على غير هدى تسير.
على غير هدى تخاف الفراغ فتقتل الوقت.
وتخاف الموت فتقتل الحياة..
لا تحرق الكتب..، لكنّها تعدم الكتاب رمزيا تنكّل به وتزدريه، فتحذفه من مفردات حياتها وتلغيه بالمرّة من كلّ اللغات. لا تحرّم الفنون من مسرح وموسيقى وتشكيل وسينما... لكنّها تعمل جادّة لتختفي عن ناظرها لتتضاءل وتصغر حتّى تصبح كائنات مجهرية تحتاج إلى أعتى المكروسكوبات دقّة لكي تنعم بشيء من الظهور الخافت.
تُمِيتُ الخبر من أجل أن تحيا الإشاعة، وكالقمصان الملوّنة تستبدل السياسة بالنميمة وتنتعل الأحذية الثقيلة للإقصاء والنكران، وكالمصاب بالهوس القهري تجسّ معاصم الأحداث بحثا عمّا يشبه متربّصا خلف الستائر. تعرف الحقيقة الساطعة كواضحة النهار ومع ذلك لا تصدقها، تشكّك في الخرافة الأكثر غباء ومع ذلك كيقين العجائز تصدقها. تشدو بالحرية والتفرّد وبحبوحة الاختلاف، ومع ذلك بدعوى الطمأنينة وسلامة النفس من صداع الرأس، تنزوي مثل نعامة وحكايتها مع الرمال تدسّ رأسها خانعة في أحقر قطيع تائه في الفلوات. زرافات زرافات بألبسة رياضية تحضنها أماسي أيام الآحاد في أرصفة المقاهي والممرّات الملتوية لشوارع المدينة وبين مكالمة طويلة وأخرى تلعن في السرّ يوم الاثنين وما تلاه من أيّام. درست في سالف الأزمان قولة "اعرف نفسك" لصاحبها ذلك الشيخ اليوناني من أثينا (سقراط) الذي رفع أصبعه عاليا وفي يده الأخرى قدح السمّ مذعنا للموت استجابة لحكم المدينة، لكنها فضّلت:
أن تسير عمياء وعلى غير هدى
على غير هدى تخاف الفراغ فتقتل الوقت.
وتخاف الموت فتقتل الحياة.
أن تتجاهل نفسها، وأن تهرب منها بعيدا مثل أيّ عدّاء أثيوبي عنيد. تتماثل كائنات الحشود الحائرة مثل عيدان الكبريت أحادية في التفكير نمطية في السلوك، ومثلها سريعة العطب ما أن تشتعل في برهة من الزمن حتّى تكون أكثر استعدادا إلى الارتماء في أقرب مرمدة أو سلّة نفايات. تؤمن بالتغيير وتقول جهرا إنّها مع "نيتشه" بأنّ الحيّة التي لا يمكن لها أن تغيّر جلدها يجب أن تموت، وتصرّح بيقين ظاهر أنّ "هيراقليطس" كان على حقّ لمّا قال: "إنّك لا تنزل النهر مرّتين" فيما هي تسبح في بركة راكدة صباح مساء. تخشى التغيير وتحافظ على ما هو كائن على حساب ما سيكون وتحكم الإمساك بالماضي على حساب المستقبل إمساك الأعمى في دياجير الظلام الدامس، أو كأيّ راكب حافلة متهورة يتشبث بمقابض اليد خشية سقوط محتمل. بعيدا عن قلق الوجود وأسئلته الحارقة تنشغل كائنات الحشود الحائرة بالثرثرة والاهتمام بالآخرين تلوك سيرة بعضها البعض والنكات الرائجة مبدّدة الوقت وسأمها الوجودي بجرعات متفاوتة الحجم خشية سقوط هذا البناء الهشّ والمتهاوي أصلا.
"للحضور في العالم شعريا يقتضي الأمر سيرا باتّجاه الشعر بالتجاوز العارم لكلّ الحدود المسيّجة، بالارتماء في نهر الحياة الجارف... لمواجهة شتى الانهيارات الكامنة في دواخلنا وفي عالمنا الخارجي"
أثناء تعبيرها عن المواقف وإبداء الرأي في الحياة والمجتمع تنحو منحى التعميم فيما يشبه عمى الألوان ليس في رصيدها سوى لونين إمّا أبيض أو أسود ويمكنهما أن يتبادلا المواقع دون أن تفسد رقعة اللعب. عند إصدار الأحكام فهي تميل دوما إلى كلّ ما هو جاهز وقطعي غير قابل لإعادة النظر، وأيّ مراجعة أو محاججة له يعتبر إهانة شخصية وإعلانا عن عدوان صريح يقتضي الصدّ والردّ العنيف. لأنّ ما تسمّيه أنت بالموضوعية أو بالنسبية هو في عُرْفها منطق فاسد و سقم في التفكير. هكذا تتسيّد المجالس والمنتديات زادها قليل من نظرية المؤامرة لتفسير الخيبات والهزائم فالجهل أبو الرّيبة كما قال المؤرخ الإنجليزي "إدوارد جيبون"، أو عقدة تبخيس الذات لتعليل التخلف أو تقدّم الآخر، وكثير من تضخّم الذات لتأكيد الهوية والانتماء، كلّ هذا الخليط المتناقض يشكّل آلية عجيبة في التفكير. ها هي ثانية تعود وإلى ما لا نهاية:
على غير هدى تسير
على غير هدى تخاف الفراغ فتقتل الوقت.
وتخاف الموت فتقتل الحياة.
للحضور في العالم شعريا يقتضي الأمر سيرا باتّجاه الشعر بالحدّية الكاملة، بالانصراف الكليّ، بالتجاوز العارم لكلّ الحدود المسيّجة، بالارتماء في نهر الحياة الجارف... لمواجهة شتى الانهيارات الكامنة في دواخلنا وفي عالمنا الخارجي، على حدّ قول الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه: "هذا العالم نشيّده فينهار، ثم نشيّده ثانية فننهار نحن". وأن نتوقف تماما عن الترديد بأننا لسنا بعد في هذا العالم.