(1)
رواية (جنّة الشهبندر([1])) هي الرواية الثامنة لهاشم غرايبة (مواليد حوّارة، إربد، 1953م)، بعد رواياته السابقة: بيت الأسرار/1982، رؤيا/1985، المقامة الرملية/1998، الشهبندر/2003، بترا ملحمة العرب الأنباط/2007، أوراق معبد الكتبا/2009، القط الذي علّمني الطيران/2011. وصدر له حديثا بعدها رواية (البحّار) عام 2018. وكما يوحي عنوان الرواية فهي على صلة برواية سابقة للمؤلف هي رواية (الشهبندر) التي قدّمت معاينة روائية لنشأة مدينة عمّان في ثلاثينات القرن العشرين من خلال شخصية تاجر عمّاني يدعى حسب الرواية (محمد علي الجمّال) ويحمل لقب (الشهبندر)، ولكنها لم تحصر اهتمامها في (الشهبندر) وحده، وإنما تعرّضت للسياق السياسي والاجتماعي والحضاري الذي أحاط به وأحاط بمدينته، وكان له دوره الفاعل في صناعة مصائر الشخصيات وتفسير مآلاتها. ولعل أبرز ما أكّدته الرواية أن هويّة عمّان تقوم في جوهرها على التنوّع السكاني والثقافي والحضاري، فهي مدينة نشأت من جهود جماعات متعددة جمعها المكان في هوية مشتركة عليا.
وعُنيت رواية الشهبندر برصد تحوّلات عمان من ثقافة القرية وحياتها الزراعية، إلى حياة المدينة الجديدة، وأبرزتْ دورَ التجارة في إحداث هذا التحول، وما اختيار الشهبندر التاجر شخصية مركزية إلا دليل على مركزية هذا العامل، دون إغفال العوامل الأخرى المؤثّرة. وقد بدأت الرواية في عمّان وانتهت فيها، واختتمها المؤلف بالحادث المدبّر الذي تعرّضت له سيارة الشهبندر، مومئا إلى حدّة التناحر والتنافس التجاري والاقتصادي الذي يبدو أنه تطوّر بشكل يفوق سرعة تطوّر القيم الحضارية والثقافية والأخلاقية الناظمة لعلاقات التجار وحدود أرباحهم وتكوّن ثرواتهم. وهكذا تنتهي الرواية بتدهور السيارة ومقتل الشهبندر، فجر 25/12/1938 وهو عائد من سهرة قضاها بصحبة صديقه إلياس أفندي في بيت جبل القلعة.
(2)
أما رواية (جنّة الشهبندر) فيمكن القول بأنها رواية استئنافية، تنهض على متابعة مصير الشهبندر بعد الموت، وتقدّم مقاربة سردية متخيّلة لرحلته في عالمه الأخْروي الجديد، مستفيدة -بطريقتها الخاصة- من فكرة الحياة بعد الموت، وهيمنتها على مجموعة من السرديات العربية والعالمية.
ولعلها تذكّر، أكثر ما تذكّر، برسالة الغفران للفيلسوف والأديب أبي العلاء المعري (ت449هـــ)، وإذا التمسنا بعض ما يجمع بين العملين فيمكن أن نفكّر في المشابه التالية:
- يعتمد كل منهما على فكرة الرحلة أو الانتقال من عالم الدنيا إلى العالم الآخر، فجغرافيا الآخرة هي البيئة المكانية المتخيلة لكل منهما، مع تطعيمها بأماكن أخرى مستعادة من ذاكرة الشخصيات. والانتقال إلى هذه البيئة يمنح السرد فرصة للتخييل العجائبي، لأن جغرافيا الجنة ومنطقها يسمحان بالخروج على العناصر والمحددات المنطقية للزمان والمكان الأرضيين.
- كل منهما يلتقي بشخصيات لها صلة بعالمه، وهذا اللقاء انتقائي يتصل بخيارات المؤلف أكثر من خيارات الشخصيات نفسها، يلتقي ابن القارح بشعراء وأدباء من أزمنة مختلفة، يتبادل معهم المطارحات النقدية والأدبية التي تعبر في أحيان كثيرة عن منظور أبي العلاء النقدي لتاريخ الأدب العربي، وموقفه منه، وكذلك تسمح جنة الشهبندر لشخصيات من أزمان وأماكن شتى أن تلتقي في جنة أو رواية واحدة اعتمادا على ما تسمح به فكرة الجنة من تخييل وتعجيب، وكسر للحدود الزمانية والمكانية المنطقية والتاريخية والواقعية.
- كلاهما يصفّي حسابات أرضية ووجودية أكثر مما يبدي رضاه أو بهجته بعالم الآخرة. في كلا الروايتين أو الرحلتين شكوك مضمرة وسخرية مكتومة، وفلسفة ومحاولة للتساؤل القلق الحر. كلا المؤلفين، المعري وغرايبة، متسائل شكاك، لا يقبل الأمور على علاتها ووفق مروياتها. بل يتساءل حولها، ويقلّبها على وجوهها.
ومع هذا فقد يتساءل القارئ عن سكوت (جنّة الشهبندر) عن أبي العلاء المعري، ولمَ مر فيها عرضاً، مقارنة مع ظهور شخصيات أخرى ظهرت ظهورا مركزيا؟ ولمَ لمْ يكن إحدى الشخصيات البارزة؛ كالشيخ محيي الدين، وابن رشد، وجابر بن حيان، ورابعة العدوية، والنّفري وغيرها؟ لسنا نشك في حق الروائي في الاختيار، ولكننا نتساءل عن دلالته وعلّته.
قد نلتمس الجواب في مسألة فنية بحتة تتمثل في الحضور الضمني الطاغي للمعري، الحضور العميق من خلال التناص السياقي، مما لا يحتاج مزيدا من الحضور النصّي، وإلا تعدّت نسبة الحضور ما يسمح به الإبداع السردي. وقد نلتمس لذلك سببا يعود إلى اختلاف طبيعة الرجلين، المعري إمام الزهد والعزلة والانصراف عن ملذّات الأرض، والشهبندر الذي لم يحرم نفسه ولم يزهد في شيء، فالمعري إذن لا يلتقي بالشخصية المركزية؛ لأنه من طينة أخرى غير طينتها، واللقاء السردي يقتضي ضربا من التقاطعات تسمح للشخصيات أن تمارس حضورها.
(3)
يمكن القول باختصار إن (جنّة الشهبندر) هي استعادة لعمّان التي أحبّها، وتعبّر اللغة عن هذا المعنى من خلال الصور المثالية الأمومية التي ترسمها للجنّة:
"وجدت الماء على جسدي لذيذاً دافئاً ناعماًـ فغطست، هدهدني السلسبيل، واستولت علي نشوة. كأني أسبح في سيل عمان. حضن الماء لذيذ كحضن أمي!". ص135.
فالصور الأمومية المتكررة تعيدنا إلى المنظور (الباشلاري-الظاهراتي)، وهو المنظور الذي ينطلق منه غرايبة في هذه الرواية، وفي الرواية الأولى (الشهبندر). فليس للجنّة صورة جديدة، وإنما هي في أفضل حالاتها تستثير صورا سابقة سكنت وجدان الشهبندر أو غيره من الشخصيات.
كأن الرواية كتبت للتعبير عن تعلق الآدميين بالأرض والأوطان، بالأمكنة والهويات التي ألفوها، ولا يقتصر التعلّق على الشهبندر وحده وإنما يكاد يشمل ذلك سائر الشخصيات. فلوليتا الجميلة تختار قصرها أو بيتها الأخروي على شاكلة: "قلعة جنوة التي قضيت طفولتي ألعب بين أطلالها". ص139.
وسمية أستاذة ما بعد الطبيعة، المقيمة في حارة العازبات الجميلات، تقول: "أحنّ إلى الأسرة والوظائف المدرسية، وتسميع الأناشيد للاولاد، والاستعانة بابن الجيران لحل معضلة الفيزياء لابنتي الصغيرة. وانتظار زوجي في المساء، وتأهب الصغار للقفز عليه وحمل الأكياس من يديه، وتسابق الأيدي في البحث عن الحاجيات اللذيذة التي أحضرها". ص142.
ثم تكشف أكثر عن سأمها من النعيم الفردوسي: "سئمت العسل والفاكهة..أشتهي لسعة البطاطا المشوية، وعبق الباذنجان المقلي....الجنة كلها يتملكها الحنين إلى الحياة الأرضية. انظري حولنا أليست الجنة كلها مكونة من عناصر ألفناها في حياتنا الأرضية؟ ص143.
هذه واحدة من الأفكار المحورية والناظمة لهذه الرواية، والمتحكّمة بنموّها ومصائر شخصياتها. إنها بهذا المعنى لا تستكشف عالما جديدا، وإنما تحاول أن تستعيد عالما فقدته، وهي ترى كل شيء بمنظوره ووفق معاييره. وتبعا لهذا فإن اللغة التي تحاول أن تصف الجنة هي لغة أرضية، بمفردات مألوفة سبق أن استعملتها الشخصيات واختبرت دلالتها ومحتواها.
ويمكننا القول إن (جنة الشهبندر) أقرب إلى اختبار سردي للأرض وفرصة لمعاينتها ومراجعة أحوالها، من موقع آخر بعيد عنها، تماما كما نبتعد عن اللوحة أو الصورة لنتمكن من رؤيتها بصورة أفضل. جنة الشهبندر ليست مصيرا أو مآلا نهائيا مطموحا إليه، بل هي مسافة أو بيئة تتهيأ الفرصة فيها لانعقاد الجدل بين تيارات وأفكار متعددة، تشغلها مشكلات الأرض أكثر مما يشغلها مصيرها أو استقرارها، إنها فكرة التحولات المصيرية، التي شغلت نعيم ابن الجنة ذاتها، حتى ابن الجنة لا يمْثُل للسكون والمصير النهائي غير المتبدل، فالسكون وعدم التغير هو الموت الفعلي أو الجوهري، أما التغيير والتحول فهو أساس الوجود وفق ما عبّرت عنه الرواية.
(4)
تتكون الرواية من 49 فصلا/ مشهدا يستقل كل منها بعنوان يميزه، والعناوين هي أسماء شخصيات مختارة من الرواية، وعادة ما يمثل هذا الاختيار صوت الشخصية التي تروي، سواء أروت عن نفسها أم عن غيرها، وقد تناوب حضور الشخصية الراوية ولم ترد فصولها متتابعة، على النحو الآتي:
- فصول (الشهبندر): ثلاثة عشر فصلا هي الفصول: 1، 3، 5، 19، 23، 25، 27، 33، 35، 41، 44، 47، 49.
- فصول (ندى-الصيدلانية ابنة الشهبندر): أربعة عشر فصلا هي الفصول: 6، 9، 11، 17، 21، 24، 28، 30، 32، 37، 39، 40، 43، 46.
- فصول (ابن عربي): عشرة فصول هي التي تحمل الأرقام التالية: 8، 10، 13، 15، 20، 22، 26، 29.
- فصول لوليتا (صديقة/عشيقة الشهبندر)، تسعة فصول هي: 2، 7، 12، 14، 16، 18، 34، 38، 45.
- فصول الترفة (أم الشهبندر)، ثلاثة فصول: 4، 42، 48.
وإلى جانب هذه الشخصيات الخمسة التي برزت بصورة متناوبة وتولت تقديم المادة المروية، هناك شخصيات هامة أخرى لم تظهر في العناوين، ولكنها ظهرت داخل الفصول، مرويا عنها، أو متحاورا معها، وهي أيضا من صنفين:
صنف سبق أن ظهر في رواية الشهبندر ومنها: ماهر بك الذي ظهر في (الشهبندر) بصفته رئيس بلدية عمان، أو عمدتها، وهو في الجنة في رتبة أدنى بكثير فهو سائق سيارة الشهبندر. ومنها شخصية عبد الله النوري، الغجري، متعدد الأعمال، والمهمات، ومن آخرها تنفيذه لمؤامرة تدبير الحادث الذي تسبب في مقتل الشهبندر. وكذلك شخصية إلياس أفندي صديق الشهبندر الذي استأجر بيت القلعة، وظل الشهبندر يتردد على الاثنين الرجل والبيت حتى مقتله. أما شخصية محيي الدين ابن عربي فقد وردت في (الشهبندر) مرويا عنها، من خلال تعلق الشهبندر في بعض شطحاته بالشيخ محيي الدين وتعلقه ببعض أشعاره وأخباره، ولعل هذا الحضور هو ما هيأ لها شيئا من البروز والتميز في رواية (جنة الشهبندر).
أما الشخصيات الجديدة التي لم يسبق لها الظهور من قبل: فأبرزها: ابن رشد، وجابر بن حيان، ورابعة العدوية، والنفّري. وهناك شخصية (عرار-مصطفى وهبي التل) الذي اتسع حضوره في (جنّة الشهبندر) وليس من شخصيات الرواية الأولى. وهي شخصيات تاريخية لها وجود سابق في الكتب والتراجم، ولكن الرواية استحضرتها بطريقتها الخاصة، إلى جانب شخصيات جديدة مخترعة مثل: سمية، ونعيم، وحياة.
انتقل الشهبندر بموته أو مقتله إلى العالم الآخر، ولذلك فإن الفصل الأول التمهيدي يتكون في معظمه من فقرات متطابقة مع فقرات نهاية رواية الشهبندر، ومع فقرات قليلة من بدايتها، مما يربط بين الروايتين ربطا نصيا محكما، يتمظهر لغويا من خلال تكرار عدد كبير من الشخصيات ومن خلال تكرار هذه الفقرات التي تعيدنا تلقائيا إلى ما انتهت إليه الرواية السابقة، فجنة الشهبندر بهذا المعنى رواية استئنافية تبني على ما سبق تأسيسه في أختها الأولى.
وفي الرواية بالنظر إلى العالم المركّب الذي تعالجه والذي اتسعت له مكونات متنوعة يمكن إجمال أهمها في ثلاثة مكوّنات:
- مكون واقعي، اجتماعي، يتصل بحياة الشهبندر، والشخصيات "الواقعية" التي تنتمي إلى مدينة عمان.
- مكون فلسفي-علمي (عقلي): يظهر من خلال ما سمته الرواية بأهل البرهان، ويمثلهم ابن رشد، وجابر ابن حيان، وندى، وسمية، ونعيم.
- مكون صوفي (وجداني/قلبي/إشراقي): يظهر من خلال حضور الشيخ محيي الدين ابن عربي، ورابعة العدوية، والنفّري، وحياة ابنة الشيخ أبي شجاع..
وما من شك في أن الرواية تسمح -بطبيعتها السردية- بتداخل هذه المكونات، وتضفر بينها، في تآلف وتعارض حتى تبلغ مآلها التعبيري. ولذلك فإن أهمية الرواية تتأتى من قدرتها على هذا الدمج حتى على سبيل التعارض والتنافر، ونحسب أن اللغة الروائية تكتسب في هذا الضرب من الروايات أهمية مضاعفة، فمع أننا نعرف أنها لغة الروائي، وأنه المسؤول عن إنتاجها، فإن العالم المتنوع للرواية يقتضي أن يتنبه الروائي لتمثيل هذا التنوع، وفقا للغة الشخصيات، وبهذا المعنى تتأسس (جنة الشهبندر) بصفتها رواية حواريّة، بالمفهوم الباختيني، وتقدم نموذجا حيويا على مختلف الظواهر اللغوية والأسلوبية المقترنة بحوارية الرواية وتعدد أصواتها ونبراتها.
(5)
تقترب لغة المكوّن الواقعي من لغة الحياة اليومية، فتحضر فيها على المستوى التركيبي الجمل القصيرة، ذات المنزع الشفوي :
"عقدت الدهشة لساني: ماهر بك الشركسي-ما غيره-هنا!
انحنى بأدب جم: عمدة عمان في خدمتك.
ووضع أمامي (مهيدة) خبز، وفروجا متبّلا بالقرنفل والقرفة". ص20.
وإذا كانت الفقرة السابقة قد اختارت اللغة الفصيحة المبسّطة، التي توحي بالعامية ولكنها لا تستعملها مباشرة، كأنها تفصّح العامي، أو تختار جملا وتراكيب تتوسط بين العامية والفصحى، فإن فقرات وصفحات أخرى لا تلتزم بهذا المعيار، بل تنتقل إلى تراكيب العامية وجملها، ويصبح المكوّن اللهجي ضربا من التنويع اللغوي الذي يدل على طبيعة كلام الشخصية الواقعية.
كما تحضر فيها من الناحية المعجمية مفردات عامية وأجنبية، وقد تكثر فيها ألفاظ الحياة اليومية والحضارية، مما يكثر الناس من ترداده أو استعماله في حياتهم اليومية، وواقعهم المعيش، الاستعمال والشيوع هنا يتغلبان على قاعدة الصحّة والنّقاء اللغوي، فالمؤلف لا ينتقي مفرداته من "المعجم" الرسمي، وإنما من معجم الحياة اليومية الواقعية، ولا بد أن نتّسم بكثير من التسامح اللغوي للقبول ببعض مآلات هذا الخيار، سواء من ناحية توسيع مساحات اللهجة العامية في فقرات قد تطول بعض الشيء، أو في استعمال الألفاظ الأجنبية بحروف عربية في غالب الأحيان، أو بحروفها الأجنبية في أحيان قليلة.
ولعل أبرز شخصية وردت العامية في تقديمها هي شخصية أم الشهبندر (الترفة)، ولنا أن نتذكر صورتها: عجوز ماتت عن أزيد من ثمانين سنة، عاشت أمية لا تعرف القراءة والكتابة، ولذلك كان في مقدمة مطالبها في عالم الآخرة أن تتعلم ما فاتها. وقدّمتها الرواية راوية في ثلاثة مشاهد وبرزت في مشهد رابع مرويا عنها من منظور لوليتا.
المشهد الأول المروي من منظورها، جاء معظمه عامي الصياغة والأسلوب، مع فقرات فصيحة قليلة، كأنما وردت لتذكيرنا بالنسيج الأساسي في الرواية.
ييبدأ المشهد بصوتها هاتفا أو نادبا بضرب من أغاني الندب التي تنادي بها ابنها محمدا (الشهبندر):
(كيف مريت يا وحيدي لا شفتك ولا شفتني
لو طفيت شوقي بـ مرحبا يمه
أظل هون وأشوفك. أضمك وأروح النار. وينك يا محمد؟) ص22.
وحين تعيد الرواية هذا المسرود مجددا بشيء من الاختصار، مرويا أو منظورا إليه من موقع لوليتا، تعلق الأخيرة بالقول: "استقر قلقي لما سمعت لهجة أردنية أحبها، فتوجهت بحدسي نحو الصوت، وكان كل من في البرزخ يتوافدون إلى مصدر الصوت. كانت امرأة تفوح منها روائح القرفة والقرنفل تمسك بتلابيب رجل نحيل عريض الشفتين، وسمعنا صوته يلثغ بحرف الراء:
الرحمة واسعة وباب الجنة قريب يا حجة.
ولولوت الحجة هاتفة: ما بدي جنات في عليين، ولا جنات ألفافا، بدي أرجع لعمان". ص61.
لاحظ أن العامية اقترنت بشخصية المرأة العجوز، الترفة أم الشهبندر، بينما الشخصيات الأخرى تميل إلى العربية المعاصرة البسيطة، مع تطعيمها بألوان من النبرات والمفردات التي توحي بعقود سابقة هي مرحلة تلك الشخصيات. وفي مشهد آخر ظهرت الحاجة (ترفة) بلغة فصيحة، وترافق هذا مع مطلبها المبدئي في الجنة أن تتعلم القراءة والكتابة، فاشترت من رصيد حسناتها مهارات القراءة والكتابة، ولم تفوّت الرواية فرصة المقارنة بين مستويين مختلفين للغة، المستوى الشفاهي والمستوى الكتابي، من منظور ترفة التي غادرت شفاهيتها الأصلية، وتنعمت بمهارات الكتابية:
"أول ما اشتريته من رصيد حسناتي من سوق عمان هو اكتساب مهارات القراءة والكتابة. هذا ما تمنيته طيلة حياتي، طلبت لوح كتابة وطبشور، فأضاءت أمامي لوحة مضيئة رحت أنقر مفاتيحها السحرية بأصابعي، فتستقر الحروف وتتشكل الكلمات، وتركض سطورا منضّدة أفرح بها.
الكتابة تهشّم الأصوات، أرى أطلال الأصوات، وأسمع بقايا الصور، وهي تعود للحياة سطورا من حروف وكلمات. الكتابة تسرق سر الأصوات والصور والروائح، تعيد بناء الأشياء، ترمم الذاكرة". ص162.
قد تكون هذه التأملات أعقد من إمكانات الشخصية (الحاجة ترفة)، وربما هي أقرب إلى تأملات المؤلف، وتذكر بتأملات سابقة للجاحظ (ت255هــ)، قديما، وأولتر أونج، حديثا، فيما يتصل بثنائية الشفاهية والكتابية، ودور كل منهما وموضعه في الظاهرة اللغوية والتعبيرية.
لقد استكملت الشخصية حضورها باللغة الفصيحة، وتعمقت شخصيتها وتعقدت بعض الشيء بعد مغادرة الشفاهية (الأمية) إلى الكتابية، وتبعا لهذا التحول فقد تغيرت اللغة التي جرت على لسانها وفي استذكاراتها، بحيث لم تعد تستعمل العامية، وإنما تترجم معانيها إلى اللغة الفصيحة.
وهناك وجه آخر من وجوه اللغة الواقعية يتجاوز البعد اللهجي إلى استعمال التراكيب والألفاظ المعربة والدخيلة والأجنبية:
وقد أدرجت الرواية في سجلّها النصي ألفاظاً أجنبية متنوعة، يمكن النظر إليها بوصفها ضربا من التنوع اللغوي، منها ألفاظ معربة قديمة، قبلتها العربية وانتهى بها الأمر إلى الاستعمال الاعتيادي دون اعتراض، مثل: حجر يشب، سنمار، صيدلية، الخيمياء، وصولا إلى الشهبندر، والخانكاه.
ومنها ألفاظ استعملتها اللغة الشفاهية والعامية، ولكنها لم تعرّب فظلت تحتفظ بنبرة أصلها الأجنبي ومنها: جنرال، الترين، غرامفون، أوركسترا، باليه، فلامنغو، أوبرا، كونشرتو، لاعبو الأكروبات، كولونيا، سيارة دملر، أوتومبيل، تكسي، فيلم، تويوتا، ساعة اللونجين، ماتور، الكترونية، النانو، سيرك، روبوت، الهالووين..وصولا إلى ألفاظ أكثر جدّة في عجمتها، ويرتبط دخولها بوسائل التقنية والاتصال في السنوات الأخيرة مثل: هاتف النوكيا، أي فون، الإنترنت، هكرز، سلفي، غوغل، يوتيوب، الواي فاي.
وأكثر تطرفا من ذلك أن ترد الألفاظ والعبارات بألفاظها وحروفها الأجنبية، وقد وردت في ثلاثة مواضع:
HASH TAG
EVENT
DELETE AND RESTART
(6)
اللغة الصوفية ذات خصوصية في نبرتها ووجدانيتها، وتراثها الأدبي الذي تركه المتصوفة الأوائل، وهي إجمالا لغة رمزية إشارية ذات طبيعة سيميائية خاصة، تلجأ إلى الشعر والنثر لجوءا جماليا يساعد الصوفي على المواربة وعلى التعبير الغامض عن تجربته التي تعد تجربة وجدان وقلب، وليست تجربة عقل ومادة.
وصفت حياة ابنة الشيخ الصوفي أبي شجاع أحد الشيوخ الأوائل لمحيي الدين في بداياته، حلقات الذكر واستدعى ذلك معجما صوفيا متوقعا، كما استدعى الأناشيد والأشعار الصوفية المغناة:
"صار الناس يجتمعون عندنا كل مساء، يسمعون الشيخ القادم من الشام، ويسألونه، وانتعشت الخانكاه، غصت باحتها بالمحبين والمعجبين والمريدين، وتمايلت الأجساد بعد كل عشاء طربا في حلقات الذكر:
ليلى يا ليلى ارحمي القتلى". ص33.
ويبدأ فصل من فصول ابن عربي بما يشبه الحوار الشعري الصوفي بينه وبين رابعة:
رددي أحرف الهوى فكلانا في سناها مكرم مفتون
تمايلت رابعة طربا وهي تجيب:
تصاعد أنفاسي إليك جواب وكل إشاراتي إليك خطاب (ص35)
وما من شك أن حضور مثل هذه الأشعار والنصوص الصوفية يمثل بذاته مستوى لغويا هاما، من خلال قطعه للسياق النثري الاعتيادي، وما يتبع ذلك من تنويع لغوي، يتمثل في الاختلاف بين النثر والشعر، وما بين اللغة العادية واللغة الأدبية الصوفية. وهو أحد التنويعات الهامة والحيوية في هذه الرواية.
وفي فصل آخر تجسد الرواية لقاء ابن عربي مع النفّري في مقهى الكوثر، وكل ما في الفصل من مكونات لغوية يمثل مقتطفات وتكوينات صوفية ذات نفس إشراقي غيبي:
"لما دخلت مقهى الكوثر، كان النفري يقضم حبة تفاح يانعة. رحب بي قائلا: توجد وسيلة واحدة لنيل نكهة الثمرة؛ أن تقطفها بيدك. قطفت تفاحة، وجلست إلى مائدته، وقلت: لقد اجترحت تعبيرات فذة يا النفري، وبشّرتنا بما وراء الحرف والمجاز. سكب لي كأسا من ماء الكوثر، وبتواضع صادق اقتبس من الفتوحات المكية:
رق الزجاج وراقت الخمر فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
اغتبط قلبي، فقلت غير مجامل ولا متملق: إنك طوعت نصوص المواقف والمخاطبات لغة إشارية راقية، ورفعت مخاطباتك إلى رمزية كثيفة، أربكت فقهاء السلطان، وحيرت الشعراء..
- أقمت طويلا في جنة الصمت، وكنت سعيدا...ثم جئت با ابن عربي بعدي بمائة عام ونيف، فأخرجتني من سم الخياط، وجعلت لي في فتوحاتك المكية اسما ونسبا، لولاك يا محيي الدين ما عرفني الناس..
- قلت ناظرا في عينيه الذابلتين: لقد اعتزلت الناس مكتفيا بلقب الدرويش الجوال، ولم تفاخر بصداقتك للشهيد أبي عبد الله الحلاج هربا من غواية الشهرة. لكن كلماتك تمردت على العزلة وألهمت أجيالا من المتصوفة وأنا منهم.
- تنهد قائلا: الحلاج! لم أوهب شجاعته! يا ما قلت له: اقعد في سم الخياط ولا تبرح، وإذا دخل الخيط في الإبرة لا تمسكه، وإذا خرج لا تمده. لكنه كان متشوّقا للصليب". ص59
هذا الحوار بل المشهد كله صوفي بامتياز، في معجمه وتراكيبه، ودلالاته، تتردد فيه أسماء المتصوفة وأسماء كتبهم والأحداث المثيرة التي تتصل ببعضهم. هنا ترسم الرواية دائرتها أو بيئتها الصوفية، وننتقل معها إلى لغة لا تنفصل عن بيئتها، ترق اللغة وترتفع إلى مستوى لغة الإشارات ولغة المواقف والمخاطبات.
في مثل هذه الفصول والمناطق الصوفية في الرواية تتراجع اللغة العادية واللغة المعاصرة لصالح لغة منتقاة أنيقة إشارية، تتقصد وضع المتلقي في المناخ الصوفي المجلل بالوجد، والإشارات الخفية.
(7)
أما لغة المكون العلمي والفلسفي-العقلي: لغة أهل البرهان، فتتمثل في مواقف جابر بن حيان وندى، وابن رشد وسمية، وفي هذا المستوى تبني الرواية تمثيلها السردي ولغتها العلمية من خلال التناص المباشر وغير المباشر، ومن خلال حضور تقنيات الحجاج واللغة العلمية التأملية التي تتعلق بالتفكير والتجربة المادية. ومن ناحية الصياغة تغدو الجمل مركّبة وطويلة نسبيا، فاللغة الحِجاجية لا تتوافق مع الجمل القصيرة، وإنما تحتاج جملا شرطية وجملا مركبة تسمح بعرض المقدمات والنتائج، وتسمح بالصياغة الاستدلالية العقلية.
"مسح جبينه بسبابته ورفع رأسه عن علبة بين يديه وقال:
حين يدرك الخيميائي مكونات كل موجود، ويحدد نسب طبائعه يصير بإمكانه إعادة تكوينه، وتغيير شكله، وتغيير بنية طبائعه، أو ليس هذا ما تقوم به الطبيعة؟
(دليلنا أنه يمكننا أن نعمل مثل ما يعملون المعدن من الحجارة، ونعمل مثل ما تعمله الطبائع فيه وفي النبات والحيوان، فقالوا: فالإنسان كيف يمكنكم عمل مثله؟
قلنا: إذا كان الجنس كله واحدا في الأصل واختلف في الصور، وكان الأصل هو الفاعل في الأجناس كلها، فما جوزتم من ذلك على واحد من الجنس جاز على الكل، فالعالم بكل موجوداته من طينة واحدة في الأصل، ولذلك لا يستحيل استخراج بعضه من بعض وتحويل بعضه إلى بعض)". ص66.
هذا المقتبس يمثل مستوى اللغة الفلسفية والعلمية، بما فيها من استدلال وحجاج، وبما فيها من دقة ووضوح، يختلف جذريا عما أشرنا إليه من عامية اللغة الواقعية وطبيعتها اليومية الاستعمالية، كما يختلف جذريا عن اللغة الصوفية، بنبرتها الأدبية الشعرية، وبميلها إلى الغموض والإشارة، بما يجعل منها لغة كنائية استعارية ذات منزع جمالي غير استعمالي أو يومي، ويمثل باختلافه ونبرته العلمية المادية تنويعا آخر هاما من نبرات هذه الرواية.
لقد اجتمعت المستويات الثلاثة، وتكاملت لتكوّن لغة هذه الرواية، ويتأسس من تباينها انتماء رواية (جنة الشهبندر) إلى صنف (الرواية الحوارية) متعددة الأصوات والنبرات، في مقابل نوع آخر هو الرواية الغنائية أحادية الصوت. وإلى جانب ما أشرنا إليه من التنوع بين اللغة الواقعية، واللغة الصوفية، واللغة الفلسفية-العلمية، فهناك جوانب أخرى من التنوع والتعدد منها: تمثيل لغة النساء أو النبرة الأنثوية:
فثمة في الرواية منطقة نسوية سميت بحارة العازبات الجميلات، وعرجت الرواية في جانب من التفاتاتها إلى هذا المناخ النسوي. نجد ما سمّته الرواية "منصة الحكي" التي تتيح لكل امرأة دورها. وإذا ما قدمت حكاية جميلة قايضتها بما ترغب فيه، وهنا يحضر مبدأ المقايضة السردية ذو الطبيعة الآسرة، القادم من مسرودات شهرزاد في ألف ليلة وليلة. مبدأ شهرزاد الذي أجّلت به الموت وكسِبت السرد والحياة. "قالت كبيرتنا سمية: للجمال وزنه. أبدعت يا حياة! ماذا تطلبين ثمنا لقصتك الرائعة؟ أخفضت حياة رأسها وقالت: اشتري بها نوما هنيئا للمخلّطات كلهن. ثم انتفضت واقفة في منتصف الجناح، وراحت تشخّص قصتها كأنها تعيشها الآن". ص49.
كما تتجلى أنثوية اللغة في موقف ندى من أبيها الذي تتهمه بموقفه الذكوري من البنات إلى درجة إهمال أو استعمال أسمائهن، مما يعني إلغاء هوياتهن، وتكاد تنكر معرفته في الجنة تبعا أو امتدادا لإهماله الذكوري للبنات، إلى درجة عدم التلفّظ بأسمائن.
وهناك علاقة اللغة بثقافة التسمية: فاختيار أسماء الشخصيات وألقابها أمر ذو دلالة على حيوية البعد اللغوي في الرواية، وهو أيضا وجه آخر من وجوه التعدد والتنوع اللغوي، يكشف فيما يكشف عن هويات الشخصيات اللغوية والثقافية والاجتماعية. وبذلك تتعمق العلاقة بين تسمية الشخصية أو لقبها ووظيفتها ودلالتها التي تطمح الرواية إلى تمثيلها وتقديمها: الشهبندر، عرار، إلياس أفندي، ماهر بك، ابن رشد، نعيم، عبد الله النوري...كل اسم من هذه الأسماء يحمل جانبا من هوية الشخصية، وله دلالة في إطار التنوع والتعدد.
وهناك تنويعات لغوية حيوية من خلال التناص وتوظيف الموروث: وينشأ عنه ضرب من التنويع الحيوي ، وأشكال شتى من استدخال نتف ونصوص تراثية من مصادر وموارد متعددة، وبهذا المعنى فإن الرواية في فهم غرايبة "ملتقى نصوص" وهو لا يرهب جمع النصوص وترصيع نصه بها، ولعل تجربته في "المقامة الرملية" علامة وتجربة فارقة في هذا الجانب. وبمقدور القارئ والدارس أن يتأمل هذه اللوحة السردية التي تضفر نصوصا متنوعة متباعدة فيفتش عن مصادرها مرة، ويتأمل كيفية انتظامها في سياقها الجديد، مثلما يفكر في وظيفتها ودلالتها، في تجربة غنية من تجارب القراءة والتلقي. فيرى أن الرواية ليست حكاية بسيطة تروى، ولا خبرا يتداول أو يستظرف، وإنما غدت كلا سرديا معقدا مركبا. رغم أنها ما زالت تعتمد على الأخبار والحكايات، وتتسع لضروب من المسرودات والمرويات المتنوعة.
وأخيرا، هذا بعض من كل، وقبس مما فاضت به رواية (جنّة الشهبندر) التي تستحق قراءات شتّى، تتأمل معالمها وتفاصيلها المركّبة الشيقة.
([1]) . هاشم غرايبة، جنّة الشهبندر، ط1، دار مدارك للنشر، دبي-الإمارات العربية المتّحدة، 2016م.