسية = النفعي)، واحتفظت الرواية بــ (يحيى عاطف) وكانت المواجهة قائمة بين احتفاظ السلطة / عاطف بالابن أو انتقال يحيى إلى دائرة التقدم بانتقاله مع أمه وجدته لأمه حيث يقيم جميل الشناوي.
لقد عمّق الكاتب فكرة تراجع الابن يحيى عبدالمؤمن (الفكر البطريركي) عن طريق آخر، وهو بقاء حفيد عبدالمؤمن (يحيى)، وانفصال الأبوين الأم فاطمة (صورة من الصور نحو التقدم) والأب عاطف (صورة من صور الإيديولوجيا /السلطة) التي تعوق حركة التقدم، ومن ثم كان الانفصال هو قهر للضرورة ونيل الحرية وخطوة تقدمية.
ويمكننا القول إن غياب فاطمة ومعها ابنها يحيى في مشهد وفاة الأب هو نوع من أنواع تراجع صورة يحيى عبدالمؤمن أو صور الرجعية، ونجاح (جميل /الصورة المثلى للتقدم في الرواية) في القضاء على (السلطوية/ الضابط عاطف بجهاز أمن الدولة) هو انتصار للتقدم والحرية، لذلك وجدنا العبارات الكاشفة تدور على لسان جميل:
- قريبا جدا ستنالين حريتك يا فاطمة وتتخلصين من كابوس عاطف. ص264
-للأسف يا إيمان.. هناك خطأ كبير في طريقة تأسيس ضابط الشرطة في مصر... إنهم يعدونه لكي يتلقى الأوامر أو يعطي الأوامر فقط. لا نقاش ولا إعمال للعقل، ولما استدعاه مساعد الوزير ووبخه على تصرفاته مع زوجته وهدده بأنه قد يؤثر على مستقبله المهني انصاع في الحال ووافق على الطلاق ! ص303
ويأتي على لسان فاطمة ما يؤكد دائرة التقدم، ويرسخ كيفية جديدة تبتعد عن التكريس الأبوي، والتكريس السلطوي:
-وطاف خيال أبي أمام عيني، وللمرة الأولى أوجه له السباب واللعنات وألومه بحدة..(لوكنت معنا ما تجرأ عاطف على إهانتي واحتقاري وإذلالي باصطحاب الداعرات إلى بيتي. ص76
-ماما.. هل يمكن أن أحظى بزوج مثل عمو جميل؟!
قالت ذلك وهي ترنو إلى البحر الممتد بلا نهاية ص270
ويعد انتقالهم جميعا من العيش في (مدينة نصر) وهو نموذج تقدمي على مستوى حركة التمدن إلى السكن في فيللا بمنطقة (التجمع الخامس) هو خطوة تقدمية أخرى بالمعنى الذي سبق وأن قدمناه.
وهو ما يعني جماليا إبراز ثنائية الحرية والتقدم في رواية الكومبارس، ويبقي تساؤل أخير يحتاج إلى مزيد من النقاش: هل نجاح الدكتور جميل الشناوي في الرواية كان مرهونا بالصورة الذهنية التي رسمها للمثقف الماركسي، والتي جذبت إليه إيمان فوصفت كلامه بأنه يقطر حكمة، وجذبت فاتن فوصفته فاتن بأنه قادم من سماوات الحكمة ص 288؟
من المؤكد أن نموذج جميل الشناوي هو صورة للفكر الماركسي الألتوسيري، ولكن نجاح الشخصية – في تقديري- هي في قدر التسامح الذي اتسمت به في قبول فكر الآخر (حجاب الزوجة – احترام الشعائر – عقد القران وفقا لأنظمة الدولة على الشريعة الإسلامية) مع أنه برز بوصفه شخصية لا دينية ضد التوجه الإيديولوجي بكل صوره ! وإبراز صور التنوع تتسق مع المجتمع المصري ومشروعه الحقيقي نحو الحرية والتقدم. وربما أعيد هنا توضيح اختياري للكومبارس بوصفها النموذج الجمالي الأعلى فلو عقدنا مقارنة بين جميل الشناوي هنا وشخصية الدكتور ماجد شبانة في رواية البلاط الأسود، وهما متشابهان في الأفكار وما يتعلق منها بالدين، سنجد ماجد شبانة شخصية لاتستطيع قبول تصور الآخر وكلماته (راجع ص234) فهو ينزعج من الكلمات العفوية التي يعدها ألتوسير نوعا من الأدلجة التي يجب أن تقوض، فلم يستطع تقبل القول المتعلق بالمشيئة في حوار دار بينه وبين محبوبته منال:
(فانتابني قشعريرة انزعاج، وقلت له في محاولة تخفيف نبرة التشاؤم التي سرت بين حروفه:
-إن شاء الله سننجح ونؤسس التنظيم الثوري الذي تريد، ولن يعود النظام البائس للرجل الكبير.
فلم يعلق، فاستطردت بحماسة: أكيد سينصرنا الله
فابتسم وهمس في أذني، ونحن نسير على كوبري قصر النيل:
-لا تنسي من فضلك حبيبتي... إن الله ليس عضوا في أي تنظيم ثوري)ص235. وهذا نموذج لما تحدثنا عنه في بدء البحث أن قوى النهوض في المجتمع المصري كانت تدعي أحقيتها وحدها في الانتقال بمصر من الجهل إلى العلم. إن التأسيس للعلم رائع حقا، ولكن الوعي بالشخصية المصرية السمحة التي تقبل أن تسمع من مسيحي عبارات مثل (صل على النبي) أو الأدعية بالرحمة والمشيئة تخضع لبنية اللغة التي تسمح لما يعرف بالتعبيرات الاصطلاحية. وهو ما يجعل نموذج ماجد شبانة صورة من صور الأدلجة الفكرية، وإن كانت رواية البلاط الأسود تستحق قراءة مستقلة تنطلق من ثنائية الخير والشر.
أما في رواية الكومبارس فهي تدعو إلى العلمية، وتتابع خطوات التقدم التي لا تتعدى صور الحاضر الواضح وليس المستقبل الحالم أو ما عبرنا عنه سابقا بالنظرة التفاؤلية للمستقبل عن طريق تطوير الأدوات وأشكال المعرفة، ولكنها لا تستطيع إلغاء الأيديولوجيا كاملة، وإن قاومت بعض صوره، ومن صوره الباقية هذه اللغة العفوية التي تنتشر فيها التعبيرات الدينية الجميلة في النص مثل: فانتبذ مكانا قصيا، لا تقصص رؤياي ... وهي من المؤكد – في الفكر الألتوسيري – مرفوضة، ولكن رفضها ضد طبائع الأشياء التي جعلت اللغة العربية جزءا لا يتجزأ من المجتمع المصري، وتأتي اللغة المتمثلة في الكتاب المنزل القرآن الكريم والنص النبوي الشريف النموذج الأعلى للفصاحة، وهي في النص تتواشج مع الفصحى الرائقة لتقدم نصا لغويا يعبر عن قيم المجتمع. واختار الكاتب هذه اللغة الفصحى في كل رواياته أنها الأقدر على رصد الفكري والأدبي معا، ولأنها جزء من الشخصية المصرية، ولا يمكن أن تكون عفوية وإيديولوجية قابلة للتقويض. وهذا ما جعل من الكومبارس رواية تحاول أن تنتقل بالمجتمع المصري خطوة إلى الإمام – في ضوء الواقع المعيش للشخصية المصرية – وليس في ضوء فكر معين، وتؤسس للحرية والتقدم بتوازن محكم بين الفلسفي والأدبي. وترسم صورا لكثير من الأشياء التي تلعب دور الكومبارس، والمؤمل أن تلعب دورا متقدما في النهوض بالمجتمع، ومن أمثلة ذلك الفن والعلم.
[i]) انظر لمزيد من التفاصيل : في الثقافة المصرية، عبدالمنعم تليمة، دار ميريت، القاهرة،2004م. ص60 وما بعدها
[ii]) رسالتان في معرفة الفن، داسبر وألتوسير ترجمة فريال جبوري غزول، مجلة ألف، ع10، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1990م. ص 160
[iii]) للاستزادة راجع : نظرية الأدب الماركسية بين التحول والتكيف، عز الدين إسماعيل، مجلة البحوث والدراسات العربية، ع26، ديسمبر 1996م. ص 84-89
[iv]) مداخل إلى علم الجمال الأدبي، عبدالمنعم تليمة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1978م. ص75.
[v]) أورد المؤلف شخصية رشدي الجزار باسمين مختلفين حيث حمل اسم رشدي ص19 ثم عدل عنه إلى اسم رشاد الجزار ص74. وأورد شخصية إيمان عبدالغفور ص76 وهي الصديقة الوحيدة لفاطمة ثم عدل في باقي الرواية إلى اسم آخر هو ياسمين عبدالغفور ص174.
[vi]) الموسوعة الفلسفية، إشراف روزنتال. ص129
[vii]) نفسه.ص126
[viii]) في درس تطور الرواية المصرية من زاوية التقنيات السردية يمكن الرجوع إلى عدد من الدراسات المهمة مثل : تطور التقنيات السردية في الرواية، عبدالرحيم الكردي يعالج فيه الرواية من رواية زينب إلى الثمانينات. ودراسة لصبري حافظ في مجلة ألف عن الرواية التسعينية. ودراسة أخرى له تعالج روايات العقد الأول من القرن الحالي في مجلة تبين تعالج الرواية العربية في ضوء التحولات الاجتماعية.
[ix]) يعد الانتقال من الريف إلى الحضر نوعا من التمدن (علامة تقدم). وكل محاولة للعودة هي نوع من النكوص، ويطلق عليه مصطلح ترييف المدينة. وهو ما حاوله عبدالمؤمن بالانتقال من مدينة نصر إلى كفر أبوحوا.
[x]) يمكن مراجعة صورة أخرى للباب من منظور فاتن في كفر أبوحوا ص236