قصة قصيرة مركزة، تصور دور العرافات في حياة الناس، في باريس، ومدى إيمانهم بهن! ويبدو المزج بين الواقع والخيال جميلا في هذه القصة؛ لأنّ الشخصية الرئيسة فيها هي الكاتب نفسه، يخبرنا بفشل مبيعات روايته "ثاناتونوتس". واستطاعت المترجمة أن تنقل القصة بلغة سليمة قريبة من روح المؤلف؛ لأنها ترجمت بعض أعماله الأخرى.

قصص استثنائية عـشـتـُهـا حقاً

برنارد فيربير

ترجمة: أريج حسن حمّود

 

قطعة البازل رقم 5[1].

نُشرت القصة في 01 / 10/ 2017

"أوّل لقاء مع وسيط روحي: الوسيطة الروحية مونيك"

أتذكّر جيداً، حدث ذلك في أيلول (سبتمبر) من عام 1997، كان عمري آنذاك 36 عاماً.

كنتُ أمرّ بوقتٍ عصيبٍ في حياتي؛ فقد تلقيت حينها نبأ فشل مبيعات روايتي "ثاناتونوتس" (فكّرتُ إثرها بالتّخلي عن مهنة الكتابة) وانفصلتُ عن زوجتي في المدّة ذاتها، كما أنّ مشروع تحويل رواية "النمل" إلى فيلم قد توقّف العمل عليه، إضافة إلى أنّ جميع الإشارات الأخرى كانت في أدنى مستوياتها.

إنّ هذه الحال يقابلها في أوراق التاروت ورقة الرّجل المشنوق؛ ومهما حاولنا التقدّم فلن ننجح، وكلّما قاومنا أكثر، ازداد الخناق حول رقبتنا، كما سيتضاعف إحساسنا بالألم، إذاً كلّ ما يتوجّب علينا فعله هو البقاء ساكنين وانتظار الفرج.

كانت مدّة من الوحدة، والشكوك المهنيّة، مدّة من الركود داخل شرنقتي الخاصة حيث أمضيت الوقت وأنا أجلس وحيداً في المنزل، أقرأ الروايات وأشاهد الأفلام.

هكذا إلى أن جاء عيد ميلادي الذي هو وقت "التحديث" السنوي، إذ ألتقي فيه مع قلّة من الأصدقاء المتبقين لي (من المعروف أنّ عدد الأصدقاء يقلّ في أثناء مدّة الانتكاس) وكان من بينهم ماري بيير بلانشون (المقدّمة الرائعة للنشرة الجوية في قناة فرانس أنتر) التي قالت لي: "أرغب أن أهديكَ في هذه المناسبة لقاءً مع شخص استثنائي"، فوافقتُ دون أن أعرف من تكون هذه الشخصية!

جرى اللقاء الأول مساءً في شقّة في ضواحي باريس حيث كان هناك ما يقاربُ العشرين امرأة تجاوزت أعمارهنّ الخمسين عاماً، جميعهنّ جالسات على الكراسي بشكل حلقة، وكنتُ الرجل الوحيد وسطهنّ، ومن يرانا يُخيّل إليه أنّنا في خضم اجتماع تابروير[2] لنساء في طور مواكبة أحدث تقنيات البيع المباشر. بعد قليل وصلت مونيك باران باكان، وهي سيدة ممتلئة الجسم ذات وجه طفولي باسمٍ، وخدين ورديين، وشعر أشقر معقودٍ كذيل الحصان.

جلست وأعلنت بصوتها العذب أنّها على تواصل مع أحد الملائكة، وأنّ جميع الحاضرين يستطيعون طرح الأسئلة عليه.

"لماذا هنالك عنف على الأرض؟" سألت إحدى النسوة. وجاءت بقية الأسئلة في السياق ذاته، لذا شعرتُ بالملل فنمتُ على الكرسي، على الرغم من مكاني الواضح داخل تلك الحلقة، في النهاية وكزتني ماري بيير كي توقظني وتسألني: "ما رأيك؟"

  • لم يثرني الموضوع إطلاقاً! أجبتها. لم تقنعني هذه المرأة بتاتاً، أرجو فقط ألّا يكون نومي وسط المجموعة قد ضايقهنّ، هل شخرت؟
  • أوه لم يُعجبكَ؟ خسارة ... فقد طلبتُ منها جلسة خاصة لكَ غداً صباحاً.
  • لتلغيها إذاً، فهذا ليس من ضمن المفضلات عندي أبداً، تعرفين أنّني معنيّ بالعلم أكثر من عنايتي بالتنجيم.
  • أوه، اسمع، الأمر معقد، اذهب إلى الموعد من أجلي أنا فقط، لقد دفعت لها مسبقاً تكلفة الجلسة...

لذا، من باب الاحترام لهدية صديقتي ذهبتُ إلى الجلسة الخاصة التي كانت هذه المرة في شقة ماري بيير في الدائرة السابعة في باريس.

بدأت مونيك باران هذه الجلسة معرّفةً بنفسها أوّلاً:

  • لقد أخبرتني ماري بيير أنّك كاتب يا سيد فيربير، أمّا أنا فقد تلقّيتُ تعليمي في الرّيف ولم أقرأ في حياتي سوى الكتب المصوّرة، وحتى الآن... لا أطالعُ سوى القصص المصوّرة، لذا اعذرني فأنا لا أعرفك.

بعدها أخرجت ورقة ومجموعة من الأقلام الملوّنة وشرعت وهي تحدثني في رسم وردة وتلوينها.

  • هل أحضرتَ معك شريطاً لتسجيل الجلسة؟

ناولتُها الشريط الذي وضعته في آلة تسجيل بلاستيكية قديمة، ومن ثمّ ضغطت على زرّ التسجيل.

  • حسناً في البداية هل ترغب بالتحدث مع ملاكك الحارس؟ سألتني بشكل مباشر.
  • أممم... نعم... ولمَ لا.
  • إنّه يُدعى بارنابيه وهو موجود هنا الآن.
  • أوه! تشرّفنا بارنابيه. مرحباً بكَ.

حاولتُ الحفاظ على جدّيّتي والخوض في هذه اللعبة؛ لأنّ ماري بيير حاضرة أيضاً في هذه الجلسة، وتومئ لي بإشارات التعاطف والتشجيع. بالإضافة إلى أنّني لا أرغب في أن أجرحها؛ لأنّ هذه الجلسة هدية منها.

  • إذاً هل حضّرتَ بعض الأسئلة له؟
  • كلا.
  • ولكنّك ترغب في جميع الأحوال بطرح سؤال ما؟
  • أمممم نعم... لماذا لا يبدأ العمل، ما الذي ينتظرهُ؟ سألتُ بشيء من الاستفزاز. فأجابتني بجدّية تامة:
  • لكنّه لا يتوقّف عن العمل.

هنا، وبسرعة البرق أدركت بلحظة واحدة أنّني طفل مدلّل في الحياة.

على الرّغم من أنّني كنتُ أركّز على جميع مشكلاتي الراهنة، لكنّني أدركت كم كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر سوءاً ممّا هي عليه. فقد كان من المحتمل أن أكون عاطلاً عن العمل تماماً كما كان حالي قبل نشر رواية النمل، أو ما أزال أعمل في الصحافة، أو ببساطة كان من الممكن أن أعاني من مشكلات صحية.

واجتاحت ذاكرتي دفعة واحدة جميع اللحظات التي كادت أن تكون كارثية، وتجنّبتها باللحظة الأخيرة كما لو أنّ ذلك حدث بفعل ساحر، خصوصاً تلك المرات التي كنت أقطع فيها الشارع وبالكاد أنجح في تجنّب سيارة لم ينتبه لي سائقها فكادت تدهسني تحت عجلاتها. شعرتُ حينها أنّني ناكرٌ للمعروف تجاه كلّ هذه المعجزات الصغيرة التي لا تفسير لها، والتي من الممكن بالمناسبة أن تُعزى إلى هذا الملاك الحارس المدعو بارنابيه.

لذا أطلقت ضحكة رنّانة ولم أقل سوى جملة واحدة:

  • أوه... إذاً في هذه الحالة سأقول له شكراً، أو بالأحرى قولي له عن لساني شكراً.
  • إنّه يسمعكَ ويقول لك "العفو، هذا من دواعي سروري".

ومن بعد هذه الضحكة الرنانة الأولى، أصبح الجو أقلّ توتراً... فقالت لي:

  • هل ترغب بمعرفة حيواتك السابقة؟
  • أمممم ... في الحقيقة أنا لا أؤمن بهذا حقاً. لأنّه غالباً ما يخال الشخص نفسه فيما يخصّ الحيوات السابقة، أنّه كان إمّا قيصر أو كليوباترا أو نابليون أو لويس الرابع عشر، بينما في الواقع إنّ 99% من الناس كانوا فلاحين أو جنوداً قضوا نحبهم في الأربعينيات من أعمارهم بعد أن عاشوا حيوات بائسة دون أيّة مغامرة أو رحلة ما.
  • في الحقيقة، أنتَ روح قديمة. لقد عشتَ ما مجموعه 112 حياة، وأغلب هذه الحيوات كانت كما سبقَ وقلتَ حيواتٍ عادية دون أهمية خاصة. ولكنّني أقترح أن أحدّثكَ عن حيواتك الإحدى عشرة الأكثر أهمية. هل ترغب في أن تعرف أوّلاً إن كان هناك أناس من حولك سبق وأن كانوا موجودين في حيواتك السابقة؟
  • نعم، أمي؟
  • حسناً، إنّ أمّك كانت ابنتكَ في حياتكَ السابقة.

وهنا أطلقت ضحكة رنّانة أخرى، لأنّني البارحة فقط، حين وصل والديّ من تولوز وأقاما في منزلي، قلتُ لأمي دون تفكير: "أوه يا أمّي يجب عليكِ أن تفكّري في ترتيب غرفتكِ".

  • وأبي؟
  • كان والدكَ في إحدى حيواتك السابقة عدواً لك ثمّ أصبح صديقاً، وحتى نهاية تلك الحياة كنتما على وفاق تام.

وهنا أيضاً تطابقَ ما قالتهُ بطريقة صحيحة جداً مع حياتي الحالية.

مررنا بعدها بلمحة سريعة على أغلب أصدقائي، وربّما من باب الحظّ أو الإيحاء كان ما تقوله يتطابق تماماً مع علاقتي بهؤلاء الأشخاص. بدأ الأمر يثير عنايتي جداً، وبما أنّني لن أطيق صبراً بانتظار سماع الشريط من جديد، أخرجتُ حاسوبي الشّخصي وبدأتُ بتسجيل ملاحظاتي عليه ... أشعر أنّها سوف تلهمني مادةً للكتابة.

تحدّثت عن حياتي التي كنتُ فيها ساموراياً، قالت إنّني عشتُ في هذه الحياة مهووساً بالأشياء مثل: السيف واللباس والخوذة، وكان مصدر سعادتي في تلك الحياة هو فنّ القتال الذي كنت أخوضه لأصل به إلى الكمال. لم يكن لديّ أسرة، ولم أمتلك شيئاً ما، كانت حياتي مجرد سلسلةٍ من التنقلات بغرض خوض الحروب أو المبارزات الثنائية وكان لديّ هوس دائم بالبحث عن أفضل كاتانا (سيف ياباني) وأجمل لباس قتاليّ.

كانت سعادتي تتمثّل في طاعة قائدي الأعلى (الشوغون). لم أكن أطرح الأسئلة عليه، كنت أُطيعه فقط، وأقتل أو أخوض الحروب من أجله، حتى دون معرفة هوية أعدائه حقاً.

ولكن في اللحظة التي أدركتُ فيها أنّني لم أفعل شيئاً في هذه الحياة غير طاعة قائدي الأعلى، فهمتُ أنّني لم أستخدم فعلياً إرادتي الحرة، وأنّني لا أعرف حتى الأسباب التي من أجلها أقتل أناساً لم يكونوا في النهاية سوى غرباء لا أعرفهم، ولم أجرِ معهم أيّ نوع من أنواع الحوار.

وفي نهاية هذه الحياة أدركتُ السبب الذي جعل روحي ترفض طاعة أيّ قائد سيأتي في حيواتي القادمة، هذا السّبب الذي جعلني أرغب بعيش حيوات أستطيع فيها التفكير واستخدام إرادتي الحرّة حتى وإن كانت ستضطرّني إلى تحمّل جميع العواقب الجيدة والسيئة على حدّ سواء.

وبفضل هذه الإشارة، أصبحتُ أتفهّم بشكل أفضل حساسيّتي تجاه جميع القادة أو السّلطات، هذه الحساسية التي سبق وأوقعتني في العديد من المشكلات مذ كنتُ داخل صفوف المدرسة حتى في الفرصة المدرسية (وفي عملي لاحقاً في مجال التحرير الصحفيّ).

في الواقع، لم أطِق منذ ولادتي، أيّ نوع من السلطات إلّا إن كانت هذه السلطة تملك معرفة أو تجربة أجهلها. عدا ذلك فإنّ كلّ شكل من أشكال السلطة أو كلّ شخص ينصّب نفسه في موقع السلطة يعطيني رغبة في الهروب.

وإليكم التفصيل الآخر الأكثر غرابة وإثارة: إنّه يتعلق بمشكلتي مع روماتيزم الأطفال (راجع قطعة البازل رقم 4، بعنوان " شجرة على ظهر الأحلام في متناول الأصابع") حيث توجّب عليّ القيام بتمرينات رياضية لفكّ الالتحام المستمرّ لمفاصلي مع أنّني لم أكُ ميّالاً لرياضة الجمباز. ولكن عندما فُرض عليّ في الخامسة عشر من عمري اختيار نوع من أنواع الرياضة لممارستها، قلت لوالدي بعفوية تامّة: إنّ الرياضة الوحيدة التي لن أملّ من الذهاب يومياً للقيام بها هي "القتال بالسيف" أيّ "الكوندو الياباني". وبما أنّه لم يكن في مدينة تولوز أيّ نادٍ قريب لممارسة هذه الرياضة، لذا سجّلتُ برياضة تشبهها نوعاً ما وهي الفن القتالي الفرنسي: عصا القتال.

إنّها عصا من خشب الجوز طولها حوالي المتر تشبه إلى حدّ ما السيوف الليزرية في حروب النجوم، هذه الرياضة قديمة جداً وتضمّ ضربات ووضعيات مختلفة تجعلها شبيهة بفنون القتال اليابانية. كان عدد المسجّلين فعلياً لهذه الرياضة قليل جداً فقد كنّا خمسة تلاميذ فقط. لذا تعلّمتُ الرياضة سريعاً وقد أسعدني ذلك كثيراً؛ لأنّه هيأني في وقت قصير كي أبدأ بخوض المنافسات.

 أتذكر أنّني حينما كنت أرتدي اللباس مع الخوذة والسترة المبطنة والقفازات الطويلة، وبمجرد حملي للعصا للاستعداد ولتحيّة منافسي، يحدث شيء غريب في تلك اللحظة: فقد كنت أشعر أنّني أوقظ ما يشبه المحارب المدفون في خلايا ذاكرتي.

وعلى الرّغم من وضعي الصحّي، كنت مرناً وسريعاً وماهراً في القتال بشكل مدهش، جميع الوضعيات والقفزات والحركات الدائرية أو حتى تمرير السلاح من يدٍ إلى أخرى كانت سلسة، ولم أك أحتاج التفكير عند القيام بها (تعدّ قواعد هذه الرياضة بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفونها، أقل صرامة من رياضة المبارزة بالسيف، فنحن نلعب داخل دائرة ونستطيع الدوران وحتى القفز فوق الخصم).

وواحدة تلو الأخرى ربحت في المنافسات إلى أن وصلتُ إلى المباراة ربع النهائية في باريس. أتذكر هذا الإحساس الغريب: ما إن أعطوا إشارة البدء حتى اِنْقَضَضْتُ على خصمي بنوع من الغضب ولم تتملّكني حينها سوى الرغبة في هزيمته.

نجحتُ في القفز والدوران وخداع الخصم بأداء سريع، ولكنّ الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنّني خارج إطار هذه الرياضة كنتُ معاقاً بشكل فعليّ. جعلني هذا القتال أعيش النشوة، بوجود الأدرينالين الذين يسري في عروقي، وهتافات فريقي التي تعلو لحظة الفوز، كلّ هذا كان يحرّض اندفاع هرمون الأندورفين المسكّن.

أنا... الإنسان الأخرق والمسالم إلى أبعد الحدود الذي يعاني من مشكلات مع جسده ... أصيرُ بلحظةٍ محارباً جيداً ما إن أرتدي اللباس المخصّص، وأكون في المكان المسموح فيه القتال. وبمجرّد خلعي لهذا اللباس، يتوقف كلّ شيء وأعود طبيعياً. بدت لي هذه الإشارة إلى حياتي السابقة التي كنتُ فيها ساموراياً بمثابة تفسير لهذه الظاهرة التي كانت غريبة حتى تلك اللحظة.

لقد كنتُ أوقظُ ذاكرتي القديمة (حقيقة أنّني لم أكن أتناول في ذلك الحين إلّا الطعام الياباني فقط، قد أكّدت لي هذا الإحساس الأول، راجع قطعة البازل رقم 2 بعنوان: "رامبو والسوشي").

وبعدها روت لي مونيك حياة أخرى بلبلت كياني أيضاً. فقد كنت في هذه الحياة جارية في مصر خلال العصور القديمة على الأرجح.  

عشتُ في هذه الحياة سجينة في المحرم، مع أنّ المكان كان مريحاً ويضمّ مسبحاً في وسطه وكنّا نحصل على طعامٍ جيّدٍ، لكنّني طالما شعرت بالملل مع بقية النسوة، وفوق ذلك لم يكن مالكنا يمارس الحبّ معنا لأسباب لا أعرفها. وفي هذه الحياة وبحسب مونيك، صادقتُ أحد المخصيين الذي أصبح شريكي المقرّب (كان شخصاً جذّاباً يملك حسّ فكاهة فريد) وكنا نقضي ليلاتنا على الشرفة العلوية نروي النكات على الفتيات الأخريات، ونراقب النجوم كي نسجّلها على المخطوطات.

الجدير بالذكر أنّني منذ الثالثة عشر من عمري، كنتُ مولعاً جداً بعلوم الفلك وكنت أقضي في مركز الجمعية الفلكية الشعبية في تولوز، ساعاتٍ وأنا أراقب النجوم من أعلى البرج.

كان هذا الفعل يبدو لي طبيعياً فقد كنت أشعر بحالة جيدة عندما أراقب لساعات هذه النقاط الصغيرة اللامعة.

إذاً فإنّ شغفي بالقتال بالسيف إضافة إلى الانبهار بعلم الفلك يمكن تفسيرهما بهاتين الحياتين: حياة الساموراي وحياة الجارية.

روت لي مونيك حيواتي الإحدى عشرة الأخرى كما لو أنّها أحد عشر فيلماً لكلّ واحد منها مقدمة وحبكة ونهاية منسجمة، وقد كنت البطل فيها جميعها.

قلت لها: "إمّا أنّك تروين القصص ذاتها للجميع، أو أنّك تمتلكين موهبة كبيرة كي تستطيعي تأليف قصص مختلفة لكلّ شخصٍ. ولأنني كاتب أعترف لك أنّه ليس من السهل بمكان تأليف إحدى عشرة قصة بهذه السرعة، والواقعية مع مقدمة وحبكة وخاتمة".

وبحسب الوسيطة، إنّ أوّل حياة لي على كوكب الأرض كنتُ فيها أطلانطسياً، حتى قبل هذه الحياة، كنتُ واحداً من مجموعة أناس من كوكب آخر كان لهم السبق في القيام برحلة في سفينة فضائية للوصول إلى كوكب الأرض (هذه الملاحظة ألهمتني لاحقاً كتابة رواية "فراشة النجوم").

في نهاية الجلسة شعرتُ بنوع من الفرح والابتهاج الطفولي. هذا الشعور ذاته الذي طالما أحسستُ به عندما كان أبي يروي لي قصصاً عن الأساطير الإغريقية قبل أن أخلد إلى النوم. لقد أيقظت فيّ هذه الوسيطة نزعة الانبهار بالقصص.

كانت روحي مليئة بالصور، والمشاهد الغريبة، والديكورات المذهلة، التي راحت تذكرني بلحظات عابرة لم تكن جزءاً من ماضيّ.

قلت لها: "اعذريني على شكّي بكِ في البداية، لا أعرف إن كان ما قلتيه لي صحيحاً أم خاطئاً وهذا الأمر في سياق معيّن ليس له أيّة أهمية، ولكن من جهة أخرى ما أستطيع قوله هو أنّني وصلتُ إلى هنا بشيء من الإحباط، ولكنّ الحديث معك جعلني أنتعش تماماً، لذا أقول لكِ مجدداً شكراً للمرّة الألف، إنّها أجمل هدية عيد ميلاد حصلتُ عليها وأقدّرها كثيراً".

لاحقاً، عدت وقابلت مونيك لعشرات المرات وكنت في كلّ مرة أخرج والابتسامة على وجهي.  وعلى طلبها أهديتُ كتابي اللاحق "والد آبائنا" إلى ملاكي الحارس بارنابيه، وبعد عدّة سنوات من لقائنا الأول أهديها اليوم كتاب "من العالم الآخر".

بعد ذلك، قابلتها من جديد بشكل طبيعي وتحدّثنا عن حياتها (استلهمتُ حلقات حقيقية من حياتها وصنعتُ منها أحداث شخصية لوسي بطلة روايتي "من العالم الآخر" خصوصاً الحلقة التي أنقذت فيها من السجن بعمر 28، بعد أن اتُّهمت ظلماً بتجارة أموال مزوّرة من قبل حبيبها السابق الذي كان ينتمي إلى إحدى العصابات، وكيف استطاعت الصمود نفسياً في أثناء اعتقالها وذلك بفضل استخدام أوراق التاروت التي جعلت منها نجمة في السجن).

أصبحت مونيك صديقتي. لا أعرف مع من أو مع ماذا كانت تتواصل، ولكنّ هذا الأمر في جميع الأحوال عاد بالسعادة عليها وعلى جميع من كان يصغي إليها.

لا أريد بالطبع إقناع أحدٍ أنّها كانت تمتلك قدرات سحرية (بالمناسبة، أنا نفسي لست متأكداً من ذلك حقاً) ولكن تجدر الإشارة إلى أنّها لم تمنحني الاطمئنان والسكينة فقط على مستقبلي، بل أعطتني أيضاً أفكاراً استخدمتها في رواياتي ولهذا أرغبُ الآن عبر كتابتي لهذه القصة بشكرها وثنائها.

توفيت مونيك باران باكان في الثالث من أيلول عام 2006. لم يتوقف وزنها عن الازدياد، فقد كانت كلّما مارست مهنتها وفنّها بالتواصل مع العوالم اللامرئية أكثر، تضخّمت أكثر. وهذا ما تسبّب في موتها على ما يبدو. كان هنالك ثمن يجب تقديمه مقابل امتلاكها لهذه القدرات الخاصة، وبحسب وجهة نظري فإنّها سخّرت نفسها لتقديم الخير للناس عبر كلامها.

 

ملاحظة: بعد خمس سنوات من وفاتها قابلتُ وسيطة روحية أخرى تدعى فيرونيك. وحين وصلنا إلى نهاية الجلسة سألتني هذه الوسيطة الجديدة:

  • هل كان لديكَ وسيطة روحيّة قبلي؟
  • نعم، لماذا؟
  • إمّا أنّها شديدة الحذر أو أنّها تحترمكَ كثيراً.
  • ما الذي دفعكِ لقول هذا؟
  • في الواقع إنّها حاضرة في هذه اللحظة، تقف ورائي تماماً وتراقب ما أقوله لكَ كي تتحقّق من أنّني لا أقول لكَ الترّهات.

أوه، أيّة مونيك هذه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكاتب برنارد فيربير: كاتب فرنسي (1961) عرف بأسلوب الخيال العلمي والفلسفي في كتاباته. من أعماله: ثلاثية النمل، 1991 ـ 1996. وصندوق باندورا.

المترجمة أريج حمود، مترجمة وتربوية، مواليد سورية، طرطوس (1987) إجازة في الترجمة، جامعة تشرين، سورية 2015، ماجستير في التربية، جامعة السوربون، فرنسا 2014، من كتبها المترجمة:

رواية " إمبراطورية الملائكة" للكاتب الفرنسي برنارد فيربير، 2022، دار المدى، بغداد، العراق.

رواية " صندوق باندورا" للكاتب الفرنسي برنارد فيربير، 2019، دار المدى، بغداد، العراق

رواية " مدرسة الطبيعة" للكاتب الفرنسي نيكولا فانييه، (قيد الطباعة) دار الخيال، بيروت، لبنان

2018 ترجمة رواية " مفارقة أندرسون" للكاتب الفرنسي باسكال مانوكيان، )قيد الطباعة(، دار الخ ي ال، بيروت، لبنان

 

 

[1] واحدة من سلسلة قصص حقيقية عاشها الكاتب ونشرها على موقعه الشخصي على الإنترنيت، حيث يشبه الكاتبُ حياته باللغز الأشبه بالبازل (puzzle) والذي يستطيع القارئ حلّه بقراءة وتجميع أجزاء هذه القصص المنشورة. المترجمة

[2] نسبة لشركة تابروير لصناعة الأواني البلاستيكية التي كان لها السبق في فكرة البيع من خلال العرض في خمسينيات القرن الماضي. حيث غزت العالم فكرة حفلة التابروير التسويقية حيث سُمح للمرأة لأول مرة بالعمل في تسويق المنتجات للأقارب والجيران ومن ثمّ تطورت إلى نطاق أوسع. المترجمة