رغم معرفة الكاتب العراقي بعالم محفوظ، فإن تناوله لموقفه النقدي من نظام حكم العسكر الذي رسخ بنية الاستبداد التحتية في مصر ومحيطها العربي بعد فترة من انتزاعها لحقوقها الديموقراطية وكفاحها من أجل الاستقلال ، لا يدرك أن أهمية الحرية ظلت هاجس جيل محفوظ، وكتاب مصر بعده، فغيابها أوصلنا للحضيض.

نجيب محفوظ وعقدة ثورة 1952

علي حسن الفواز

 

الحب والكره، أو القبول والرفض، ليسا تمثيلاً لنزوعاتٍ عاطفية مجردة، بل يحتملان مجازات أو توريات تعبيرية، قد يختلط فيهما الأيديولوجي والعصابي، مثلما يحضر فيهما النفسي أو التأويلي، لكن التوصيف الثقافي والتمثيلي لمثل تلك النزوعات يتطلب حفراً في الخفايا، وفي الأسرار، وبما يجعل التعاطي معهما قريناً بالتعرّف على طبيعة الأفكار التي تتبدّى من خلالها تلك المواقف، التي تُغذّي تمثلاتها في مُدونات الكتابة، في سياقها السردي، أو السيرذاتي، وعلى نحوٍ يجعل من اللعبة السردية، وكأنها لعبة مفتوحة على التورية، وعلى معاندة التاريخ، وفي اتجاه تبدو فيه وكأنها تاريخ ضدي، يكتبه رواة آخرون، لهم قراءاتهم المشاكسة لموضوعات «الهوية السردية» و«الشخصية السردية» و«الصراع السردي» التي تختزن في «مسكوتها ومقموعها» مواقف تنعكس على تموضعها في «الزمان السردي» و«المكان السردي».
موقف الروائي نجيب محفوظ من «ثورة 1952» ظل مثار أسئلة مُلتبسة، ومواربة، فهو لا يكره الثورات، ولا الحراك الثوري، لكنه يكره تحويل تلك الثورات إلى لعبة في حرائق المراكب، وفي تفريد صناعة «البطل» خارج سياقه الوجودي، وخارج ذاكرة البطولة ذاتها، فظلت المواقف من سعد زغلول، ومصطفى كامل عاطفية، ومغروسة في لا وعيه المُبكِّر، بوصفها صورا للبطولة الأخلاقية والشعبية، مثلما ظلت صورة أحمد عرابي بأيقونته عالقة أمامه في مواجهة الاحتلال والسلطة الغاشمة، وأحسب أن هذا «اللاوعي» الثوري هو ما جعله يكتب برومانسية عن الثورة المصرية عام 1919، بوصفها أنموذجاً للحديث عن نظرته لمفهوم الحق في التعبير عن أحلام الشعب بالحرية والاستقلال، التي ظلّت تُغذّي شهوته بالمجاهرة عن حديث الإصلاح، والشغف بالاحتجاج على حاكمية الاحتلال، لكنه وقف أمام ثورة 1952 مترددا، مُحافظا، ولم ينظر لها برومانسية، ولا مع ما حملته من طابع يساري وثوري لحركة الضباط المصريين، الذين أنهوا حكم عائلة محمد علي باشا، ولا مع توجهاتهم ذات النزوع الشعبوي والعسكري.
هناك من يربط بين موقف محفوظ، وطبيعة تربيته المحافظة، ومرجعياته العائلية، فاسمه كان قريناً باسم طبيب العائلة المالكة «نجيب محفوظ باشا» الذي أنقذ حياته، وحياة والدته، ومنهم من ربطها بنزعته المثالية، وبطبيعته الحسية والتخيّلية، التي غذّت وجدانه بكاريزما «البطل الشعبي» الذي تكرّس في «لا وعيه» عبر شخصية الزعيم المصري سعد زغلول، وبالروح الطيبة لـ»سحر المكان» الاجتماعي والشعبي الذي كان يسكنه في مدينته القاهرة، وبما يتساكن في أحيائها الشعبية وأماكنها المقدّسة من حيوات غامرة بالحب والكره والصراع والعاهات، لكنها كانت مسكونة بالألفة والأمل والحزن أيضا، فجسّد كثيرا من عوالمها ومظاهرها في رواياته الكثيرة، بدءا من «القاهرة 30» و«الحرافيش» و«زقاق المدق» وصولا إلى روايات «أولاد حارتنا» و«الكرنك» و«اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» وغيرها.
تقويض المدينة المتخيّلة عند محفوظ، قد يكون أول ضحايا ما حدث بعد 1952، إذ تعسكرت المؤسسات، وتحوّل البطل الشعبي إلى جنرال، وخضعت الحارات الشعبية إلى ما يشبه «الأمكنة العمومية» التي تفتقد إلى روح الهوية المصرية، وسحر المدينة اليوتوبية التي كان يعشق سردياتها، ويتغوى عند برايديغماتها التي اصطنعت لها السينما – في مراحل متعددة – أنساقا جمالية، تجاور فيها السرد البصري مع السرد الروائي لتمثيل هوية المكان، وصورة البطل الوجودي، الحالم، الباحث عن المعنى.

هذا الشغف المديني والحكائي كان حافزه ودافعه المُبكر لكتابة القصص والروايات التي فتحت له عالماً غريباً، والتي وجدت مُغذياتها في عوالم رومانسية المنفلوطي، وجزالة طه حسين، التي استفزّت خياله الفائر، وجعلته أكثر توقا وتشهيا للتوغل في عوالمها، بحثا عن المغايرة، وعن سر الروح المصرية، رغم أن إرادة والده «البورجوازي الصغير» كانت تطمح أن يكون ولده طبيباً أو محامياً، وهي مهن ذات توصيف طبقي خالص. دخول نجيب محفوظ إلى كلية الآداب عام 1931 أعطتْ له فرصة كبيرة ليكون في رحاب طه حسين، وأن يتلمّس سحره اللغوي، وحضوره اللامع، والاقتراب من دهشة سؤاله الوجودي، الذي ورد في جرأته، وهو يُجيب عن سؤال طه حسين حين أراد معرفة سبب رغبته في دخول كلية الآداب بالقول: أريد أن أدرس أصل الوجود، وهو ما دعا حسين إلى رفض قبوله في الكلية، ليجدَ محفوظ نفسه في درس الفلسفة، وليس في درس الأدب..
صور طه حسين ومصطفى عبد الرازق والمنفلوطي وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول وسلامة موسى، ورائحة الأمكنة والمقاهي زرعت في ذهنه فكرة متعالية عن صورة الشخصية المتعالية، وعن فكرة المدينة اليوتوبية التي تتسع للحلم والحب والصراع والتحوّل، بما فيه صراع «الرومانس/ ثوري» مع السلطة، مقابل الانحياز إلى حرافيش الهامش، بوصفهم «سحرة الأمكنة». المنحى الواقعي في كتابة الرواية جعله يدرك أهمية الدور النقدي الذي يمارسه الكاتب، لاسيما وأن تأثره بالواقعية الفرنسية كان واضحا وفاعلاً، إذ أعطته حافزاً لكتابةٍ يتزاوج فيها الواقعي مع الرومانسي، وعبر رصد التحولات والصراعات التي تعيشها الشخصيات تحت مهيمنات تلك المزاوجة، وحتى كتابته للثلاثية لم تكن بعيدة عن ذلك، فقد جعل من شخصية «أحمد عبد الجواد» مثالاً للمزج بين الأب الواقعي في تنميطه الحسي وتحكّمه بالنسق العائلي، وفي تمثيله للبورجوازية الوطنية وموقفها من الاحتلال الإنكليزي، والرجل الرومانسي الذي يتوق إلى اللذائذ السرية.
الهاجس النقدي عند محفوظ، لم يكن سياسياً، بقدر ما كان الأقرب إلى الاجتماعي الذي يكشف عن شغفه بما يمور في العالم الجواني لشخصية «مواطن» المدينة الهامش، فروايات مثل خان الخليلي وزقاق المدق تنزع في اتجاه الكشف عن العاهات العاطفية والنفسية التي يعيش عقدها هذا «المواطن» عبر ما يصنعه الفقر والفقد والاحتياج العاطفي، لكنه لم يربط ذلك بالصراع الطبقي، ولم يتحدّث عن علاقة «الطبقة الغنية» بصناعة العنف الطبقي، وتكريس مظاهر الفقر والهامشية.

شخصيات ثورة 1952 لا تشبه شخصيات ثورته الرومانسية في عام 1919 وعبد الناصر لا يشبه سعد زغلول، وتحفّظه على ما جرى بعد ثورة 52 أثارت في نفسه مشاعر القلق والخوف، من أن يتحول الثوار إلى طغاة، وأن العسكرة ستأخذ كل شيء إلى المجهول.

كراهية الثورة

شخصيات ثورة 1952 لا تشبه شخصيات ثورته الرومانسية في عام 1919 وعبد الناصر لا يشبه سعد زغلول، وتحفّظه على ما جرى بعد ثورة 52 أثارت في نفسه مشاعر القلق والخوف، من أن يتحول الثوار إلى طغاة، وأن العسكرة ستأخذ كل شيء إلى المجهول. قد يكون الخوف خاضعاً لضاغط نفسي صعب، أكثر منه أيديولوجي، لكنه سيتحول إلى هاجس عميق مسكون بالخوف السياسي والحساسية الطبقية، لأن من عادة «الثورات» أن تقوم على سياسة المحو الكامل، كما حدث في الثورة الفرنسية، وفي الثورة الروسية، وهذا ما جعل قلقه تعبيرا عن إحساسٍ عميقٍ بالخوف، انعكس على سمات شخصياته، إذ جعلهم يتوزعون بين هواجس الثوري والشعبي والحلمي والمتمرد والوجودي، وصولا إلى مرحلته النقدية، ورواياته «الذهنية» التي جاهر فيها بموقفه الوجودي، وبالموقف الصادم من المرحلة الناصرية، ومن بيروقراطية المؤسسة، ومن الخواء الذي يعيشه «البطل البورجوازي» في يومياته وفي تماهيه مع العنف السياسي والأيديولوجي.
شخصيات رواياته في مرحلة ما بعد ثورة 1952 كشفت عن عقده الشخصية، وعن محنة صراعه الداخلي، وعن طمأنينته المفقودة، فبطل روايته «السمّان والخريف» قد يشبهه، فبقدر ما هو قريب من الشخصية الوفدية التي فقدت سلطتها ووظيفتها، إلا أنه ظل يتلبّس صورة المثقف الذي بدأ يشعر بالخواء والتيه والاغتراب والفقد، بما فيه الفقد العاطفي، واللجوء إلى الجنس تعويضاً عن خيبته السياسية والعاطفية، ولا يجد سوى العودة إلى تمثال سعد زغلول للتطهير وللإيهام بالإشباع الرمزي. في روايته «ثرثرة فوق النيل» نجد كشفاً رمزياً لفشل «الوعي الثوري» ومحنة المثقف المصري وعزلته، بعد أن فقد ثقته وتوازنه في المكان، وفي المؤسسة، وفي التواصل والحب، فلجأ إلى المكان العائم/ العوامة، تعبيرا عن الاحتجاج الداخلي، وتمثيلا للطرد من المكان الوجودي، مثلما وجد في العلاقات العائمة تجسيدا لموقفه إزاء ضياع مركزيات الحب والانتماء والعائلة والعمل والحزب، فضلا عن أن لجوئه إلى اللغة العائمة، تحوّل إلى لجوء «إيهامي» للتعبير عن اللامعنى، وتمثيلا للمواجهة الفنتازية مع الواقع الصلب، الذي تحمل إرهاصاته وتشوهاته نبوءة النكسة الكبرى في عام 1967..
وجد نجيب محفوظ في هذه الرواية مجاله الثقافي لتمثيل موقفه إزاء خطاب الثورة، التي كرست واقعاً شعبوياً غامضاً، فوضعت المثقف أمام اغترابات ضاغطة، وتهويمات، أفقدته توازنه ومثاله، وجعلته يواجه العالم بفرادة عابثة ما يتسرّب إليه من معانٍ عائمة، بما فيها المعاني التي تخصّ الحريات والحقوق والعلاقات، التي فقدت حُجبها، واضحت مكشوفة، وعارية ومُضللة، و»دائخة» وإن ما يُعبِّر عنها ليس إلا أبواق زائفة. هذه الرواية قد تكون هي الأقسى في سرديات نجيب محفوظ، إزاء «الحقبة الناصرية» إذ جعلت أبطالها «متعددي الأصوات» يثرثرون عن واقعهم، أمام نهر النيل، بوصفه الرمزي، والاعترافي، ليُعبّروا عن مواقفهم بنوع من العبث، وعبر نقدهم الساخر لطقوس العمل، ولأوهام الحلم الاشتراكي، وللنزعة البيروقراطية الثورية والأيديولوجية التي تحكم الكثير من مفاصلها. وحتى روايته «أولاد حارتنا» حملت معها مواقف خفية، لكنها ناقدة، عبّر من خلالها عن نقده الرمزي للسلطة، وللمثيولوجيا، وقد أثارت حولها ـ في ما بعد- أسئلة ولغطاً ومواقفَ جعلت نجيب محفوظ يُتهم بالكفر والتجديف، رغم أنها في الجوهر «رواية سياسية» تحمل من نقد السلطة والثورة أكثر مما تحمل من نقدٍ للتاريخ، وللمؤسسة الدينية.
وفي رواية «أمام العرش» وضعنا نجيب محفوظ إزاء سردية غرائبية، وفي لعبة محاكمة أمام عرش أوزريس إله العالم السفلي عند المصريين، يرافع فيها ملوك مصر القدامى «رمسيس الثاني وتحتمس الثالث» ويكون فيها الرئيس عبد الناصر مع السادات وعدد من حكّام مصر خلال المرحلة الملكية، متهمين وواقفين للكشف عن علاقة الحكم بالظلم والاستبداد والهزائم العسكرية.. محفوظ يصف الخلاف مع عبد الناصر، بأنه خلاف يتجاوز الثورية، الى خلاف في وجهات النظر، وهو ما أشار إليه في كتابه «أحلام فترة النقاهة» بالقول: «وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلَّت مقابلاتنا؟ فأجبته بالإيجاب، فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كلياً أو جزئياً، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف، فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا».

نجيب محفوظ والنزعة المثالية

قد يبدو نجيب محفوظا مثالياً في النظر إلى السياسة، وحتى إلى الثورة، وهذه النظرة جعلته أسير مواقف مضطربة، كثيراً ما نجد تمثيلاتها في رواياته الواقعية والرمزية، فروايات مثل «اللص والكلاب، الطريق، الشحاذ، ميرامار، تحت المظلة، شهر العسل، حضرة المحترم» تتحدث عن شخصيات أضحوية، بعضها للانتهازية، وللعنف الاجتماعي، وبعضها للبيروقراطية وللتشوّه الذي غمر الحياة المصرية في مرحلة الثورة، التي جعلت وهم الثورة مقابلاً لأوهام مضللة، انشرخ فيها الواقع والحلم، واندفع الحالمون إلى البحث عن مزيد من الزيف والأوهام، لكي يكونوا «محترمين» ولكي يتوهموا بتحقيق بعض المثالية التي أرادها نجيب محفوظا خياراً للحديث عن عدالة اجتماعية لا تتحقق في المدن الدوستوبية..

‏كاتب ‏عراقي

 

عن (القدس العربي)