"الحلواني، ثلاثية الفاطميين" رواية تاريخية – تجريبية حديثة للروائية المصرية المبدعة د. ريم بسيوني؛ صدرت عن دار نهضة مصر بالقاهرة سنة 2022؛ وتنطوي الرواية على خطاب سردي تفسيري – تاريخي – تجريبي، يقوم على المزج بين صخب علاقات القوى التاريخية وتدافعها في عهدي الفاطميين، والأيوبيين في مصر، وصعود العامل الروحي كعامل ثقافي مؤثر في متن تحولات القوة التاريخية؛ ويومئ خطاب الساردة التجريبي بفاعلية العامل الروحي عبر شخصيات بسيطة ذات عمق داخلي؛ مثل سندس، والشيخ درويش، وفرون، ورشيدة، والساحرة الحكيمة بحنس، وأصواتها المتشابهة، والطيف الحلمي التمثيلي للشيخ عبد القادر الجيلاني؛ أو يتجلى من خلال المزج الإدراكي الإبداعي بين الخيال، وصناعة الحلوى الممتدة من عصر الفاطميين إلى الآن؛ وقد تجلت الاستعارة الإدراكية الرئيسية – في خطاب الساردة – من خلال رسم صورة ذهنية لفارس من الحلوى استخدمه جوهر بن حسين بن جوهر الصقلي كأداة لإعادة ابن الحلواني لأبيه عقب تحول شخصيته باتجاه العامل الروحي وإدراك حكمة تيار الحياة البسيط؛ وقد تجلت فاعلية المكون الروحي أيضا عبر الوصف السردي التأويلي للمراجع المكانية بصورة تجريبية جديدة؛ مثل الإحالات المرجعية التفسيرية الممتدة من الماضي إلى بنية الحضور إلى مسجد أحمد بن طولون، ومسجد المقطم، وباب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة؛ ومثلما كان تدافع علاقات القوة صاخبا، ومملوءا بآلية العنف والتعارض الشكلي بين الذات والآخر، والصراعات العبثية الدرامية أحيانا، فإنه كان يلتحم أيضا بتصاعد المكون الروحي في الشخصيات، وسنعاين التحام العامل الروحي أيضا بالصخب الدرامي – التاريخي فيما وراء معمار المساجد، والقلاع، والحصون التي تتجلى – في وحدة الخطاب ككل – كمراجع مكانية تجريبية دينامية عابرة للعصور، وتقع بين تمثيلات الوعي المبدع، وأصوات اللاوعي الجمعي ونماذجه، ولحظة الحضور الآني التي تجمع – في بنيتها العميقة – بين صخب أصوات الماضي وتمثيلاته الاستعارية، والتحولات الثقافية الآنية في السياقين المحلي، والعالمي.
وأرى أن الدراسة التداولية – الإدراكية للخطاب، وبعض المحادثات الموحية – في رواية الحلواني ل د. ريم بسوني – سوف تكشف بصورة تفصيلية عن الاتصال الجمالي، والإدراكي - عبر الخطاب - بين تحولات القوى التاريخية الصاخبة، وعلاقتها بتواتر المكون الروحي عبر العصور، وفي تحولات بعض الشخصيات نحو تجاوز مركزية التجسد المادي باتجاه حدس دائرية الوجود الروحي؛ واتصال ذلك الحضور الدائري الآخر بتعاقب علاقات القوة التاريخية، وتطورها، وبالتمثيل الخيالي الطيفي لصناعة الحلوى، وبتيار الحياة البسيط، وأقواس العمارة، أو اتصالها بتعددية الطبقات المكانية الداخلية والكونية والحلمية فيما وراء المرجع المكاني الظاهر عبر تجربة المعالجة الواعية للبيانات البصرية، ودرجة اتصالها بنموذج الأصالة الروحية في وعي ولاوعي الذات المدركة.
وتتراوح رواية الأحداث بين صوت الساردة في بنية الحضور، وصوت الحلواني المعاصر، وذاكرته التي تحتفي بالمزج بين الخيال، وصناعة الحلوى، وتمثيلات الوعي المبدع، وصوت جوهر بن حسين بن جوهر الصقلي؛ والذي تحول وعيه ولاوعيه من تأثير الصدمة – التروما التي تولدت بداخله عقب مقتل والده حسين بصورة آلية عبثية داخل تيار القوى الصاخب، وما يتضمنه من مخاوف عبثية تتصل ببنية بقاء منطق القوة، ثم تحوله إلى التوحد بذلك المنظق الآلي نفسه الذي تسبب له في التروما، ثم توجهه إلى الرحلة الروحية الداخلية العميقة عبر علاقته بزوجته المحروقة والحكيمة سندس والشيخ درويش، وبحنس، والحلواني، واتصال صناعة الحلوى بداخله بالحكمة الروحية، والانحياز لتيار الحياة؛ وما ينطوي عليه من حكمة التخلي، ومعاينة البهجة الخيالية الممكنة في تجربة الوعي؛ اختارت الساردة – إذا – التبئير الداخلي المتنوع – وفق تعبير جينيت - في سرد الأحداث؛ كي تكشف – في تضمينات الخطاب – عن التداخل بين الأزمنة، وطرائق تطور الشخصيات باتجاه المكون الروحي؛ والاتصال القديم المتجدد بين العمارة والممارسات اليومية، والتمثيلات الخيالية الإدراكية الإبداعية، وازدواجية الصخب، والصعود الروحي الدائري في بنية العمارة الفاطمية نفسها عبر التجاور الجمالي بين كل من بنية الحضور، وأصداء الماضي، والاتساع الإدراكي الممكن للمرجع المكاني في تجربة الوعي وعمليات المعالجة الواعية للمكان، أو الذات، أو الآخر، أو الحدث.
وإذا قرأنا نموذج التواصل الأول – في الرواية – بين الساردة والمروي عليه؛ سنلاحظ التجريب في بنى المراجع الشخصية والمكانية، والإحالة إلى سلسلة من أفعال الكلام الضمنية التي توحي بأصالة العلاقة بين الصخب، والتحول التاريخي من جهة، والصعود المتكرر للخبرات الروحية الداخلية من جهة أخرى؛ وتتجلى هوية الساردة في اتصالها بالفضاءات التراثية الروحية، وفي إدراكها للعمق الروحي الكامن في الممارسات اليومية البسيطة، وقوة تيار الحياة، واتصاله بالتمثيلات الاستعارية الممكنة في وعيها المبدع؛ ومن ثم فهي لا تبحث عن آثار الماضي بقدر ما تبحث عن فاعليته الدائرية الخفية في بنية الحضور؛ لهذا سنجدها تكثر من الأسئلة التي توجهها للحلواني / المؤرخ أو السارد البسيط الذي يصل الماضي بعمق بنية الحضور؛ هذه الأسئلة هي أفعال كلامية توجيهية / تجريبية؛ لأن الإجابة عنها تستلزم – في تضمينات الخطاب - أن يمتزج الخيالي بالروحي والتاريخي؛ ومن ثم فهوية المروي عليه المتوقعة ستكون قادرة أيضا على فعل التخييل، والمزج الإدراكي بين شخصيات الماضي، وتمثيلات الوعي المبدع الطيفية المركبة للشخصيات، والأماكن في لحظة الحضور التي تتصل بالماضي في وحدة الخطاب.
وتتسم المراجع الشخصية والمكانية الأكثر حضورا في الخطاب بالغموض، والتناقض الإبداعي الداخلي، أو إمكانية التحول الدينامي أو التضاعف الاستعاري في الوعي المبدع؛ فشخصية الحلواني الراهن تجمع بين البساطة والثراء المعرفي، والانحياز للخيال؛ أما الحلواني القديم فشخصيته تزدوج بين حكمة البساطة، وقوة إدراك الآخر، واتصاله بحادث احتراق جسد سندس؛ ومن ثم فهو ينطوي على تناقض إبداعي يسهم في توسيع الاستدلالات الخاصة بتجاوز مركزية التجسد، والاتصال الداخلي العميق بالآخر / جوهر بن حسين الذي يتحول – بصورة دينامية روحية – نحو مهنة الحلواني وفق تجليها الخطابي الذي ينطوي على حكمة التخلي، ومعاينة الخيال التصويري في مادة الحلوى نفسها؛ وسنعاين القوة الروحية الأنثوية في شخصيتي فرون، ورشيدة؛ فالأولى تفتتح مجال الحب الروحي لبدر الجمالي الذي يجمع هو الآخر بين قوة السلطة وعمق حبه القديم لفرون؛ وكأن الصخب التاريخي لا ينفصل عن فاعلية الاتصال الروحي، وأصالته في المشهد التاريخي وتأويلاته الممكنة؛ أما رشيدة فتسهم في تكرار خصوصية ذلك الحب الذي يقوم على الأصالة، واستمرار مهنة الحلواني في علاقتها بابن عمها إبراهيم؛ ويتصل حضورهما أيضا بدلالات العمارة الثقافية والروحية والقابلة للتجدد في مواقف التواصل المتجددة والعابرة للزمن.
وتستعيد الساردة المراجع المكانية بصورة دينامية توحي بتجدد دلالاتها الثقافية والروحية؛ فتستعيد مسجد أحمد بن طولون وفق نغمات الارتفاع، والأصالة، والتواتر الدائري، واتساع الرقعة، وعلاقته الجمالية بالمحيط؛ وكأن أثره يمتد في عمارة العصر الفاطمي التي توحي بالتكرار الإبداعي لدورات الصراع، والصخب، وولادة النور الداخلي في الشخصية الفنية، أو التاريخية؛ فقوة الحصون، ودائرية بوابات الفتوح، والنصر، وزويلة توحي بالمزج بين قوة الذات، وبحثها المتجدد عن التجدد الروحي الدائري العابر للحدود الزمكانية؛ فأصوات الماضي الصاخبة تكمن في المشهد، ولكنها تقترن بالسلام والأصالة الكامنة في الأقواس الكبرى التي تعيد تمثيل الحكمة القديمة، وتجدد تمثيلات الوعي المبدع، واستعادة الحب الروحي وقصص التخلي في السياق الراهن؛ ومن ثم يتصل المرجع المكاني التجريبي بالفضاءات الداخلية التي توحي بتجدد نموذج الرحلة الروحية وفق تعبير كارل يونغ، والفضاءات التمثيلية الدينامية أو الحلمية أو الاستعارية الممكنة التي يؤكدها الخطاب عبر الإحالة إلى المؤشر السياقي الخاص بالارتفاع، أو الوحدة، أو دائرية الأقواس المعمارية التي تتصل بأطياف الماضي، وتستنزفه عبر العلاقات المكانية الجديدة التي تتضمن أصواتا أخرى تبحث عن الحضور الروحي الدائري، وأخيلته التمثيلية في السياق الثقافي الواسع الراهن.
تحيلنا الساردة – في بدايات الخطاب – إلى لقائها بشخصية عبده الحلواني الذي يميل إلى التحدث والحكي لمن يصدقه في العام 2016؛ ومن ثم تتوافق رواية التاريخ فيها مع الصعود المعاصر لكل من العمق التاريخي والروحي والخيالي في الكتابات السردية الراهنة؛ فالسياق الثقافي الواسع المعاصر يعزز من العمق التفسيري والخيالي، وتمثيلات الوعي المبدع؛ والتوسع في قراءة الطبقات المكانية الحقيقية والمحتملة، والعوالم الممكنة؛ لهذا سنعاين صعود روايات تاريخية – سردية تجريبية تمزج بين التأويلي، والخيالي، والكوني؛ مثل رواية رحالة لأولغا توكارتشوك؛ والتي جمعت فيها بين القصاصات والرسائل، والوقائع الجزئية، والخبرات الذاتية، والممارسات الثقافية، والجوانب الكونية وخبرات الوعي وراوحت فيها بين لحظة الحضور والقرن السابع عشر؛ ورواية الضوء والمرآة لهيلاري مانتل؛ وقد استعادت فيها بكارة الماضي الأولى وفق حدس آني، وأعادت تأويل الشخصية وفق مؤشرات سياقية تعددية عميقة؛ ورواية الساعة المسحورة لجوليا كريستيفا والتي ناقشت فيها فكرة الزمن من خلال المزج التجريبي بين الخيالي والكوني والتاريخي بصورة تجريبية؛ ومن ثم تواكب رواية الحلواني ل د. ريم بسيوني التحولات التجريبية للرواية التاريخية؛ وتحدث فيها نوعا من الأصالة الروحية التي تتصل بالعمارة، وصناعة الحلوى، وبلاغة الشخصيات البسيطة، وتجدد تيار الحياة؛ ومن ثم فبقاء هذه الآثار المستعادة من الدولة الفاطمية، تؤسس لتكرار جمالي تجريبي مكاني في المشهد اليومي؛ هذا التكرار يسهم في انتخاب مؤشرات سياقية متجددة في بنية الحضور، وتجمع بين التحولات الروحية القديمة باتجاه تجاوز مركزية التجسد، والعمق الروحي – الخيالي – التاريخي في السياق الثقافي العالمي الآني.
وتحيلنا الساردة إلى خطاب عبده الحلواني – في البدايات – عن بقاء العمارة للتذكرة، واتصال صناعة الحلوى في وعيه بنموذج الخلود. (1)؛ وكأن العمق الروحي والخيالي يكمن تحت طبقات تيار الحياة اليومية، والطبقات المكانية للعمارة الفاطمية، وفي منح الحلوى أخيلة الشخصيات الأدبية؛ وسنعاين دور الفارس المصنوع من الحلوى في تحرير ابن الحلواني القديم ضمن استعارة إدراكية موحية في خطاب الرواية.
وإذا أعدنا قراءة المؤشرات السياقية وفق نظرية الصلة ومبدأ الصلة الإدراكي طبقا لسبيربر، وديردري ويلسون، سنلاحظ أن الساردة قد بدأت بانتخاب مؤشر الحكي التاريخي الخيالي، واتصاله بالرحلة الروحية في نماذج اللاوعي الجمعي وفق تعبير كارل يونغ؛ ثم ارتكزت على دلالات العمارة الثقافية، والروحية الممتدة في بنية الحضور؛ وأرى أن المؤشر السياقي الأكثر حضورا، والذي يتصل بالاستدلالات الموسعة في الخطاب، يتعلق بالتحول الروحي للشخصية عقب الصدمة التاريخية، أو الصدمة التي تستدعي قراءة داخلية عميقة للكينونة حين تدرك الذات الحضور المؤقت للجسد في المشهد التاريخي؛ ومن ثم تعاين الذات حضورها الروحي الآخر فيما وراء الصخب التاريخي، أو في الحب القائم على خصوصية الهارموني الروحي، أو في الالتحام بتيار الحياة البسيط المتكرر؛ والذي يؤكد دائرية الحضور المتوافقة مع أقواس العمارة الفاطمية، أو الاستدارات المكررة الممزوجة بأصالة القدم في مسجد بن طولون؛ ومن ثم فتكرار ذلك التحول الداخلي في بعض شخصيات الرواية، يستلزم التوسع الاستدلالي في إمكانية تكراره في بنية الحضور وفق معالجة واعية فائقة للبيانات البصرية للعمارة، أو الحلوى، أو اتصال العمق الروحي القديم بالعمق الروحي الآني، وتجدده في السرد التاريخي الخيالي التجريبي، أو التأويلي؛ ففضاء العمارة المرتفع أو البعيد يوحي بتكرار نموذج الحكيم أو الدرويش داخل شخصيات أخرى، أو وفق صورة مختلفة يتحقق فيها المزج الإدراكي بين الحداثة الجديدة والتأملات الروحية، وممارسات الزهد الأسبق في سياق ثقافي متداخل، وأكثر تعقيدا.
وتتنوع أفعال الكلام في خطاب الساردة للمروي عليه؛ مثل التمثيلات التي تؤكد علاقة التحولات التاريخية بالمكون الثقافي الروحي العابر للتحولات الصاخبة، والممتد في العمارة، والنماذج، والأخيلة، ونستطيع الاستدلال على وجود أفعال كلامية تمثيلية ضمنية أخرى تتعلق بالاتصال المكاني بين أصوات الماضي الصاخبة، والفضاء الجمالي الآني للعمارة الفاطمية؛ مثل هذا الاتصال ينسج فعلا كلاميا تمثيليا ضمنيا يؤكد دائرية العلاقة الفلسفية بين الصخب، وتدافع القوى، وتجدد إدراك دائرية الحضور الروحي الداخلي؛ فأصوات الحزن والنصر، والألم والرعب تتكرر في الاتجاه نفسه الذي قاد كل من سندس، وجوهر بن حسين إلى الزهد، والتخلي، وعمق النظر إلى الداخل، والإشارات اللغوية الكثيفة الموحية في الحوار؛ ويؤثر فعل الكلام التمثيلي في المروي عليه من خلال التحوير المعرفي الممكن؛ أي تتحقق قوة فعل الكلام في قدرة المروي عليه على إعادة النظر إلى الآثار المعمارية القديمة، وبعض الشخصيات التاريخية، وبعض الممارسات الثقافية وفق نغمة الأصالة؛ أما لازم فعل الكلام التمثيلي فيتحقق حين يعاين المروي عليه حدس الأصالة بداخله في سياق عالمي نسبي لا ينفصل عن الأثر الجمالي / المكاني للماضي.
وتنحاز الساردة إلى المكون التفسيري السردي الروحي للشخصيات، والأحداث، ولفعل التخييل في إقامة بعض الروابط المفاهيمية، والحجاج عبر فعل الكلام التعبيري الضمني؛ والذي تتحقق قوته في المروي عليه حين يعزز وعيه من إقامة روابط تمثيلية مشابهة؛ أما لازم فعل الكلام فيتحقق حين يعاين المروي عليه تحقق تلك التأويلات ضمن سياقه الراهن، أو حين يشاهد الأثر المعماري وفق معالجة واعية متكررة، وعميقة للبيانات البصرية التي تستدعي تجدد التفاسير المبنية على الأصالة والتحول الداخلي القديم المتجدد للشخصية التاريخية، أو الواقعية، أو الفنية، ومن ثم تنتمي الذات المدركة إلى تكرار النظر إلى الداخل دون الانفصال عن تواتر الرحلة الروحية في الماضي.
ويفترض الخطاب فعلا كلاميا توجيهيا يتعلق بالسؤال المتجدد عن التفاسير الممكنة للعلاقة بين صخب القوى التاريخية، ومدلول التجسد، والتوسع في إدراك الأصالة الداخلية في الذات، والمكان؛ ويبدو هذا التساؤل الضمني عميقا في المدلول السردي المتصل بتطور شخصية الوزير بدر الجمالي الذي جمع في سيرته بين الصخب، والحب الروحي؛ وذلك عبر خصوصية علاقته بفرون؛ وعبوره للتعارض بين الذات والآخر باطنيا، بينما انخرط تاريخيا في علاقات الصخب وتعارضات القوى الحتمية؛ وهو ما يؤكد تجدد فعل الكلام التوجيهي / السؤال الفلسفي الضمني، والذي تتحقق قوته في المروي عليه حين يجدد الأخير السؤال نفسه، وينتج إجابات سببية نسبية متصلة بتحولات السياق، وقد يتحقق لازم فعل الكلام حين تتكرر بعض الارتباطات التفسيرية في أكثر من سياق فتحقق إجابة مستقرة، وغير مركزية، أو مؤجلة في الوقت نفسه.
وأرى أن الخطاب يتضمن فعلا كلاميا وعديا ضمنيا أيضا يتصل بوعد الساردة الضمني ببقاء بعض الشخصيات، وتكرار خصوصيتها الجمالية، أو تناقضاتها الدلالية في بنيتي الحضور والمستقبل؛ مثل شخصيات جوهر بن حسين، والحلواني القديم، وسندس، والدرويش، وبحنس؛ وهو ما يدل على إمكانية قراءتها كنماذج عابرة للزمكانية؛ ويدل عليها الحلواني المعاصر / الحكاء، والذي يصل نفسه سرديا بالعصر الفاطمي، والأيوبي؛ ومن ثم تعد الساردة المروي عليه ببقاء كل من الأثر وبدائل الشخصية في المستقبل؛ وتتحقق قوة فعل الكلام الوعدي حين يدرك المروي عليه الصلات بين نماذج الماضي، وبعض الشخصيات المتطورة الآنية في بنية الحضور، ويتحقق لازم فعل الكلام حين ينتظر المروي عليه تكرار النموذج، وأشباهه في المسافة بين النص الروائي، والوعي، وتحولات السياق في المستقبل.
ويطرح الخطاب حجة استدلالية رئيسية تتعلق بصحة فرضية وجود رابط سببي بين الصراعات التاريخية، أو الصدمات القدرية، ووعي الشخصية بالأصالة الروحية الداخلية؛ ويدل على وجود مثل هذا الرابط وفرة تكرار مثل هذه الحالات العابرة للزمن من جهة، وتكرار أحداث متشابهة أدت إلى قوة هذا الإدراك الباطني المتجدد في الشخصية؛ مثل التشابه بين مقتل والد جوهر بن حسين أمامه، وصدمة احتراق جسد زوجته سندس؛ ولكل من الحدثين اتصال بالصخب، وانهيار مركزية التجسد في وعي، ولاوعي الشخصية؛ وإذا قرأنا تجدد الحجة نفسها وفق سلم دكرو الحجاجي، سنجد أن الفرضية الأقوى ستتصل بتحقق علاقات الحب الروحية – غير التقليدية في السياق الاجتماعي؛ مثل الاتصال الروحي بين سندس وجوهر بن حسين رغم احتراق الجسد، وتحقق حب بدر الجمالي لفرون رغم الاختلاف الثقافي، وحب إبراهيم لرشيدة، واتصاله بقوة تيار الحياة الممزوج بالحكمة عبر الحفاظ على مهنة الحلواني وفق حكمة التخلي، والسعي نحو الخلود؛ ومن ثم تصير النتيجة فاعلية الأصالة الروحية في تحولات السياق الاجتماعي، والتاريخي، وبقاء أثرها في السياق العالمي الراهن من خلال الأثر المعماري، وأخيلته، وما يتصل به من أصوات الماضي في العوالم الممكنة في مواقف التواصل المحتملة.
وينسج الخطاب استعارة إدراكية تقوم على التشابه بين فارس الحلوى الذي صنعه جوهر بن حسين، ووضع فيه سيف أبيه الذهبي (2)، وشخصية البطل المساعد في بنى الحكايات القديمة؛ بل إنه أيضا يعبر عن تمثيل ذهني خيالي هجين ينشأ من الوعي المبدع، ويجمع بين شخصيات الأب، والراوي / جوهر بن حسين، وشخصيات الحلواني الفريدة البسيطة المتكررة كنماذج، وهو تمثيل ذهني من ماضي البطل، وحاضره في آن؛ فهو يجمع بين دلالتي الصخب التاريخي، وتعارضات القوى السياسية في المشهد، صناعة الحلوى بوصفها جزءا من تيار الحياة البسيط الممثل لحكمة التخلي؛ ومن ثم فالتمثال ينسج مجموعة من الروابط الدلالية التي تتصل بكل من خطاب الهيمنة، والهيمنة المضادة، واستشراف الخلود، والرحلة الروحية الباطنية.
وإذا أعدنا قراءة الاستعارة الإدراكية وفق مفاهيم فوكونير، ولاكوف، وجونسون، ومارك تيرنر؛ سيصير المجال العام هو الشخصية التمثيلية الفاعلة في الموقف التاريخي – السردي؛ وسيصبح فضاء الإدخال الأول هو فارس الحلوى الذي صنعه جوهر بن حسين ليستعيد ابن الحلواني؛ وسيكون فضاء الإدخال الثاني هو شخصية تمثيلية خيالية هجينة بين الحلواني، والبطل المساعد القديم، وتمثيل خيالي من الأب / الفارس الذي يسهم في تغيير علاقات القوى التاريخية الصاخبة، ونموذج الزاهد / الباطني الذي يسهم في تفكيك منطق الصراعات التاريخية الحتمية في الوقت نفسه؛ أما الروابط الدلالية بين الفضاءين الذهنيين ستكون المراوحة بين دور الفارس، والفارس المضاد، واستنزاف مركزية التجسد من داخله؛ ففارس الحلوى عمل فني وظيفي، واستعاري؛ أي يكشف عن قوة التجسد، وتجاوز تلك القوة في البنية التصويرية القابلة للتفكك ضمن وظيفتها الرئيسية؛ أما الصورة التمثيلية الأخرى من الفارس فهي صورة إدراكية هجينة؛ أو هي تمثيل ذهني دينامي، يوحي بالتجسد، وتجاوز مركزية التجسد في آن؛ وفاعلية الخيال في السياق السردي – التاريخي؛ وفعل التخييل جزء رئيسي من خطاب الساردة، وخطاب الحلواني المعاصر؛ ومن ثم يوحي النص بأصالة فعل التخييل ضمن التحولات التاريخية الصاخبة نفسها؛ ويتصل بالرحلة الروحية الداخلية في الوقت نفسه؛ أما فضاء المزج الإدراكي سيصير تكوينا استعاريا يقع بين العمل الفني، وظلاله وتمثيلاته الاستعارية المكانية المحتملة في الفضاء القديم، والفضاء الذهني المتجدد / الممكن.
ويمكننا تحليل أربعة محادثات موحية ودالة في الرواية وفق مبدأ بول غرايس التعاوني، والمؤشرات السياقية، والأفعال الكلامية، وآلية المعالجة الواعية، أو غير الواعية طبقا لعلم الأعصاب الإدراكي وعلاقته بالوعي.
تتناول المحادثة الأولى العلاقة بين الحب غير التقليدي، والرحلة الروحية باتجاه الأصالة الداخلية، وتجاوز مركزية التجسد؛ وهي بين جوهر بن حسين، وزوجته سندس التي احترق جسدها في حادث يتصل بشخصية الحلواني؛ وتبدو سندس في حالة من التطور الروحي المتجاوزة للتجسد، ولكنها تعود أحيانا لأحداث وأحلام متضمنة في الذاكرة طويلة المدى؛ وتنشئ تمثيلات استعارية لتجسدها القديم قبل حدث الاحتراق؛ ومن ثم تنهى جوهر عن السخرية منها، وتخبره بمخاوفها؛ وسنجد أنه يبحث ظاهريا عن الحب، والجمال بينما تشير تضمينات المحادثة أنه يتصل روحيا بسندس، ويبدو في حالة إدراك لحضوره الدائري الآخر ابتداء من المعالجة غير الواعية التلقائية التي يقوم بها إزاء بيان سندس البصري المحترق الذي يذكره بصورة مقتل والده في نوع من التأشير العائدي / الأنافورا؛ ومن ثم فالوقفات، والنفي، أو النهي، أو عناصر الاختلاف في حديث جوهر، وسندس عن الحب تخفي نوعا من الهارموني في مستوى الرحلة الروحية الداخلية؛ يقول جوهر:
"-تحبين لمساتي؟
-أنت جميل يا أمير، لا تحتاج لمثلي لتخبرك.
-أريد أن أسمعها منك.
-أيقظت ما كان طي النسيان. يحزنني أنني انهزمت اليوم، وفقدت كل ما حققته من انتصار على جسدي الخبيث.
-جسدك ليس خبيثا.
-هو خائن صدقني.
-هو حي ينبض بالشوق. كفي عن الكلام.
-غدا أموت يا سندس ربما، واليوم أحيا لأول مرة" (3).
يبدو خطاب جوهر متصلا بتناقضات العلاقة بين كل من التجميع، وحالة اللاعضوي طبقا لفرويد في كتابه الأنا، والهو؛ فهو يشير ضمنيا إلى الموت، وإلى الإيروس في سياق معاركه التاريخية، وإلحاح ذكرى مقتل والده في ذاكرته طويلة المدى، وفي سياق إعجابه بحكمة سندس، وتمثيلاتها الاستعارية التي تحدث بداخله نوعا من التناغم أو التجانس بين الموت، والحياة، أو بين العضوي، وغير العضوي؛ ويبدو أنه يريد الخروج من مركزية التجسد من داخل فعل الحب؛ ومن ثم فهو يطور من رحلته الروحية من داخل البيان البصري المزدوج لشخصية سندس؛ فهي تذكره بتجاوز مركزية التجسد، وتنشئ بداخله تمثيلات استعارية طيفية أخرى، أو تمثيلات ذهنية داخلية توحي بجمال جسدي خيالي يستنزف رعب التجسد بداخله، والبيان البصري الظاهر من سندس في موقف التواصل؛ ففعل الكلام التمثيلي الذي يقول فيه إن جسدها حي وينبض بالشوق، يتصل بتمثيل ذهني مركب يجمع بين الجسد المحترق، وتمثيل استعاري طيفي آخر، يحتفي بحب غير تقليدي، ويقاوم مخاوفه التي تنبع من الذاكرة طويلة المدى، ومن استمرارية المعارك التاريخية في مؤشرات السياق الزمكانية؛ ويوحي فعل الكلام التمثيلي هنا بفعل كلامي تعبيري آخر ينحاز فيه جوهر إلى التمثيل الذهني الطيفي لسندس، والذي تبدو فيه صورتها حية مع بقاء أثر الاحتراق الذي يصير هنا بلا فاعلية؛ وكأنه يقاوم مركزية مقتل والده، ويقاوم رعب النهايات بداخله عن طريق التمثيل الذهني الطيفي للجسد بواسطة الوعي.
ونلاحظ أنه طبقا لمبدأ بول غرايس التعاوني، وعلى المستوى الكمي؛ تزداد كلمات سندس حين تراوح بين حالتي الانتصار على الجسد، وتذكر الحالة الجسدية الأسبق؛ فموقف التواصل قد استلزم تعددية في البيانات البصرية التي ينشئها وعيها عن نفسها؛ فقد استعادت تمثيلها الذهني الأسبق من الاحتراق، والتمثيل الذهني لوجودها الراهن، والتمثيل الذهني الداخلي الطيفي الذي يقع بين التجسد، والحضور الاستعاري الطيفي الآخر وفق مؤشرات السياق الآني في بنية المحادثة، والتمثيل الذهني الداخلي الطيفي المتعلق بالصفاء والشفافية والحب المتصل فقط بنموذج الأصالة؛ وهو التمثيل الأكثر تجانسا مع تطور سندس الروحي؛ وقد ازداد الكم في هذا السياق؛ لوفرة التمثيلات الاستعارية عن الذات أثناء تواصلها مع جوهر؛ وقد ازداد الكم في خطاب جوهر حين مزج بين الموت، والحب في سياق استعادته لاستمرارية المعارك، وإشاراته إلى جمال سندس الخاص؛ ولأن خطاب جوهر يتطور معرفيا باتجاه إدراك أصالته الذاتية الداخلية من خلال الحب؛ فقد التبس البيان البصري الطيفي الآني لسندس بداخله، بجسدها الظاهر، وتمثيله الاستعاري لذاته التي تقاوم حتميات المعارك التاريخية؛ ومن ثم ازاد خطابه من الناحية الكمية في سياق اتجاهه لتجاوز مركزية التجسد عبر التمثيلات الذهنية الاستعارية التي تراوح بين التجسد، وتطور الذات المعرفي والجمالي من خلال الآخر / صورة سندس الخيالية الممزوجة بنغمتي الحكمة، والأصالة.
ويتضمن خطاب سندس حجة استدلالية تقوم على صحة فرضية حتمية تجاوز مركزية التجسد حين تصف جسدها بالخبث؛ وكأنها تبني الفرضية على مسلمة الاحتراق، أو مسلمة قابلية الاحتراق والتفكك بصفة عامة؛ ومن ثم تصبح النتيجة هي تجاوز مركزية التجسد باتجاه الأصالة الروحية الذاتية؛ ويبدو أن تلك النتيجة هي التي جددت إغواء الحب بداخل جوهر؛ فقد ارتكزت حجته على إثبات الحب، ونفي الخبث عن جسد سندس، ولكنه يمزج هنا بين التمثيل الذهني الواقعي البصري لوضع سندس الظاهر، والتمثيل البصري نفسه حين يقترب من حالة استعارية طيفية تنبع من حدس الأصالة بداخله، أو بداخل سندس؛ ومن ثم تصير النتيجة أيضا هي استنزاف مركزية التجسد في موقف التواصل؛ ويدل على ذلك إشارات جوهر إلى أن سندس قد أغلقت الباب بعدها، ولكنه ازداد حبا لها(4)؛ وكأن علامة الباب تدل على اتساع حالة التعاطف خارج حدود الغرفة في تجربة الوعي، واللاوعي.
وينتخب كل من جوهر، وسندس الحالة البينية الطيفية بين الموت، والحياة ليتوسعا في الاستدلالات - وفق مبدأ الصلة – في الاتجاه إلى إعادة قراءة الذات وفق أصالة تجربة الوعي، والتوسع في إدراك الحب غير التقليدي الذي يظل فاعلا ومؤثرا رغم الحواجز، ورعب النهايات المحتملة في مؤشرات السياق التاريخي.
وتبدو التلميحات الاستعارية الكثيفة واضحة في أسلوب سندس؛ وبخاصة حين تنتقل من وصف الجسد بالخبث إلى وصفه بالخيانة؛ فالوصف الثاني يوحي بالتوسع خارج حدث الاحتراق، ويشير ضمنيا إلى حالة تجاوز العضوي الممكنة باتجاه الأصالة الداخلية والحكمة، والجمل الكثيفة الموحية الأقرب إلى التصوف؛ أما خطاب جوهر فقد مزج بين التمثيلات الخبرية، وأفعال الكلام التوجيهية / الأوامر؛ كي يحقق التواصل مع سندس؛ ولكن هذه الأوامر كانت تتضمن أسئلة بداخله عن إنتاجية الوعي لتمثيلات أخرى تتجاوز مركزية المادة، وتتجه نحو عالم روحي ممكن، يتجاوز صدمات الذاكرة طويلة المدى، والمخاوف المتصلة بالتحولات التاريخية؛ وقد جمع كل منهما بين التنظيم المنطقي، والغموض المتواتر في الإشارات اللسانية إلى العمق الروحي وفق اصطلاحات الجسد، أو الاصطلاحات المكانية؛ فالإعلاء من إغواء سندس في خطاب جوهر، يخفي نوعا التقدم باتجاه تجاوز مركزية التجسد باتجاه خصوصية شعرية أنثوية تجمع بين تمثيل استعاري طيفي لسندس، وإعلاء قيمي لارتقائها الروحي في بنية الحضور؛ ومن ثم تصير علامة الباب مثل ممر مفتوح على فضاء ممكن دائري يتحقق فيه فعل الحب وفق حدس الأصالة؛ وهو ما يمنح المفردات المعجمية المكانية اتساعا دلاليا في السياق؛ وربما صار فضاء الحلواني المستقر نسبيا متناغما مع الفضاء التمثيلي الواسع للحب عير التقليدي في صيرورة شخصية جوهر، وتخليه الأخير عن الصراعات التاريخية الحتمية؛ أما الغموض في خطاب سندس فقد تجلى في تعددية الإحالة إلى تمثيلات الجسد بين استعادة حضوره الأول، والرغبة في استنزاف مركزيته؛ ولهذا استخدمت مفردات توحي بالمعركة، والنصر، والهزيمة؛ وهي لا تتصل بصراع الذات مع الحب التقليدي، وحالة التجسد بقدر ما تدل على التوسع في إنتاج التمثيلات الذهنية الداخلية حول الذات، والآخر، والمكان؛ أي في الاستجابة النشطة باتجاه حب غير تقليدي.
وأرى أن تحليل المحادثة وفق نظرية مساحة العمل العصبية العالمية، سيكشف عن بعض التفاصيل الخاصة بالمعالجة الواعية الدينامية للبيانات البصرية، والسمعية، وطرائق اتخاذ القرار في المستقبل، أو إنتاج استجابة نشطة وفق التفاعل بين مجالات الإدراك، ومساحة العمل؛ ويرى كل من ستانيسلاس ديهايني، وجان بيير شانغوكس، وليونيل ناكاش في دراستهم نموذج مساحة العمل العصبية العالمية للوصول الواعي أن مساحة العمل العصبية العالمية تتكون من مجموعة من الخلايا العصبية القشرية التي تتميز بالقدرة على الاستقبال، والإرسال مرة أخرى إلى الخلايا العصبية المتماثلة في المناطق القشرية الأخرى عبر محاور إثارة طويلة المدى، وتقوم الخلايا العصبية بتجميع المعلومات عبر التكرار في حلقات تتحرك من أعلى إلى أسفل، والعكس؛ ويتم الوصول إلى الحالة العالمية من الوصول الواعي حين تتقارب مجموعة من المعالجات المتعددة في حالة متماسكة غير مستقرة، أي تعمل بصورة دينامية؛ أما المدخلات والمخرجات فتتكون من الانتباه، والذاكرة طويلة المدى، والتقييم، والإدراك الحسي الآني، وإنتاج توقعات واستجابات نشطة في المستقبل. (5)
هكذا تؤسس نظرية مساحة العمل العالمية للوصول الواعي للتفاعل الدينامي في عملية معالجة البيانات بصورة دينامية واعية، ووفق مدخلات تفصيلية متنوعة؛ وسوف تسهم في تحليل طرائق إدراك السارد، أو الشخصية للبيانات السمعية، أو البصرية، أو اللسانية ذات التنبيه الأعلى في السياق بصورة مستقرة نسبيا، وتحتمل التغيير الدينامي حسب المؤشرات السياقية في بنية الحضور؛ أي بيانات الإدراك الحسي المتجددة في الموقف السردي، أو موقف التواصل الاجتماعي.
تتفاعل – في وعي جوهر – البيانات البصرية المتنازعة، والمثيرة للانتباه من شخصية سندس؛ فالبيان البصر الآني يجمع بين الجسد المحترق، وحكمة الصوت؛ أما الصورة الذهنية الأخرى فتجمع بين تكوين طيفي حلمي من سندس بمصاحبة أصالة صوتها في بنية الحضور؛ ومن ثم تتفاعل هذه الصورة الأخرى / الأكثر إثارة للانتباه مع ذكرى مقتل والده، وذكرى معارك القاهرة في السياق المعاصر للمحادثة؛ ومن ثم فالبيانات البصرية المستدعاة من الذاكرة سوف تسهم في منح أفضلية قيمية للحب غير التقليدي الذي يرتكز على قراءة الذات، والآخر وفق أصالة الحضور واستنزاف مركزية الجسد؛ وسوف تسهم مجالات الإدراك الحسي الآنية في توسيع الاستدلالات الخاصة بالمكان، وطرائق الاتصال الداخلي بالآخر في موقف التواصل الآني فالحاجز بين جوهر وسندس يستحيل إلى ممر داخلي للتواصل العابر للتحولات الزمنية، وتحولات القوة الكامنة كبيانات سمعية توحي بالألم، أو النصر المعلق، أو الهزيمة في المشهد وذلك من خلال إلحاح الذاكرة؛ ومن ثم تتقارب معالجات البيانات في مساحة العمل العالمية في إنتاج تفسير واع لحالة الحب وفق العبور المتجدد لمركزية البيان البصري الآني للجسد باتجاه دائرية الحب غير التقليدي، والانحياز لما وراء صخب القوى المتعارضة في السياق التاريخي؛ ولهذا يوحي خطابه بإنتاج استجابة نشطة في المستقبل نحو الإعلاء من حب سندس غير التقليدي، وتفضيل تمثيلها البصري الداخلي المصحوب بحكمة تجاوز صخب التجسد؛ وسوف تتقارب المعالجات – في وعي سندس – أيضا نحو إنتاج تفسير واع يرتكز نسبيا على الانحياز للأصالة الكامنة وراء البيان البصري الآني من جسدها، ورغم تنازع هذا التأويل مع استعادتها المتكررة لصورتها الأسبق من الحادث؛ فإنها تتوافق مع الصور الذهنية المتكررة الخاصة بإمكانية تحولات الجسد؛ ومن ثم ترتفع قيمة حضور عالمها الذاتي الداخلي، ومشاعرها الباطنية عن أشكال التواصل الاجتماعي التقليدية؛ ومن ثم تتسع الفضاءات الممكنة للتواصل في مستوى الوعي، وتعزز من الاستجابة النشطة الخاصة الانحياز إلى الداخل، أو الهروب، أو الصمت، أو تأكيد الهارموني غير التقليدي في علاقتها بالآخر، وبالعالم.
أما المحادثة الدالة الثانية في رواية الحلواني ل د. ريم بسيوني، فهي بين بدر الجمالي وزوجته فرون ابنة جوهر بن حسين؛ ونعاين فيها إمكانية تواتر الحب غير التقليدي العابر للاختلاف الثقافي، وتعارضات القوى التاريخية، ضمن سياق تاريخي، تظل هذه القوى المتعارضة فاعلة فيه بدرجة صاخبة، وعنيفة؛ ونلاحظ – في خطاب فرون – ميلا إلى تكرار لحظة التحول الروحي المتجاوزة لحتميات الصراع؛ والتي ميزت مصير كل من جوهر، وسندس؛ بينما تعلو – في خطاب بدر – درجة التوازي، والتناظر المتكافئ بين الاتجاه إلى الفاعلية، والتغيير في السياق الثقافي التاريخي، والاتجاه إلى إعادة اكتشاف العالم الداخلي وفق نماذج الأصالة، والخلود، والحب غير التقليدي؛ وإن بدا في خطابه الانحياز إلى الفاعلية التاريخية؛ فتضمينات الخطاب، وبعض المراجع اللسانية توحي بالتكافؤ بين الاتجاهين المتعارضين بداخله؛ وكأن تكوينه الفني – في خطاب الساردة – يوحي بالمزج الإدراكي بين الطيفين التمثيليين من الفارس، والدرويش؛ لذا أرى أن قيمة محادثة فرون وبدر الجمالي تكمن في العلاقة المعقدة بين مبدأي التحول الزمني، وإدراك الحضور الداخلي الدائري؛ والذي يعبر مركزية التحولات بصورة مكانية أحيانا تدل عليها فراغات العمارة، واستداراتها، واستدعاءاتها لأصوات الماضي في تعالي الأثر، وفي وعي المراقب.
تشير فرون - في خطابها – إلى حادث وضع سندس يدها فوق قلب جوهر في الماضي، وما يستدعيه من دلالة الاتصال، أو التشابه الروحي غير التقليدي بينهما، ويجيبها بدر:
"-وماذا بداخل قلب الجندي يشبه قلب الصوفي يا فرون؟
قالت بلا تفكير – المجاهدة ...
-جئت إليك
-بعد وقت طويل، ألم يكفك العذاب الذي عانيته أعواما؟ لا تتركني أتعذب من جديد.
-لم أكن أريد عذابك .. أنت من تعذبين نفسك، وتحملين قلبك كل ذنوب البشر، أنا لست شيخا.
-ولكنك السيد الأجل.
-أعرف، لذا علي أن أدافع، لا أن أصوم، وأعتكف ...
-كيف للسيد الأجل أن يحتاج إلى مساعدة بنت مثلي.
-تثقين بي.
-أخاف عليك من نفسك". (6)
يشير فعل الكلام التوجيهي – في المحادثة – إلى اختلاف وجهات النظر عبر سؤال بدر عن التشابه بين القائد، والصوفي؛ وكأنه يريد أن يباعد بين إمكانية المزج بينهما في صيرورة حياة واحدة؛ ولكن فعل الكلام التوجيهي نفسه يشير إلى فعل كلامي تمثيلي ضمني يثبت هارموني المحادثة، وإمكانية مزج الشخصيتين بصورة متكافئة، وإن بدا القائد هو الأكثر حضورا في السياق التاريخي الاجتماعي، بينما يظل الدرويش فاعلا في الداخل، وفي السياق الكوني الأوسع؛ وأرى أن موقف التواصل الاجتماعي نفسه بين فرون، وبدر يشير إلى قبوله بالحب غير التقليدي الذي يستنزف مركزيات القوى الثقافية، والتاريخية؛ فالسياق الاجتماعي للمحادثة يجيب جزئيا عن السؤال الفلسفي المطروح، ويثبت غلبة الهارموني على الاختلاف في تسلسل المحادثة؛ وكانت الساردة قد أشارت إلى الاتصال الروحي بين بدر والاستدارات المتكررة التي تتسم بالأصالة في مسجد أحمد بن طولون.
وتشير المؤشرات السياقية – في بنية المحادثة – إلى عودة فرون إلى بدر في وضع يثبت قوته التاريخية، واستمرارية الحب غير التقليدي في آن؛ وتدور في قصر بدر، ولكنها تشير ضمنيا إلى مرجع مكاني محتمل أوسع يلائم الحب غير التقليدي الأول؛ فالمرجع المكاني هنا / قصر بدر الجديد يقع ضمن التعارضات التاريخية، بينما يوحي الموقف الاجتماعي بين بدر وفرون بالزيادة المكانية الاستعارية، والتوسع المكاني المحتمل في الحلم، أو حلم اليقظة؛ ومن ثم تؤكد المؤشرات السياقية الزمكانية تناظر تحولات القوة، ودائرية الحب؛ وتتواتر المراجع اللسانية السياقية الدالة على ذلك التناظر؛ مثل كلمة المجاهدة التي تثبت مواءمة فرون بين دوري الصوفي، والقائد، وإن كانت المجاهدة أقرب إلى حالة التصوف؛ وكذلك ضمير المخاطب الذي استخدمه بدر؛ ليشير إلى فرون؛ فهو ضمير مخاطب معقد يمزج بين تمثيلات بصرية عديدة للآخر في المشهد؛ فهو يشير إلى روح فرون الأولى الأسبق من تجليها التاريخي، ومن ثم يكون اتصال المخاطب بالمتكلم هو اتصال بين تمثيلين ذهنيين استعاريين يناظران الضميرين الاجتماعيين في المشهد، ويفتتحان وجود مجموعة وفيرة من تمثيلات الوعي المبدع الاستعارية – البصرية للذات، والآخر؛ ومن ثم يتجاوزان بنية القصر المحلية، والاختلاف الظاهر بين مبدأي التحول، والحب غير التقليدي المتكرر.
وقد كانت فرون أكثر استطرادا فيما يختص بالذاكرة طويلة المدى، وإمكانية تجسد أطيافها التمثيلية في بنية الإدراك الحسي الآني عبر المؤشر السياقي الخاص بتشابهها الداخلي مع بدر؛ أما بدر فكان أكثر استطرادا فيما يخص دفاعه الظاهر عن دوره الاجتماعي كقائد؛ ومن ثم ففرون كانت الأكثر إيجازا من الجهة الكمية في بنية المحادثة؛ لأنها الأقرب إلى روح التصوف في المشهد.
وقد استخدمت فرون الحجة القياسية – في خطابها – حين أدركت التشابه بين الصوفي، والقائد في فعل المجاهدة الذي يوحي بمقاومة اللذة الجسدية، ومقاومة القوى المعارضة؛ وأرى أن خطابها يتضمن حجة استدلالية أخرى تثبت صحة فرضية صلة الحب غير التقليدي بوجود الروح، أو مكون الأصالة داخل الذات؛ ومن ثم تصير النتيجة هي إمكانية عبور التحولات الجسدية، والتاريخية؛ ويبدو أن خطاب بدر لم يقاوم هذه الحجة الاستدلالية؛ ولكن لأن تلك الذات التي تكتشف مكون الأصالة نفسها تتموضع في التاريخ؛ فقد جاءت حجة بدر الجمالي المغايرة؛ لتثبت صحة فرضية ضرورة وجود فاعلية ثقافية – تاريخية تفرضها علاقات القوى المعقدة؛ الدينامية المتحولة في السياق الاجتماعي؛ ومن ثم تصير النتيجة هي غلبة دور القائد على دور الدرويش الذي يظل باطنيا، ويمكن فهمه من خلال الضمائر والمراجع الشخصية والمكانية الخفية في وحدة الخطاب.
وتنتخب فرون – وفق مبدأ الصلة الإدراكي – عنصر الأصالة المتضمن في المؤشر السياق الخاص باجتماعها الاستثنائي المتجاوز للتعارضات الفكرية، والثقافية مع بدر؛ وتتوسع في بناء الاستدلالات المقاومة لصيرورة التعارض، والصخب في المشهد الاجتماعي والتاريخي؛ بينما ينتخب وعي بدر المؤشرات السياقية الآنية والفاعلة في مشهد التحولات التاريخية، وينتخب كذلك التمثيل البصري الأول الفائق من فرون؛ ومن يتوسع في الاستدلالات التي تحفز فاعليته كقائد، والتي تبقي على حب فرون ضمن صيرورته التاريخية الاستثنائية.
وقد جاء أسلوب فرون قريبا من الحكي، والكثافة الشعرية التي توحي بالفكرة؛ لهذا كان أقرب إلى الغموض الذي تستدعيه ازدواجية السياق بين الصخب، واستمرارية الحب، وميلها إلى التصوف؛ أما خطاب بدر فكان أقرب إلى التمثيلات الفكرية المتكررة حول صيرورته التاريخية، وإلى التساؤل عن العلاقة بين الداخل، والخارج؛ لذا فقد التبس أيضا بالغموض، وترقب الإجابة في مدى توافق فرون مع دوره الآني المزدوج، ومع حتمية الصراعات الآنية في المشهد.
وإذا أعدنا قراءة المحادثة وفق نظرية مساحة العمل العصبية العالمية؛ سنعاين انتخاب بدر للبيانات البصرية القديمة المتجددة من ذاته، ومن ذات فرون في الفضاء / القصر، وتتواتر أيضا البيانات السمعية، والبصرية الخاصة بمعاركه، وتطورها الآني في المشهد؛ لذا سيقوى لديه الإدراك الحسي الدينامي، وستحتفظ ذاكرته العاملة بالبيانات المؤقتة بدرجة كبيرة ودينامية؛ وكذلك سوف تنشط الاستجابات الآنية، والمناسبة لقرارات المعركة في المستقبل؛ وسوف ينتج استجابة مستقبلية يحافظ فيها على حبه غير التقليدي لفرون ضمن تحولات السياق، ويبقي فيها على جانبة الروحي الذي يستلزمه ذلك الحب، وذكرى اتصاله الداخلي بالدرويش، واستدارات عمارة مسجد بن طولون؛ وسوف تعلو قيمة الازدواجية بين ترقب علاقات القوة والفاعلية التاريخية، والإبقاء على الجانب الروحي بصورة قيمية متكافئة؛ لذا سوف تتجمع المعالجات التفسيرية الواعية في المنطقة العالمية وفق تعددية تفسير المشهد التاريخي، والكوني الأوسع؛ وإثبات النشاط والفاعلية في اتجاهي تحوير علاقات القوة، والبحث المتجدد عن أصالة الحضور الذاتي؛ لذا فقد أشار لفرون أن يكون اسم ابنه جعفر مثل الدرويش الذي أعجبه في رحلة استكشاف الفسطاط، ومن ثم يستدعي البيان البصري التمثيلي للدرويش ضمن مثيرات الانتباه والإدراك الحسي الآني؛ ليثبت – في تضمينات الخطاب – فاعلية خطابه الاحتمالي الباطني الكثيف؛ ولأن فرون تعلقت بدرجة أكبر بإمكانية تكرار الماضي، وحالات التشابه الروحي؛ فقد نشطت لديها الذاكرة طويلة المدى بدرجة أكبر، وازدادت لديها المنبهات البصرية الخاصة بالماضي، أو التوسع المكاني بدرجة أكبر من نشاط المدركات الحسية الراهنة، وقد فضلت – في خطابها – الحب غير التقليدي ضمن سياق اجتماعي بسيط، أو في سياق تخل ممكن عن الصراع؛ لذا جاءت استجاباتها المتوقعة – في المستقبل – أقرب إلى استمرار الازدواجية بين تعايشها مع معارك بدر، ورفض المشاهد الصاخبة في ذلك السياق؛ ومن ثم فالمعالجة الواعية لديها قد أحدثت مقاربة تفسيرية مزدوجة أيضا ولكنها أقرب للولوج إلى الداخل، والحلم، والذاكرة، والفضاء الكوني الأوسع؛ وسنعاين غلبة نشاط المدركات الحسية الآنية على وعي بدر حين قام بالتحقيق الآني السريع في مقتل فرون بسكين مسموم بيد عزيزة زوجة أحد أبنائه؛ فظل يسأل عن طبيعة الأداة والملابسات الآنية السريعة، والتفاصيل البصرية والسمعية في المشهد؛ وهو ما يدل على دينامية وعيه في مواكبة السياق من جهة، ومدى الفاعلية الداخلية لفرة وحدة الدرويش، أو إدراكه لأصالة وجوده أو وجود فرون في نسق تفضيلات القيم في الوعي من جهة أخرى.
أما المحادثة الثالثة الموحية في رواية د. ريم بسيوني فهي بين الدرويش، وبدر الجمالي؛ وتزداد فيها نسبة أفعال الكلام التوجيهية الأسئلة، والأوامر المتعلقة بكينونة الدرويش المجهولة الغامضة، وسعي بدر لاستكشاف مدينة الفسطاط روحيا، واجتماعيا؛ كما تزداد نسبة أفعال الكلام التمثيلية الاحتمالية التي تضمر أفعالا كلامية توجيهية أو أسئلة فلسفية أخرى يفترضها السياق؛ ونلاحظ أن شخصية الدرويش تأتي كتمثيل استعاري لبعد روحي يفترضه السرد في تكوين بدر الجمالي، كما يأتي الدرويش مثل مفتتح لقراءة العمارة قراءة داخلية صوفية في وعي بدر الجمالي ابتداء من المعالجة البدئية الإدراكية غير الواعية لأثر مسجد أحمد بن طولون حتى إنتاج معالجة واعية عميقة تختص بإعادة قراءة الذات ضمن سياق ثقافي، وكوني واسع؛ لذا فقد جمعت المحادثة بين الهارموني في مستوى الغموض السياقي الداخلي – الخارجي في المشهد؛ فالدرويش يرد بدر الجمالي إلى لحظة إدراك الإنسان لوجوده الأول في العالم وفي الفضاءات المكانية الواسعة، وليس إلى الهوية التاريخية، وتعارضات القوة، وقد توافق بدر مع تفسير الذات وفق تلك اللحظة؛ ومن ثم تجسد هارموني المحادثة في توافقية بدر والدرويش في كل من جانبي الروح، والمسار الوجودي الذاتي المحتمل؛ ولكن بقاء بعض الأسئلة بدون إجابة، يؤكد وجود الاختلاف بين موقفهما إزاء الدور التاريخي، والفاعلية التاريخية الثقافية في سياق موقف التواصل الاجتماعي.
يسأل بدر الدرويش:
"-هل هذا بيتك؟
-ربما
-بيتك أم لا؟
-لا تسألني أسئلة بلا إجابة. من أنت؟
-عابر سبيل، ربما
-لا تسألني أنت أيضا أسئلة بلا إجابة يا شيخ، أعطني يدك، أريد أن أساعدك ... أريد أن أصاحبك بعض الوقت.
-خلف الأسوار أم أمامها؟". (7)
وتستبطن الساردة مشاعر الوزير بدر الجمالي حين صاحب الدرويش، وعاين عمارة مسجد أحمد بن طولون الروحية؛ تقول:
"سار إلى الصحن المكشوف كأنه مسير، وليس مخيرا. كم بابا لهذا المسجد؟ كأنه لا ينتهي، بني ليبقى، وشيد ليذكر القادم بأن السعة أمل، وأن الضوء هو الحياة، وأن البدر في السماء لابد أن يهيم حرا بين الكواكب حتى يصل إلى الغاية. نظر إلى المعابر الخشبية في الأبواب بزخارفها المورقة؛ أين سيعبر السائل، والطالب من هذا الباب، وأين سترقد روحه؟". (8)
إن التعاقب الزمني – في السرد – يؤكد الصلة الإدراكية بين وجود الدرويش بملابسه القديمة، وجروحه، ومنزله المتهدم، وعلاقته الإيجابية بالمرجع المكان الكوني الأوسع، واكتشاف بدر لروحه من خلال مكون الأصالة في استدارات وأبواب مسجد أجمد بن طولون؛ ومن ثم يتصل المرجع الشخصي الغامض، والمناظر لتمثيل ذهني داخلي من شخصية بدر، يتوافق – في وحدة الخطاب – مع المرجع المكاني، وتمثيلاته الذهنية التي ترتكز – وفق مبدأ الصلة الإدراكي – على مؤشرات الدائرية، والتكرار، واللانهائية، وتعبير الروح في نوع من التأشير اللاحقي / الكتافورا بين المراجع؛ إذ لا يمكننا فهم غموض الدرويش، واتصاله المفتوح بالمكان الكوني إلا من خلال عوامل الاستدارة والتكرار في عمارة المسجد، ولفظ الروح الذي ورد في الخطاب كبديل عن الجسد، أو الكينونة؛ ومن ثم لا يمكن فهم طبيعة الدرويش إلا من خلال لحظة تحول بدر؛ والتي قد تكون شبيهة بلحظة تحول أسبق عاينها الدرويش قبل لقائه ببدر بفترة زمنية طويلة؛ وبخاصة حين ندرك ميل خطاب ساردة د. ريم بسيوني إلى تكرار نماذج الدرويش، والحلواني، والساحرة الحكيمة بحنس في أشباه متواترة في السياقات الزمكانية المتباينة.
وقد كان خطاب بدر أكثر استطرادا فيما يخص السؤال عن هوية الدرويش، وإنتاج الأفعال الكلامية التوجيهية الملائمة لغموض الوضع، ولطبيعة لحظة إدراك الذات لوجودها في مرجع مكاني مهجور، أو كوني واسع؛ أما خطاب الدرويش فقد ازداد من الجهة الكمية في حديثه عن الفسطاط، وأحوال البسطاء، وإنتاج أفعال كلامية تمثيلية استعارية أو محتملة وتفترض أسئلة مضمرة؛ ومن ثم توافق كل منهما في فكرة الاستقصاء المعرفي الروحي الداخلي؛ وطور كل منهما رحلته الروحية وفق التلازم بين الغموض الإبداعي، وإدراك لحظة الحضور الدائري بصورة سردية متكررة.
ويؤسس خطاب الدرويش حجة استدلالية تقوم على صحة فرضية إمكانية تجدد اللحظة الوجودية المتعلقة بإدراك الإنسان لوجوده النسبي في المكان؛ ومن ثم تصير النتيجة هي تجدد البحث عن الذات، والحضور الدائري في العالم بين الذات، والآخر؛ ومن ثم يصير الدرويش شخصية متكررة أو نموذجا قد يتولد في الآخر وفق التوسع الاستدلالي، ومؤشرات السياق؛ أما حجة بدر فتقوم على صحة فرضية الاتصال الداخلي بجماليات العمارة، والتي قد تكون عابرة للاختلافات المذهبية والثقافية؛ ومن ثم تصير النتيجة هي التوسع المكاني الدينامي من الخارج إلى الداخل، والعكس وفق مؤشر الأصالة.
وينتخب وعي بدر المؤشر السياقي الخاص بجسد الدرويش، والمكان المتهدم؛ ليتوسع – وفق مبدأ الصلة – في بناء الاستنتاجات حول العلاقة المعقدة بين نموذج الأصالة الداخلية، والجسد بوصفه فضاء تجريبيا للتحولات التاريخية.
وقد تجلى غموض أسلوب بدر في تكرار السؤال عن الهوية، وفي الاقتصاد اللساني المماثل لاقتصاد الدرويش، أما خطاب الدرويش فقد كان محملا بالاقتصاد، والاستعارات الإدراكية حول التشابه بين وضعه الوجودي، وتمثيلاته الاستعارية الأخرى ضمن فضاء افتراضي ممكن تتحقق الأصالة الدائرية خارج فضاء التحولات، وربما تتداخل مثل هذه التمثيلات الاستعارية مع فضاء مسجد بدر، واتصاله بدلالتي التخلي والاتساع المكاني في الخطاب.
وإذا قرأنا تسلسل المحادثة وفق نظرية المساحة العصبية العالمية للوصول الواعي؛ سنعاين التفاعل بين المعلومات البصرية المتعلقة بالتعارض بين مظهر الدرويش، واستقراره الداخلي، واتصالها بالتمثيلات الذهنية البصرية التي ينتجها الوعي حول نموذج الدرويش المتكرر في النصوص، والحكايات، والسياقات التاريخية؛ ومن ثم سيتجلى هذا التمثيل الذهني البصري الداخلي وفق مبدأ المزج الإدراكي بين تمثيلات خيالية، وتاريخية متنوعة؛ وستصبح قيمة الأصالة الذاتية موازية لفضاء التحولات التاريخية الواقعي؛ ولأن وعي بدر ينشط فيه الإدراك الحسي الدينامي لبنية الحضور، نجده يصل استكشافه للفسطاط باكتشافه لذاته وعبر رحلته الخارجية / الداخلية مع الدرويش؛ ومن ثم تنشط المعلومات التي تحتفظ بها الذاكرة العاملة حول علاقة الدرويش بالوضع الاجتماعي الراهن، والمعلومات التي توفرها الذاكرة طويلة المدى عن آليات الاستقرار الاجتماعي، وتنوع نموذج الدرويش، وتكراره عبر الحكايات والسياقات التاريخية؛ ومن ثم ينتج الوعي استجابة مصاحبة الدرويش في المستقبل باتجاه الفسطاط، ومسجد بن طولون فيما يشبه الرحلة الاجتماعية / الروحية؛ ومن ثم تتقارب المعالجات الواعية في المساحة العالمية باتجاه التأويل الذي يعزز من تكامل الاستقصاء الاجتماعي، والبحث الداخلي عن الأصالة في إحداث استقرار نسبي في الواقع، وفي سياق موقف التواصل.
وتدور المحادثة الرابعة التي نختارها للتحليل من رواية الحلواني ل د. ريم بسيوني بين رشيدة وإبراهيم في سياق تحول مصر من الدولة الفاطمية إلى الدولة الأيوبية، وتوحي باستمرار مهنة الحلواني، وتجدد الحديث عن الروح، والحب غير التقليدي، والتجريب في المراجع الشخصية، والمكانية؛ فالذات تبحث دائما عن الأسرار الداخلية مع الآخر، ومسجد بدر الجمالي يتصل بتسلق الجبل؛ وكأنه معبر مكاني واسع، وعال نحو تطور الرحلة الروحية العابر للزمكانية.
تقول رشيدة:
"-أريد أن أخبرك بسر.
-لا تتكلمي
-لو أخبرتك به، هل ستخبرني أنت أيضا
-وبعد أن نتبادل الأسرار، ماذا سنفعل بقية العمر؟
-نصنع أسرارا جديدة لنتبادلها
-قالت في حسم: غدا أريد الذهاب معك إلى مسجد الجد.
-بدر الجمالي؟
-هو بعينه، نتسلق الجبل معا". (9)
لقد بدأت المحادثة باحتجاب العلم التام بالروح؛ ومن ثم توحي تضمينات الخطاب بمواصلة البحث الداخلي عن الأصالة، والحب غير التقليدى من خلال رحلة الصعود إلى مسجد بدر الجمالي؛ وهو صعود يشبه تجدد الرحلة الروحية الداخلية؛ ويتوافق مع المرجع اللساني لكلمة السر المتكررة في المحادثة؛ وتتجلى – في بنية المحادثة – درجة عالية من الهارموني أو التناغم؛ وذلك من خلال فعل الإكمال؛ فرشيدة تذكر الجد، وإبراهيم يجيب باسمه، ثم تمزج رشيدة بين الصعود، وفضاء المسجد؛ وهي تعزز من تجدد الأسرار في المستقبل؛ ومن ثم يعزز فعل الكلام الوعدي هارموني الخطاب؛ فثمة أسرار داخلية تتكشف في رحلة الروح في المستقبل، وارتقاء في المعرفة الروحية في المستقبل حين يتحقق حدث زيارة مسجد بدر الجمالي؛ ونلاحظ أن هارموني المحادثة قد تجلى أيضا في التكافؤ الكمي للجمل، والتجانس في الحجة الاستدلالية التي تقوم على اتصال الحب غير التقليدي بالعمارة والممارسات الثقافية البسيطة؛ ومن ثم تصبح النتيجة هي تجدد اكتشاف الذات من خلال عاملي الاحتجاب، والتكرار؛ فالصعود الروحي والمعرفي غير محدود، ويستلم عمارة السابقين في سياق ثقافي مغاير، ودينامي؛ لأنه لا ينفصل عن نغمة الأصالة المتضمنة في تراث الآخر الذي قد يكون مختلفا؛ هكذا تتجلى صورة مسجد بدر الجمالي كمؤشر سياقي ذي صلة؛ وتدفع كلا من رشيدة، وإبراهيم إلى التوسع في الاستدلالات حول الصعود الروحي، وتكرار حكايات الحب غير التقليدية؛ وقد تميز أسلوبهما بالاقتصاد الكمي النسبي، والإعلاء من الغموض المتعلق بالمراحل العليا من المعرفة، وبساطة تكرار حدث البحث عن الأصالة الذاتية عبر السياقات التاريخية المتباينة.
وسنعاين – طبقا لنظرية المساحة العصبية العالمية – أن محفزات الانتباه ترتكز على بعض المرجعيات اللسانية المتعلقة بالسر، أو الروح، أو الصعود، أو استدعاء التمثيل الذهني البصري الداخلي لارتفاع مسجد بدر الجمالي، وكذلك التمثيل الذهني لبدر الجمالي نفسه، ولكن ضمن جانب الزهد المتضمن في رحلته الداخلية، وعمارة المسجد؛ ويصل كل منهما الذاكرة طويلة المدى التي تعود إلى الأجداد ومهنة الحلوى بالبيانات الآنية في الذاكرة العاملة والتي تعزز من الحب الروحي، ورحلة الصعود المعرفي المشتركة؛ ومن ثم فالمدركات الحسية تتجدد ببطء حسب فعل تأمل العمارة، أو التأمل الذاتي الباطني، وتبدأ الاستجابة النشطة في التشكل في المستقبل القريب باتجاه التكرار المختلف لحدث الصعود بين الداخل والخارج؛ ومن ثم فالمعالجات الواعية تتقارب في المساحة العالمية من الوصول الواعي باتجاه التأويل الذي يجمع بين البساطة والتعقيد الداخلي في النظر إلى الذات والعالم.
*هوامش الدراسة /
(1) راجع، د. ريم بسيوني، الحلواني، ثلاثية الفاطميين، دار نهضة مصر بالقاهرة، وموقع أبجد، 2022 ص 12.
(2) راجع، د. ريم بسيوني، السابق، ص-ص 206، 207.
(3) راجع، السابق، ص 126.
(4) راجع، السابق، ص 128.
(5) Read, Stanislas Dehaene, Jean Pierre Changeux and Lionel Naccache, The Global Neuronal Workspace Model of Conscious Access, From Neuronal Architecture to Clinical Applications, in Research and Perspectives in Neurosciences · May 2011, from p. 57 to 61 at: https://www.researchgate.net/publication/226833169_The_Global_Neuronal_Workspace_Model_of_Conscious_Access_From_Neuronal_Architectures_to_Clinical_Applications
(6) راجع، د. ريم بسيوني، السابق، ص-ص 432، 433.
(7) راجع، السابق، ص-ص 397، 398.
(8) راجع، السابق، ص 401.
(9) راجع، السابق، ص-ص 958، 959.