تكشف هذه الدراسة كيف يسعى الكاتب العراقي المرموق إلى إعلاء شأن التشكل الكتابي للنص القصصي وخلق شفراته الخاصة التي تقيم علاقاتها الجدلية مع الواقع من خلال التشييد والانتقاء. بصورة تكتسب معها العناصر المشكلة للنص حياتها الجديدة داخله، ويجسد لنا الناقد هذا كله من خلال تحليله الدقيق لواحدة من قصص خضير الجميلة.

ميتافيزيقا النص الأدبي

قراءة في «صحيفة التساؤلات»

باقر جاسم محمد

(1)

تمثل الممارسة الكتابية التي تهيمن على عملية خلق النص السردي عند محمد خضير، ومنذ زمن ليس بالقصير، اتجاها ً قصديا ً جديدا ً ينزع إلى إعلاء شأن التشكل الكتابي للنص القصصي بوصفه هدفا ً مركزيا ً من أهداف عملية السرد. تلك العملية التي لم تعد تعنى بوقائع الواقع وحقائقه قدر عنايتها بصيرورة هذا الواقع وما يرشح منها من دلالات ورموز، إذ بدلا ً من التركيز على تصوير الوقائع والحقائق الملموسة والعيانية صار النص السردي قسيما ً موازيا ً للواقع، وصار يؤكد على الاحتفاء بإنشاء شفراته الخاصة التي تمتص من الواقع الموضوعي أسئلته وإشكالياته وبعضا ً من ملامحه متخذا ً من كل ذلك مادة أولية يعيد خلقها وبثها في كيانه السردي المتميز. وبذا صار النص القصصي لدى محمد خضير عملية خلق وفقا ً لمفهوم جديد يستمد من الواقع الخارجي بعضا ً من المكونات الفكرية والتراثية والعناصر المادية المحسوسة ويحيلها إلى دلالات ورموز داخلية تمتلك طاقة إيحائية فاعلة مستمدة من حياتها الجديدة داخل النص وداخل نظام شفراته الخاصة مما يجعل من الممكن تصور علاقة جديدة بين الواقع الموضوعي في اعتباطيته وكثرته من جهة والواقع النصي في انتقائيته ومحدوديته.

ويعبر عن هذه العلاقة الجديدة فعل القراءة النقدية الجديد الذي اتخذ منحيين أو اتجاهين، إذ أنه فعل لا يتجاهل سلطة النص بوصفه حقيقة فيزيقية تنطوي على نظامها الخاص بها ولا تهمل أو تقلل من قيمة السياق، سواء أكان سياق الكتابة أم سياق التقي، وقيمة المرجعيات المعرفية المكونة للنص. وهي بذلك تتجاوز خطر القراءة الخارجية وخطر القراءة المتماهية مع النص أو المنغلقة عليه. لقد صار معروفا ً أنه " ما لم يعد هناك أي حضور متجاوز (للنص) ومقبول من الجميع فإن كل نص يغدو مرجعا ً لنفسه، وستكون غاية جهد الناقد إيضاح معنى النص بوصف مكوناته الشكلية وأدائه."(1) وللتخطي مثل هذا الموقف الذي لا يحيل إلا إلى النص، سندرس الأصول التكوينية لقصة ( صحيفة التساؤلات)؛ وهي العناصر التي تشكلت في النص تشكلا ً متميزا ً يسمح لنا بالقول إنها قد اكتسبت حياة جديدة في داخله. كما سندرس نظام النص الإشاري وأنساقه المكونة بغية إظهار استقلال الخطاب الأدبي رغم اتصاله بالتجربة الإنسانية عامة وبتجربة المجتمع والفرد خاصة، ونروم كذلك تشخيص الكيفية التي أدمج فيها النص مكوناته ومرجعياته لتشكيل مركب نصي شامل. ولهذا كله فإن سؤالنا النقدي سيتشعب إلى جملة من الأسئلة الفرعية وعلى النحو الآتي:

  1. ما هي العناصر المادية التراثية والمعاصرة المستثمرة في بناء النص؟
  2. ما هي المحمولات الفكرية التراثية والمعاصرة التي دخلت بنية النص؟
  3. كيف تعامل النص مع هذه العناصر المادية والمحمولات الفكرية؟
  4. ما الذي أسبغه عليها كي يجعل منها منقطعة ومتصلة في آن واحد عن أصولها في التراث والواقع الراهن؟
  5. كيف تعامل النص لسانيا ً مع كل ذلك؟
  6. و انطلاقا ً من هذه الرؤيا، ما هو التأويل النهائي لنص ( صحيفة التسؤلات)؟

و لعل من الضروري أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى أن الجواب على هذه الأسئلة النقدية لن يتخذ الترتيب نفسه الذي أوردناه، وإنما سيخضع لحاجات تفرضها القراءة وطبيعة النص نفسها.

(2)

تتفرد قصة ( صحيفة التساؤلات) بكونها لا تناقش واقعا ً خارجيا ً لتبرهن عليه فحسب، وإنما هي تخلق واقعا ً موازيا ً خاصا ً بها وتناقشه وتبرهن عليه. ويتناول السؤال الأخير الذي تختتم به القصة مسألة البرهان هذه إذ يثير قضية غاية في الأهمية، وعلى النحو الآتي:

" هل تتساوى أربعة عقول مع أربعة براهين وأربعة حفر مع أربعة رموس؟" (2)

و لو عدنا إلى بنية القصة نفسها لرأينا أنها قد صممت على نحو برهاني يقترب من البرهنة الرياضية.(3) غير أن طبيعة موضوع القصة، وهي طبيعة خاصة تتعلق بتجربة الوجود في جوانبها الأنطولوجية والاجتماعية والنفسية والسياسية، تجعل منها تتجاوز هدف البرهنة البحت إلى هدف أكبر، إلا وهو إقامة ميتافيزيقا خاصة بالنص السردي وذلك من خلال إقامة شبكة مركبة من التصورات السردية التي تتداخل مع طبيعة الموضوعات الخاصة ذات الجوهر الميتافيزيقي. قد يقال إن الميتافيزيقا مبحث فلسفي له نظمه وبراهينه وشروطه المنهجية والفنية الخاصة التي قد لا يتوافر عليها الخطاب الأدبي والسردي! بيد أن الحقيقة الحقة، كما يقول أحد المختصين في الفلسفة، هي أن "الميتافيزيقا هي الأفق الذي لا يمكن الهروب منه في كل تنظبر"(4) وما دامت قصة (صحيفة التساؤلات) تتوفر على قدر كبير من التنظير الضمني، لذا يجوز لنا نعدَّها خطابا ً أدبيا ً يسعى إلى إقامة ميتافيزيقا خاصة به. ولو نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر أكثر تدقيقا ً لرأينا أنه " لا توجد معايير نستطيع بواسطتها أن نعرف هل أن عبارة من العبارات ميتافيزيقية أم لا. بل يمكن أن كل عبارة... كائنة ما كانت... ميتافيزيقية." كما تقول ميري ورنك.(5) ولما كان النص الأدبي ينطوي بالضرورة على وظيفة ميتافزيقية تختص بطبيعة الإبداع نفسه من جهة، وبالتلقي الجمالي من جهة أخرى، ولما كانت ( صحيفة التساؤلات) خطابا ً أدبيا ً يتضمن عددا ً من المفاهيم والقضايا والتصورات التي تنتمي إلى حقل الفلسفة الميتافيزيقية تحديدا ً، صار بالإمكان عدها نوعا من التأسيس الميتافيزيقي وإن اتخذ هذا التأسيس صيغة قد لا تتطابق حرفيا ً مع التصور النظري أو المدرسي للميتافيزيقا ولكنها تلتقي معه في الهدف والوظيفة والصوغ اللساني. وإذا كانت الشروط الفنية الخاصة بالميتافيزيقا لا تحول دون القول بوجود نمط أنماط التجلي الميتافيزيقي في النص الأدبي يتعلق بميتافيزيقيا الجود الخارجي، فإن التجربة البشرية في تجلياتها الواقعية تنطوي ضمنا ً على دلالات ميتافيزيقية متنوعة. ولعل البحث سيسفر عن أدلة نصية تظهر العلاقة الوثيقة بين مقولات النص ومقولات الميتافيزيقيا وتبرهن عليها. ولسوف يكون ذلك من خلال رصد الملامح النصية وتجلياتها إزاء تجريد الميتافيزيقا التقليدية. ولسوف تجري البرهنة على أن المقولات النصية والمقولات الميتافيزيقية تشتركان في جملة من الأهداف والوسائل والتصورات التي تجعل من هذه المقولات سبيلين يؤديان إلى غاية واحدة.

(3)

تقوم قصة ( صحيفة التساؤلات) في الأصل على رسم تصور سردي للمدينة الفاضلة أو اليوتوبيا، مع التحفظ على وصفها بالفاضلة. وكلا الأمرين ينتميان إلى ميدان الفكر الفلسفي الميتافزيقي، وأعني بهما (التصور) من حيث هو عملية فكرية خالصة، و( المدينة الفاضلة) من حيث هي فكرة طالما سعى الفلاسفة، مثل أفلاطون والفارابي، إلى الحديث عنها والتبشير بها فيما كتبوا. لكن مدينة محمد خضير ( الفاضلة) تتميز بخصوصية وتتفرد بسمات تجعل منها لا تشبه سوى نفسها. فهي مدينة قد نشأت في قلب الخطاب السردي لتكون برهانا ً على خيبة الأمل من المسعى الإنساني لإقامة مدن الحلم الفاضلة وليس التبشير بها. فهي إذن قد صارت برهانا ً سرديا ً لنقض إحدى الطروحات الميتافيزيقية لأن السعي لإقامة المدينة الفاضلة ينتهي بالفشل أخيرا ً. ويعبر الخطاب السردي عن هذا المعنى تجسيدا ً وعلى النحو الآتي:

" تبدو المدينة من هذا الارتفاع كاملة البناء، لكنها تظهر في الوقت نفسه ناقصة مختلة ... كان نظامها الهندسي البديع ينطوي على نقص غير منظور ... فراغات لن تمتلئ ببناء مهما عظم وعلا ..." إذن فهذه المدينة تجمع بين صفتين متناقضتين هما الكمال والنقص، فهي تبدو من المكان المرتفع، والارتفاع كناية عن غض النظر عن التفاصيل، كاملة البناء. وهي المدينة التي ظن َّ الحكماء الأربعة الذين قصدوا إليها أنها (بصرياثا جديدة). وهي مدينة الحلم بدلالة قول النص أن الحكماء الأربعة " لم يعرفوا اسما ً لها، لكنها ظهرت فجأة (في أحلامهم الصافية)". لذلك يمكن القول بأنها مدينة مثالية مرتجاة. والمسافة بين واقعها المتحقق، وجوهرها المثالي كما صورته أحلام الحكماء الصافية هي البرهان الملموس على خيبة الأمل التي تكتنف مسعى البشر نحو إقامة المدينة الفاضلة. ولكن مواصلة هذا المسعى والمثابرة والدأب على المحاولة رغم الفشل المتكرر يظل علامة جوهرية دالة على الطبيعة البشرية. ويحاول محمد خضير أن يمنح النص فاعلية وتأثيرا ً من خلال الإيحاء (و أنا هنا أستخدم مصطلح (الإيحاء) بمعناه الصوفي، أي بمعنى إلقاء المعنى في النفس بخفاء وسرعة.)(6) المتحصل من تكثيف السرد وتفعيل بنيته الإشارية معا ً. وذلك ليجعل من عملية القراءة معادلا ً موضوعيا ً ورمزيا ً لعملية الكشف والوصول إلى حالة المشاهدة أو الشهود، ليس لمطلق متعال لا يدرك، وإنما للتجربة البشرية في ملموسيتها وفي عمق إيحائها وما يمكن أن تفرزه من دلالات فكرية وفلسفية شاملة. بمعنى إنها عملية كشف لميتافيزيقا الحضور، أو الميتافيزيقا التي تقول بأن الكينونة هي أن تكون حاضرا ً على نحو مطلق.(7) وحين تدرك أنك وحيد في هذا الكون، تبدأ بالبحث عما يرمم هذا الوجود الموسوم باليتم المطلق.

 إذن فإن المعنى الذي تسعى القصة للبرهنة عليه، ألا وهو اكتناف النقص لكل مساعي البشر لإقامة عالم مثالي يمثل حجة أو برهانا ً ميتافيزيقيا ً يتوفر على شروط البرهنة الميتافيزيقية كافة.(8) بيد أن هذه الشروط قد أخضعت لبيئة السرد فانتقلت من المستوى التجريدي والكلامي الخالص إلى المستوى الرمزي المتضمن في انفتاح النص على التأويل. فالقصة تطرح مقدمات وتمنحها صيرورة داخلية لتنتهي إلى نتائج هي خلاصة التأويل الشامل لتفاعل مكونات النص كافة. ولكي يكسر النص هيمنة المرجع الزمني والتاريخي والحضاري فإنه يستثمر طاقة السرد وقدرته على خلق عالم من العلاقات الجديدة بين مكوناته ومرجعياته. فالمدينة التي بنيت في أرض ( صحيفة التساؤلات) تقوم على أسس تراثية. وترد فيها إشارات لمقومات حضارية امتصها النص منتزعا ً إياها من كينونتها التاريخية ليعيد بثها في وجودها الجديد، فإذا هي نصية مشعة بسبب من سعة أفقها الدلالي الجديد. فنحن نجد في هذه المدينة، مثلا ً، سوقا ً للخفافين مما قد يوحي بمرحلة حضارية سابقة، ونجد كذلك ما يوحي بمراحل حضارية سابقة أو لاحقة لزمن النص، راهنة أو ماضية. فالمكتبة تقع في بناية تتألف من أحد عشر طابقا ً. وعدد هذه الطوابق يساوي عدد الطوابق التي اندثرت خلف النهر والبحر والصحراء والبطائح. فإذا كانت هذه العلامة المعمارية ذات الوظائف الحضارية دالة على تنوع زمكاني مرتبط بفاعلية الفضاء النصي، فإن القصة تنطوي على أشياء أخرى ترسخ نزعة النص لامتصاص العلامات الخارجية ومنحها صيرورة وحياة داخليتين، مثل المخطوطات والمحاجم والاسطرلابات, تلك العلامات التي خرجت من هجوعها في التراث، ومثل المرقاب ( أو الشاشة) والشريط الممغنط والطابعات الملحقة بالحاسوب، وهي من العلامات المرتبطة على حضارتنا الراهنة. وقد اندمجت كل هذه الأشياء في الصيرورة الخطابية لتؤكد انفصال النص السردي عن الواقع ونشوء علاقات نصية جديدة تمنحها طاقة إيحائية فاعلة.

 وإذا كانت النزعة الشاملة لهذا النص نحو امتصاص وتمثل المؤثرات المادية الخارجية واضحة وجلية، فإن من مظاهر هذا النص الأساسية الأخرى كانت انفتاحه على الخطاب الفكري والفلسفي العربي القديم. وقد سبق أن ذكرنا أن النص قد استثمر فكرة المدينة الفاضلة، ولسوف نحاول هنا إلقاء المزيد من الضوء على هذه النقطة. فالمدينة ( الفاضلة) في نص محمد خضير لها صلة وثيقة بالمدينة الفاضلة لإخوان الصفا. تلك المدينة التي وصفها أحد الباحثين قائلا ً: " إن لهم [ يقصد إخوان الصفاء] مدينة فاضلة يصفونها بالمثالية والروحية والحق أنها مجتمع سري."(9) ولعل التحليل اللاحق سيظهر تناظرا ً واضحا ً بين مدينة هذه المدينة التي أنتجها الخطاب الفلسفي العربي القديم ومدينة (صحيفة التساؤلات) التي هي الأخرى تمثل مجتمعا ً يبدو فاضلا ً للوهلة الأولى، بيد أنه سرعان ما يتكشف عن جوهر مغاير تماما ً. وذلك فضلا ً عن كون المدينة الفاضلة في (صحيفة التساؤلات) تمثل مجتمعا ً سريا ً مغلقا ً من الداخل والخارج حتى أن راوي القصة، وهو موظف في مكتبة المدينة، لن يعرف بأن مديره المباشر إنما هو نفسه زعيم الزمرة التي تحكم المدينة. وسوف يظل سادرا ً في جهله حتى يؤذن له بأن يعلم الحقيقة حين يدعى لحضور مجلس خاص يتكلم فيه مدير المكتبة الذي هو نفسه زعيم الزمرة الحاكمة، وهو نفسه من يحمل اسم هدهد سليمان – وسوف نرى أن هذه التسمية تلعب دورا ً مهما ًُ في إغناء المضمون الميتافيزيقي للنص- ويوجه هذا الزعيم الحديث إلى الحضور قائلا ً:

" يا معشر الأصفياء، يا أخوة الوفاء... الوقت حان لأن تسألوا عن حقيقة مدينتكم التي جئتموها وعن اسمها." وفي كلام الزعيم هذا نعثر على دليل نصي كلامي يؤكد ارتباط وصلة هذه المدينة بمدينة إخوان الصفاء الفاضلة. فمن المعروف أن لجماعة إخوان الصفا أربع صفات، وهي كالآتي ( إخوان الصفاء، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد). ومن الواضح أن خطاب الزعيم لم يتضمن سوى صفتين هما الصفة الأولى والصفة الثانية من صفاتهم بعد جرى عليهما تحوير طفيف.(10) وإذا كانت صفات إخوان الصفا أربع فإن للرقم أربعة دلالةً مهمة وأساسية في ( صحيفة التساؤلات) وفي فكر إخوان الصفا الفلسفي خاصة، وفي الفكر الفلسفي والديني عامة. وذلك لأن الأوتاد ( وهو من مصطلحات الصوفية) هم (أربعة) رجال منازلهم على منازل ( أربعة) الأركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب.(11) وإذا ما حصرنا نطاق البحث في نطاق إخوان الصفا لرأينا أن لدعوتهم ( أربعة) دعاة يتزعمهم زعيم. ولسوف تتحول هذه الحقيقة الخارجية المجلوبة من تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي العربي إلى رمز داخلي مهم في النص القصصي. فالزعيم يذكر صراحة، ويقابله الحكماء أو الفقراء الأربعة، مما يكشف عن نوع من التناظر بين التنظيمية للنص والبنية التنظيمية لجماعة إخوان الصفا. على أن هذا التناظر لا يعني وجود تطابق بين رؤيا القصة وفلسفة إخوان الصفا تحديدا ً. فالقصة تعمل على خلق رموزها الخاصة المفضية إلى موقف فكري متميز. ذلك أن الحكماء الأربعة يمثلون كنايات أربعا ً كبرى أو رموزا ً أربعة أساسية في الحياة. فهارون، صاحب المحجم، يقف رمزا ً للطب، وهو يمثل كناية عن العناية بالجسد. أما زلزل، صاحب العود أو صاحب الموسيقى، فهو رمز للعناية بالجانب الجمالي والفني للإنسان. وأما خفيف فإنه صاحب الإسطرلاب الذي هو كناية عن مسعى الإنسان لمعرفة أصله وطبيعة علاقته بالمنظومة الكونية. وأخيرا ً فإن إسماعيل، وهو المهندس، رمز للاهتمام بموقع الإنسان على الأرض، أو الإنسان في واقعه الاجتماعي. هكذا تكتمل حلقة الرموز الميتافيزيقية التي تؤشر حضور المشكلة الوجودية على شتى الصعد: الجسدية والنفسية والاجتماعية والأنطولوجية.

تتحدث القصة عن ( كتاب التساؤلات) بوصفه ميثاقا ً أعظم يجري تشويهه بمعرفة الرجل الخامس ( هدهد سليمان) أو الزعيم الذي يعمل على بعث النسخة المشوهة والمزيفة من الكتاب بينما يجري الحجر على النسخة الأصلية منه. وهذا مما يجعل الوضع البشري جميعه في صيرورة خاضعة لشرعة مزيفة. وتعمل إستراتيجية النص على استقراء هذا الوضع في ظل كينونة تفتقر إلى بنية فكرية موثوقة ومتماسكة. فالهدهد يحكم وفقا ً لما هو زائف على الرغم من أن الكل يعلم أن هناك نصا ً أصليا ً غير الذي يجده متيسرا ً في المكتبة. ويفجر النص مسألة المسكوت عنه لأن النص الأصلي هو من تجليات هذا المسكوت عنه. فمن أصل (292) سؤالا ً لا يقدم النص المتاح في الكتبة إلا ستة أسئلة. ومن أصل (512) سؤالا ً رديفا ً لا يقدم النص الكتاب إلا ثلاثة أسئلة فقط؛ وها مما يترك المجال واسعا ً لحس بقية الأسئلة وفقا ً لمنطق النص وإيحاءاته الفكرية والسياسية.

ويترك الحكماء الأربعة أربعة كتب وأربعة أشياء مصنوعة باليد، مما يرمز إلى حيازة العلم النظري ممثلا ً بالكتب الأربعة والعلم العملي ممثلا ً بالأشياء المشغولة باليد. وبهذا يمكن القول بأن الحكماء الأربعة يحوزون الخير كله بإزاء الباطل الذي يمثله ( هدهد سليمان)، ذلك الشخص الذي يحمل اسما ً يشير ضمنيا ً، وعلى وفق حكاية الهدهد مع النبي سليمان، إلى كونه بصاصا ً أو جاسوسا ً اشتغل ويشتغل بالنقل لا بالعقل. وهو مثال للشخص الذي يفتقر إلى روح الإبداع والابتكار على المستويين النظري والعملي، إلا إذا عددنا التزييف ابتكارا ً. مع ذلك فإن شهوة السلطة لا تنقصه. ولعل هذه إحدى نقاط الافتراق الأساسية بين (صحيفة التساؤلات) والمكونات الفكرية والفلسفية المأثورة عن إخوان الصفا مما يؤشر حياة جديدة لهذه المكونات داخل النص. فالنص يريد أن يثبت حقيقة أن ما يغتال المدن الفاضلة في عموم التجربة الوجودية للإنسان إنما هو طبيعة السلطة أو جوهرها المناقض للحلم بالعدالة. وهذه أطروحة ميتافيزيقية أخرى تتولد من القراءة المعمقة لنسيج وعبر عملية التـاويل. أعنى أنها قراءة ليست بريئة تماما ً.

إن (هدهد سليمان) يعمل جاهدا ً على تغييب من يعرف الحقيقة. لذلك فإن المعرفة تغدو قرينة إدانة في عرف صاحب الشأن في هذه المدينة التي تحكم وفقا ً لكتاب منحول ومحرف. وحين يعرف الراوي الحقيقة، يؤمر به إلى البئر حيث غاب قبله آخرون. وهذا النمط من التغييب له من يناظره في المأثور الديني.لكنه ينجو في اللحظة الأخيرة حين يتمرد الفتى المشع ابن زحل،الذي أوكل إليه عملية إلقاء الراوي في الجب، ويضحي بنفسه بدلا ً عنه. وهو ما يمثل، في تقديري، نوعا ً آخر من الخضوع لنظام الصدفة لأن النجاة والحرية لا تكتسب من خلال فعل إيجابي يقوم به الراوي إنما تمنح له منحا ً مما يجعل منه عنصرا ً سلبيا ً. ونعتقد بأن هذا الصنيع قد فرضته الحاجة إلى إبقاء الراوي حيا ً حتى يروي لنا ما حدث. وكذلك حتى ينجز مهمة الاستمرار في صياغة الأسئلة مما يجعل الطريق أو الباب لمعرفة الحقيقة مشرعا ً. فهو إذن مثال معاصر لسارق النار في تحديه لاحتكار المعرفة، أو لآدم في سعيه لتجاوز المحرمات.(11)

وتستدعي حادثة التغييب في البئر حادثة أخرى هي تغييب يوسف النبي في غيابة الجب. وهو مما يفتح النص على مسألة أساسية ألا وهي كونه أكمالا ً الحكاية الناقصة لتراجيديا الوجود أو كشفا ً عن حلقة أخرى من حكاية متسلسلة. وثمة إشارات أخرى مبثوثة في النص تستدعي المأثور الديني، ومنها مثلا ً ما ورد في لحظة كشف ورؤيا يمر بها الراوي حين يقول "كسف السبيل إلى مخاطبة رجال أغفاهم وعث السفر عند وصائد دكاكينهم؟" وهو ما يتضمن تلميحا ً عبر الأسلوب إلى حكاية أهل الكهف المعروفة بدلالة الإشارة إلى الإغفاء واستعمال لفظة الوصائد التي هي جمع لكلمة (وصيد) مما يستحضر النص القرآني " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد". فهل نام هؤلاء الرجال كنوم أهل الكهف؟ والسؤال وجوابه لا يستحصل إلا بوصفه عملية نصية/ قرائية عندما تتولى القراءة فك شفرات النص ورموزه وفقا ً لميثاق ابتدائي يرى بأن للنص حضورا ً متجاوزا ً لعناصره المكونة إلى عناصر تكوينية لا نصية. فالنص يخضع لصيرورة في القراءة تتعامل مع حقائقه القارة على مستويين. فهناك المستوى الملموس/ المدرك/ المعقول؛ وهو ما يتجلى في الأحداث والأشياء والشخصيات الماثلة في الخطاب بوصفه الحقيقة اللسانية لنص الأدبي؛ وهو ما يمكن أن يسلك في بنية إدراكية. أما ما يتجاوز هذا المستوى فهو مستوى العلاقات العلاماتية غير المباشرة بين حقائق النص وإشاراته ومحمولاته الفكرية وما يتولد عنها وإن يكن غير مدون في النص. وهنا ترتقي هذه الإشارات والتنبيهات الضمنية إلى ما يمكن أن نسميه بالبعد التأويلي للنص إذ لا يقوم عليها دليل أو قرينة إلا إذا استحضرت طاقة التأويل في أجلى صورها. ولعل بعض الأحداث يرمز إلى هذا المستوى من الدلالة. ذلك أن تأبد المدير يوصف كما لو كان ذا وجود أبدي. فهو يبدو في مجلسه " النسخة المكررة لمسافر أسلمته المسافة إلى المسافة، والظل إلى الضوء والنغمة المسموعة إلى النغمة الكامنة حتى تجرد من الصفات وتتساقط عنه الأٍسماء كتساقط أوراق الشجر، كان ظهوره المفاجئ يتناسب ووجده الممتلئ بين بصرياثا القديمة وبصرياثا الجديدة، بين دار المحفوظات وهذه الدار." هكذا يفعل النص طاقة البث الكلامي لكي يعبر بالمنطوق عن المسكوت عنه. فهل يمكن القول بأن هدهد سليمان يمثل هنا رمزا ً لمسألة سلطة النقل إزاء سلطة العقل التي يمثل الراوي قطبها الثاني ببحثه المثابر عن المعرفة والحقيقة؟ هذا هو أحد الاحتمالات التأويلية. فالمدير وراوي النص يشكلان ثنائية ضدية على أكثر من مستوى. فالأول حاكم والثاني محكوم، والأول يحاول جاهدا ً إشاعة فكرة السلطة المطلقة وإخفاء وتزوير كتاب التساؤلات الأصلي والثاني يبحث بإصرار يكاد يؤدي به إلى التغييب في البئر عن كتاب التساؤلات هذا، والأهم من كل هذا أن الراوي يمثل نقيضا ً رمزيا ً للمدير ( هدهد سليمان) بما يملكه من قدرة على السرد والتدوين والنسخ مما يجعل مركز المدير، بوصفه الناسخ الأول لكتاب التساؤلات، موضع شك عميق، فقد يقوم هذا الراوي بفضح لعبة هدهد سليمان بأن ينقل الحقيقة كما عرفها. لذا يمكن القول بأن هنا قد صار يمتلك أهمية حاسمة لكونه قد تحول إلى سرد مكتوب وليس سردا ً شفاهيا ً، أي أنه تحول إلى نصية. أعنى أن النص سيتمكن بقوة سرد الوقائع التي مرت بها المدينة من إطلاق طاقة الميتافيزيقا الكامنة فيه فيقدم تصورا ً شاملا ً للوجود مكتف بذاته من حيث هو فن نثري. وهناك دليل نصي يؤيد ما ذهبنا إليه. ففي أحد المقاطع تتبدى مسألة سلطة النص وفعل السارد في إنشاء هذه السلطة إذ نقرأ ما ورد على لسان الراوي حين دخل غرفة المدير: "... إن نظرتي الجوالة أحيت محتويات الغرفة وأرستها على قواعدها وأخرجت خزائنها الملآى بالكتب والآلات المختلفة لضوء الصباح. وكانت تنتظر جاذبيتي الحسية للتتضح وتتجسد." ولو حللنا هذا المقطع من وجهة نظر فلسفية، لرأينا أنه يستمد فكرته الأساسية من النظرة المثالية ذات الجوهر الميتافيزيقي التي ترى الواقع نتاجا ً لسطوة فعل الذات ووعيها. تلك الذات التي تملك القدرة على (إيجاد) ما تلاحظه. ولكن هذا لا يمثل نكوصا ً إلى نظرية معرفية ذاتية قدر ما يعبر عن طاقة الإيهام التي يمتلكها السرد.

إن الأسئلة المشار إليها في صحيفة التساؤلات، سواء أكانت أسئلة أصول أم أسئلة رديفة، تفترض إقامة صلة ما بين محمولاتها الفكرية والطبيعة المجازية الشاملة لبناء النص. ولذلك فإن نظام التسمية، وهو جزء من نظام إشارة ومجاز ثابت في النص، وكذلك الإشارات اللسانية، وكون طبقات النص قد خضعت لمنهج وصفي يتسم بالدقة المفرطة وإن تخللته شطحات خيالية ومجازية على نحو تعاقبي، كل ذلك كان ضمن مسعى كلي يحاول جعل السرد قريبا ً من الموسيقى في غناها وحضورها وتأثيرها. وفي تمنعها على التحديد الصارم. وإذ يدرك الكاتب صعوبة جعل الكتابة السردية قريبة من جوهر الموسقى، فإنه يقترب كثيرا ً من شكل الموسيقى في صحيفته هذه حين ينسب لقصته صفة الغناء إذ يقول الراوي معبرا ً عن إدراكه لحقيقة ما يحاول أن يصل إليه: "... ولكن مهلا ً يا صديقي الطرب بإيقاعات أغنية قلمي." وبذلك تكون هذه القصة قد برهنت على جدارتها الفكرية والفنية معا ً إذ صارت غناء ً معبرا ً عن محنة الوجود الكبرى في شتى صورها وتجلياتها. أعني أنها قد أظهرت ما ينطوي عليه الخطاب السردي الحديث من ممكنات ميتافيزيقية ثرة. وهي قصة تمثل تمثل دليلا ً إضافيا ً على ما يمكن أن يتحقق بالقراءة المحكمة من صيرورة تاويلية فذة إذا كان النص الذي تتخذه مادة لها نصا ً مرنا ً ومتحررا ً من عقدة وضغط الواقع الخارجي في ربط الدال بالمدلول. أليس كذلك؟

الهوامش والإشارات:

 أنظر: Todorof, T. (1987) Literature and its Theorists: A Personal View of Twentieth Century Criticism. Ithaca, Cornell University Pres. (p7)

  1. نشير هنا إلى أن هذه المقالة قد كتبت في العراق في أواخر العام 1993. ولم يكن حينها ممكنا ً الإشارة إلى أن ما تضمنه هذا السؤال من تساوي أربع حفر مع أربعة رموس ينطوي على تذكير بالمقابر الجماعية.
  2. يرى محمد خضير أن "انبثاق القصة هو لحظة برهانية عميقة... فالقصة برهان متكامل على وجود متماسك خارج وجودنا الحسي المحدود." أنظر مقالته ( براهين بسيطة) في مجلة آفاق عربية، العدد الرابع العام 1992. ص 124- 128.
  3. أنظر كتاب طبيعة الميتافيزيفا تأليف جماعة من الفلاسفة. ترجمة د. كريم متي. مطبعة الإرشاد. بغداد. دون تاريخ. ص 141.
  4. المصدر السابق. الفصل الخاص بالحجج الميتافيزيقية. كما يمكن مراجعة مادة ميتافيزيقا في الموسوعة الفلسفية المختصرة. ترجمة فؤاد كامل وجلال العشري وعبد الرشيد الصادق. ومن المصادر الإنجليزية الصادرة حديثا ً يمكن مراجعة الكتاب الآتي: Audi, Rober (gen. ed.) (1999) The Cambridge Dictionary of Philosophy. (2nd edn) The item of METAPHISICS. Cambridge University Press. Cambridge. (p 563-566).
  5. بصدد المعنى الاصطلاحي للإيحاء عند الصوفية، يراجع المعجم الصوفي: عربي فرنسي. عبد العزيز بنعبد الله. فصلة من مجلة اللسان العربي – لم زمان ومكان الطبع. ص 10.
  6. بصدد ميتافيزيقا الحضور، ينظر كتاب: Audi, Robert (gen. ed.) (1999) The Cambridge Dictionary of Philosophy. (2nd edn) The item of Derrida, Jacque. Cambridge University Press. Cambridge. (p 223)
  7. ( طبيعة الميتافيزيقا) مصدر سابق. ص.140
  8. عبد اللطيف محمد العبد (1976) الإنسان في فكر إخوان الصفا. مطبعة الأنجلو- مصرية. القاهرة. ص 126.

10. لعل من المفيد هنا أن نذكر القارئ الكريم بأن جماعة إخوان الصفا قد نشأت في البصرة مما يؤكد نوعا ً من الصلة المكانية والزمنية التي تمارسها الأفكار الفلسفية في سعيها للبقاء ما بقي الإنسان.

11. المعجم الصوفي. مصدر سابق. ص 11.

12. يذهب سهيل سامي نادر إلى أن الراوي في ( صحيفة التساؤلات) قد أعفي عنه فلم يرم في البئر. والحقيقة أن من أصدر الحكم هو وحده من يملك حق العفو عن الراوي. وهذا ما لم يحدث. لذلك فإن ما حدث إنما هو نوع من خرق الأوامر والتمرد عليها، وليس عفوا ً عن الراوي. أنظر مقالته الممتازة " اتصال في حصيفة التساؤلات) العددان 5-6 من مجلة الأقلام. 1992.