من بيتٍ تضمَّنته قصيدة لنزار قباني: "إرم نظارتيك ما أنتَ أعمى/ إنما نحن جوقة العميان" جوقة"، انطلقت دراسة الناقد المصري ممدوح فراج النابي حول "رحلة الربيع والصيف" لطه حسين، والتي احتواها كتابه الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في دورتها الـ21 (العام 2022 – 2023). وهو كتاب يتعمَّق في "رحلة الربيع والصيف" محللا شخصية الراوي وطريقته في الكتابة. وكما هو معروف فإن قصيدة قباني كانت في رثاء طه حسين (1889 – 1973). أما كتاب النابي وعنوانه "البلاغة العمياء عند طه حسين: بحث في الأدب الرحلي"، فنُشر ضمن سلسلة "ارتياد الآفاق" (المركز العربي للأدب الجغرافي)، من خلال المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)، بالتعاون مع دار السويدي للنشر والتوزيع (أبوظبي – لندن)، ليتزامن نشره مع الذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربي. ينطلق النابي كذلك من إيمانه بأن طه حسين تميَّز ببصيرة نافذة ورؤية عميقة مستنيرة، وشكَّلت مواقفه الشجاعة معلماً مهماً من معالم العقل النقدي في مشروع التحديث العربي في مطلع القرن العشرين، وهو ما أهَّله ليكون الجسرَ بين ثقافات شتى، ترجمَ عنها ونقل إلى العربية بعضاً من آثارها فكرياً وأدبياً وحضارياً، وهو دور مهم جعله في مقدمة التنويريين النهضويين.
وبحسب ما أورده محرر "ارتياد الآفاق" على ظهر غلاف الكتاب الذي يتألف من 287 صفحة، فإن دراسة النابي انطوت على بحث شيق؛ إذ أبرزت أنه في مقابل العمى الذي كان عائقاً عند طه حسين، كانت الرؤية البصرية بالعين – في العادة – هي وسيلة الرحالة في تسجيل مشاهداتهم وأوصافهم للأماكن والبلاد التي يتجولون فيها.
الوصف عبر وسيط
أما رحلة طه حسين المعروفة بـ "رحلة الربيع والصيف إلى اليونان وباريس" والتي قام بها عام 1957 مع عدد من أفراد أسرته برفقة بعض الأصدقاء، فمع إنها تنتهج آليات النصوص الرحلية، إلا أنها تختلف عنها، فعمد الكاتب في رحلته إلى كسر تلك القاعدة المتعارف عليها في أدبيات الرحلة، بأن الرحلة يقوم بها المبصرون، وأثبت – بلا ريبة – أن الإنسان رغم فقدانه لنعمة البصر يمكن أن يخوض هذا الميدان، ويقدم عملاً متميزاً لا يكتفي بنقل مشاهدات مرافقه إليه (الذي كان بمثابة عينه المبصرة) أو الراوي الوسيط (الملقن) على الأماكن التي زارها وجاب رحابها. فالوصف لم يكن مباشراً وإنما جاء عبر راو (عين رحالة) وسيط، قام بنقل المشاهدات والأماكن بمنظور رؤيته الشخصية
وهذا الراوي / الرحّالة لم يكن شخصاً واحداً، أو راوياً ثابتاً وإنما كان متعدداً / متغيراً، وهو ما يشير بطرف خفي إلى تعدد أيديولوجيا السارد. فتارة يأتي الروْي عن طريق الزوجة، وتارة أخرى يكون بلسان الأصدقاء، وتحديداً سكرتيه فريد شحاته. ومع هذا الوسيط (أو الملقن) الذي – يفترض أنه يضع مسافة بين الرائي/ الحالة وبين الموصوف أماكن – معالم تاريخية، إلا أن طه حسين كسر هذه المسافة السردية، أي عمل على تذويب المسافة الزمكانية، وجاء الروي بلسانه وكأن عينيه هما الناظرتان ومصدره المباشر في ما يصف ويسرد، وهو ما وسم السرد والوصف معاً بسرد شخصي / ذاتي (رولان بارت) عكس أيديولوجيا السارد وثقافته الخاصة التي تفوق ثقافة الراوي الوسيط (الملقن).
القارئ يرى
تجلى هذا، بحسب النابي، في وصف تفاصيل المكان بالمعنى الكلاسيكي أو الوظيفة التقليدية (أي الغرض منه تحديد الخطوط العريضة للمكان)، وكذلك بالوظيفة الجديدة (الخلَّاقة) أي بجعل القارئ يرى (آلان روب غرييه) وما يعج به من حركة المرافقين/ رفاق الرحلة، بل تمادى إلى وصف تعبيراتهم التي كانت تكتسيها وجوههم، تعبيراً عن مدى تأثرهم إعجاباً وافتتاناً بعظمة الآثار وسحرها، سواء من حيث الحركات التي يقومون بها، أو الأصوات التي يطلقونها أو التعبيرات التي تتخذها هيئاتهم، أو تسجيل انطباعاته عنها، وتعليقاته على تلك المشاهدات، وما استدعته عنده من مخزون معرفي وتاريخي كبير، كان يمتلكه عن الحضارة الإغريقية ومنجزاتها الفلسفية والثقافية والسياسية. أو عن فرنسا الحديثة وشعبها وحياته، وثقافتها وحريتها، وعن ماضيها الذي تنطق به تلك الشواهد العمرانية والحضارية التي زارها وتمتع بروعة فنها وجمالها، إضافة إلى جمال طبيعتها.
ويرى النابي أن نص طه حسين عموماً ونصه "رحلة الربيع والصيف" بخاصة، يعتمد على الحواس غير البصرية، رافضاً فعل التوسط الذي يقوم به بعض مرافقيه من نقل مشاهداتهم، فكثرت لديه أفعال الحواس والشعور التي تمنحه القدرة على التعرف على الأشياء والأشخاص. وهو يخالف الرحالة السابقين في تقاليد أوآليات الكتابة الرحلية، بأن يضعنا منذ جملة الاستهلال في فضاء الرحلة وأحداثها، ويرجئ الهدف من كتابة الرحلة إلى نهايتها.
أجواء الطهطاوي
ويشير النابي إلى أن من أسباب دراسته تلك الرحلة، أن طه حسين يستعيد في الشق الفرنسي منها أجواء رحلة رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) المعروفة بـ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (1834) وهي الرحلة التي كانت نقطة الاتصال الحقيقي بمعالم النهضة والتنوير الأوروبي، ومحاولة نقل هذه التجربة إلى الواقع المصري. في كتابات طه حسين عموماً يستخدم ضمير الغائب في الحديث عن نفسه، وأحياناً يكثر عنده ضمير المخاطب، ليضع مسافة سردية بين ذاته وما يروي، كنوع من تحري الصدق، أما هنا فهو يعمد إلى ضمير المتكلم / الأنا، كالتصاق بذاته، مع إن الروي منقول عن آخرين. ويكثر لدى طه حسين حضور المروي له الذي يستخدمه كقناع يفصل به ذاته عن أناتها ويجعلها شخصية داخل النص، يتوجه إليها بالخطاب مباشرة، وكل هذه الحيل تجعل النص لدى صاحب "الأيام" يمتاز بمميزات خاصة.
وعلى الرغم مما قيل عن التداخلات البينية بين الرحلة والأجناس الأدبية، فإن النابي يرى أن هذا لا يمنع اعتبار الرحلة جنساً أدبياً مستقلاً، وهو ما مكّنها أن تكون الأداة أو الوسيلة السهلة التي يعبر بها الإنسان عن حِله وترحاله، وكذلك وسيلته في التعبير عن إعجابه بالأماكن التي يمر بها أو يحل عليها، أو رؤيته لذاته مقارنة بالآخر المختلف عنه. وفي المقابل – يضيف النابي - هي وسيلته في الهروب من الأماكن الطاردة إلى الأماكن الجاذبة، بتعبير باشلار.
عين الجغرافيا
ولئن كانت الرحلة عين الجغرافيا المبصرة، فذلك لأنها تجمع – كما يقول المؤلف - بين حركتين إحداهما تتصل بفعل الحركة الجسدية من حيث كونها انتقالاً وترحالاً وسفراً، والأخرى عملية عقلية فكرية متمثلة في كتابة مسار الرحلة؛ أي كتابتها وإعادة ترتيب أحداثها وسياقاتها. وهو ما جعل الرحلة (عموماً) ترتكز في صياغتها، في كثير من الأحيان، على الذاكرة وما تستدعيه من فعل الاسترجاع.
تسعى دراسة النابي الذي أصدر من قبل كتاب "استرداد طه حسين" (دار خطوط وظلال- عام 2021)، إلى تفكيك النص الرحلي عند صاحب كتاب "في الشعر الجاهلي"، من تصورات تستجيب لقراءة النص السردي/ الرحلي، وخصوصياته، وعلاقته بالنصوص الرحلية السابقة، وفي الوقت ذاته البحث من منظور فني في أبعاد هذا الخطاب الرحلي، بأبعاده الشكلية والدلالية للاقتراب من هوية النص الرحلي، واكتشاف جماليات خطابه الشكلية من ناحية، بالتعرف على خصائص "الكتابة العمياء" التي وظفها الراوي، مقارنة بـ "الكتابة المبصرة"، والكشف عن الحيل التي استخدمها الراوي ليقدم نصاً يتسق مع شروط الرحلة، وأهمها الرؤية المباشرة بالعين، وكذلك استجلاء تطلعات خطابه المعرفي من ناحية ثانية. وفي سبيل الوصول إلى هذا توسدت الدراسة بمناهج يتصل بعضها بسرديات الرحلة والعجيب، وأخرى تتصل بعلم السرديات والخطاب وآلياته. كما تحضر عتبات جيرار جينيت في محاولة لاستجلاء آليات الكتابة في النص الرحلي. وفي سبيل هذا تلوذ الدراسة بمقولات تودورف عن الأدب العجائبي والسرد ومقتضياته، وبالمثل أطروحات جيرار جينيت وبوث وبول دو مان، وباختين خاصة في ما يتعلق بعدم الفصل بين الشكلي والاجتماعي، أو بين الجمالي والثقافي.
في الخلاصة نجد أن الرحلة كشفت – كما يقول النابي – عن الجانب التنويري المضمر الذي كان يهدف إليه طه حسين من خلال وقوفه على الكثير من نتائج الديموقراطية التي شاعت في فرنسا وقتذاك، وحالة الانتقاد التي مورست على السياسيين بأشكال ساخرة تارة وتمثيلية تارة أخرى، من دون أن يتحمل الساخرون أو المنتقدون تبعات الانتقاد والسخرية. بل كانت كاشفة لحالة المرونة الفكرية التي هي أهم ثمرة من ثمار الديموقراطية، وهو ما يضع النص في بؤرة رحلات المثاقفة التي ترصد الآخر، إلا أن عينها على الأنا.
تعامل طه حسين مع نصه الرحلي تعامل المبصرين، بوعيه بأهمية الصورة والوصف بالنسبة للرحلة، أيضاً بمسار الرحلة وأماكن الانطلاق والعبور والهدف. فلم يغفل هذا وهو يسرد رحلته، كما لم ينس دور الأحلام والعجيب في النصوص الرحلية، وإن كان أسبغ بصمته على الأحلام والعجيب، فصبغ كليهما ببصمة طه حسين التي تسعى إلى التفرد والتميز عن غيره. فلم يرد الحلم بمفهومه المعجمي أو المصطلحي، وإنما وظّف الحلم الخاص به، وفعل الشيء نفسه في العجيب، فلم يقف عنده في ما رآه وشاهده، وإنما كان يخلق العجيب بذاته، عبر أنسنة الزهرات والحديث إلى الأموات.
عن (اندبندنت عربية)