رغم العود على بدء، رغبة في ختام لهذا الكتاب، فإنني أحسب أنه كتاب مفتوح. ينطوي على أكثر من دعوة للاهتمام بجوانب مشروع، أو بالأحرى مشروعات، هذا الإنسان الذي يُعد عندي – وعند كثيرين آخرين – أحد أعظم من أنجبتهم مصر في العصر الحديث. كما أحسب أن زوجته حبيبته، وبما قامت به معه ومن أجله جديرة بأن تنال نصيبها من هذا الختام. لأننا نعرف أن آخر ما قاله طه حسين قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان موجها لها عندما قال لها: أعطني يدك وقبلها! في وداع يليق بقصة حب كبرى. وقد عرجنا في هذا الكتاب على تلك القصة الجميلة، وأوفيناها بعضا من حقهاـ بصورة يدرك معها القارئ أهمية دور هذه القصة في حياته. ودور زوجته حبيبته في مسيرته التي قطعها من أيام الدراسة الأولى في مونبلييه، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في رامتان. كانت فيها الزوجة والحبيبة والرفيقة الفكرية والثقافية، والحادية له على الاستمرار في دوره والحفاظ على استقلاله وكبريائه الإنساني والفكري والموقفي على السواء.
وقد أثارت تلك القصة اهتمام كل من اقتربوا من طه حسين وصادقوه، وكان منهم المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك (1910-1995). ويخبرنا مترجم كتابها المهم (معك) أن علاقة الحب الجميلة التي عاشها طه حسين، كانت تثير اهتمام بيرك على الدوام. «مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها. علاقة استمرت أكثر من خمسين عامًا نسجها حبٌّ عميق واحترامٌ لا يقلُّ عنه عمقًا. وكان أكثر ما يثير إعجابه فيها أنَّ هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حريَّةَ العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. ولم يكن ذلك أمرًا شديد الندرة، بل فريدًا في وقته وفي مجتمعه. فاقترح عليها في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به بعد وفاة طه حسين، أن تكتب تجربتها هذه لتُقدِّم طه حسين تحت أضواءٍ لم يسبق أن سُلِّطت عليه من قبل، ولا يسع أحدًا أن يقوم بذلك سواها.» (معك 7)
فقد كان جاك بيرك حينما اقترح عليها ذلك يقدم دروسه في «الكوليج دي فرانس» العريقة عن طه حسين، ويدرك أن ثمة جوانب في حياة هذا الرجل لاتزال غائبة عن دارسيه. ولهذا اقترح عليها ما اقترح، وبلور هذا الاقتراح في إطار أهمية تقديم طه حسين في العالم العربي، وفي مصر التي همشته كثيرا في سنوات حياته الأخيرة. بأن اقترح عليها أنها ما أن تنجز هذا الكتاب فإنه سيعهد لمترجم عربي أن يترجمه، على أن يراجع الترجمة مصري، وينشرها ناشر طه حسين كي تصبح مكملة لما كتب. ونعرف من تلك المقدمة، ومن كتاب ابنهما مؤنس طه حسين عن حياته، كيف أخذت سوزان هذا الاقتراح بجدية شديدة، وباعتباره أمرا أساسيا للكشف عن جوانب مهمة من حياة زوجها ومشروعه. وأن همها لم يكن أبداً، أن يصدر الكتاب بالفرنسية، بل أن يصدر بالعربية وعن ناشر طه حسين الرئيسي – دار المعارف بالقاهرة. وهو الأمر الذي حدث بالفعل، حينما نشرت طبعة (معك) الأولى عام 1977، وبعد أقل من أربع سنوات من رحيل طه حسين.
ساعتها اكتشف القراء الكثير مما غاب عنهم من حياة هذا الكاتب والمفكر الكبير. واكتشفوا أيضا مدى تفاني زوجته وحبيبته، ونكرانها الكريم لذاتها في هذا الكتاب البديع. ولم تصدر الطبعة الفرنسية من هذا الكتاب إلا عام 2011 وبعد رحيل سوزان في القاهرة في 26 يوليو 1989بأكثر من عشرين عاما.[i] لأن (معك) كتاب مكتوب بحساسية مرهفة وحب عميق. وقد لاحظ المعقب على الطبعة الفرنسية مدى جمال لغة الكتاب الفرنسية وشعريته المدهشة، وكيف أنه كشف بحق كم أننا بإزاء كاتبة موهوبة. كما لاحظ المعقب ما لاحظته من أنها لا تتكلم كثيرا عن نفسها وعن حياتها قبله، وإنما عن حياتها «معه» وكيف أنها تشبهه في الحدة والعناد والحنان والاستقامة. ومع أنها لا تتحدث عن نفسها إلا نادرا، فإنها قدمت لنا صورة تجعلها صنو طه حسين بحق في كل شيء. لأن الكتاب نسيج وحده، فمع أنها جعلت عنوانه الرئيسي من كلمتين حميمتين في اللغة الفرنسية (Avec toi) إلا أن طبعته الفرنسية تضيف لهذا العنوان الرئيسي أكثر من عنوان فرعي (من فرنسا إلى مصر: قصة حب خارقة: سوزان وطه حسين 1915-1973) وهو الأمر الذي يكشف عن حيرتها بين كل تلك العناوين. خاصة وأننا نعرف من ملاحظات المترجم وابنهما مؤنس طه حسين، أنها كانت تشطب وتغير وتضيف كثيرا في المخطوط الذي ضُرب على الآلة الكاتبة.
والواقع أن الحيرة بين تلك العناوين الفرعية الكثيرة التي يصلح كل منها أن يكون عنوانا للكتاب هي بنت طبيعة هذا الكتاب الجميل. لأنه ليس مجرد قصة حب بالمعنى المألوف لهذا الجنس الأدبي، وإن كتب لنا بحق قصة حب خارقة. كما أنه ليس رحلة من فرنسا إلى مصر، وإن انطوى على تفاصيل تلك الرحلة بحساسية، تجعلها خدين رحلة فرنسا وثقافتها إلى مصر، وحياتها معها وتفاعلها فيها، منذ استقبال أسرة طه حسين الريفية في صعيد مصر لها واحتضانها؛ وحتى استطاع طه حسين، واستطاعت مصر زمنه الصعب الجميل وقتها، أن تستقطبها كي تبقى فيها، وتدفن في ترابها معه، بعد ما يقرب من ستة عشر عاما من رحيله. وهو لذلك كتاب صعب على التجنيس، فهو ليس سيرة أو حتى سيرة ذاتية برغم التزامه في كثير من جوانبه بالوقائع والحقائق الشخصية منها والتاريخية، وبكل ما يعرف بالتعاقد السيرذاتي. كما أنه بالطبع ليس رواية برغم وجود شخصية محورية فيه وشخصيات كثيرة ثانوية. ولكنه كتاب فريد في بنيته، وفي موضوعه معا. ناهيك عن أنه كتاب مكتوب بتلك اللغة الشعرية الفرنسية الجميلة، كما قال كثير من أبناء هذه اللغة الذين تناولوه فيها. ولكن من أجل قارئ عربي لا يعرف تلك اللغة، ولكنه يعرف لغته التي أثراها طه حسين كثيرا، والتي حرصت كاتبته على أن يظهر بها أولا.
ويروي مؤنس طه حسين في (ذكرياتي) مولد هذا الكتاب. «في العمر الذي أبلُغه اليوم إذن؛ أي في التاسعة والسبعين عامًا، قررتْ أمي أن تكتب ذكرياتها؛ استجابةً منها إلى إلحاح أصدقائها والمعجبين بأبي. نَتَجَ عن ذلك مؤلَّف كبير يقارب الثلاثمائة صفحة، كتبتْه بالفرنسية بالطبع وعَنْوَنَتْه «معك». حتى ذلك الحين لم يكن ثمة ما هو خارق؛ فقد سبق لكثيرات من أرامل الرجال المشهورين أن فعلنَ مثلما فعلتْ سوزان. لكنَّ ما صار مثيرًا للاهتمام هو أن أمي، التي كما رأيناها لم تكن تمتلك قطُّ ناصية اللغة العربية،[ii] أرادت أن يُنشَر كِتَابها باللغة العربية وبها وحدها؛ لأنها – كما شرحتُ – لم تكتبه إلا من أجل قرَّاء وقارئات كتبِ زوجها في العالم العربي كله. فإليهم وإليهن إنما كانت تريد أن تتوجَّهَ وأن تكشف ربما عن جوانب جديدة ومجهولة من حياة هذا الرجل العظيم.»(معك 18)
وقد أمضت سنتين كاملتين في كتابة هذا الكتاب الذي استعادت فيه من الذاكرة، ومما عاشته في الواقع عقب رحيله، ومن حفنة من الرسائل القليلة التي تبادلاها معا، والتي احتفظت بها في لفافة صغيرة، استعادت من هذا كله قصة ذلك الحب الخارقة. وأهم من هذا كله جوانب أساسية من حياة هذا الرجل العظيم الذي أحبته وعشقت تجربة الحياة الصعبة معه. يقول لنا مؤنس طه حسين أيضا، أنه بعد صدور الكتاب في طبعته الأولى عن دار المعارف عام 1977، وكانت تخشى ألا تراه مطبوعا في حياتها أن الاستجابة الأولى له كانت رائعة: «لاقَى عنوان الكتاب نفسه الإعجاب. كل الذين وكل اللواتي في العالم العربي الواسع يحبون ويحببن الأدب، وبصورة أعم الثقافةَ، استقبلوا مذكرات أمي استقبالًا ممتازًا، ورأيت أمي تُعَبِّر عن رضاها للمرة الأولى في حياتها؛ إذ إنها في الحقيقة كانت كما رأينا صعبة، ونادرًا ما كانت ترضى عن الآخرين، بل وأشد ندرة أن ترضى عن نفسها. كانت ها هنا قد حققتْ إنجازًا حقيقيٍّا. كان الناس جميعًا يقولون ذلك لها ويهنئونها عليه. وعلى غرار أبي، لم يكن لديها أي غرور. كانت تتلقى التكريم والتهاني بابتسامة متواضعة، وذات مساء، أمكنَ لهذه المرأة التي كانت في بعض جوانب شخصيتها شرسة وتثير سخطي على نحوٍ خاصٍّ، أن تمسَّ أعماق القلب مني. إذ قالت لي: أنتَ تفهم يا صغيري! (كان لي من العمر عندئذٍ خمسة وخمسون عامًا!) لا بل كانت تناديني أحيانًا يا صبيِّيَ الصغير! أنت تفهم أنني كنت مدينة بهذا إلى أبيك! غشيت عيناها وأضافت: أنا مدينة له بأكثر من ذلك بكثير أيضًا.» (معك 19-20)
ويمكنني هنا أن أضيف إلى ما قالته، بأننا – قراء طه حسين ومدركي فضله – مدينون لك أيضا على هذا الكتاب الجميل، وعلى كل ما قمت به في حياة هذا الرجل العظيم. لأن كتابك هذا – كما كانت حياتك بجانبه – إضافة حقيقية للرجل ولمشروعه. إضافة مرهفة من امرأة مثقفة حققت عبر حياتها معه رغبتها في أن تكون أستاذة آداب من خلال التماهي الكامل معه. وها هي في أواخر العمر تكشف كم كانت موهوبة وقادرة على أن تحقق نفسها في ثقافتها، ولكنها آثرت أن تحققها (معه) ومن خلال هذا التماهي الكامل مع كل ما كان يقوم به. لأن مفتتح كتابها بمقتطفين: أحدهما من سفر إشعيا «وأسيِّرُ العميَ في طريق لم يعرفوها … في مسالك لم يدروها أمشيهم … أجعل الظلمة أمامهم نورًا.» وبالبيت الأول من قصيدة نزار قباني عنه «ألقِ نظارتَيك ما أنت أعمي» مقتطف من ثقافتها وآخر من ثقافة حبيبها يكشف من البداية عن أهمية هذا الجدل بين الثقافتين، ويطرح من البداية قضية العمى والتغلب عليه. حيث تطوعت من البداية – ومنذ لقائهما الأول كما ذكرت في فصل سابق – أن تكون عينيه اللتين يرى بهما العالم.
استمع إليها تصف بعض الأماكن التي تزورها بعد رحيله لاستعادة لحظاتهما معا فيها. «أرفع عيني وأنظر إلى الخط المنحدر ا لأصفر للمقطم؛ كنا نأتي إليه في بعض الأحيان صباحا، وكنا نتوقف عند حافة الجرف، لكننا لم نكن نترك السيارة التي كانت تحمينا من شمس حادة حتى في الشتاء. وكنت أفكر أن هذه السعادة، هذه السعادة الصغيرة التي مُنحت لنا ونحن ساكنين في سيارة "البويك" القديمة، كانت أيضا عذبة بلا حدود، كانت نعمة. ويبدو لي الآن أنني أرتكب عملا جائرا إذ أتبين أن السماء جميلة، وأن الصخرة جميلة، وأن أوراق الشجر جميلة. إذ أنني لا أملك الحق في ذلك ما دمت لا أستطيع أبدا أن أقول لك ذلك.» (معك ص 227) إننا هنا بإزاء موقف من توحد الجسدين معا، لذلك تستنكر أن ترى عينيها منظرا جميلا، لا تصفه له كي يستمتع هو به «معها». فما أكثر ما كان يقول لها أنني أرتد أعمى بدونك. وها هي لا تغفر لعينيها أن ترى شيئا لا تقدمانه له. حتى حينما تذهب في رحلتها الصيفية إلى أوروبا يعد رحيله، فإنها تكشف عن مدى لوعة الفقد في تلك الأماكن الجميلة، لأنها لا تصفها له، ولا تستمتع بها «معه»، وتفتقد حضوره الحيوي فيها. وهي من خلال هذا كله تكتب لنا – في مستوى من مستويات هذه الكتابة – كيف أن طه حسين كان إنسانا بالغ الرقي والحساسية في تعامله مع المرأة عموما، ومع زوجته بشكل خاص. وأنه مارس كعادته على أن يكون المثال، أفكاره في المساواة بين البشر في حياته الخاصة قبل أن يدعو إليها في حياته العامة.
يقول مؤنس طه حسين: «كانت على الدوام إلى جانبه، راعيةً، مخلصةً، محبةً. كانت قد وَاسَتْه وشجعتْه حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركتْه بكل تواضع نجاحاتِه وانتصاراتِه. كانت قد ساعدتْه على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقَّى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دومًا حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجتُه لما كان شيئًا.» (معك 18) وقد ظلت زوجته حفيّة به وبميراثه بعد الرحيل، برغم ما عاشته من ألم الفقد والوحشة بعده. فقد عاشت بقية حياتها راعية لميراثه الفكري. تحملت بجلد طقوس الوداع الأخيرة التي تصفها بحساسية تمس شغاف القلوب. وتشارك فيها وقد أُعد النعش، وأصبح زوجها حبيبها، ملك مصر وهو يرحل بعيدا عنها. وتقول: «وفي الخارج كُتِبَتْ على اللافتة التي مُدَّت فوق النعش هذه السطور التي كتبها توفيق الحكيم: لم يُرِدْ أن يترك روحه تغادر الحياة قبل أن يغادر اليأس روح وطنه. وقبل عشرين عامًا من ذلك كتبتَ لأمي: إننا نصنع على كل حال، فيما وراء مشاغلنا اليومية، أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن أن يقوِّضها.» (معك 107)
لاحظ كيف تربط بين كلمة توفيق الحكيم الدالّة، وبين ما سبق أن كتبته لأمها قبل عشرين عاما من رحيله، حينما كان وزيرا للمعارف – فيما يبدو – حيث حقق بالفعل الكثير مما لم يستطع أحد تقويضه. ومما احتاج – للأسف الشديد – من نظم الهوان والتفريط التي بدأت بعد رحيله إلى عقود لتقويضه، والعودة بمصر إلى تلك الأوضاع التعليمية والثقافية المزرية التي يعاني منها الجميع. لكن العزاء أنها رحلت قبل أن ترى شيئا من هذا التقويض البشع الذي هوى بنا إلى الحضيض. وقد احتفظت في ذاكرتها بذلك التقدير الجميل لزوجها والاعتزاز بما حققه، وهي «معه» وإلى جانبه. إذ تقول: «يمنعني الحياء من وصف ما كانت عليه احتفالات الذكرى التي تتابعت، منذ احتفال جمعية الشبان المسيحيين البسيط والمؤثر، حتى الأيام المذهلة من 26-28 فبراير 1975. وفي المقدِّمة من كل ما كان يُقال، كانت هناك كلمتان تتكرران بلا توقف: " شكرًا، شكرا يا طه حسين". كان ذكر هذا الاسم بلا كلل يبدو لي وكأنه خفقان قلبي المضطرب نفسه، ذلك القلب الذي كان يخفق بشدَّة، مستعدٍّا للتوقف». (معك 107)
ولأن هذه الإنسانة الجميلة تستجيب دوما لكل ما هو جميل، وتهتم – كما رأينا عبر كل ما سردناه في الفصول السابقة من تصرفاتها – بالمواقف الإنسانية القادرة على الارتقاء بالبشر والمشاعر، فإنها تسرد علينا بقدر كبير من التأثر ما قام به يوسف السباعي. ولأن جيلي كان كثيرا ما ينتقد يوسف السباعي باعتباره قوميسار الثقافية في زمن عبدالناصر من ناحية، ولما حظي به من مكانة وتأثير ثقافي كبير لا تتناسب مع قيمة إنجازه الأدبي من ناحية أخرى، فإنني أحب أن أضيف هنا من تجربتي معه، وهو أمر تكشف عنه شهادتها عنه، أنه كان إنسانا نبيلا. يعرف الأصول ويحترمها كما نقول في ريفنا المصري.[iii] وربما كان هذا سر نجاحه في التعامل مع كبار كتاب مصر من زمن ما قبل الثورة أثناء إدارته للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وقبل أن يتم مسخه في زمن السادات الكئيب إلى المجلس الأعلى للثقافة.
حيث تقول سوزان عن عودتها الأخيرة مع زوجها من آخر رحلة لهما معا إلى أوروبا في 29 سبتمبر 1973؛ وكأنما عاد ليشهد تخلي اليأس والعار عن روح أمته ثم يموت: تقول سوزان: «في كل مرَّة كنَّا نعود فيها من أوروبا كانت تنهال علينا الترحيبات بالعودة مصحوبةً غالبًا بالأزهار؛ كانت آخِر عودة لنا قبيل الحرب، ومع ذلك فقد كان هناك واحدٌ فكَّرَ أن يرسل لطه باقةً من الورد الأحمر، وأعني به يوسف السباعي الذي كان آنذاك وزيرًا للثقافة، وهو على كل حال لم يقصِّر مرَّة عن ذلك في كل مناسبة؛ كانت تلك الأزهار آخِرَ أزهار تلقَّاها طه، وقد أتَتْ من صديق مخلص على الدوام، عبَّرَ عن نفسه بشكل رائع "إذ افتتَحَ احتفالَ فبراير بادئًا بقوله: «أبي» خطابًا يتوجَّه به إلى طه، وقد تلفَّظَ هاتين الكلمتين بلهجة سأبقى أرتعش كلما ذكرتُها.» (معك 210)
وإذا كانت تذكر بتلك الحساسية آخر الأزهار التي تلقاها طه حسين قبل رحيله، ومناداة يوسف السباعي المؤثرة له بأبي – فقد كان طه حسين يعرفه كابن محمد السباعي – في احتفال فبراير؛ فإنها لا تني تذكر لحظات حياة طه الأخيرة. نوبة ضيق الصدر التي انتابته يوم السبت 27 أكتوبر في اليوم السابق لرحيله. وكيف وصلته في ذلك اليوم «برقية الأمم المتحدة التي تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويورك في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة. وكان الطبيب هو الذي قرأها له، مهنئا إياه بحرارة؛ غير أنه لم يُجب إلا بإشارة من يده كنت أعرفها جيدا، كأنها تقول: وأي أهمية لذلك!؟ وكانت تعبّر عن احتقاره الدائم، لا للثناء والتكريم، وإنما للأنوطة والنياشين.» (معك 28)
كما أنها تذكر لنا أيضا آخر جملة تفوه بها قبل أن يسلم الروح: «أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟! »(معك 29) ويا لها من جملة ملغزة! واستشرافية في آن! فقد فسرتها بتلك الشرور والإهانات التي لحقت به/ بهما في الأعوام الأخيرة.[iv] ولكني أقرأ فيها بعدا استشرافيا عميقا. فقد كان قائد سفينة التضحيات الكبرى التي قدمتها مصر في حرب أكتوبر في هذا الشهر المفصلي من تاريخها، أعمى بحق! قاد سفينتها إلى الكارثة التي مازلنا نعيش آثار عقابيلها المخزية حتى اليوم.
وحينما شرعت في كتابة كتابها الجميل ذاك، عادت في رحلة الصيف مرة أخرى إلى أوروبا، ولكن هذه المرة دونه. وكأنها تعود للوقوف على الأطلال كما كان يحدث في الشعر العربي القديم. لا لكي تتذكر الماضي البعيد بحب وتحنان، وإنما لكي تعيش نوعا عميقا من الوقوف على الأطلال بحق. «سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقَّفْنا. في غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظُ إلا ما هو ضروريٌّ من الكلمات. لكَمْ أتمنَّى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة! ولو أنني استطعتُ ذلك لجعلتُ من نفسي خيالًا لا يُرَى. وفي الصمت، أتَّجه نحوكَ بكل قواي. كل ما بقيَ منِّي يأتي إليك. وإنما لكَيْ آتي إليك أكتبُ وأتابعُ كتابةَ كلِّ ما يطوف بقلبي.» (معك 28) تعيده لها بقوة الكلمات، لا لتستأثر به، وإنما لتتألم أيضا من الماضي القريب الذي لم يتمكن فيه حبيبها أن يبقى طويلا في أوروبا أو في تلك الأماكن الجميلة التي أحبها. وتخاطبه بضمير المتكلم – وما أكثر ما تستخدم ضمير المتكلم في هذا النص الجميل – وكأنه لا يزال معها: «أردت هذه الرحلة لأمشي معك، ولأعيش معك؛ لأعيش معك مرة أخرى الأسابيع الأخيرة. قالت لي ماري: "ستواجهين محنة كبري" ربما. ولكن ما أهمية ذلك.!؟» (معك 25) وما أصدق ما توقعته صديقتها الحميمة ماري كحيل (1889-1979). لأن تلك الاستعادة ووقوفها الرهيف على أطلال رحلتهم الأخيرة كشفت لنا عن مدى عمق هذا الحب وأهميته لكليهما. ومدى فداحة فقدانها له، ولوعتها وحيرتها وحزنها بعده، بل حتى ضياعها بدونه.
فهي تخاطبه، تشعر بوجوده بالقرب منها على الدوام، ولا تستطيع القبض على هذا الوجود، وإن كانت تكتبه بنصاعة ووضوح. استمع لها تصف المكان الذي نزلا فيه معا آخر مرة، بالقرب من البحيرة وهي تحدثه بألم عن ضيق ذات اليد في تلك الرحلة الأخيرة، وعن وجعها الحقيقي لأنه لم يستطع أن يستمتع بكل ما كانت توفره له تلك الرحلات: «وكنتَ تأسف لأنَّ خريرَ مياهها لا يصلُ سمعكَ في هذا الفندق. وأفكر في هذا الظلم الذي حرمكَ من فندق السافوايSavoy ومن كول Colle لأن للمال قوّةً عاتية.» (معك 27) وكيف تعي الآن بأثر رجعي أنه كان يريد أن يتريث قليلا في تلك الأماكن الحبيبة لهما، ولا يستعجل العودة لمصر التي سيواجه فيها نهايته. تقول: «وصلت جنوا Gêne صباح أول أمس وحيدة وحدة مطلقة، كان الجو جميلًا. وكنتُ معكَ أنظرُ إلى هذا الجسر الرائع شديد الألفة، والذي سيكون مكانَ آخرِ وقفة لكَ على أرضِ أوروبا. ورحتَ تقولُ لي: "فيم رحيلنا!؟ ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلًا؟» (معك 26)
والواقع أنني مهما كتبت عن هذا الكتاب الجميل فلن أوفيه حقه، ومهما قلت في حق هذه الإنسانة الجميلة فلن يوفيها حقها أيضا، كإنسانة مثقفة بحق، أخلصت لزوجها وتفانت في أن تجعل حياته أكثر راحة واحتمالا؛ وأن تيسر له القيام بكل ما أراد من أفعال ومشروعات، كان يحرص على أن تعي أهميتها، وتستجيب لما تنطوي عليه من قيم إنسانية في المحل الأول. إنسانة مرهفة المشاعر استطاعت أن تفتح له من البداية أبواب الفن الواسعة من الموسيقى والمسرح وحتى الأوبرا. وأن تدير بعد ذلك عالمه الفني والأدبي الواسع بمهارة وحذق. لأن مراجعة قائمة الأعلام من مختلف الجنسيات الغربية التي ترد في كتاب (معك) من شعراء ومثقفين وفلاسفة وأساتذة جامعات، ورجال دين مرموقين يكشف عن أهمية هذه المرأة في إدارة تلك الشبكة الواسعة من الذين استقطبتهم شخصية طه حسين المغناطيسية الساحرة.
ويكشف لنا أيضا كيف كان موفقا حينما وقع في غرام امرأة بهذه الثقافة وتلك الحساسية للموسيقى والأوبرا وجمال الطبيعة، فلم تكن مجرد «صوت عذب» كما دعاها في البداية، وإنما النغمة الموسيقية الأولى التي فتحت له عوالم شاسعة كان شديد الحرص على أن يدق على أبوابها. كما يلاحظ أن هذه القائمة تغص بالموسيقيين وكبار العازفين الأوربيين في ذلك الوقت ممن اتصلت بهم الأسرة في مختلف مراحل حياتها. ولا غرو فقد كانت أهم هدية أهداها لها هي البيانو، اضطر وقتها كما نعرف، إلى شرائه بالتقسيط.
وقبل أن أختتم هذا الكتاب أحب التوقف عند بعض ما فعلته من أجله بعد رحيله. وكيف حرصت على أن تقيم في الدار، رغم أن ابنتها أخذتها عقب وفاته لتقيم معها في المعادي. إذ تخبرنا «كان لا بد من حضور مؤنس كي أعجِّلَ في إعادة النظر في إقامة جديدة أرغب فيها أكثرَ فأكثر، فثمَّة مشروع لجعل «رامتان» متحفًا، وقد قبلتُ بالمبدأ وسطَ بلبلة الأسابيع الأولى، وبعد الصدمة العنيفة إثرَ حادثِ سطوٍ مذهلٍ على الدار. لقد وجدتُ في هذا المشروع تقديرًا لطه، وكان هذا تقديرًا حقّا؛ فكثير من الناس يتمسَّكون بالمجيء إلى هذا البيت، وعندما أقُيمت احتفالات فبراير أرادَ كافةُ المشتركين الأجانب الحضورَ إليه لزيارته، وكنتُ في منتهى التأثُّر حينما قمتُ باصطحابهم عبر الغرف والحديقة، وكانوا هم أيضًا متأثِّرين مثلي». (معك 233) وحينما تعود لرامتان، وكانت رغبتها كما تقول أن تعيش وسط أطال وذكريات حياته معه، يطاردها شبح حادث السطو الشنيع على الدار، والذي سبق أن حدّثتنا عنه، وعن جزعها لفقدان الساعة اللونجين الذي ظلت في معصم طه حسين لخمسين عاما، وأقسم لها الضابط أن يعيدها لها وبرّ بقسمه.
وأظن أيضا أن لحادث السطو هذا، والذي لم تعد منه قلادة النيل إلا محطمة، بينما عادت ساعته اللونجين سليمة، له دلالاته الرمزية. فقد تم مع بدايات عصر الانفتاح الكئيب. لكن المهم أن تلك العودة تردها إليه وإلى ضمير المخاطب من جديد. «أدخلُ وألتقي بذكرى سنواتنا الأولى، كنتَ – مذ نجتاز بابَ المدخل إثر عودة من رحلة ما – تعانقني في البهو … تلك كانت قبلة العودة؛ كانت حارةً، ممتنَّةً، مرتعشة قليلًا لفكرة عودتنا سالمين.» (235) تلك هي الذكريات الحلوة التي تتشبث بها كي ترد عنها غوائل عصر الانفتاح، والتي نال البيت الجميل نصيبه منها. «فقد باتَتِ الحالةُ المحزنة التي آلَ إليها البيت لا تُطاق، وقد أصبح مغمورًا بالمياه مُهمَلًا، خاصَّةً وأنني أعلم أنه إذ سيتحوَّل إلى متحفٍ فإنه لن يشبه الحالة التي كان عليها، ولسوف تختفي الحياة الحقيقية التي دارت فيه بذهابٍ وإيابٍ الموظفين الذين لم يعرفوا عنها شيئًا. وفي الوقت نفسه سوف تسيطر على كل شيء إدارةٌ باردةُ الجمود. لا أريد ذلك؛ فذاتَ يومٍ سوف تسحب منه كل حياة، ونصف الموت هذا سيكون طبيعيٍّا، ولكنني ما دمتُ أستطيع أن أجعله يواصل حياته فسوف أفعل ذلك». (معك 234)
وبالرغم من أن الضمير في يواصل حياته التي تنهي بها هذه الفقرة قد يعود على البيت لغة، فإنني على يقين أنها تريده أن يعود على طه حسين الذي عاشت انسحاب الحياة من البيت عند تحويله إلى متحف من أجل تخليد دوره وذكراه. والواقع أن وصفها لتحول رامتان لمتحف وكيف أن عملية التحويل تلك نزعت منه نصف الحياة (معك ص234) هو ما شعرت به حينما زرت البيت مع نبيل فرج الذي كان يعمل فيه عقب تحويله إلى متحف. بل أذكر أنني شعرت بقدر من الغضب الكظيم لأن البيت فقد روحه ورونقه وحياته. خاصة بعدما شُيّد بناء في حديقته التي كانت على قدر كبير من السحر والجمال. ولا يسعني إلا أن أنهي هذا الكتاب برأي طه حسين في عمها: وهو ما قالته هي أيضا عن طه: «كان مثلنا ودليلنا ومحل إعجابنا. كان يجعل كل شيء جميلًا، وكان يجعل كل شيء نبيلًا؛ لقد كانت الحياة تغدو بصحبته فجأة حياةً أرفع! أَوَليس ذلك هو ما أستطيع أن أقوله بدوري عن طه؟!» (معك 33) وأقول أنا بدوري أن هذا هو ما عشته وشعرت به في تلك الساعات القليلة التي أتاح لي الحظ فيها أن أراه وأن أتأمله. صحيح أنني بدأت هذا الكتاب – وقد اقتربت من الثمانين – كما بدأت سوزان بريسو كتابها عنه في العمر نفسه. فشتان بين الكتابين. بين من عرف هذا الإنسان العظيم عن قرب، وشاركه حياته، وبين أحد أحفاده البعيدين والذي ربما لا يعرف كم أثر في حياتهم وغيرها، بل بدلها تبديلا. وإذا كانت سوزان قد أنهت كتابها في عامين، فإن هذا الكتاب استغرق مني ضعف المدة، وانتهى به الحال إلى أن أصبح كتابين! أرجو أن يجد القراء فيهما ما يُعرّفهما بتلك القامة السامقة من أبناء مصر، وبجزء كبير من تاريخ جميل يبدو الآن بعيدا ونائيا.
[i]. وهي الطبعة التي أغناها المعقبان: زينا ويجان وبرونو رونفار بالكثير من الهوامش والتعقيبات التي كشفت لنا الكثير عن خلفية سوزان وثقافتها، ومشروعها الأدبي الذي تخلت عنها لتضع كل طاقتها في الوقوف مع زوجها ومساعدته للقيام بدوره وتحقيق مشروعه.
[ii]. على العكس من ابنة طه حسين، أمينة، وابنه، مؤنس، اللذين كانا مزدوجي اللغة، وحرص أبوهما على أن يتعلما كليهما في مصر، وأن يتخرجا من جامعة القاهرة.
[iii]. أرجو أن تتاح لي فرصة كتابة مذكراتي الشخصية، وأن أكتب عن تجربتي معه بشيء من التفصيل. وكيف أخذني يحيى حقي إليه عام 1965 حينما كنت أعمل في وزارة الشؤون الاجتماعية بمحافظة القليوبية كي ينقلني إلى المجلس لكي أبقى في القاهرة التي كنت قد بدأت ممارسة دوري الأدبي فيها، ففعل. ثم لقائي به بدار الأدباء في العام التالي والذي أراد فيه أن أكتب عنه كروائي، ولم أفعل. وبقيت موظفا بالمجلس الذي كان يرأسه حتى سافرت إلى بريطانيا، عام 1973 وحصلت فيها على منحة الدراسة للدكتوراه، وطلبت منه عبر البريد الاحتفاظ بوظيفتي في القاهرة ومنحي إجازة دراسية لكي أواصل تعليمي، حتى وافق على الفور، وجعلها إجازة دراسية بمرتب كامل يصرف في مصر، لأن دراستي دراسة أدبية تستفيد منها وظيفتي. وكل ما كنت أرجوه هو مجرد إجازة تحفظ وظيفتي ولو بدون مرتب، لأنني كنت من أبناء زمن ما يسميه يحيى حقي بـ«تراب الميري».
[iv]. حيث تقول: «من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جُوبِهَ به، والهزء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك. غير أنه لم يستمرَّ، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدٍّا من الأحيان: أعطيني يدكِ، وقبَّلَها.». ( معك 29)