قيمة الكتاب تتجاوز تلك الرؤية السطحية التي تتسلى بمواقف الفاجومى الساخرة، لتكتشف ثراء مدهشا متعدد المصادر، لم تفرضه فقط شخصية نجم العجيبة، ولكن فرضه أيضا منهج الكتابة، ورغبة نوّارة نفسها بأن تتحرر بالفضفضة، وبمواجهة والدها على الورق، مثلما واجهته في الحياة.

«وانت السبب يابا».. تليق به ويليق بها

محمود عبد الشكور

 

أحبُ أحمد فؤاد نجم الشاعر والإنسان، رغم أننى لم أقابله مرة واحدة. كتبت عنه بعد وفاته فى العام 2013 مقالا أعتز به، وصفته فيه بأنه إحدى الفلتات المصرية، وبأنه أهم من أن يكون متمردا أو معارضا. إنه شاعر كبير وكفى.

وكم أسعدني أن أرى الشاعر، بكل تفرده، والإنسان، بكل عيوبه، في هذا الكتاب البديع وعنوانه «وانت السبب يابا»، الصادر عن دار الكرمة، والذى كتبته ابنته نوّارة نجم، فجاء كسردية كاشفة عن تجربة إنسانية عميقة.

قيمة الكتاب، الذى أراه من أفضل إصدارات 2023، تتجاوز تلك الرؤية السطحية التى تتسلى بمواقف الفاجومى الساخرة، لتكتشف ثراء مدهشا متعدد المصادر، لم تفرضه فقط شخصية نجم العجيبة، ولكن فرضه أيضا منهج الكتابة، ورغبة نوّارة نفسها بأن تتحرر بالفضفضة، وبمواجهة والدها على الورق، مثلما واجهته فى الحياة.

إنها تحرّر نفسها، مثلما تحرّر صورة نجم العائلية من سطوة صورته كشاعر، ثم تبحث عن مصالحة مع الصورتين، ومصالحة أيضا مع ذاتها الحائرة بين عظمة الشاعر، وضعف وفوضوية الإنسان.

ثراء الكتاب نابع ــ أولا ــ من اللون الرمادى، ومن تلك الثنائيات التى تتحرك فى كل الاتجاهات، فبينما تتصدر المقتطفات الشعرية الفصول، فإن نجم الإنسان يظهر طوال الوقت كأب غير مسئول، وكزوج فاشل، متقلب ومتعدد النزوات، هش للغاية فى مواجهة ظروفه الشخصية، رغم جسارته فى مواجهة الحكام. ونوّارة بدورها تدرك مع الوقت أنها أسيرة ثنائية مؤرقة تجاه أبيها:

فلا هى قادرة على الاعتماد عليه، ولا هى قادرة على الاستغناء عنه.

تدرك تهربه من مسئولياته، بقدر ما تعرف عظمته.

وهى تشك أيضا فى أنه يحبها.

يضاف إلى ذلك انقسام حياة نوّارة بين انضباط والتزام الأم الكاتبة صافى ناز كاظم، وفوضى وعشوائية حياة نجم، أو بين عالم «طنط» و«حضرتك»، وعالم «حوش آدم» و«أولاد التييت»

لذلك أصبح الكتاب ــ ثانيا ــ «سردية درامية»، ليس فقط لأن نجم شخصية درامية بامتياز، ولا بسبب بالتحولات والتقلبات فى حياة نجم وابنته معا، ولكن بالأساس بذلك الصراع الذى يعشش داخل نجم ونوّارة، مثلما يدور خارجهما، ومثلما يشتعل أحيانا أيضا بين الطرفين.

لعل الكتاب فى مضمونه محاولة بالأساس لوصف هذا الصراع، ولحسمه إن أمكن ذلك.

تقول نوّارة إنها هى من ألهمت نجم أغنية مسلسل «حضرة المتهم أبى».

كانت تلومه وتعاتبه، فكتب الأغنية التى اقتبست منها عنوان الكتاب: «وانت السبب يابا»، والتى تتضمن حيثيات اتهام الابنة لأبيها، ثم دفاع الأب عن نفسه، وتبريره لما فعل من تقصير فى حقها.

الأغنية بمقدمتها ونهايتها لقطة درامية تكاد تلخص حياة ومشاكسات نجم ونوّارة، وتكاد تترجم اعتراف نجم بصراع داخلى يعانيه.

ومع ذلك، لم يستطع أبدا أن يغيّر حياته ولا شخصيته ولا طبيعته، وظل دوما على قلق كأن الريح تحته.

ولكن تخفف من الصراع فى الكتاب عاطفة حب صادقة، واعترافات نجم بعيوبه، وبظلمه لزوجاته، وطلبه «السماح» حتى عندما يظهر فى الأحلام.

تخفيف الصراع أيضا بإدراك نوّارة لوجود الشاعر داخل هذه التركيبة الغريبة، ثم احتفاء نجم بالضعف الإنسانى، مثلما احتفى بالفقراء والمهمشين والمظلومين، ومثلما احتفى بالمتمردين والثوار والحالمين، فمدح جيفارا وهوشى منه والإمام الحسين. ولعله كان يحتفى أولا وأخيرا بالمتمرد والضعيف فى داخله فى شخوص كل هؤلاء.

تقبّل نجم شخصيته كما هو، فترجم عنها، وتقبلت نوّارة فى النهاية شخصية أبيها كما هى، فسردت عنه وعنها. ربما أدركت أيضا أنه يسكنها، فإذا تصالحت معه، تصالحت مع نفسها.

ثراء الكتاب ــ ثالثا ــ محوره تلك الروح المصرية الخالصة التى تتجلى فى شخصية نجم، بإيمانه ومحبته للحسين، ببساطته وفكاهته، بتسامحه وتناقضات الضعف والقوة فى داخله، بعشقه للناس وللأماكن، وللشخصية المصرية المركّبة.

هذه السردية التى انطلقت من دافع ذاتى وشخصى، تحولت إلى قراءة غير مقصودة للتغيرات السياسية والاجتماعية المصرية.

من اشتراكية عبد الناصر إلى ثورة يناير، ومن عالم المهمشين الفقراء، إلى عالم المثقفين والمناضلين، ومن زمن السفور، إلى عصر الحجاب والتسلّف.

ومع كل فرصة، تحلِّل نوارة بوعى الحاضر، تنتقد حتى اختياراتها، وتعترف بأوقات الاكتئاب والتشوش، وتحاول أن تجد تفسيرا لمحبة نجم، الفقير المهمش، لبلده، ولتأمل المسافة بين سلوكه القاسى مع المرأة، وحبه لها.

يبدو لنا فى النهاية أن تناقضات نجم ونوّارة، ليست فقط بسبب ظروف عائلية شخصية، ولكن أيضا بسبب تناقضات وتحولات اجتماعية وسياسية مصرية، صعبة وقاسية.

يجمع الكتاب ــ رابعا ــ بين مزيجٍ عجيب من الشجن والضحك، وكأنه يترجم من جديد طبيعة الحياة المصرية، القائمة على الضحك والدموع.

ظلت الضحكات تخرج عفويا من قلب المواقف المثيرة للأسى، وباستثناء فصول اعتقال نوارة، وأيام سجنها القاسية فى سجن القناطر، فإن التركيبة المصرية الساخرة واضحة حتى فى أسلوب نوارة.

المواقف تكمن فيها المفارقة من الأصل، تخيل مثلا أن يقبض الضباط والعساكر على نجم فى بيته، فيأمر بإعداد الشاى لهم، وأخذ واجب الضيافة، أو أن يختفى من الشرطة، ثم يستقبل المخبرين فى مكان اختفائه، ويصطبح معهم، وتخيل مثلا أن من أسباب قطيعة نجم للشيخ إمام أن الأخير ضربه بطبق الملوخية!

أما شخصية أم زينب، زوجة نجم الأخيرة، وخلافاتهما الزوجية، وتوسط نوّارة وصافى ناز كاظم، وانحياز الاثنتين للزوجة، فقد كُتبت كلوحات فكاهية مصرية جدا، سواء بحوارها، أو بأوصافها، أو حتى بصراعاتها وشتائمها.

هذا كتاب عن الابنة مثلما هو عن الأب.

عن البلد، مثلما هو عن العائلة.

كل ذلك كتب بصدق وبساطة وخفة وعمق، تحت عنوان التصالح مع الماضى والأب والشاعر والذات معا.

يا نوّارة الانتصار أحمد فؤاد عزت محمد محمد سيد أحمد نجم:

لقد كَتبتِ سردية كان يُسعد نجم نفسه أن يقرأها.

تليقين حقا به، ويليق بك.

 

جريدة الشروق