كان مهرجان أفينيون المسرحي الأخير حافلا بالعروض المهمة. وقد حضره محرر (الكلمة) كالعادة، وقدم القسم الأول من المسرحيات المهمة التي شاهدها بالعدد الماضي، ويتابع هنا في القسم الثاني والأخير تناول بقية العروض المهمة التي شاهدها، وخاصة العرض الصيني الذي يكشف عن فجوة معرفية في إلمامنا بما يدور فيها من أدب ومسرح.

مهرجان أفينيون السادس والسبعون (2/2)

إضاءات المسرح الصيني المبهرة .. ومفاجآت أخرى

صبري حافظ

 

عاصفة شكسبير وتوالي المؤامرات الخائبة:
أما المسرحية الكلاسيكية التالية التي شاهدت إخراجا جميلا وجديدا لها فهي (العاصفةThe Tempest) التي تعد آخر أعمال وليام شكسبير William Shakespeare. والتي جاء بها إلى المهرجان مسرح Teatro Stabile Torino الإيطالي. والمسرحية، كما هي العادة في تلك العروض، تقدم لنا تأويل المخرج اليساندرو سيرا Alessandro Serra وهو مخرج ومصوّر إيطالي بارز، وكاتب مسرحي سبق له أن أسس فرقته المسرحية الخاصة Teatropersona وقدم بها الكثير من العروض المميزة. وقد قام أيضا بإعداد النص الإيطالي للمسرحية وهو الإعداد الذي ساهم في بلورة رؤيته المتفردة لها. ونحن نعرف أن مسرحية شكسبير تنتمي إلى مآسي الانتقام الإليزابثية المعروفة. حيث يعيش بروسبيرو – حاكم ميلانو سابقا – في جزيرة معزولة في البحر الأبيض المتوسط مع ابنته ميراندا. وهي جزيرة نائية ومقفرة استطاع العيش فيها بفضل قوة السحر التي منحها إياه جونزالو الذي أنقذه من الموت المحقق، بعدما استولى أخوه – بمساعدة آلنسو حاكم نابولي – على سلطته ومملكته. وقد مكنته تلك القوة السحرية من التحكم في المدينة بعدما طوع كاليبان – الذي كان يتحكم فيها قبله – لخدمته هو وابنته ميراندا. كما مكنته من تخليص الجني: آريل من عبوديته، بشرط البقاء في خدمته لأثني عشر عاما. مما أتاح له هو وابنته أن يعيشا حياة مريحة على تلك الجزيرة المقفرة.

أليساندرو سيرا

وبعد أعوام عديدة على أرض هذه الجزيرة، تدفع الرياح سفينة كانت تقل مجموعة من النبلاء الذين يعرفهم بروسبيرو جيدا، إلى الاقتراب من الجزيرة. وسرعان ما يجد بروسبيرو فرصته، فيرسل آريل كي يهيّج عاصفة تطيح بالسفينة وتلقى بحطامها على شواطئ جزيرته. وبين هؤلاء النبلاء أخوه أنطونيو، وصحبه من النبلاء الذين ساعدوا أخاه في التآمر عليه، ونفيه من مملكته القديمة، وعلى رأسهم ألونسو – حاكم نابولي – وابنه فيرناندو. وهو الأمر الذي يتيح له استخدام قوة السحر التي حازها لسنوات في الانتقام منهم، أو الصفح عمن يريد أن يصفح عنه منهم – وقد أصبحوا جميعا تحت رحمته – كي يضمن مستقبل ابنته ميراندا ويزوجها من فرناندو ابن عدوه السابق آلونسو الذي تآمر عليه. ولأن على المتآمر تدور الدوائر، فإن سباستيان، أخو آلنسو يستجيب لدعوة أنطونيو– أخو بروسبيرو الذي تآمر عليه واغتصب ملكه – للتآمر على أخيه آلونسو، حاكم نابولي الذي ساعد أنطونيو في اغتصاب ملك أخيه. في تلك الدورة الحتمية لاغتصاب السلطة والخيانة. غير أن فرناندو – ابن آلنسو – وقد رمته السفينة في مكان آخر، يقابل ميراندا، ويقع في غرامها. عندئذ يجد بروسبيرو أن حرصه على مستقبل ابنته، ووعيه بألا يأخذ فرناندو بذنب أبيه، يوقظ لديه الرغبة في التسامح والصفح عمن تآمروا ضده، وقد وقعوا جميعا في قبضته. فيجرد أنطونيو من مملكة ميلانو التي سيتولاها ابنه فرناندو وقد تزوج من ميراندا، ويرد ألنسو إلى مملكته في نابولي بعدما عرى أخاه ومؤامراته ضده.

مشهد من (العاصفة)

لكن مسرحية (العاصفة) تحولت، في إعداد أليساندرو سيرا وإخراجه لها، إلى مسرحية معاصرة تتناول مشاغل عالمنا الراهن أكثر من أي شيء آخر. لأن العاصفة في رأيه مسرحية سياسية ينشغل الجميع فيها باغتصاب السلطة، والافتقار للقدرة على التسامح والغفران. كما أنها في الوقت نفسه مسرحية عن قدرة المسرح نفسه على الإدهاش والإمتاع معا. فمن الناحية الأولى ما أن يهمل بروسبيرو أمور السلطة حتى ينقض عليها أقرب الناس إليه، أخوه من لحمه ودمه، ويحكم عليه بالموت غرقا في عرض البحر. لكنها لا تكتفي بذلك، بل تكشف عن أن من غدر بأخيه، سوف يغدر أيضا بمن ساعده على الوصول للحكم. لأن الحاكم لا يحب أن يكون مدينا لأحد بوصوله للسلطة حتى، أو بالأحرى خاصة، لو كانت اغتصابا. ومن اغتصب السلطة مرة، تنفتح شهيته لتأكيد عملية السطو عليها واغتصابها، وكأنه في حاجة مستمرة لما يقنعه، بأن ما فعله من خيانة أمر طبيعي يفعله الآخرون عن طيب خاطر. أو أن الحاجة إلى اسكات صوت الضمير الذي لابد وأنه يؤرقه، تتطلب المزيد من الأفعال الشائنة التي سبق لها أن أيقظته، في تلك الدائرة الجهنمية.

أما من الناحية الثانية: وهي أهمية المسرح كفعل كاشف ومهم في حياة البشر، فإن شكسبير قد مهد الأرض لها حينما دفع جونزالو لإنقاذ بروسبيرو من الموت غرقا، ومنحه سلطة أقوى من سلطة الحكم والسياسة، وهي سلطة السحر، وتسخير قوى الطبيعة لمشيئته. فمسرحية شكسبير مشغولة بالكشف عن أن المسرح هو في جوهره نوع نادر من السحر، الذي يدور تحت أعين المشاهدين وبتواطؤهم المحسوب في الفعل المسرحي. فكل شيء فيها يدور أمام أعيننا، ونعرف أنه حدث مسرحي، ولكننا نتقبله كواقع حقيقي قادر على الإمتاع والإضاءة الفاعلة لعالمنا الذي نعيش فيه، والمغاير كلية لما يدور. وقد استطاع أليساندرو سيرا أن يحوّل المسرحية أيضا إلى مسرحية عن قدرة السحر المدهشة، ولكنه هذه المرة سحر المسرح الذي تبلغ جماليات البساطة والمساحة الخالية فيه ذروة غير مسبوقة. لأن العمل كله يدور في مساحة خالية سرعان ما تتخلق فيها – بفعل الحركة المحسوبة وإمكانيات التوهيم البسيطة – عوالم تلك المسرحية بإقناع وإيحاء معا. بالصورة التي يمكن معها الحديث عن جماليات البساطة والمساحة الخالية. فليس على خشبة المسرح الخالية تماما والتي تدور فيها كل أحداث هذه المسرحية المعقدة، سوى مجموعة من الثقوب غير المرئية التي سرعان ما تزرع فيها الشخصيات بقية مكونات المشهد البسيطة فيتغير الموقع بسهولة من القصر إلى شواطئ الجزيرة المهجورة، وبإقناع شديد مبني على تلك البساطة المتناهية.

مشهد من (العاصفة)

خاصة وأن أليساندرو سيرا يقول لنا في برنامج المسرحية المطبوع إنه «دائما ما يختار نصوصا قادرة على التعامل مع حاضرنا، على أن تتحدث لنا، لأنها تنطوي على البنى والنماذج البدئية archetypes التي تمثل المشاعر الإنسانية وتحكمها. وهذا هو سر ولعه بشكسبير، لأنه كاتب مسرحي نادر في قدرته على أن يجسد على خشبة المسرح تلك النماذج البدئية التي تعبر عن المشاعر التي تتحكم في العلاقات المختلفة بين البشر بصدق وباستخدام تقنيات شديدة البساطة. تقترب مما يدعوه بيتر بروك بالمسرح الخام raw theatre أي المسرح الصرف، العاري، والخالي من الزوائد أو التزويقات، والذي يستطيع أي مشاهد عادي أن يحس به ويفهمه، دون الحاجة لأن يكون مثقفا أو متعمقا في الفنون. بالرغم من غناه بمستويات متعددة من المعاني والدلالات.» هذا فضلا عن اهتمامه الخاص بالأعمال التي يشعر أنها قادر على التعامل مع الجانب الروحي في الإنسان، وأن تعود بنا إلى الجذور الدينوسية للمسرح، وهو أمر تأثر فيها كثيرا بأعمال جيرزي جروتوفسكي Jerzy Grotowski ومعمله المسرحي الشهير. وجعله يتعامل مع روح مسرحية (العاصفة) الدفينة، وقدرتها على تعرية النفس البشرية من ناحية، وعلى الإدهاش المستمر بالمسرح الصرف من ناحية أخرى.

مشهد من (العاصفة)

بصورة يتحول بها العرض إلى نوع من السحر المسرحي، إلى مرآة نرى على صفحتها أعماق تجربتنا، ونحقق معها نوعا من المتعة والتعالي الروحي الذي هو سر الفعل المسرحي وجوهره. لذلك سعى المخرج أن يؤطر مشاهد العمل المختلفة بطريقة ينطوي كل مشهد منها على جمالياته الخاصة، وكأنه فنان تشكيلي يعي كل مكونات اللوحة، ويبتعد بها في نفس الوقت عن التجسيد الواقعي؛ كي يحفز خيال المشاهد على المشاركة في الفعل المسرحي. فكلما ابتعد المشهد عن التجسيد الواقعي كلما انفتح على عدد من التأويلات، وأدخل المشاهد في قلب التفاعل الخلاق مع ما يدور أمامه. وكلما قل ما هو موجود على الخشبة – وتحولت إلى مساحة خالية بحق – كلما امتلأت تلك العناصر القليلة بالمعاني والرموز، وفعّلت طاقة المساحة الخالية وسحرها بالمعنى الذي بلوره بيتر بروك. ومكنت المشاهد من الاستمتاع بجماليات المسرح الصرف أو المسرح الخالص. ولهذا اختار خشبة مربعة خالية، لا تعلو إلا بعشرين سنتمترا عن خشبة المسرح الأصلية، كي تمثل الجزيرة. وبناها من ألواح من خشب البلوط القديم والمستعمل، كي تشي بأن لها تواريخها الخاصة. وأحدث فيها مجموعة من الفجوات التي تمكنه من زرع بعض ألواح الخشب فيها، كي يستخدمها في أكثر من غرض، كمائدة مرة، وبناية أخرى، ووظف هذا كله في استثارة خيال المشاهدين الخلاق، وتعزيز تفاعلهم مع سحر العرض.

مشهد من العاصفة)

اليوم السابع والمسرح الصيني:

حينما قرأت برنامج مهرجان هذا العام الذي تبعث به إدارة المهرجان لي قبل موعده بشهرين، كان أحد أول العروض التي وضعتها على برنامجي هو عرض (اليوم السابع) الذي أتي به مينغ جينغهويMeng Jinghui  إلى مهرجان هذا العام؛ بعدما استمتعت كثيرا بأول عرض جاء به للمهرجان، وهو (بيت الشاي) عام 2019. فقد عرفت من قراءتي عنه، ومشاهدتي لمسرحيته تلك أهميته في المسرح الصيني المعاصر، الذي لا نعرف عنه الكثير في عالمنا العربي. لأن هذا المخرج المولود عام 1964 والذي درس الإخراج في أكاديمية الدراما المركزية في الصين، أصبح بسرعة أحد أبرز مخرجي الصين المعاصرين، ومديرا لمسرح عش النحل Beehive Theatre في بكين. وأهم ما عرفته عنه – من المشاهدة المباشرة لعرضه (بيت الشاي) – هو تمكنه من أدوات ما أسميها بلغة العرض المسرحي، وسيطرته المدهشة على عناصر الفرجة المختلفة فيه. أما ثاني ما عرفته من قراءتي عنه، فهو أنه من المخرجين الطليعيين الذين يمزجون في عروضهم السياسة بالتهكم والسخرية وبشيء من عناصر مسرح العبث الذي قدم أو بالأحرى اقتبس للصينية أبرز مسرحيات أعلامه الكبار مثل صامويل بيكيت ويوجين أونيسكو، كما أنه قدم أيضا مسرحيات جان جينيه وداريو فو في بكين.

مينغ جينغهوي

أما حينما يقدم مسرحيات صينية، فإنه وإن قدم عددا من أعمال المسرحي الصيني الشهير تانغ شيانزو Tang Xianzu لشهرته وخلافيته؛ إلا أنه يعتمد كثيرا على مسرحة الروايات الفارقة في تاريخ الأدب الصيني وحاضره. وقد كانت (بيت الشاي) مسرحة لرواية لاو شي Lao She (1899-1966)الشهيرة، والتي تذبذبت مكانتها في الأدب الصيني من علامة فارقة في تاريخ الرواية الصينية الحديثة عقب الثورة، حينما صدرت عام 1955 إلى أن يصبح كاتبها من ضحايا الثورة الثقافية، ويضطر إلى الانتحار عام 1966 عقب اندلاعها. أما مؤلف الرواية التي أعدها هذه المرة للمسرح، فإنه لا يقل أهمية عن لاو شي. إنه يو هوا Yu Hua المولود عام 1960 والذي يعد من رواد التحديث فيما بعد المرحلة الماوية من تاريخ أدب الصين الحديثة. وقد بدأت هذه المرحلة – حسب مؤرخي الأدب الصيني الحديث – مع أوائل تسعينيات القرن الماضي، وظهور جيل جديد من الكتاب الذين تحرروا من سلطة الحزب القديمة على الثقافة، والكتابة وفق معاييرها. وفي نوع من تقريب عوالمهم للقارئ العربي، فإن قراءتي عنهم جعلتني أعتقد أن بينهم الكثير من التشابه في التوجهات والمنطلقات مع كثير من كتاب جيل التسعينيات المصري المجايل لهم. خاصة في تجنبهم المخاتل للسياسة، دون الإعراض عنها كلية، وشغف النساء منهم بكتابة الجسد التي تسمى هناك بكتابة الجمال، الجسدي منه والحسي، وتتسم بجرأة أكبر – تصل أحيانا حد الشبق والفضائحية – من تلك التي تتصف بها أعمال كاتبات التسعينات عندنا.

وقد تميزت كتابات يو هوا بالتجديد، ووُصفت بعض قصصه الأولى بالسيريالية في تناولها للمعاناة وشظف العيش والحيرة الأخلاقية في عصر ماو ومرحلة الثورة الثقافية. ولم يحقق قدرا من الذيوع والانتشار الواسع إلا مع روايته (الأخوة)[i] عام 2005. وهي الرواية التي يعتبرها الكثيرون مفتتح عصر روايات «الكتب الأكثر مبيعا Bestseller» وما صاحبها من تسليع الكتابة والكُتاب على السواء. فقد باعت هذه الرواية أكثر من مليون نسخة في الصين، في عامها الأول. وصاحب نجاحها ظهور حفلات توقيع الكتب لأول مرة في الصين، وارتحال الكاتب للترويج لكتابه في مناطق الصين المختلفة. والصين شبه قارة واسعة، يعقد فيها ندوات عامة وتليفزيونية عنه وقراءات منه، ويظهر في حفلات توقيع وأمامه طوابير من الراغبين في التوقيع على نسختهم من كتابه. بالصورة التي يتحول بها رأسمال يو هوا الثقافي/ الرمزي السابق، إلى رأسمال مادي في واقع الصين الثقافي الجديد، خلافا لنظرية بيير بورديو التي تميز بينهما.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وتغطي هذه الرواية – وهي من جزأين نشر أولهما عام 2005، والثاني عام 2006 –فترة تاريخية مهمة في مسيرة الصين الحديثة، تمتد لأكثر من أربعين عاما؛ من ستينيات القرن الماضي والثورة الثقافية – وهي الفترة التي شكلت تجربة الكاتب التكوينية كما يقول لنا – حتى بدايات الإصلاح الاقتصادي الصيني في أوائل هذا القرن. وهي رواية تتسم بالجرأة وعدم التورع عن استخدام البذاءة واللغة الجارحة. وتتناول الرواية حياة أخوين غير شقيقين. غرق أبو أولهما في بئر المجاري – التي كانت كلها مفتوحة وقتها، وكانت المراحيض كلها عامة، وخارج البيوت – بسبب التلصص على مؤخرات النساء في المراحيض، فوقع ومات غرقا في الغائط. بينما اضُطِهد أبو الآخر، والذي رعى الأول، وتزوج من أمه، أثناء سنوات الثورة الثقافية، ثم أُعدم. فنشأ الأخوان في فقر مدقع؛ وتوطدت بينهما أواصر الأخوة، وقربهما اليتم والمعاناة من بعضهما البعض طوال فترة الصبى والشباب التي اتسمت بالرعب المستمر من الحرس الأحمر والثورة الثقافية. حيث كانا يعيشان حياة من أضهدت الثورة الثقافية عائلاتهم، ويعانيان من الفقر وغياب المسكن في بعض الأحيان، مما اضطر أولهما إلى المبيت في شبابه في بعض الكهوف الباردة المهجورة. وتلاحقت عليهما الكثير من المصائب العائلية المتتابعة، والتي عززت علاقات الأخوة بينهما.

ثم توزعت بهما الطرق والمصائر عندما سيطر اقتصاد السوق، وأصبح الجري وراء المال عصب الحياة. وهو الأمر الذي ينقل الرواية من تصوير المرحلة التي ساد فيها جنون الثورة الثقافية وعنفها؛ إلى تجسيد جنون آخر لا يقل عنه قسوة وتسارعا في الأحداث، وهو حنون النزعة المادية، وآليات الفساد والثراء السريع. حيث يصبح أكبرهما Baldy Li بالدي لي، وهو الجريء المخاتل الذي لا يعبأ بالتقاليد ولا تردعه القيم، رجل أعمال ويحقق ثروات طائلة. بينما يبقى الأخ الأصغر، غير الشقيق سونج جانج Song Gang، المستقيم الفاضل المولع بالكتب والقراءة والذي يحبه الجميع، عاملا في مصنع تملكه الدولة، وينتهي به الأمر إلى البطالة والفقر بعد أن يتعثر المصنع، ويستغني عنه ضمن من استغنى عنهم من العمال. بعدما دمر العمل في هذا المصنع القذر رئتاه. لكن أهمية الرواية تكمن – كالعادة – في تفاصيل المسيرتين، ومدى تعارضهما وتوازيهما طوال الفترتين التاريخيتين المهمتين. وكذلك في لغتها الخشنة أو الصادمة في كثير من الأحيان – وفق نقادها الصينيين الذين يتحدثون عن بذاءتها وعدم ترددها في استخدام ألفاظ جارحة لم تدخل الأدب الصيني قبلها – وجرأتها على تناول كثير من المحرمات، أو التابوهات القديمة.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وتنهض رواية (الأخوة)، التي أصبحت من أكثر الروايات مبيعا، واعتبرها الكثير ممن قرأت لهم عنها أمثولة رمزية لحاضر الصين المعاصرة، على تصوير ما جرى لكل من الأخوين في المرحلتين، وكيف أن توزع الطرق بهم لم ينل من علاقة الأخوة بينهم. ولا تفلت الرواية من نقدها الجارح  وتعليقاتها الساخرة مرحلة الثورة الثقافية بمآسيها المتناسلة، وإن كان تركيز نقدها الأكبر على عقلية السوق، وما يدور في واقع الصين الراهن. لأن ثنائية الجانب المظلم في النفس الإنسانية والواقع الاجتماعي على السواء، والذي يمثله بالدي لي الذي تمضي به الحياة من نجاح إلى نجاح، وتسلط عليه الأضواء باستمرار. يقتضي تركيزا أكبر من ذلك الذي يناله الجانب المضيء، والمأساوي معا الذي تعيشه شخصية سونج جانج المتشبثة بالقيم والتقاليد، والتي تعتصم بضمير يقظ يساهم في تعرية مباذل أخيه. ولكن الحياة تمضي به من معاناة إلى أخرى؛ بل تدفعه إلى الظلام وكأنما تغرقه تحت أتربة مشاريع أخيه الكثيرة، والتي تعصف بجغرافيا المكان وتاريخه معا. لأن الرواية تشكل في مستوى من مستويات المعنى فيها – كما يقول أحد نقادها – علامة أساسية على التحول نحو نوع جديد من الكتابة التي تركز على الحاضر، وتكشف عورته بقدر كبير من الجرأة.

خاصة في القسم الثاني الذي يتعملق فيه دور الأخ بالدي لي/ رجل الأعمال المشغول بالجري وراء أجمل النساء، واستعراضهن في سيارته الفارهة، وتنظيم مسابقة لأجمل عذراء صينية، وما يصاحبها من رواج تهكمي لأغشية البكارة الصناعية، ولعمليات حقن وتكبير الأثداء، وغيرها من اقتصاديات المسخره الاستهلاكية التي يزداد بها ثراؤه. ويتوازى هذا مع مشروعه الضخم في إعادة بناء المدينة التي يعيش فيها، ويسيطر على اقتصادها ويشاركه بالطبع رجل الحزب القوي في مشاريعه تلك. ويتابع السرد نفاصيل هدم شوارعها ومعالمها – شارعا وراء الآخر – وإعادة بنائها من جديد. وما تطيح به عمليات الهدم الطائشة من معالم أثرية أو تاريخية، وأهم من هذا كله من قيم ومعايير. حتى امتلأ مناخ المدينة بتراب الهدم وضجة البناء المستمرين على مدار الليل والنهار. وتبدد كل ما كانت تتسم المدينة الصغيرة به من علاقات إنسانية رخية، وهدوء وجمال. وما أن يغيب الأخ الأصغر بحثا عن رزق يسد به احتياجات بيته وزوجته الجميلة لين هونغ Lin Hong حتى لا يتورع أخوه عن إقامة علاقة جنسية معها. وما أن يعرف سونج جانج بالأمر عقب عودته، وتعهير أخوه لزوجته في عيون المدينة، حتى ينتحر بإلقاء نفسه تحت عجلات القطار.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

ويترك الأخ الأصغر قرب نهاية الرواية خطابين: واحدا لكل منهما يكشف في أحدهما لزوجته عن مدى حبه لها وإخلاصه لها، وإن أحزنها الخطاب فإنه لم يغير كثيرا من تصرفاتها. أما خطابه لأخيه فإنه يكشف عن أن رابطة الأخوة بينهما لا يمكن التغاضي عنها أو التقليل من أهميتها مهما فعل. فنحن هنا بإزاء واقع بالغ التعقيد، لأن الأمر ينتهي فيه بلين هونغ بعد انتحار زوجها، وتخلي أخيه/ عشيقها عنها، إلى أن تفتح صالونا للتجميل، سرعان ما يتحول إلى نوع من بيوت الدعارة الجديدة. أما تفاصيل ما يدور في حياة الأخ الأكبر بعد انتحار أخيه، فيمكن اعتباره استعراضا تهكميا – وفي بعض الأحيان هزليا – للنزعة التجارية الجديدة، التي سادت الصين. وزراية واضحة بما جلبه عصر الاستهلاك، وتسلط رأس المال من تناقضات ورذائل. ونوستالجيا خفية لما تدوسه تلك المادية الجدية في توحشها من قيم وفضائل. والكشف عن أن هذا كله يدور برعاية مباشرة من رجل الحزب القوي. وهو الرجل الذي يجلس مع بالدي لي بالطبع في لجنة تحكيم مسابقة أجمل العذارى، والتي تنتهي بنوم من تريدن الفوز بها مع لجنة التحكيم.

بالصورة التي تحولت بها الرواية إلى أمثولة حية للصين الحديثة، وكشفت أبشع مشاكل الرأسمالية الجديدة، وإطاحتها بعلاقات التضامن والوئام القديمة بين الناس. وتدميرها لكل ما له قيمة تاريخية في الماضي، وعن نخر الفساد للحزب الحاكم، ولمفاهيم العدل والمساوة، كما جسدت المرحلة التي جاء شي جينبينغ (1953-) لمحاربتها بحزم، وتطهير الحزب منها، بالصورة التي ساهمت في شعبيته، وجعلته قائد الصين القوي.[ii] فالرواية تقدم – رغم مراعاتها لكل ما يشد انتباه القارئ من مقبلات حريفة في بعض الأحيان، تنطوي على قدر من التلصص والشبق والجرأة على المحرمات الأخلاقية منها والأجبية – الكثير من المشاهد الهزلية والمفارقات البنيوية الموحية والنقد الجارح المتخفي وراء النزعة التهكمية. بصورة تتردى معها نزعتها الواقعية في وهاد العبث واللامعقول، وخاصة في تصويرها للمراحل الأولى من تجربة الانفتاح الصينية. ومع أن الرواية – كما رأي كثير من نقادها – مليئة بالبذاءات وتصوير الوظائف الجسدية المقززة، إلا أن كل ما قرأتها عنها من دراسات جادة في أكثر من دورية متخصصة يشيد بأهميتها الفائقة، لا كرواية كاشفة بجرأة واضحة لما يدور في حاضر الصين الإشكالي فحسب، وإنما كعمل أدبي مهم حقق نقلة سردية مغايرة في مسار الرواية الصينية المعاصرة.

نقلة سردية أخرى في (اليوم السابع):
سأكتفي هنا بهذا القدر من الحديث عن رواية يو هوا الأساسية تلك، لأنتقل إلى روايته الثانية التي مسرحها مينغ جيانغهوا Meng Jinghui وجاء بها إلى مهرجان هذا العام وهي (اليوم السابع) التي نشرت عام 2013 بعد فترة صمت طويلة.[iii] وتعد هذه الرواية واحدة من الروايات التي صدرت في العقد الثاني من هذا القرن، وأعاد فيها عدد لا بأس به من كتاب الفترة المرموقين مكانة الأشباح من جديد في الأدب الصيني،[iv] وعلى رأسهم مو يان – الفائز بنوبل 2012 – في روايته (الحياة والموت يبهظان كاهلي Life and Death are Wearing me Out). ذلك لأن للأشباح تاريخ عريق في الأدب الصيني القديم، وخاصة في مراحل التحول والإشكاليات التاريخية والمحن، والتي تنتشر فيها الحيرة ويصعب الاختيار، بين مملكة تتهاوى، وأخرى في طريقها للهيمنة. أي المراحل التي يصفها جرامشي بأنها مراحل interregnum تزعزع شرعية النظام الحاكم، وعدم تشكل أسس شرعية جديدة مغايرة. فهل يعد ظهور هذا النوع من الأدب استشرافا لتغيرات اجتماعية وسياسية قادمة؟ هذا سؤال لم أجد فيما قرأت عن تنامي ظهور هذا الأدب الجديد إجابة عليه.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وإنما انشغل النقد الأدبي الصيني فيما قرأت بالتمييز بين نوعية روايات أدب الأشباح القديمة، التي تعود إلى الأسرة السادسة (220-589م) والتي تواصل ظهورها حتى بلغت ذروة ازهارها في فترة التحول بين أسرتي منج وكينج Ming and Qing (161-1683م) ثم استمرت في لعب دور ملحوظ في المخيال الصيني عامة، حتى الثورة الصينية. وتمييز هذا كله عما ظهر مؤخرا من هذا الأدب. صحيح أن أكثر من دارس أكد على أن ظهور أدب الأشباح القديم يرتبط إلى حد ما بمراحل ينتشر فيها العنف العبثي. حيث يثير ظهور أطياف من الماضي عدد من التساؤلات، لا عن هذا الماضي وحده، وإنما أيضا وأساسا عن الحاضر الذي تؤرقه تلك الأشباح، ويقلقه ظهورها. حيث يبدأ التساؤل عما دعا تلك الأشباح للظهور؟ وماذا أقلقها ودفعها للخروج من مراقدها؟ وهل ثمة إهمال لبعض الطقوس أو الالتزامات الأخلاقية أو الإنسانية؟ لذلك فإن قصص الأشباح في الأدب الصيني تطرح أسئلة معرفية وأخلاقية وسياسية على قدر كبير من الأهمية.

وقد اتسمت مرحلة الثورة في عهد ماو تسيتونج بالدعوة للأدب الواقعي الملتزم، ومحاربة أدب الأشباح الذي ارتبط بأعداء الثورة من ناحية، واللاعقلانية ومحاربة العلم والنزعة الميتافيزيقية التي دحرتها من ناحية أخرى. لكن أدب الأشباح عاود الظهور، وبقوة، في العقد الماضي من هذا القرن؛ فما هو السبب؟ يعتقد البعض بأن ذروة المرحلة الماوية المأساوية في الثورة الثقافية، وما خلفه عنفوانها ورعونتها الدامية من آثار، أدت مع ظهور كتاب الجيل الذي تؤرقه ذكرياتها المرّة إلى توليد نوع جديد ومغاير من الأشباح. وتميز دراسة يجو هوانج التي أشرت لها أعلاه، هي وعدد آخر من الدراسات التي يقتطف نتائجها، بين استخدام الأشباح في الأدب الصيني الكلاسيكي القديم، الذي كان فيها الطيف نسائيا غالبا وله طبيعة شبقية، ويشكل استخدامه الأدبي جزءا من العملية المعرفية Epistemological؛[v] وبين استخدامه في هذه الموجة من روايات قرننا الجديد. فقد أصبح فيها رجاليا وبعيدا كل البعد عن الشبقية، وتغيرت طبيعته وأصبح منشغلا أكثر بالقضايا الكيانية Ontological في رأي عدد كبير من النقاد. لكن الكيان الذي يتخلق معه كيان جريح يبدو معه أننا بإزاء أشباح تاريخية، في المحل الأول. تصور لنا، لا الخشوع المتضافر مع الوجل إزاء غير المعروف، أو الاهتمام بالأخلاقيات الفردية؛ وإنما ما يرتبط بأسئلة الماهية والوجود؛ من قلق تجاه التاريخ، وغموض المستقبل فيه، واهتمام بفقدان العدل وتفشي العنف، وانشغال بتبدد المسؤولية.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

وهذا كله هو ما تجسده رواية (اليوم السابع) التي يواصل فيها  يو هوا اهتمامه بالعلاقة بين الماضي والحاضر، بين الصورة المتوهمة عن الصين، وواقعها الصادم وما يدور في تاريخها الراهن العنيف. لأن عالمه السردي – كما رأينا في إطلالتنا السريعة على روايته الشهيرة (الأخوة) – مترع بثقل ذكريات تواريخ المرحلة الماوية، وما جرّته الثورة الثقافية على الكثيرين من عنف ودمار، وما اتسمت به من جمود Dogma عقائدي أعمى. ومشغول في الوقت نفسه بجمود لا يقل عنه عماء ومرارة، يتجلى في تناقضات الجموح الاقتصادي الأرعن بجريه المحموم وراء المال فيما يُدعى في الصين بـ«اشتراكية السوق»، وسطوة المجتمع الاستهلاكي، وقدرته على العصف بكل الراوسي الأخلاقية والفضائل الإنسانية. وقد منح يو هوا في هذه الرواية الجديدة سلطة السرد المطلقة لشبح يانغ فاي Yang Fei الذي مات سحقا تحت أنقاض العمارة التي كان يسكن فيها عند انهيارها غير المتوقع. وظلت روحه تبحث عن السلام والراحة، في مرقد نهائي لها طوال سبعة أيام. لأن ثمة اعتقاد صيني بأن الأرواح التي لم تحظ بمدفن ملائم: أي مرقد آمن، تظل هائمة. وكان هيام أطيافها الضائعة تلك هو مبعث نشأة أدب الأشباح التقليدي قديما.

لكن شبح يانج فاي لا يبحث عن تعويض عما جرى له من الأحياء –كما في سرد الأشباح القديم – وإنما يتأمل في تسكعه بين عالمي البشر/ الأحياء؛ وأطياف الأشباح المحوّمة مثله بحثا عن مرقد، ذكريات ماضيه ومن لاقاهم في حياته. خاصة وأنه وجد أن عددا من تلك الأشباح المهوّمة في عالم من لا مرقد لهم، كانوا أشخاصا يعرفهم أثناء حياته التي انقصفت قبل الأوان. ومن البداية يحتل الرقم سبعة مكانته المهمة، ليس فقط لأن الرواية صدرت بعد سبعة أعوام من صمت كاتبها منذ نشر روايته السابقة (الأخوة)، ولكن أيضا لأنه يفتتحها بمقتطف مهم من التوراة: «وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه.» (الإصحاح الأول من سفر التكوين) ويقابل هذا المقتطف المهم من سفر التكوين، مفهوم مماثل في العقيدة الروحية الصينية عن الأيام السبعة عقب الموت. وإذا كان المقتطف التوراتي يمجد الحياة والخلق والتكوين؛ فإن الأيام السبعة في العقيدة الصينية تتناول تهويم الأرواح عقب الموت لسبعة أيام قبل التناسخ، الذي تتجلى بعده في صورة جديدة.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

كما أن الرواية تتكون – من حيث البنية السردية – من سبعة أقسام/ أيام. يقوم فيها شبح يانج فاي بالتريث حول العوالم والأماكن التي عاشها. لكن المختلف في هذه الرواية هو أن هذه الروح لا تحظى في نهاية تلك الأيام السبعة بمرقد آمن، ولا حتى تتجلى متناسخة في شكل جديد. وهما المصيران المرغوبان في قصص الأشباح الصينية التقليدية. وفي اليوم الأول الذي مات فيه نلتقي يانج فاي في المحرقة – حيث تبدأ طقوس الموت بحرق جثث الموتى وحفظ رمادها في جرّة – وحينما يدخل إلى غرفة الانتظار التي تنتظر فيها أشباح مماثلة، يذكّره شبح أقدم بأنه ليس لديه جرّة، ولا مقبرة يضعها بعد امتلائها برماده فيها. فتبدأ تناقضات الواقع الذي أدى به للموت غدرا في التكشف. لأنه يفيق منذ هذه اللحظة على وجوده في قاعة انتظار المحرقة التي تعكس إيقاع الزمن الدنيوي وتراتباته التاريخية، وتصوراته أو بالأحرى تناقضاته الطبقية والاجتماعية، وليس زمن الأشباح في سرمديته اللامتناهية. ويجد نفسه في تلك الغرفة المزدحمة بالفقراء من أمثاله، بينما تتدثر أشباح الأغنياء في القاعة الرحبة المجاورة بأكفان من الحرير اليدوي الخالص، يشير وشيها بالتطريز الغالي إلى أن ثمنها لا يقل عن عشرين ألف يوان. ولدى كل منها جرّة من خشب الصندل المكفّت بالذهب والتصاميم الجميلة لا يقل ثمنها عن ستين ألف يوان. أما المقابر التي تنتظرها فتشغل كل منها مساحة فدان على الأقل. أما مقابر العامة من أمثاله فلا تزيد مساحة أي منها عن متر مربع.

فالرواية لا تنشغل في الواقع بطقوس الموت والدفن التقليدية، وإنما بإبراز المفارقات الاجتماعية الصارخة بين الفقراء والأغنياء في الصين المعاصرة. لأنها تبدأ من حيرة يانج فاي في الجواب على هذا السؤال البسيط، عن الجرة والمقبرة. ويتسكع بلا هدف، لأن افتقاره لطقوس الدفن، حيث لا والدين له، وليس لديه أبناء، يحتمان عليه ارتداء رباط ذراع أسود، الأمر الذي يؤكد أنه شبح هائم وحيد دون مرقد أو مستقر. فضلا عن أن انسحاقه تحت العمارة المنهارة، ولم يتجاوز الحادية والأربعين من عمره، قد شوه جسده وملأه بالجروح، كما دعج أنفه وأخرج عينيه من محجريهما، وجعله نموذجا للموت العنيف. أو تراه ضحية للعنف السياسي والاجتماعي مع أقران كثيرين من ضحايا العنف والفساد يلتقي بهم في عالم الأشباح الهائمة بلا مراقد. فقد جمع يو هوا عددا من الأشباح التي تلخص الكثير مما دار في المرحلة التي يتناولها. وكان من بينهم بالطبع شبح زوجة يانج فاي السابقة، والتي كانت عشيقة لأحد ا لمسؤولين الكبار، لكنها انتحرت حينما داهمتهما لجنة استئصال الفساد لاعتقال عشيقها.

والتقى أيضا بوالدي تلميذه النجيب اللذين دفنا أحياء تحت أنقاض عملية إزالة للمباني العشوائية، كما حدث في إزالة العشوائيات في كثير من مدننا العربية. وقابل أيضا أمه البديلة التي ربته وقُتلت بسبب عثورها صدفة – أثناء عملها بالمستشفى – على أجنة أطفال مجهضة ضمن النفايات الطبية. وأبدت انزعاجها الفطري من ذلك التصرف الوحشي، بدلا من الصمت والتواطئي على الجريمة. ناهيك عن شبح من كان يتاجر بزراعة الأعضاء البشرية كي يشتري لصديقته iPhone، أو يشتري لأمه قبرا. بالصورة التي نكتشف معها أن أشباح يو هوا المغدورة، ليست بنت ميتافيزيقا الأشباح القديمة، أو ضحايا فقدان العدل أو سوء استخدام المسؤولية، أو قرابين حُب مخفق، أو حتى إنسان شرير. وإنما نتاج الصدمات البنيوية التي تعيشها الصين الحديثة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. إننا بإزاء أرواح لا تبحث عن الاهتمام، ولا حتى الانتقام أو التعويض عما جرى لها من الأحياء. وإنما تبقى أطياف حائرة تعاني من السوداوية melancholia المزمنة. أشباح لا أمل لديها في التئام جراحها، ولا حتى في الرقاد في قبر آمن، وإنما تستمر في دورة من الميلاد الجديد والمعاناة المتواصلة. إنها أشباح سياسية – أو بنت عملية النقد السياسي الجريئة – تعمر عالما عبثيا ولا إنسانيا، ولكنها تتذرع بقدرتها التهكمية على الحالة التي تعيشها/ ويعيشها القارئ الصيني معها.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

لأن الرواية بأشباحها السوداوية الحزينة التي لا تجد لها مستقرا، تمحو الفوارق بين العالم الطبيعي، وعالم الأشباح الخارجي أو السرمدي عادة، من خلال التفاعل العرضي بين العالمين اللذين يخضع كل منهما لمنطق زمني مغاير كلية للآخر. وهو تفاعل عرضي بين العالمين، بدلا من تضافر أو تداخل وتغلغل كل منهما في الآخر. بصورة تتبدد معها أي رؤية للتطور ناهيك عن التقدم. مما يجعلها تطرح أسئلتها المشككة في السرد القائل بالتطور والتحديث. لأن هذه الأرواح المغدورة والوحيدة المستوحشة – في تعارض واضح مع أدب الأشباح القديم – لا تبحث عن العدل لدى سلطة مركزية تملك إنصافها، ولا تشكو معاناتها أو حتى تتبع الدورة الدائرية الزمنية التي تنتهي بالتناسخ وتجليها مرى أخرى في العالم الواقعي في شكل جديد. لأن العالم الواقعي لم يعد طبيعيا، ولم يعد عالما مضيئا، تسعى للعودة إليه في تجلٍ جديد، وإنما يلفه الضباب والرماد الذي تتوشح به المدينة/ مدينة الغبار/ ليل نهار. عالم تتردد في جنباته أصداء العتبة الأولى المأخوذة من سفر التكوين، عالم يزعم أنه يخلق عالما جديدا كالذي خلقه الرب في أيامه الستة، ولكنه خلق مقلوب إن صح التعبير. تدمير وتبدد وضياع أكثر منه خلق وإنشاء.

لذلك يبدو العالم في نهاية الرواية كابوسيا ويصعب التعايش معه لأنه dystopian أو يوتوبيا مقلوبة، يخلق في اليوم السابع عالما مثاليا من الأشباح، والمحرومين والهائمين في فيافي الضياع والبحث عن مستقر آمن، حيث ينتهي الأمر بشبح بطلنا يانغ فاي إلى أرض من لا مدفن لهم. وهي فضاء يعمره ما يدعوهم بالـ skeletal people أي بشر الهياكل العظمية، وهو ليس فضاء للمتحجرين أو للضائعين، وإنما فضاء يتسم بالجمال والتسامي والسلام والراحة. يشبه جنة عدن شبحية، لأن أول ما يلفت نظر يانغ فاي فيه هو ثراءه الطبيعي حيث تعمره الخضرة والجداول الرقراقة، والأنهار والأشجار المثقلة بالفواكه والهدوء، والتي تبدو أوراقها على شكل قلوب معلقة على الأغصان. وكأنه يعود بنا إلى جوهر الحياة في أبسط وأجمل تجلياتها البدئية.

هكذا يخلق يو هوا يوتوبياه المضادة لكابوس العالم الواقعي، حيث نجد أشباح شخصيات ناصبت بعضها العداء، بل قتل أحدها الآخر تعيش في وئام تام في تلك اليوتوبيا الطبيعية الخضراء. إننا بإزاء رواية تطرح أسئلة أساسية تشكك في سرديات التنمية والتقدم الكبرى. وتتساءل حول المعنى الحقيقي لما يطلق عليه مسيرة الصين المنتصرة نحو التحديث، حول معنى الحياة، ودور التنمية، وماهية معضلة الحداثة، ومكانة القيم الاجتماعية والأخلاقية، وأخيرا التوتر بين الهائم الباحث عن مرقد ومستقر، وبين الراسخ المسيطر على المكان والمشغول بتدميره يشكل مستمر. ولا أخفي عن القارئ أنني طوال مشاهدتي للعمل المسرحي المأخوذ عن هذه الرواية، شعرت بأنني بإزاء سرد ينطلق من موقف طالما راح ضحيته المئات من المصريين تحت أنقاض العمارات الجديدة الخربة – المبنية على الجشع والغش والخداع – ولذلك تمنيت طوال أن تحظى الرواية على الأقل بالترجمة لما فيها من صدق كاشف لما يدور في بلداننا، وليس في الصين وحدها.

مسرحة الرواية وزعزعة التماهي مع أحداثها:
فكيف مسرح مينغ جينغهوي هذه الرواية؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من الوعي بأهمية التجريب والتجديد المسرحي بالنسبة له. حيث تؤكد بعض الدراسات الضافية عنه أنه يتزعم الموجة التي واصلت التخلص من مسرح الحائط الرابع والمسرح التقليدي عند ستانسلافسكي والذي ساد المشهد الصيني في المرحلة الماوية. وأنه استمد رؤاه للمسرح وأسس تصوراته الفكرية عنه من مصدرين. أولها غربي استفاد فيه من أسلوبية مسرح ميرهولد، والتغريب المسرحي عند بريخت ومسرحه الملحمي، ومسرح جروتوفسكي الفقير، ومساحة بيتر بروك الخالية، ومسرح القسوة عند أنطونين أرنو.[vi] أما الرافد الثاني فهو صيني؛ واصل فيه جهود مسرحيي ثمانينيات القرن الماضي مثل غاو شينغجيان Gao Xingjian (1940-) ولين زاوهيو Lin Zhaohua (1936-) في التخلص كلية من الواقعية الاشتراكية في المسرح الصيني، واستلهام مفردات الأوبرا الكلاسيكية الصينية، وما تنطوي عليه لغتها المسرحية من افتراضات مضمرة وإيحاءات تمثيلية وحتى التفاعل المباشر بين الممثل والجمهور.[vii] هذا فضلا عن أن ما أغراه على مسرحة هذه الرواية – كما يقول لنا في برنامج المسرحية – هو هذا الإحساس بالعجز الذي يتفشى فيها، وكثرة ما بها من المسكوت عنه الذي يحتاج المسرح إلى استخراجه منها. وامتلائها بالشظايا السردية التي تتيح له حرية الحركة في مسرحتها.

مشهد من مسرحية (اليوم السابع)

كما شاقه ما بها من خلط بين ما دار في الواقع، وما تمنى البطل أن يكون قد حدث فيه بصورة تتيح له أن يجعل الواقع ملتبسا ورجراجا في آن. وأن يغرق أحداثه في ضباب لا يقل كثافة عن هذا الغبار الذي اندلع مع انهيار المبنى على بطلها وقتله. لذلك فإن ما نراه كمشاهدين على المسرح – شكرا لبراعة المخرج في السيطرة على فضاء الخشبة وتشكلات الحركة عليها – هو مجموعة من الشظايا والمشاهد المتفاعلة والمتجاورة التي تتيح لما يدور في العالم الآخر أن يضيء عالمنا، ويحثنا على التفكير فيما يجري حولنا. صحيح أن العرض حافظ على نوع من السرد الخطي، كما يدور في المسرح الملحمي، مكننا من متابعة ما يدور للبطل يانج فاي الباحث عن قبر يرقد فيه – وخاصة لمن يعرفون شيئا عما جرى في الرواية الأصلية – من أحداث متتابعة يتم عبرها التفاعل والحوار بين العالمين الواقعي، وما وراءه من غيب. وقد اتسم العرض بجماليات الحركة، وبالنقلات المدهشة والسريعة بين المشاهد، واستخدام الدخان الذي يلف بعض المشاهد في ضباب التباساته. وبالحرص على أن يتحدث الممثلون للجمهور مباشرة، للإجهاز على أي شكل من أشكال التماهي العاطفي مع الشخصيات، والتعامل مع مواقفها القاسية بشكل عقلي.

والواقع أنني تابعت عرض مينغ جينغهوي باهتمام شديد بقدرته على أن يملأ هذا الفضاء التقليدي القديم والجميل لدير الآباء الكرمليين الذي عرضت المسرحية في فضائه، بكل مستويات هذا الفضاء المختلفة. مما جعل بعض الشظايا التي تدور في العالم الآخر تحدث فوق أقواسه أو على سطوحها، بينما تدور عمليات تجهيز المشاهد القادمة في أروقة تلك الأقواس الخلفية منها أو الجانبية. في نوع من الميتامسرح الذي يقوم بتعرية أو كشف بعض تقنيات ما سيدور على المسرح ،وكشف عمليات تجهيزه للمشاهدين. بينما ملأ خشبته الواسعة بالحركة، وبكثير من الأدوات المسرحية التي تشكل نوعا من المسرحة الخلاقة لعمليات حرق الجثث وترميدها. أو تجليات العالمين الواقعي وعالم الأشباح من ورائه، والذي يمتليء بالهياكل العظمية التي استخدم حشدا منها أضفى – في نوع من المفارقة – جمالياته السوداوية على المشهد. كما جسد بطريقة مدهشة ما سبق وأن دعته الراوية بشر الهياكل العظمية skeletal people، وغير ذلك من الأدوات التي تكشف عن خيال المخرج الخصب. لكن اعتماد المسرحية على نص ثري من الكلمات – كانت تترجم للإنجليزية والفرنسية في أعلى أقواس خلفية الخشبة وفي شاشتين على الجانبين – عمل على تشتيت انتباه المتفرج، فقد كان من يحاول قراءة الترجمة، يخسر متابعة تشكلات الحركة السريعة، وتفوته الكثير من جمالياتها. أو لا يلتفت لعمليات الميتامسرح التي تسعى إلى تفكيك المشاهد أثناء تأديتها أو حتى قبل تأدية الممثلين لها. لكن من قرأ الرواية قبل مشاهدة العرض، كمعظم المشاهدين الصينيين الذي أمتلأ بهم فضاء الدير، واستطاعوا متابعة العرض وفهم كل ما فيه من محاورات. كانوا يفعلون ذلك بشغف واندهاش شديد. ظهر أثره بوضوح حينما انتهى العرض، وحيوا طاقمه وقوفا وبحرارة شديدة. أشد كثيرا من بقية المشاهدين الذين استمتعوا أيضا به، رغم خسارتهم لبعض جوانبه بسبب معضلة اللغة الدائمة في مثل تلك العروض المسرحية.

الرقص الحديث والمسرح الأوروبي الجديد:
لا يكتمل أي استعراض لمشاهدات هذه الدورة من المهرجان دون الحديث عن عمل واحد على الأقل في كل من المجالين اللذين يستأثران باهتمام المهرجان على الدوام: وهما الرقص الحديث الذي يطوّر لغته وأجرومية حركته الخاصة باستمرار، والمسرحيات الغربية الجديدة التي تكشف عن مسار المسرح الأوروبي أو الأمريكي المعاصر في بعض الأحيان. وسوف أختار هنا عملا واحدا في كل مجال من المجالين. ومن الطبيعي أن أختار عرض (المستقبل القريب Future Proche) الذي صممه وأخرجه يان مارتينز Jan Martens من عروض الرقص الحديث، فقد أبرزه المهرجان وأتاح له فضاءه الأثير، أي فضاء ساحة الشرف في القصر البابوي. ويان مارتينز مخرج أوبرا ومصمم رقصات له تاريخ مميز من العمل في المجالين: مجال الأوبرا والبالية الكلاسيكي، وكذلك فن الرقص الحديث، الذي يسعى عبر عروضه المتعددة فيه إلى التعامل مع الحاضر الأوروبي المعاصر، وتناول قضاياه ومشاكله الراهنة، من خلال ما يمكن تسميته بلغة حركة الجسد البشري وتكويناته التي تقدم لنا تشكيلاتها الحركية والمكانية المعبرة عن موضوع ما، تكمل الموسيقى بقية أدواته. كما يستعين – ككثير من العروض المسرحية الحديثة – بالكاميرا وتقنيات الفيديو اللحظية التي تعرض على خلفية المسرح بعض ما يدور على خشبته، وهي في هذه الحالة جدران القصر البابوي الشاهقة، صورا مكبّرة لوجوه الراقصين وحركات بعض أعضائهم التي تبدو في بعض الحالات وكأنها أشلاء تتطاير في الفضاء.

يان مارتينز

وعرض (المستقبل القريب) الذي أنجزه يان مارتينيز مع فرقة «أوبرا باليه فلانديرن Opra Ballet Vlaandern» يمزج بين الباليه والرقص الحديث والمسرح الموسيقي، دون استخدام اللغة المنطوقة. فهو مصحوب بعزف على آلة موسيقية واحدة، وهي آلة الهابسيكورد المحدّثة – وقد كانت هذه الآلة بصورتها التقليدية شائعة بل أساسية في أعمال موسيقى الباروك، خاصة أعمال فيردي وسكارلاتي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لأنها سابقة على البيانو، وأقرب ما تكون في نسختها الأصلية إلى آلة القانون العربية، وإن بأبعاد هندسية وأنغام صوتية مختلفة. لكن عددا من الموسيقيين الغربيين المعاصرين أجادوا استخدامها، ووسعوا من مجال نغماتها، دون أن تفقد خصوصيتها التي تميزها صوتيا ونغميا عن البيانو. هذا إذن أول ما يميز هذا العرض من الرقص الحديث عن البالية الكلاسيكي، الذي تصحبه عادة أوركسترا كاملة. كما أن اختيار صورة حديثة لتلك الآلة التي كانت تستخدم قبل قرون، مكنت العرض من خلق علاقته مع الماضي، بينما يستشرف التعرف على المستقبل القريب.

مشهد من (المستقبل القريب)

أما ثاني ما يميزه فإن راقصيه – وعددهم 17 راقصا بينهم طفلان – يفدون إلى خشبة المسرح الضخمة لقاعة الشرف في القصر البابوي، بملابس عادية أشبه بتلك التي يرتديها أناس هذه الأيام من مختلف المشارب والخلفيات والأعمار. لأن فيهم صبية بارعة وذات حضور مسرحي مميز لم تتعد العاشرة أو الثانية عشرة من عمرها على الأكثر. أما أكبرهم فهو في الخمسين من العمر، ولم أقل الستين، لما في حركته كالآخرين من سرعة وعنفوان. ويفد هؤلاء الراقصون إلى خشبة خالية نسبيا، إلا من دكة طويلة جدا يزيد طولها قطعا عن عشرة أمتار، وآلة الهابسيكورد الحديثة وعازفتها الجالسة على الدكة الطويلة قرب أحد طرفيها. ويجلسون جميعا على هذه الدكة الطويلة قبل البدء في رقص يعبر عن مجموعة من التنويعات المختلفة على الوحدة والتناسق التي كانت تسم الماضي القريب. وهو الأمر الذي سيتغير أثناء العرض واستشراف المستقبل القريب الذي يعبر عنه الراقصون من خلال استشراء التشظي والفرقة، التي ستتفتت معها وحدة تلك الدكة الطويلة التي ستنفصل عنها بعض أجزائها، حينما نكتشف أنها مصنوعة من عدد من الدكك المتراصة جنبا لجنب والموصولة ببعضها. لكن هذا الوصل سرعان ما يتحول إلى فصل، يكشف كيف تتفكك أواصر الترابط القديمة – بلغة الرقص الحديث – وتتحول بالتدريج إلى صراعات وإحن.

هكذا نكتشف بالتدريج أننا بإزاء تغيير في البنية التقليدية للباليه. لأن العرض لا يعتزم أن يقدم لنا دراما تقليدية أو عاطفية بين أفراد، وإنما يتغيّا التعبير عن الجمعي بدلا من الفردي – كما في البالية التقليدي. لذلك يسعى المخرج، مع مؤلفة موسيقى العمل وعازفته إلى تخليق لغة حركية وأجرومية مشهدية قادرة على التعبير عما يريد توصيله للمشاهدين من خلال التكرار والتنويعات المتغايرة التي يتيحها عدد الراقصين الكبير. بصورة يتكشف لنا بالتدريج معها ما يريد العنوان الطموح طرحه علينا. لأننا كي نتأمل المستقبل القريب، فإن علينا أن نعود إلى مسيرة حضارتنا الجمعية طوال القرن السابق على لحظتنا الراهنة التي نسعى لاستشراف مستقبلها القريب. هنا يستخدم العرض تقنية التكبير التي أتاحتها إمكانيات العرض المسرحي الحديث – واستخدمها الكثير من مخرجيه – في العقدين الأخيرين. كي يوفر للمشاهد آنيا ما كانت تتميز به السينما وحدها من خلال تقنية اللقطة القريبة التي تتيح للفيلم التركيز على وجه الممثل/ة وأدق خلجاته. للدرجة التي يمكن القول معها أنها أصبحت من التقنيات المعهودة في مسرح اليوم، حيث تظهر تلك التقنية في عدد لا بأس به من عروض المهرجان الحالي، ما جاء منها من أوروبا، أو من روسيا أو حتى من الصين.

مشهد من (المستقبل القريب)

وقد استفاد العرض من جدران القصر البابوي السامقة والتي يصل ارتفاعها إلى ثلاثين مترا ليحوّلها إلى شاشة ضخمة تتيح له – وقد وضع الكاميرا على أرض الخشبة مباشرة – أقصى إمكانيات التكبير من ناحية، وما يصحب ذلك من تشويه من ناحية أخرى؛ في نوع من الإحالة للعلاقة المعقدة بين الواقع وصورته الافتراضية. لكن العرض لا يريد – وقد جسد لنا عددا من صور المستقبل القريب المظلمة والكابية – أن ينتهي إلى نوع من اليأس أو التشاؤم؛ فقد قرر حينما بلغ الصراع والتفكك فيه إلى ذروة تقترب به من التصادم، وربما تدمير الذات أن ينقلنا إلى طقس جميل يرد به عنا ظلام المستقبل. فجلب إلى المسرح حوضا من أحواض السباحة المطاطية المتنقلة، وأخذ الراقصون يملأونه أمامنا بالماء. بصورة يتخلق معها طقس تطهير مغاير في الحركة والإيقاع، وحتى في موسيقى الهابسيكورد المصاحبة. ثم بدأو ينزلون فيه أربعة تلو أربعة لممارسة طقس الاغتسال والتطهير الضروري لعودة السلام والأمل إلى بني البشر. ثم يتغير الإيقاع وتتناغم الحركة من جديد بالصورة التي يعد معها ألق العرض نفسه بديلا فنيا للمستقبل المظلم الكئيب.

مشهد من (المستقبل القريب)

المسرح السويدي ومسرحية لارش نورين:
أنتقل الآن إلى أهم المسرحيات التي شاهدتها هذا العام وتنتمي إلى حاضر المسرح الأوروبي، وهي مسرحية لارش نورين Lars Norén (العزلة Solitaire). ورغم أن هذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها عملا مسرحيا لهذا الكاتب السويدي، لارش نورين (1944-2021) فإنه مسرحي وروائي وشاعر معروف في البلاد الإسكندنافية. وهو كاتب غزير الانتاج نشر ما يقرب من عشرين مجموعة شعرية، وأكثر من ثلاثين مسرحية، والعديد من الكتب النثرية. كما لعب دورا مهما في المسرح الاسكندنافي كاتبا ومخرجا في مختلف مسارح تلك البلدان. وحصل على أكثر من جائزة توجت جميعا، بجائزة الأكاديمية السويدية للبلاد الإسكندنافية – والتي تعتبر نوبل صغرى – مخصصة لكتاب تلك البلدان الأربعة عام 2003. لكن سوء حظه جعله أحد أشهر ضحايا الفيروس التاجي «كوفيد 19» في بلده، حين اختطفه قبل الأوان. وقد بدأ الكتابة في ستينيات القرن الماضي، وحقق مسرحه اهتماما وذيوعا كبيرا في السويد في السبعينيات والثمانينيات التي كتب فيها المسرح بغزارة. وكانت مسرحياته في هذه الفترة تتسم بأسلوب واقعي يتناول العلاقات الأسرية الحميمة، وخاصة للأسر الفقيرة الواقعة قرب قاع المجتمع السويدي، أو تلك التي لا تعاني من الفقر المادي وإنما من فقر روحي لا يقل عنه أهمية، يتجلى في  فقدان الأمان العاطفي، والتوازن الاجتماعي.

صوفيا إدريان جوبيتر

ولاقت مسرحياته المستمدة من تجربته الخاصة والأقرب إلى السيرة الذاتية نجاحا كبيرا في مختلف البلدان الإسكندنافية. لكنه اهتم في المسرحيات التي كتبها في هذا القرن بقضيتي الزمن والمكان والموت. وكيف تتخلق العلاقات الإنسانية على الوتر المشدود بين هذه المفاهيم الفلسفية الثلاثة. بالصورة التي جعلتها اقرب ما يكون إلى المنولوجات التي لا تنتهي. وهي الفترة التي اهتم فيها بالإخراج المسرحي، وأصبح أحد أنجح المخرجين في بلده والدنمارك والنرويج وفنلندا، وحتى في فرنسا. والواقع أنني لا أعرف الكثير عن أعماله، وإنما شاهدت له على «اليوتيوب» أحد الحوارات التي أجريت معه لقناة دانماركية، فشعرت بأنني بإزاء قارئ جاد ونهم للفلسفة الأوروبية المعاصرة. يرى المسرح وقضايا الوجود من منظور الكثير من أفكار هايديجر ولافيناس وكيركجارد ومفاهيمهم عن الزمن والمكان والذاكرة والمسرولية. ويحاول كما يقول في هذا الحوار أن يعيد خلق الجدل الداخلي في كُلّ منّا بين الذاكرة، واستعاداتها: أي بين ما عاشه الفرد، وما يختار أن يتذكره منه، أو ما يؤثّر منه على تصوره عن نفسه وعما عاشه. وكيف يعيد مسرحة ما يتذكره اثناء تكشفه في تلك الاستعادات؟ كما أنه يكشف دور الزمن في هذا كله. الزمن التاريخي، والزمن النفسي، والزمن الشخصي. ووعيه بأن للزمن دوما بعده الآخر، أي المكان. في تصور أقرب إلى مفهوم باختين عن الزمكان.

مشهد من مسرحية (عزلة)

أما المسرحية والتي يصعب ترجمة عنوانها فهي آخر المسرحيات التي كتبها لارش نورين قبل وفاته. إذ تقدم لنا مجموعة من الناس – لا نعرف في البداية عددهم، وسنكتشف بالتدريج أنهم عشرة – قد حُشروا في مساحة ضيقة على شكل مربع غير مرئي وسط خشبة المسرح. وهو مربع يتكأ كأون فيه على بعضهم البعض وسط ظلمة المسرح الدامسة في البداية، والتي تتبدد ظلمتها بقدر قليل وبالتدريج. حيث حرص الأخراج على أن تلف الظلمة كل شيء: المشهد والمشاهدين. وما تبديدها النسبي البظيء إلا لكي تتعود عيون المشاهدين على الإبصار في تلك الظلمة. فهم في مستوى من المستويات المنطقة المضيئة الوحيدة على خشبة مغمورة كلية في الظلام. ومع أنه ليس ثمة حوائط – ولو من زجاج – تمنعهم من الخروج من تلك المساحة الضيقة التي حُشروا فيها، فإنهم لا يستطيعون مبارحتها. وبعد تململهم في محشرهم ذاك، تبدأ قصاصات من الورق في الهبوط عليهم من أعلى المسرح. نعرف من ردود أفعال من استطاعوا الإمساك بمزقها أنها صور ممزقة يتعرف فيها البعض على أنفسهم أو على مواقف قد عاشوها، وأناس كانوا على صلة بهم.

ولا نعرف طول المسرحية ما الذي حشرهم هناك، ولا ما الذي جاء بهم إلى هذا المحشر. لكن ما نعرفه جيدا، هو أن أيّا منهم لم يختر الوجود في هذا المحشر، وإنما وجد نفسه فيه، ويسعى لتخليص نفسه منه. وتبدأ أسئلتهم الفعلية عن هذا المأزق الذي وجد كل منهم نفسه فيه في التصاعد. «كنت في طريقي لشراء البقالة»، «لقد كنت ذاهبا لاسترداد حقيبتي»، «كنت أوصّل ابنتي لدرس الرقص»، «كنت ذاهبة بطفلتي المريضة إلى الطبيب»، « لقد هبط الظلام»، ثم يتساءل آخر: «لماذا نحن هنا؟» وهو السؤال الذي تتحول معه تلك الأسئلة بالتدريج إلى أسئلة وجودية. يرهف أبعادها الفلسفية والفكرية امتناع المسرحية عن تقديم أي تفسير لهذا المحشر. مما يحفز المشاهد على التفكير.

مشهد من مسرحية (عزلة)

فقد عمد النص إلى تجريد تلك الشخصيات من مختلف قواقعها: الاجتماعية أو المهنية أو حتى الإثنية. وإن ثمة استثناء حينما نعرف أن أحدهم من أصول عربية. فلم يعد الطالب طالبا، ولا العامل عاملا، ولا الزوجة زوجة، وإنما ينحو الجميع بالتدريج إلى نوع من التجريد – مجرد إنسان – أو الرعب الفردي منه والجمعي والذي يمتزج بالتهكم والسخرية.

هل نحن بإزاء مجموعة محشورة في شاحنة؟ أم في أحد القوارب مثل تلك التي تقل مهاجرين يعبرون البحر بلا أمل؟ أم في عرض المحيط؟ أو حتى في نفق؟ على كل مشاهد أن يستدعي من ذاكرته، ومن معارفه الخاصة عن الاقتلاع والهجرة وعبور الحدود بطرق غير شرعية ما يريد. لكن الأمر هنا مختلف. لأننا بإزاء أوروبيين في هذا المحشر، وليس مهاجرين من النوع التي اعتادت التليفزيونات الأوروبية عرضه على مشاهديها. صحيح أن ثمة هذا الاستثناء الذي يبدو أنه مهاجر ما، ولكن المسرحية لا تنتهي إلا وقد قتل سحقا تحت الأقدام – في أحد نوبات التدافع اليائسة؛ حينما يبدو أن الطفلة المريضة في خطر. وتقول لنا مخرجة المسرحية – صوفيا أدريان جيوبتر Sofia Adrian Jupither – أن إخراجها لهذا العمل – وهي المسرحية السابعة التي تخرجها للارش نورين – من انتاج ست مسارح إسكندنافية مختلفة من السويد والنرويج وفنلندا. وهي أيضا الدول الثلاث التي ينتمي إليها ممثلو العرض. وكأننا بإزاء استعارة عن المحشر/ الحياة التي نجد أنفسنا فيها رغم إرادتنا، وعلينا أن نجد سبيلنا الخاص للخروج منها.

مشهد من مسرحية (عزلة)

لقد عمد العرض إلى أن يغمر الجميع – المسرح ومن عليه من الممثلين – والجمهور المشاهد في نفس المناخ الملفع بالظلمة، وبأصوات المطر تارة أو الفئران أخرى، أو الصدى الموسيقي الغريب ثالثة. في محاولة لتحويل ما يدور إلى تجربة مشتركة، تسمح لما يدور على الخشبة بالتسلل إلى نفوس المشاهدين، والنمو التدريجي تحت جلودهم كما تقول لنا المخرجة. فالمسرحية تسعى إلى أن تضع المشاهد نفسه مع تلك الشخصيات المحشورة في وضع واحد. لا متفرجا عليها من الخارج، وإنما متماهيا معها فعليا ووجوديا. وإلى توريطه فيما تفعله وما تعاني منه. ولذلك فإنها تعاملت مع الإيقاع وتناوب الصوت والصمت بأمدائه المختلفة – التي تذكرنا بدور الصمت المهم في المسرح الحديث والذي بدأ مع مسرح تشيخوف، وتطور كثيرا على أيدي هارولد بنتر إلى ثلاثة أنواع من الصمت والسكوت – بقدر كبير من الحرفية والمهارة. وفعلت الشيء نفسه بالنسبة للحركة. حيث تتناوب الجميع الحركة المضغوطة، والتململ، والسكون في مكان مزدحم؛ نشعر جميعا أننا على وشك الاختناق فيه وأن لابد علينا بعدما أطلق العرض سراحنا في نهايته أن نعيد التفكير فيمن نحن؟ وما يدور حولنا؟ وكيف السبيل إلى تغييره أو التحرر منه؟

«أنا القذافي» ومهرجان أفنيون الموازي:
لا يكتمل الحديث عن مهرجان أفينيون دون تناول المهرجان الموازي/ التجريبي – آفينيون أوف Avignon Off – الذي أصبح أكبر كثيرا من المهرجان الأصلي في عدد العروض والجمهور على السواء. بصورة يصعب الآن معها الفصل بين المهرجانين. صحيح أن «الأوف» مهرجان للفرق الصغيرة والعروض التجريبية المختلفة، إلا أنه مترع بالحيوية والأفكار المسرحية الخلاقة. لأنه يقدم الوجه الآخر للمسرح في طموحه لارتياد الأصقاع التي لم يسمع فيها وقع لقدم بشرية من قبل، وفي عمله المستمر على بنيته ونصوصه وآليات الفرجة فيه. وصحيح أيضا أن «الأوف» أصغر من المهرجان الرسمي بعشرين عاما، فقد كانت دورة هذا العام هي دورته السادسة والخمسين، إلا أنه صار الآن أكبر منه كثيرا من حيث عدد العروض، وامتداد أماكن العرض إلى الضواحي المتاخمة لمدينة أفينيون. بل وامتدت عروضه إلى سفوح جبال فينتون من ناحية وتلال الليبرون من ناحية أخرى. وقد بلغ عدد عروض المهرجان هذا العام 1570 عرضا! نعم هذا هو عدد العروض المختلفة، التي عرضت على مد فترة «الأوف» التي تزيد عدة أيام عن فترة المهرجان الرسمي – من 7 – 30 يوليو 2022 – وتكرر عرض الكثير منها لعشرة مرات أو أكثر في المتوسط. لذلك يحتاج برنامج هذا المهرجان الموازي – حيث يقع في 480 صفحة من القطع الكبير/ وبكل صفحة عدة أعمدة – إلى التفرغ له لأكثر من يوم لدراسته واختيار بعض ما قد يريد المشاهد أن يراه من عروضه. ويكفي أن نعرف أن مهرجان «الأوف» هذا العام قد باع وحده مليون وسبعمئة ألف تذكرة. وهو رقم يتجاوز كثيرا عدد مشاهدي عروض المهرجان الرسمي.

والواقع أن مهرجان «الأوف» هو الذي يغير وجه المدينة حيث لا تجد فيها أي مساحة يمكن أن يعلق عليها أي أفيش للإعلان عن أحد الأعمال في هذا المهرجان الموازي، إلا وشغلها أفيش أو أكثر. مع وجود نوع من الاتفاق غير المكتوب، ألا يحاول أي ملصق حجب ملصق آخر، حتى ولو التصق به. وقد استطعت أن أعرف أنه عند إزالة كل تلك الأفيشات والملصقات عقب نهاية المهرجان، ينتج عن هذا الأمر 60 طنا من الزبالة. فعلى العكس من المهرجان الرسمي الذي تخصص له المدينة مساحات خاصة للإعلان عن عروضه. يُترك أمر الإعلان عن عروض «الأوف» لاجتهاد كل فرقة. لذلك يتحول التسويق لعروض هذا المهرجان إلى عرض مسرحي مستمر من عروض مسرح الشارع التي تمتد بطول فضاءات المدينة وباحاتها. وقد شاءت المقادير أن أسكن في المدينة هذا العام بجوار فرقة شابة جاءت تعرض مسرحيتها فيه. فعرفت أن أعضاؤها يكدحون طوال اليوم وحتى المغرب كي يقدمون عرضهم. حيث ينفقون الصباح في الإعلان عن عملهم وتوزيع بطاقات – على شكل كارت بوستال تحتوي معلومات شيقة عن العرض – على الجمهور في الطرقات، وعرض بعض مشاهد منها في الشارع علها تجذب الجمهور لحضور العرض. بينما ينفقون ما بعد العصر في تقديم العرض في مسرح صغير لا يتسع لأكثر من مئتي مشاهد.

وهذا الأمر هو ما يحيل شوارع المدينة كلها إلى مسرح حي، تتعاقب عليك فيه المشاهد والعروض إذا ما تجولت في الشوارع أو جلست في مقهى كي تتناول مشروبا أو وجبة طعام. ويكفي أن نعرف أن عدد الذين يهبطون على المدينة من خارجها أثناء المهرجان يتجاوز ثلاثمئة ألف، بين مشاركين في المهرجان ومشاهدين لعروضه. ينتمي 38% منهم لمنطقة الجنوب الفرنسي، بينما جاء الآخرون من خارجها، ومن خارج فرنسا كلها. وهو الأمر الذي ينعش اقتصاد المدينة ويرفع دخلها بشكل ملحوظ. حيث أنفق هؤلاء الوافدون طوال بقائهم فيها أثناء مهرجان هذا العام 49 مليون يورو. وهو الأمر الذي ينعش اقتصاد المدينة، بل والمنطقة كلها. وإذا كانت الجائحة – كوفيد 19 – قد أثرت كثيرا على المهرجان في العامين الماضيين، فإنها لم تنل من ظمأ الفرنسيين للثقافة: إبداعا ومشاهدة. وهي المسألة التي تلعب دورا كبيرا في حياة هذه المنطقة – منطقة بروفانس في الجنوب الفرنسي[viii] – وتساعدها على التطور والتقدم. لأن عوائد الاستثمار في الثقافة والمسرح تنعكس على الجميع. فعائد «الأوف» الاقتصادي وحده يقترب من خمسين مليون يورو. مما يجعل المهرجان محفّزا مدهشا لاقتصاد المحافظة ودافعا قويا لتطوره. فالثقافة تدفع آلة التقدم والتطور الاجتماعي في المنطقة مما يجعلها رافعة مهمة من روافع التنمية المستدامة. لذلك يفخر مدير تلك المنطقة بأن إدارة الثقافة فيها قد ساهمت في مساعدة 60 عرضا من العروض التي جرت في مهرجان هذا العام وقدمتها 39 فرقة من مختلف أرجاء المنطقة. لوعي الجميع بأهمية الاستثمار في الثقافة ووزن عوائده.

أنا القذافي:

والواقع أنه رغم ثراء برنامج «الأوف» فإنني كلما تجولت في شوارع المدينة كان يطل عليّ «أفيش» هذا العرض بعنوانه المثير «أنا القذافي» وممثله الذي يشبه القذافي الأصلي إلى حد ما. لذلك سعيت لمشاهدتها، وكانت تعرض في مسرح صغير في قلب المدينة لا يتسع لأكثر من ستين مشاهدا. لأننا بإزاء مسرحية الممثل الواحد الذي يقوم بجميع أدوار العرض، أو يقدم لنا ما يمكن دعوته بمنولوج مسرحي ينبض بتعدد الأصوات والتواريخ، بل والمواقف. إذ تقول لنا كاتبة المسرحية فيرونيك كانور Véronique Kanor – وهي كاتبة وشاعرة من جزر المارتنيك[ix] – أنه عندما أن طلب منها الممثل سيرج أباتوشي Serge Abattucci – الذي أراد أن يستغل الشبه بينه وبين معمر القذافي – أن تكتب له منولوج هذه المسرحية، ظلت تفكر في الأمر لما يقرب من العامين: أي قذافي تكتب؟ وكيف تكتب هذا القذافي؟ وقد بدأت في كتابة عمل وثائقي تحكمه مسيرة الثورة الليبية التاريخية، حيث وجدت أن التاريخ متوفر عنه بكثرة، لكن ليست الدراما! وكلما غرقت فيما كُتب عن موضوعها من نصوص تاريخية وسياسية كلما أدركت أن ما توفره لها لا يصلح للمسرح.

فهي تريد أن تكتب عملا مسرحيا دون الوقوع في شرك الدعائية أو الأيديولوجيا، وهو أمر شديد الصعوبة. لكنها وجدت – بعد تفكير وتجريب استغرق أكثر من عامين – أن الحل يأتي من الانطلاق من تجربتها هي كبنت للتجربة الاستعمارية التي انجبت القذافي في موقع مغاير أيضا. ومن تجربتها هي ككاتبة وشاعرة من المارتينيك طلب منها ممثل من بني جلدتها، أن تكتب له هذا الدور. وهكذا اختارت أن تطرح موضوع القذافي من خلال انعكاسه/ أو ارتداد صورته وواقعه المكاني الكائن في ليبيا على صورة شخص آخر من المستعمرات السابقة. ممثل يُدعى «بول» من منطقة المارتينيك، لم يحقق نجاحا مشهودا في مسيرته المسرحية، وأراد أن يستغل شبهه بالقذافي ليمثل شخصيته على المسرح. وقد حدست بأن من الضروري أن تتدرب على مفاهيم مثل الغضب أو التفاني كي تتمكن من تناول عملية تصنيعه للسياسات بشكل حميمي. وقد عملت على النص في كل من جيانا – قرب جزر جواديلوب في أمريكا اللاتنينة[x] – والمارتينيك. وبدأ النص يكتسب حياته الخاصة، وقدرته على التعامل مع تاريخها وتاريخ الممثل معا.

ففي جيانا تحاورت الكاتبة طويلا مع سيرج أباتوشي – الممثل الذي تكتب له هذا المنولوج الدرامي – عن مشاعرهما تجاه أصولهما الأفريقية، وغضبهما مما عانته جزرهما من الاستعمار من مظالم، والمساومات الصعبة التي كان على أسلافهما القيام بها، وجبن هؤلاء الأسلاف وشجاعتهم ومخاوفهم وأشواقهم السياسية والاجتماعية في مستقبل مغاير لجزر المارتينيك. من خلال هذا الخليط الصعب من المشاعر التي تسري في تواريخ المستعمرات السابقة كسريان الدم في العروق تكوّن عصب العمل ومركز الثقل فيه. حيث ينبض النص بمشاعر هذا الغضب الدفين، وإن سعت الكاتبة للاحتفاظ بالكثير من الحقائق والوقائع المتصلة بالقذافي ومسيرته، كي تكتسب الشخصية ثقلها ويبلور النص تاريخيّته. أما عندما عادت إلى المارتينيك فقد بدأ العمل مع المخرج، وعملية تطويع النص للعرض المسرحي الحي. هنا بدأت عملية الحذف، ومحو كل ما يؤثر على توهج الغضب الكظيم. وبدأ معها الوعي بأهمية الفجوات، ومحورية بعض الكلمات والعبارات، وتخليق الحوار بين صوتين: صوت الممثل المارتنيكي وصوت معمر القذافي الذي يسعى لتجسيده. ولبلورة عملية كيفية تحول هذا البدوي الحالم البسيط إلى مستبد قاس! وكيف يمكن إماطة اللثام عن الجانب الغامض فيه؟ وعن سر رغبته في توحيد أفريقيا، وفي تمكينها من الوقوف بندية في مواجهة مستعمريها القدامى، وتحديهم؟ وكيف يمكن فهم السر الذي يحدوه إلى أن يكون رئيس الرؤساء، أو أن يصبح ملك ملوك أفريقيا؟

وقد أدى هذا كله إلى إثراء العمل مسرحيا وفكريا على السواء. صحيح أننا لا ننسى طوال العرض أننا بإزاء مسرحية بدأت في إحدى جزر الأنتيل/ أو المارتنيك الفرنسية، مسرحية تهتم كثيرا بالتعامل مع عداء شخصية القذافي للاستعمار. لأن لهذه الجزر التي انحدر منها فرانز فانون تاريخ طويل في تفكيك استراتيجيات الاستعمار وآلياته. عمل تشوقه أسرار شخصية القذافي ودوافعه، ولكنه لا يريد الغرق في مخاضة ما جرى له وتبعاتها المعقدة، بقدر ما يهتم بتلك العلاقة الإشكالية/ الاستعمارية معا بين المارتنيك والأرض الفرنسية من ناحية، وبين القذافي والاستعمار الذي سيطر على ليبيا وجوارها الأفريقي طويلا من ناحية أخرى. مسرحية تطرح اسئلة الحاضر الحرجة، وعما إذا كان باستطاعة المستعمرات السابقة أن تثأر لما جرى لها؟ لأن «بول» الممثل المارتنيكي المفترض، رأى في دور القذافي كمناهض للاستعمار ترجيعا لغضب أسلافه في المارتينيك. وإن حرص على ألا يؤدي هذا التماهي مع القذافي إلى فقدان الذات والخصوصية. لقد وجد في تاريخ هذا الشاب المولع بعبدالناصر، والذي درس في المدرسة الحربية وجند سرا عددا من زملائه مكنوه من الاستيلاء على السلطة، وهو لايزال في السابعة والعشرين، نموذجا لما يدور في المارتنيك تحت وهم الاستقلال النسبي، ولكن في ظل البقاء ضمن فرنسا الأم: فرنسا الاستعمارية بالنسبة له.

والواقع أنني طوال مشاهدتي لهذا العرض كنت أشعر بتنامي خيبة الأمل في داخلي. لأن العرض لم يشتبك مع ما يمكن دعوته بدراما حياة القذافي التي انتهت به مقتولا، يمثل به شعبه حيا في اللحظات الأخيرة من حياته. وإنما أبرزت تأثيره على نقطة شديدة البعد جغرافيا عنه وعن بلاده، بل وعن اهتماماته. وربما لو كان القذافي حيا وسألناه عنها ربما قال أنه لا يعرفها ولم يسمع عنها قط. لكن العرض لا ينسى، وهو يروى لنا مسيرة القذافي الشاب أن يقدم لنا في الوقت نفسه سياقاتها، وكيف أنه فعل ما فعل في البداية تحت عيون الغرب المستريب والمستخف به في الآن نفسه. وكيف استطاع بداءة أن يريح شعبه، ويوفر له مرتبات مجزية وتعليما مجانيا للجميع، وخدمات صحية، وعدالة في توزيع دخل النفط عليهم. لكنه سرعان ما انزلق في مسار صعب، وبدأ الصراع مع الغرب من ناحية، ومع عملية الانفراد بالسلطة من ناحية أخرى. هنا بدأ التوتر في العلاقة بين بول الممثل المارتنيكي وبين الشخصية التي أراد التماهي معها. وبدأ النص في استكناه طبيعة هذا التجاوب الإشكالي الصعب مع ما مثله حلم البداية المشرقة، وما آل إليه المصير. بعدما تبلورت تلك العلاقة الحميمة والمحرمة معا بين عالم طالع من قبضة الاستعمار والتخلف يحلم بالتحرر الوطني، وبين الوقوع تحت وطأة التبعية الاستعمارية القديمة؛ بين العالم الثالث والإمبريالية في أشكالها القديمة/ الجديدة.

وهكذا أخذت أسئلة النص/ العرض في التنامي من ناحية، وفي مواجهة المحبطات الكثيرة التي يبلورها التناقض بين صورتين من ناحية أخرى. صورة مستبد متعطش للدم، يقهر شعبه، ويغتال معارضيه، كما يقدمه الغرب، وبين صورته النقيضة في الجنوب كمحرر يملك رؤى تخلّص أفريقيا من بقايا قيود الاستعمار القديمة، التي لاتزال تكبل حركتها نحو الاستقلال الحقيقي. ولا ينسى العرض استكناه كيف أصبح الشاب الحالم بالثورة والعدل الاجتماعي وحشا ضاريا، يلتهم من لا ينصاع لما يقرره له. «أنا أقرر لك ما تكون!» ولا ينتبه لما تسببه له وحشيته تلك من تآكل داخلي، وكيف تلتهمه تلك الوحشية التي تجعله أحد الضواري بالتدريج. هذه الحركة المضمرة والمزدوجة من عناصر دفع العمل المستمرة دراميا للأمام وهو يتحول أمامنا إلى شبح، بينما تطرح المسرحية أسئلة الاستقطابات الفكرية والدرامية التي تتبلور إزاء هذا كله. ليخرج منها المتفرج مليئا بالأسئلة عما جرى. لا للقذافي وبلاده، وإنما للعام المترع بالخلل والتناقضات من حولنا.

 

 

[i]. ظهرت للرواية ترجمة انجليزية عام 2009: Yu Hua, Brothers, trans. Eileen Chengyin Chow and Carlos Rojas, New York, Pantheon Books, 2009. وقد تُرجمت الرواية إلى 39 لغة مختلفة وحققت ذيوعا كبيرا. فحصلت في ترجمتها الفرنسية على جائزة Prix Courrier الدولية الفرنسية عام 2008، ولما ظهرت ترجمتها الإنجليزية وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الأسيوية عام 2009.

[ii]. لأن قائد الصين اليوم، كان في الواقع من الذين عانوا في صباهم من الثورة الثقافية، بعد معاقبتها لأبيه الذي كان كادرا حزبيا رأت الثورة الثقافية أنه انحرف، فطردته من الحزب. واضطر أبناؤه – ومنهم شي نفسه – للمعاناة من شظف العيش، والنوم في المغارات المهجورة، والعمل وهو صبي لكسب قوت يومه. بل والحرمان من الانضمام للحزب، لولا مثابرته وتحقيقه لذلك، ونجاحه فيه.

[iii]. صدرت لهذه الرواية ترجمة انجليزية في نفس عام صدورها بالصينية Yu, H. (2013). (The Seventh Day). Beijing: New Star Press. بسبب نجاحها ومكانة كاتبها معا. ثم ترجمة أخرى نشرت في نيويورك – وهي الترجمة التي وجدها في مكتبة جامعتي – كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن – عام 2015 وهي Yu, H., (2015). The Seventh Day. (Allan H. Barr, Trans.). New York: Pantheon Books. والتي اعتمدت عليها في هذا التلخيص.

[iv]. راجع في هذا المجال دراسة: Yiju Huang, Ghosts and their Contemporary Return: The Case of Yu Hua’s The Seventh Day”, Neohelicon, issue 43, July 2016, pp. 59-71.Akademiai Kiado, Budabest, Hungary 2016.

[v]. راجع أيضا بالنسبة لروايات الأشباح القديمة: Zeitlin, J. The phantom heroine: Ghosts and gender in seventeenth-century Chinese literature. Honolulu: University of Hawaii Press, 2007.

[vi]. راجع Homgjian Wang: “Theatre of Disbelief: Meng Jinghui’s Cynical Metatheatre in Contemporary China”, Asian Theatre Journal, Vol 37, No 2 Fall 2020, pp. 376-397.

[vii]. راجع أيضا: Claire Conceison, “The Badass Thewarew of Meng Jinghui, The Drama Review 58:1 (T221) Spring 2014. ©2014 New York University and the Massachusetts Institute of Technology

[viii]. منطقة بروفانس Provence-Alpes-Cote d’Azur هي منطقة أكبر من محافظة فاكلوز Vaucluse التي تعد أفينيون عاصمة لها. لأنها تضم ما يمكن اعتباره عندنا عدة محافظات متجاورة.

[ix]. لاتزال بعض جزر البحر الكاريبي تشكل جزءا من فرنسا، وأهمها جزر المارتنيك Martinique التي جاء منها فرانز فانون وإيمي سيزار.

[x]. تعد جزر جواديلوب Guadeloupe الشهيرة – أكثر من عشر جزر كبيرة، وعدد كبير من الجزر الصغيرة – من أبعد بقاع العالم عن القارات المأهولة بالسكان، ولا يعيش فيها إلا أقل من أربعمئة ألف نسمة من البشر، وأكثر من هذا العدد من الكائنات الطبيعية الأخرى، من الطيور والحيوانات النادرة، وخاصة البحرية والبرمائية منها. وهي الجزر التي اكتشف عبرها تشارلز داروين نظريته في النشوء والارتقاء.